الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمقصود من ذكر هذه الأمثلة من أجناس مختلفة أن يظهر لك أن إطلاق القول بترجِيح الغالب على النادر ممَّا لا ينبغي، بل ما يكون ذلك إلّا بعْدَ بحْثٍ شديد، ومعرفة الباحث بالمسائل الفقهية والدلائل الشرعية، واستقرائه لذلك كله، فَبَعْدَهُ يصحُّ أن يحكم بترجيح الغالب. (161)
وأيضا فلا ينبغي أن يقال: إذا تعارض الأصل والغالب فأيهما يرجَّحُ؟ قولان. فقد ظهر أجناس كثيرة، اتفق الناس فيها على تقديم الاصل وإلغاء الغالب، وذلك في القسم الاول الذي اعتُبِر نادِرُه، وقد اتفق الناس أيضا على تقديم الغالب على الأصل في أمْر البينة، فإن الغالب صدقها، والأصل برَآة الذمة، والتنبيه على هذا الغلط في الاطلاق هو المراد بهذه القاعدة.
القاعدة الرابعة عشرة:
في تمييز ما يصح الإِقراع فيه ممّا لا
. (162)
(161) قال القرافي هنا: فهذه أربعون مثالا قد سَرَدتها في ذلك من أربعين جنسا، فهي اربعون جنسا قد ألغِيتْ.
ثم وضع سؤالاِ عن نفسه وأجاب عنه قائلا:
"فإن قلت: أنت تعرضت للفرق بين ما ألغي منه وما لم يُلْغَ، ولم تذكره، بل ذكرت أجناسا ألغيت خاصة، فما الفرق، وكيف الاعتماد على ذلك؟
قلت: الفرق في ذلك المقام لا يتيسَّر على المبتدئين، ولا على ضَعَفَةِ الفقهاء، وكذلك ينبغى أن يُعلَم أن الاصل اعتبار الغالب، وهذه الاجناس التي ذكرتُ، استثناؤها على خلاف الاصل، وإذا وقع لك غالب، ولا تدرى هل هو من قبيل ما ألغي أو من قبيل ما اعتُبِر، فالطريق في ذلك أن تستقرئ موارد النصوص والفتاوى استقراء حسنا، معَ أنك تكون حينئذ واسع الحفظ، جيد الفهم، فإذا لم يتحقق لك إلغاؤه فاعتقدْ أنه معتَبَر. وهذا الفرق لا يحصل واسع في الفقهيات والموارد الشرعية، وإنما أوردت هذه الاجناس حتى تعتقد أن الغالب وقع معتبراً شرعا، تجزم أيضًا بشيئين: أحدهما: قول القائل: إذَا دار الشيء بين النادر والغالب فإنه يُلحق بالغالب. ثانيهما: قول الفقهاء إذا اجتمع الاصل والغالب فهل يغَلَّبُ الاصل على الغالب، أو الغالب على الاصل؟ قولان. وقد ظهر لك اجناس كثيرة
…
الخ.
(162)
هي موضوع الفرق الاربعين والمائتين بين القاعدتين المذكورتين: جـ 4. ص 111. لم يعلق عليه العلامة المحقق ابن الشاط رحمه الله.
إعلَم أنهُ لا يكونُ متى تعَيَّنتْ المصلحةُ أوْ الْحقُّ في جهة، وإنما يكون متى تساوَتْ الحقوق والمصالح، فحينئذ يكون دفعاً للضغائن والأحقاد، ورضاً بما جرتْ به الأقدار،
وهىَ تُشْرَعُ بين الخلفاء إذا استوت فيهم الأهلية للولاية، وبَيْنَ الأئمة والمؤذِّنين، وفي التقدم للصف الأول عند الزحام، (163) وتغسيل الأموات عند تزاحم الأولياء مع تساويهم، وبين الزوجات في السَّفر، والحاضنات، والقِسمة، والخصوم عند الحكام، وفي عتق العبيد إذا أوصى بعتقهم أو بثلثهم في المرض ثم ماتَ ولم يحملهم الثلثُ عُتِقَ مبلغ الثلثِ منهم بالقرعة، وإن لمْ يَدَعْ غيَرهم فثُلثهم أيضًا
بالقرعة، وقاله الشافعي وابن حنبل رضي الله عنهم.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا تجوز القرعةَ فيما إذا أوصى بهم، ويُعتَقُ من كل واحد ثلثٌ ويَستسعي (يسعَى) في باقي قيمته للورثة حتى يؤديَها فيَعْتِقَ.
لنا أن رجُلاً أعتق عبيداً له عند موته، فأسْهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينهم، وأعتق ثلثَ العبيد، ذكر ذلك في الموطأ، وقال: بلغت، أنه لم يكن لذلك الرَّجُلِ غيرُهُم. (163 م).
الثاني أن رجلا أعتق ستة مماليك له في مرضه، لا مالَ له غيرهم، فأقرعَ النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، وعتق. بذلك اثنين، وأقرَّ أربعة في الرِّق، وعلى هذا كان التابعون.
(163) وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلَمُ الناس ما في النِداء والصف الاول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لَاسْتَهموا، ولوْ يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتَمة والصبْح لأتوهما وَلَو حبْواً".
ففى الحديث بيان لفضل الأذان والمؤذن، وحضورِ الصف الأول مع الجماعة، ولو أن الانسان يحصلُ على ذلك بالقرعة، وبيَانٌ لفضل الذهاب إلى الصلاة في وقت الهاجرة، وَسط النهار، وحضور الصلاة مع الجماعة في الصبح والعشاء التي هي العتمة.
(163 م) انظر كتاب العتق والولاء في الموطأ، ترجمة 540 - 541، من أعتق رقيقا لا يملك غيرهم، وفي الجزء الرابع من شرح الشيخ الزرقاني رحمه الله على الموطأ. ترجمة 540. (من أعتَقَ رقيقاً لا يملكُ غيْرهم، وكذا ترجمة 541).
احتج أبو حنيفة بأن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عِتْقَ إلا فيما يملك ابن آدم"(164) والمريض مالكٌ لثلث كل عبد، فينفذ عتقه. فيه، والحديث الذي ذكرتُم واقعة عيْنٍ لا عمومٌ فيها، ولأن قوله:"اثنين"، يحتمل شائعيْن لا مُعَيَّنَيْن، ويؤكده أن العادة تقتضي اختلافَ قِيم العبيد. وأيضا فالقرعة من الميْسِر، وأيضا فإنه لو أوصى بثلث كل واحد صحَّ، فينفَّذ ها هنا، قياسا على ذلك. وأيضا لو باع ثلث العبيد جاز، فالعتْقُ أوْلى.
والجواب أنَّا نقول (164 م): سلَّمنا أن العتق لا يقع إلا فيما يَملك، ولا حُجَّة لك بالحديث علي المَطْلَب، فإن العتق وقعَ فيما يَمْلك على قوْلنا. وعلىَ صحة قولك: إنها قضية عيْن، قلنا: قال عليه السلام: "حكْمي على الواحد حكمي على الجماعة"(165)، وما ذكزته من احتمال الشياع باطل، إذْ القرعة لا معنى لها مع الشِّياع، والاتفاق في القيمة شائع كثير، لا سيَمَا وخْشُ الرقيق.
وعن الثاني أن الميْسِرَ هو القمار، وتمييز الحقوق ليس منه في شيء.
(164) ونصُّه بتمامه: "ل اطلاق إلا فيما تملك، ولا عِتق إلا فيما تملك، ولا بيْعَ إلا فيما تملك، ولا وفاءَ نذْر إلا فيما تملك". رواه ابو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقله عنهم الشيخ منصور كل ناصف في كتابه الشهُير:(التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم). جـ 2. ص 338.
(164 م) استدل القرافي هنا لمشروعية القرعة وجوازها عند المالكية بستة وجوه، اقتصر منها البقوري على اثنين، منصوص عليهما في الحديث الصحيح.
ومنها إجماع التابعين رضي الله عنهم على ذلك، أمثال عمر بن عبد العزيز، وخارجة بن زيد، أُبانُ بن عثمان وابن سيرين وغيرهُم، ولم يخالفهم من عصرهم أحد.
ومنها أن أبا حنيفة قال بِها في قسمة الارض لعدم المرجح، وفاقا للمالكية، وذلك موجود هنا، فثبت قياسا عليه.
واحتج الحنفية لقولهم بستة أدلة ووجوه كذلك، أجاب القرافي رحمه الله عنها واحداً واحدا في الأصل كتابه الفروق، كما ذكرها البقوري هنا في هذا الترتيب والاختصار. رحم الله الجميع.
(165)
اخرجه الإِمام السيوطي في كتابه: الدرر المنتثرة في الأحاديث المشهرة، والعجلوني في كتابه كشف الحفاء. وكذا في كتاب:"الأسرار المرفوعة"، لمؤلفه الشيخ علي القاري رحمه الله. وقال فيه العلامة الزرقاني في كتابه مختصر المقاصد الحسَنة "لا أصل له، وإن صح معناه"، فليُصَحَّح وليحقق ذلك.