الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعْد الهدم وإن عظمتْ قيمتُهُ قبل الهدم، وكذلك المستحَقُّ منه، والغاصب ونحوُهما، الجميع في ذلك سواءٌ، لأن قَلْعَهُ لمُجَرَّدِ الفسادِ لا لحصول مصلحة تحصل للقالع ولا لدرء مفسدة عنه، فيتعين بقاؤه في الارض المستاجَرة، يَنْتَفع به صاحب الارض، لأنها مالية مستهلَكة على وَاضعها شرعا، والمستهلَكُ شرعا لا تجب فيه قيمة، ويؤيد ذلك نهْيُهُ عليه السلام عن إضاعة المال (5)، فوجب المنع منه، ولهذه القاعدة أجَمع الناس على أن العروض تتعين بالتعيين، وكذلك الحيوان والطعام، لأنَّ لهذه الأشياء من الخصوصات والأوصاف ما تتعلق به الأغراض الصحيحة لما في المعيَّنات من الملاذِّ الخاصةِ بتِلْك الأعْيان.
ومقتضى هذه القاعدةِ أنهُ إذا عَيَّن صاعا من صُبْرة وبَاعَه أنه لا يتعين، لأن الاغراض الصحيحة مستوية في الصُّبْرة، غيرَ أني لا أعلم أحدًا قال بعدم التمييز. واختلفوا في الدنانير والدراهم إذا عُينَتْ هل تتعيَّنُ أم لا؟ ثلاثة أقوال:
ثالِثُها إن عيَّنها الدافع تعينت، لأنه أملَكُ بها وهو مالكُها، وإن عيَّنها القابض لا تتعيَّنُ، إلا أن تختص بصفةِ حِلِّ أو سكَّة راجحَةٍ (6) فإنها تتعيَّن اتفاقا.
القاعدة الثالثة:
أقرر فيها ما يضمنه الأُجَرَاءُ عند الهلاك مما لا يضمنونه
. (7)
إعْلَمْ أنَّ الهلاك على خمسة أقسام:
(5) نصَّ الحديث عن المغيرة بن شُعبةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إن الله كَرِهَ لكم ثلاثا: قيلَ وقالَ، وإضاعةَ المال، كثرةَ السؤال" أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم، وكذا أبو داود، وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورحم أئمة السنة أجمعين.
(6)
كذا في ع، وت. وفي ح: بصفة حلال، وعند القرافي: "إلا أن تختص بصفة حِلي، أو سكةٍ رائجة أو غيرِ ذلك، تعينت اتفاقا. وهو أظهر في المعنى، والله اعلم بالصواب، فليُصَحَّح.
(7)
هي موضوع الفرق السابع والمائتين بين القاعدتين المذكورتين في هذه القاعدة الثالثة: جـ 4. ص 11. وهو من الفروق القصيرة جدا عند القرافي، ولم يعلق عليه بشيء الشيخ أبو القاسم ابن الشاط، فرحمهما الله. جميعًا.
الاول: ما هلك بسبب حامله مِن عِثار أو ضَعْف حَبْلٍ لم يُغَرَّ (7 م) بِه، أو ذهابٍ دابة أو سفينة بما فيها فلا ضمان ولا أجْرة، ولا عليه أن ياتي بمثله لِحَمْلِهِ، قاله مالك. وقال غيره: ما هلك بعثار كالهلاك بأمر سماوي.
وقال ابن نافع: لِرَبِّ السفِينَةِ بحسابِ ما بلَغتْ.
الثاني: ما غُرِّر فيه بِضَعف حَبْل، يَضْمَنُ القيمة بموضوع الهلاك، لأنه موضع أثَرِ التفريط، وله من الكراء بحسابه، وقيل: بموضوع الحمْل منه لأنه منه ابتدأ التعدِي.
الثالث: ما هلك بأمْرٍ سماوي بالبينة، فله الكراء كُلَّهُ، وعَليْه حمْلُ مثلِه من موضوع الهلاك، لأن أجرة المنفعة مضمونة عليه.
الرابع: ما هلك بقولهم من الطعام لا يُصَدَّقون فيه لقيام التهمة، ولهم الكرأء كله، لأنَّ شأن الطعام امتداد اليدِ إليه، لأنهم استحقُّوهُ بالعقد.
الخامس: ما هلَكَ بأيديهم من العروض يُصَدَّقون فيه لبُعْد التهمة، ولهم الكراء كله، وعليهم حمْلُ مثِله من موضع الهلاك، لأنهم لمّا صُدِّقوا أشبهَ ما هلَك بأمر سماوي، وقال ابن حبيب: لهم من الكراء بحساب ما بلغوا، ويُفسَخ الكراء، لأنه لمّا كان لا يُعْلَمُ إلا من قولهم أشبَهَ ما هلك بِعِثار.
قلت: لم يذكر إجارة الصُّناع على عمَلٍ في السلعة يُغَيّرها كالصَبْغ وأمثالِه، فإنه عند مالك يضمَنُ فيه الأجِيرُ، وهو بمنزلة الطعام الذي تمتد الأيدي إليه (8).
(7) هي موضوع الفرق الثالث عشر والمائتين بين القاعدتين المذكورتين. جـ 4. ص 18، قال في أوله القرافي رحمه الله: "إعلم أن هذا الموضع مشكل على مذهبنا في ظاهر الأمر، فإن الإحياء عندنا إذا ذهب ذهبَ المِلْكُ، وكان لغيره أن يُحْييَه، ويصيرُ مواتا كما كان الخ
…
(7 م) كذا في جميع النسخ. وعند القرافي: لم يغرَّرْ به.
(8)
قلت: وموضوع تضمينِ الأجَرَاء فيما استؤجروا عليه، كذا والصناعُ فيما وُضع بين أيديهم وائْتُمِنُوا على صنعه أو إصلاحه، موضوع كذلك تناوله الفقهاء رحمهم الله في مؤلفاتهم الفقهية بشيء من الدقة والتفصيل، ومنهم من أفْرَدَ لَهُ كتابا خاصا بموضوع تضمين الصناع، فليرجع لذلك من أراد التوسع في هذا الموضوع الهام والدقيق من أحكام التشريع وأبواب الفقه الإسلامي.
القاعدة الرابعة:
أقرِّرُ فيها ما للأجير إذا لم يعمل جميعَ العمل، (9) فأقولُ:
بأخذ بنسبةِ ما عَمِل، غيرَ أنه قد يقع الغلط في هذا.
وبيان ذلك من حيث إنّ من استوجِرَ على خياطة ثوبيْن فخاط ثوبا واحدا وهو نصف ذلك العمل فله نصفُ الأجْرة، وهذا لا كلامَ فيه، ويقع الغلط فيمن استاجر رجُلا على أن يَحْفِر له بئرا: عشرةً في عشرة أذرعٍ، تكون مربَّعة، من كل جهةٍ عشرةٌ، يكون عمقها عشرةً في عشرة، فيعمل خمسةً في خمسة، أو استوجر على أن يعمل صندوقا عشرة في عشرة، فعمل خمسة في خمسة، قد يُظَنُّ هنا أن لهذين نِصفَ الأجرة، ولكن قال الفضلاء: له في مسألة البئِر الثُّمُن، وفي مسألة الصندوق الرُّبعُ، فلم يَجْرُوا على قاعدة الإِجارَة، ولمْ يَجْرُوا أيضا في المخالفة على نمط واحد. (10)
(9) هي موضوع الفرق السادس والمائتين بين قاعدة من عملَ من الأجَرَاء النصفَ مما استؤجر عليه يكون له النصف، وبين قاعدة من عمِلَ النصف لا يكون له النصف" جـ 4. ص. 10.
قال القرافي رحمه الله في أوله:
إعلم أنه قد وقع في الاجارات أن من استأجر رجلا على أن يخيط له ثوبين أو يبنى له دارين أو نحو ذلك ففعل أحَدَهما وهو النصف استحَق النصف، وهو ظاهر
…
الخ ما ذكره القرافي واختصره البقوري هنا رحمهما الله.
(10)
وقد علق الشيخ أبو القاسم ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذا الفرق، فقال: هذا الفرق فاسد الوضع، فاحش الخطأ، فإنه قاعدة واحدة لا غيرُ، وكلُّ من عمل النصف فله النصف لا محالةَ، وانما يجري الوهم على الاغبياء، فيظنون أن من استُؤجِر على عشرة في عشرة فعمل ذلك فقد عمل جميع ما استُؤجر عليه، وذلك صحيح، وأنه متى استُؤجِز على ذلك فعمل خمسة في خمسة أنه عمل النصفَ، وذلِك غير صحيح، بل عَمِل الثُّمُن فيما استُؤجر عليه، كيف وقد بين المؤلف ذلك بعد هذا في أثناء الكلام في هذا الفرق. والعجَب منه كيف ظن أن الترجمة صحيحة مع علمه أنه لم يعمل النصفَ، ولكن الغفلة لازمة لمن لم يُعْصَم من البشر، ولكن هذه الغفلة لا يُعذرُ صاحبها والله أعلم.
أقول: يلاحَظ أن هذا التعقيب عند ابن الشاط لم يَخْلُ من قسوة وشدة كما يقع له احيانا في بعض التعقييات على كلام القرافي. وقد نبهت على ذلك في تعليقات وملاحظات سابقة. غير أنه لا يظهر بوضوح عند التأمل والتمعن مَلِيًا وجودُ اختلاف أو تناقض جَلِيّ بين الترجمة =
ووَجْهُ صحة ما قالوه أن البئر كلما تَنَزَّلَ فيها ذراعا فقد شَالَ من التراب ما مساحتة عشرة في عشرة، وذلك مائة، فكل ذراع ينزله في البئر - إذَنْ - مائة، والأذرُع عشرة، وعشرة في مائة بألف، والمستاجَرُ علَيه الفُ ذراع، فلمّا عمل خمسة في خمسة شال في الذراع الأول ترابَ خمسة في خمسة، وذلك خمسة وعشرون، فَكلُّ ذراع في هذا المعمول خمسة وعشرون، والأذرع المعمولة خمسة، وخمسة في خمسة وعشرين بمائة وخمس وعشرين، وذلك ما عَمِلَه، ونسْبتُهُ إلى الألف نسبة الثُّمُن، فيستحِق الثُّمُن.
وأمّا الصندوق فليس فيه قعْر، وإلَّا استوت المسألتان، بل الألواح يُلَفِّقها، فهو استاجره على ستة ألواح، كل ناحية منها عشرة، وذلك دائرُهُ أربعة، وقَعْرُه وغطاؤُه، فكل لوح عشرة في عشرة، فهو مائة ذراع، والألواح ستة، فالمستاجَر عليه ستمائة، عَمِلَ منها خمسة في خمسة، فيكون كل لوح منها خمسة وعشرين المتحصِّلةَ من ضرب خمسة في خمسة، وخمسة وعشرين في ستة، مائة وخمسين، ونسبتُها إلى
ستمائة نسبةُ الربع.
= وما بداخلها من الكلام عند القرافي، يمكن أن يقال إنه إنه نتج عن الغفلة، ذلك أن العبرة في كل حديث وكلام بآخره وتمامه. وقد نقل الإِمام القرافي هنا كلام بعض الفضلاء العلماء، وحكاه عنه في مسألتي البئر والصندوق، وتبناه ولم ينقضه ولم يعترض عليه، وهو يفيد أن الاجير كما يكون له النصف من الاجرة بالنسبة لما عمله في بعض الصور والحالات، كذلك يكون له الثمن والربع في صور وحالات اخرى. والترجمة عند القرافي، فيما يظهر، شاملة لجميع تلك الصور والحالات، فلم يْبقَ داع للقول بالغفلة والتعجب من ظنه الترجمة صحيحةً، وبتلك العبارات والصيغة المثيرة، ولعله الاعتداد بالعلم، والمنافسةُ فيه والمعاصَرَةُ والاقترابُ منها يدفع إلى صدور مِثْلِ العباراتِ أحيانا من بعض العلماء تجاه الآخرين، أثناء تقديم للكلامهم، أو تصويب أقوالهم، واللهَ أعلم بالحق والصواب.
على أن من المسلَّم والمقطوع به أن كل مجتهد ومستنبِط وعامل في حقل العلم الاسلامي، والاجهاد والتخريج الفكري، مهما بلغ شأنه في العلم والمعرفة، فإنه مُعَرَّضٌ للخطأ أحيانا، فالعصمة إنما هيَ للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والكمال المطلق إنما هو لله وحده، والخطأ إذا ظهر واتضح في أمر من الأمور، أو مسألةٍ من مسائل العلم، يكون تصويبه بعمل مفيد، وقول سليم لطيف، ويُلْتَمَسُ لصاحبه العذرُ على أنه صدر منه عن علم وفهم وحسن نية، ويَدْعَى له بالرحمة والمغفرة {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} كما قال ربنا العليم الحكيم.