الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن ذلك أن يجدد وضوءه ليحصل له التبربد والتنظيف، فظهر بهذا، الفرقُ بين الرياء والتشريك في العبادات. (268)
نعم، لاشك أن هذه الاغراضَ المخالفة للعبادة قد تنقص الأجر، وأن العبادة إذا تجردتْ عنها زادَ الأجر، أما البطلان والإِثم فلا، والله أعلم.
القاعدة الثالثة والعشرون: فِيما به يكون التفضيل
. (269)
إعلم أنه يكون بوجوه مختلفة:
(268) قال الإِمام الصنعاني رحمه الله في كتابه: "سبل السلام على بلوغ المرام من أدلة الأحكام"، للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله، وذلك فى آخر كلامه على شرح حديث ابن مسعود في الحث على الزواج والترغيب فيه، قال: "واستدل به العراقي على أن التشريك في العبادة لا يضر، بحلاف الرياء، لكنه يقال: إن كان المُشْرَكُ عبادةً كالمشرَكِ فيه لا يضر، فإنه يحصل بالصوم تحصين الفرج وغض البصر. وأما تشريك المباح كما لو دخل إلى الصلاة لترك خطاب من يُخِل خطابُه فهو محلُّ نظر، يحتمل القياسَ على ما ذُكر، ويحتمل عدم صحة القياس.
نعم، إن دخل فى الصلاة لترك الخوض في الباطل أو الغِيبة وسماعها كان مقصداً صحيحا". قلت: وأختم هذا التعليق والتعقيب على هذه القاعدة بالإِشارة والتذكير في الموضوع إلى أن الله سبحانه أمر عباده بإخلاص العبادة له، ونهَى عن إشراك غيره معه فيها، فقال تعالى، خطابا لنبيه، وتعليما لأمته المحمدية المومنة:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} سورة الزُّمَرِ، الآية 2 .. وقال سبحانه في ختام سورة الكهف:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} الآية 110.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يارسول الله، الرجل يعمل العملَ فَيُسِرُّهُ، فإذا اطَّلع عليه أعجبه ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: له أجْران: أجْرُ السِرّ وأجْر العمَل"، أي كان له أجر الإِسرار والإِخفاء عن الناس ليكون خالصا لوجه الله الكريم، وكان له أجرُ الاطلاع عليه من الناس فيستبشِر بذلك، ويقتدي به غيره من أهل الخير. رواه الترمذي بسنديْن حسنين رحمه الله، ورحم سائر ائمة المسلمين وجميع المومنين، ووفقنا للعمل الصالح وجعله خالصا لوجهه الكريم، بمنه وفضله، وجُودِه وكرَمِه، آمين.
(269)
هي موضوع الفرق الثالثَ عشَرَ والمائة بين قاعدة التفضيل في المعلومات)، وهي عشرون قاعدة. جـ 2. ص 211. وهو آخر فرق في الجزء الثاني، ويُعتبر من أطول الفروق عند الإِمام القرافي رحمه الله، بِسَبب ما اشتمل عليه من عشرين قاعدة مندرجة فيه ومتفرعة عنه.
الأول: تفضيل الشيء على غيره بذاته، وهذا كالواجب لذاته، له الفضل على غيره، وكالعلم يفضُلُ الجهلَ لذاته، وكالحياة تَفضُلُ الموت لذاته. (270)
الثاني: التفضيل بالصفة الحقيقية القائمة بالمفضَّل، وهذا كتفضيل العالِمِ على الجاهل، بالعلم، كتفضيل القادر على العاجز بسبب القدرة القائمة به (271).
الثالث: التفضيلُ بطاعة الله تعالى كتفضيل المومن على الكافر، كتفضيل أهل الكتاب على عَبَدة الاوثان، كتفضيل الشاهد على غيره، كتفضيل العالم علَى الشهيد. (272)
(270) قال الشيخ ابن الشاط رحمه الله: ما قاله (أي القرافي) من أن التفضيل بالذات، له مثُلٌ، ليسَ بصحيح، بل لا مثال له، إلا واحدٌ، وهو ذاتُ الله تعالى وصفاتُهُ، ولَا يسوغُ أن يقال: إنها مُثُل باعتبار الذَّات والصفات، لأنه لا يسوغ أن يقَال: إنها غَيْرُه.
(271)
قال ابن الشاط: "أطلقَ القرافي القولَ في التفضيل بالعلم، وذلك غيرُ صحيحٍ، فإنه ربّما كان الجهلُ ببعض الْعُلُوم أفضلَ من ذلك العلم، وقد استعاذ النبي قوله صلى الله عليه وسلم من عِلمٍ لا ينفع".
قلت: فعَنْ زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: لا أقول لكم إلَّا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجْز والكسل، والجُبْنِ والبُخْلِ والهرَمِ وعذاب القبْر. اللهم آتِ نفسي تقواها وزكّها، أنت خيرُ من زكاها، أنت وليُّها ومولاها. اللَّهمّ إني أعوذُ بك من علم لا ينفع، ومن قَلْبٍ لا يخْشَعُ، ومن نفس لا تَشْبَعُ، ومن دعوة لا يستجاب لها". رواه الإِمام مسلم، وبعض أصحاب السنن، رحمهم الله.
(272)
قال ابن الشاط: ما قاله القرافي في هذه القاعدة (أو في هذا الوجه كما عبَّر عنه البقوري)، وفي القاعدة الرابعة بعدها، صحيح وعلى الاطلاق، إلا ما قاله في صلاة العصر، فإن فضيلتها مخصَّة بالمذْهَبِ.
قال القرافي في توجيه تفضيل أهل الكتاب على عبدة الاوثان وبيان ذلك:
فقد أحل الله عز وجل طعامهم، وأباح التزوج من نسائهمِ دون عبدة الاوثان، لجحدهم لجبح الرسُلِ والرسالات الالهية. بحلاف أهْل الكتاب فإنهم آمنوا ببعضها، فحصل لهم هذا التمييز
…
الخ. ما ذكره البقوري هنا.
ثم قال في بيان تفضِيل الشهيد والعالم: فإن الشهيد أطاع الله تعالى ببَذْل نفسه ومالِهِ في نصره دين الله، وأعْظِمْ بذلك من طاعةٍ. وتفضيلُ العلماء بضبط شرائع الله وتعظيم شعائره التي من جملتها الجهادُ، وهدايةُ الخلق إلى الحق، وتوصيلُ معالم الاديان، ولولا سعْيهم في ذلك من فضل الله عز وجل لا نقطع أمر الجهاد وغيرُه، وكل ذلك من نعمة الله تعالى عليهم.
الرابع: التفضيل بكثرة الثواب الواقع في العمل المفضَّل، كالإِيمان أفضلُ مِنْ جميعِ الأعمالِ، كصلاةِ الجماعة أفضلُ من صلاة الفذ. (273)
الخامس التفضيل بشرف الوجوب ككلام الله القديم، فهو أشرف من سائر كلام النفوس كشرف موصوفه على كل موصوف. (274)
السادس: التفضيل بشرف الصدور، كشرف ألفاظ القرآن على غيرها من الألفاظ، لكون الرب تعالى هو المتوفي لِرَصْفه ونظامه في نفس جبريل على وفق إرادته تعالى دون إرادة جبريل. وهذا الذي ذكرناه هنا مما تمتاز به ألفاظ القرآن عَنْ سائر الالفاظ، وامتاز القرآن الكريم أيضا بوجوه أخرى من الإِعجاز على. جميع الكتب المنزلة البيت هي كلام الله تعالى كالتوراة والانجيل. (275)
(273) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الجماعة تفْضُلُ صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". رواه الشيخان وبعض أصحاب السنن.
(274)
قال ابن الشاط: ما قاله من شرف الصفة بشرف موصوفها صحيح، وما قاله من أن شرف الصفات المذكورات (من وجوهِ صفات الكلام النفسيّ القديم، والارادة والقدرة، وغيرها من جميع الصفات المنسوبة إلى الله تعالى) أو من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم كشجاعته وكرمه، وجميع ما هو صفة لنفسه الكريمة) لم يذكر من تلك الوجوه إلا شَرَفَ الموصوف، ومنها - والله تعالى أعلم - قِدَمُها وبقاؤها، وذلك: مختص بصفات الله تعالى، وأما صِفات الرسول صلى الله عليه وسلم فلمصاحبتها للنبوة، والله أعلم.
(275)
قال ابن الشاط: ما قاله القرافي من أن المزية للفظ القرآن انفراد إرادة الله تعالى بوضعه (اي في نفس جبريل، كما هو الموضوع) دون إرادة جبريل. دعوى لا أراها تقوم عليها حجة، ولعل جبريل أراد ذلك، فليس ما قاله في ذلك بصحيح، بل المزية التي امتاز بها لفظ القرآن على كلام الناس كونه دالا على كلام الله تعالى، وعِبارةً عنه، وامتيازه عن لفظ التوراة والانجيل وغيرهما من الكتب المنزلة على الرسل، بالإِعجاز وغيره من الاوصاف التي امتاز بها كما قال. قلت: يظْهَرُ أن هذا التعقيب في أوله عند الشيخ ابن الشاط يحتاج إلى تأمل ونظر، فلعل ما قاله "من أن جبريل لعله أراد ذلك"، هو الذي ليس بصحيح، وما قاله القرافي هو الصحيح والسليم على ما يظهر، ولا يحتاج إلى برهان وحجة. والله أعلمُ بالصواب.
وبيان ذلك أن من المعتقد المسَلّم به، أن الوحْيَ بالقرآن البين هو من الله وحده، وأن تأليفه، ونظمه واسلوبه كذلك، وأن وضعه وترتيبه على ما هو عليه في اللوح المحفوظ، وكذا رصفه ونظامه في نفس جبريل للوَحْي بِه على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولحفظه في الصدور ولكتابته بعد ذلك في المصحف الكريم سوراً وآيات، وحروفا وكلمات، ومنقولا الينا يالتواتر، هو من أمر الله تعالى وشأنه وحده، ومن وضعه وارادته وحده، ولا دخل في شيء من ذلك لأمين الوحي وروح القدس جبريل عليه السلام، وأن شأنَهُ أن يتلَقي القرآن عن الله تعالى كما ألقِي في نفسه، وكما =
السابع: التفضيل بشَرف المدلول، وهذا كتفضيل الأذكار الدالة على ذات الله تعالى وصفاته العلى وأسمائه الحسنى، كتفضيل الآيات الدالة على التوحيد على الآيات المتعلقة بذم أبي لهب وفرعونَ ونحوهما.
الثامن: التفضيل بشرف الدلالة لا شرف المدلول، كالحروف الدالة علَى الاوصاف الدالة على كلام الله تعالى.
التاسع: التفضيلُ بشرف التعلق كتفضيل العلم على الحياة، فإن الحياة لا تتعلق بشيء، بل لها موصوف فقط، والعلم له موصوف ومتعَلَّقٌ، وليس في الصفات السبع ما لا تَعَلَّقَ لها إلَّا الحياةُ. (276)
العاشر: التفضيلُ بشرف المتعلَّق به، كتفضيل العلم المتعلِّق بذات الله تعالى على غيره. (277)
= أنزِل وأمِرَ به، وأن يُوحِىَ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقرأه عليه كما تلقاه عن الله تعالى في الملأ الاعلى، من اللوح المحفْوظ، وبالكيفية التي يعلمها الحق سبحانه وحده، وأرادَها جل علاه.
ولذلك لم يتضح لي هذا التعليق والتعقيب في أوله، ولم يظهر جليا وجْه المراد به، والمقصودُ منه عند ابن الشاط رحمه الله، حيث قال "ولعل جبريل أراد ذلك"، اللهم الا أن يكون قصورا مني في فهم عبارته الدقيقة، ومقصده فها، فما أبرئ نفسي من ذلك، فليتَأمَّل ذلك، وليُنْظَر، وليرجع فيه إلى المؤلفات في علوم القرآن، كالبرهان للزركشى، والاتقان للسيوطى، ومناهل العرفان للزرقاني، وعلوم القرآن للشهيد الدكتور صبحي الصالح رحمهم الله، ومقدمة في الدراسات القرآنية للأستاذ الدكتور محمد فاروق النبهان مدير دار الحديث الحسنية بالرباط، وغيرها من مؤلفات القدامى والمعاصرين ومباحثهم القيمة في علوم القرآن، جزاهم الله حيراً وأثابهم على عملهم المثمر المفيد في خدمة القرآن والسنة وعلومها الاصيلة الراسخة، والله أعلم بالصواب.
أمَّا ما قاله ابن الشاط في آخر هذا التعقيب، وبيان المزية التي امتاز بها القرآن الكريم على غيره من الكتب الالهية الاخرى فهو صحيح وسليم، ولا يتعارض في نظري على ما يظهر مع ما قاله القرافي في مزية ألفاظ القرآن، فلينظر ذلك ولْيتأمَّل، والله أعلم بالصواب.
(276)
قال ابن الشاط: ما قاله القرافي في القاعدة السابعة والثامنة والتاسعة، كلّه صحيح.
(277)
قال القرافي: وكتفضيل علم الفقه على علم الطب لتعلقه برسالات الله تعالى وأحكامه، وهذا القسم غير المدلول، فكل مدلول متَعَلِّقٌ، وليس كلّ متعلّقٍ مدلولا، لأن الدلالة والمدلول من باب الالفاظ والحقائق الدالة، كالصنعة على الصانع، فإنها تدل عليه، وأمّا العلم ونحوه فلا يقال له دالٌّ، بل مدلول في نفسه، وليس بدليل على غيره، بل له متعَلّقٌ خاص، وهو معلومه، وكذلك الإِادة المتعلقة بالخيور أفضل من الإِرادة المتعلقة بالشرور، والنيةُ في الصلاة أفضل من النية في الطهارة، لأنها متعلقة بالمقاصد، والثانية متعلقة بالوسائل، والمقاصد أفضل من الوسائل، والمتعلق بالافضل أفضلُ. =
الحادي عشر: التفضيل بكثرة التعلق كتفضيل علم الله على قدرته. (278)
= قلت: وقد جآت أحاديث نبوية كثو في بيان فضل القرآن المبين، وبيان فضائل سُوَرهِ الكريمة يرجعَ اليها في كتب التفسير والحديث، وفي الكتب اطاصة بفضائل القرآن، وهذا لَا يتنافى مع القداسة والحُرمة التي هي ثابتة لكل سورة وآية، ولكل كلمة وَحَرْفٍ من كتاب الله عز وجل كما هو اعتقاد وشعورُ كل مسلم ومسلمة، فإن القرآن العظيم كله تنزيل من رب العالمين، ولا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهوَ محفوظ بحفظه المبين ولا يمسه إلا المطهرون).
قال ابن الشاط معلقا على كلام القرافي: ما قاله في هذه القاعدة العاشرة من أن كل مدلول متعلق، ليس بصحيح، فإن المدلول غيرُ المتعلّق في الاصطلاح المعهود، إلا أن يريد أن كل مدْلول يصح أن يكون متعلِّقاً بوجه مَّا، فذلك صحيح، إلا أنه مخالفٌ للاصطلاح.
وما قاله من أن الارادة المتعلقة بالخيور أفضل من الارادة المتعلقة بالشرور، إنْ أراد بذلك إرادتنا فصحيح، وإن أراد الارادة مطلقة فليس ذلك بصحيح، فإنَّ إرادة الله لا يصح تنوعها إلى نوعين، لاتحادها، ولا يصح ذلك الاطلاق عيها باعتبارين، لأنه لم يَردْ في ذلك من الشرع ما يقتضيه.
وما قاله في نية الصلاة والطهارة، وما بنَى عليه ذلك، من أن المقاصد أفْضَلُ من الوسائل، إنْ أراد بالأفضلية زيادة الأجور فذلك دعوى لم يات عيها بحجة، وإن أراد بالأفضلية كون المقاصد مفضَّلة بكونها مقاصد، فذلك صحيح.
وماقاله (أيْ القرافي) في القاعدة الحادية عشرة، والثانية عشرة صحيح، وكذلك ما قاله في الثالثة عشرة، إلّا حَصْرَهُ لوجوه التفضيل في عشرين قاعدة، فإني لا أعرف الآن دليل صحة ذلك الحصر اهـ. كلام ابن الشاط رحمه الله.
قلت: تعقيب ابن الشاط على كلام القرافي فيما يتعلق بالارادة وتنوعها وجيه ودقيق في محله، والحق إذا ظهر وانبلج واتَّضح أحقُّ أن يُتَّبعَ، فقديما قيل: الرجال يُعْرفون بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال، لأن الحال الأولى موضوعية جوهرية، والثانية معنوية اعتبارية. ومقام الالوهية وجانِبُها العظيم ينبغي الاحتياط والتثبت فيه أكثر، والتحرزُ والورَع فيه ما أمكن عند تناول الحديث على ما يتعلق بالأسماة والصفاتِ الالهية قبل الحوض في بحرها الواسع العميق، خصوصا على طريقة المتكلمين من علماء التوحيد، مع مراعاة الحدود التي يجب على المرء المسلم والعالم المتبصر الوقوف عندها، حذراً من الوقوع في مزالق اللسان وطلبا للسلامة والنجاة من خطأ الفكر والتعبير في الجانب الرباني الجليل، إذ من المعلوم المسلَّم به عند علماء المسلمين أن اسماء الله الحسنى، وصفاتِه العلى توقيفيَّة، فلا يوصَف الحقُّ سبحانه إلا بما وصَف به نفسه في كتابه العزيز، أو ووصفه به نبيُّه ورسوله المصطفى الامين فيما صَحَّ مِن حديثه النبوى الشريف، لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، كما قال في حقه ربنا جل وعلا، والله وحده بالصواب عليم، والموفق والهادى إلى صراط المستقيم، ورحم الله علماء المسلمين الذين أبانوا للناس وأوضحوا لهم معالم الدِّين؛ هو مبسوط في مواضعه من الكتب التي ألفها عديد من علماء المسلمين.
(278)
قال القرافي هنا: لكون العلم متعلقا بجميع الواجبات والممكنات والمستحيلات، واختصاص =
الثاني عشَرَ: التفضيلُ بالمجاوَرة كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود، فلا يمسه محْدِثٌ، ولا غيرُ ذلك من الأحكام المتعلقة به.
الثالثَ عشر: التفضيل بالحلول كتفضيل قبره صلى الله عليه وسلم على جميع بقاع الارض، حكى القاضي أبو الفضلِ الاجماعَ في ذلك في كتاب الشِّفَا له، ولمَّا خَفي هذا المعنى على بعض الفضلاء أنكرَ الاجماع الذي ذكره أبُو الفضل وقال: التفضيل إنما هو بكثرة الثواب على الأعمال، والعملُ على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم محرَّم، والصوابُ ليس معه، لحصره التفضيلَ وليس بمنحَصِر.
الرابع عشر: التفضيل بسبب الإضافة، كقوْلهِ تعالى:{أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} (279)، ؛ أن الإهانةَ بقوله:{أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} ، وممَّا ذكرناه بيتُ الله، وحَرَمُ الله
= الارادة بالممكنات: وجودها أو عَدمِها، واختصاص القدرة بوجود الممكنات خاصة، واختصاص السمع ببعض الموجو ات، وهي الاصوات والكلام النفسي، واختصاص البصر ببعض الموجودات الممكنات والواجبات دون المستحيلات والمعدومات الممكنات
…
الخ.
(279)
سورة المجادلة، الآية 22.
قال القرافي: "أضاف الله إليه المومنين وحِزْبهم، ليُشرَفهم بالاضافة إليه، كما أضاف العصاة إلى الشيطان ليهينم بالاضافة إليه ويحقرهم".
ومن ذلك قول الله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ، (سورة الحج، الآية 26)، أضاف البيت إليه تعالى ليشرفه بالاضافة إليه، ومنه قوله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]، أضاف الله عبودية النبي صلى الله عليه وسلم إضافَةَ تشريف" .. وذلك ما جعل القاضي عياض رحمه الله يبهج ويسعد، ويعتز ويفرح بعبوديته كما هو شأن كل مسلم ومسلمة، فقال في ذلك بيتين مشهورين يرددهما بعض العباد الصالحين، وكنت أسمعهما بين الحين والآخر من أحدِ شيوخي الاتقياء في تخفيظ القرآن الكريم، وهو يرتجز بهما ويرددهما احيانا بصوت مرتفع او مع نفسه.
وممَّا زادني طَرَباً وتيها
…
فكدتُّ بأخمصي أطأ الثرَيَّا
دخولي تحت قولك يا عبادي .. وأن صيَّرْتَ أحمدَ لي نبيا
ويشير بذلك إلى النداء بالعبودية في كثير من الآيات القرآنية، ومنها قوله تعالى في شأن عباده. المسلمين هوم القيامة، وتبشيرهم بدخول الجنة والتنعم. برضوان الله ونعمِه المقيم:{يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 68 - 70]
الخامس عشر: التفضيل بالأنساب والأسباب، كتفضيل ذريته عليه السلام على جميع الذراري بسبب نسبهم المتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم.
السادس عشر: التفضيل بالجدوَى والثمرة كتفضيل العالم على العابد، لأن العالِم يُفيضُ خيرَه على غيره، والعابدُ قصرَ خيره على نفسه. (280).
السابع عشر: التفضيل بأعظمِ ثمرة وأكثرِها، وهذا كثمرة النحو واللغة، لكن النحو أعظم فائدة. (281)
(280) عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقا يبْتَغي فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لَتضَعُ أجْنجتها رضاءً لطالب العلم (أي تكريما له)، وإن العالم لَيَستغفِرُ له مَن في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء، فضْل العالِم على العابدِ كفضل القمَر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبباء، ان الأنبياء لم يُوَرِّثوا ديناراً وَلا درهما، إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذ به أخَذَ بحظ وافِرٍ" (أيْ من أخذَ منهُ بقسطٍ وحظٍ أخذَ بنصيب عظيم ومكانةٍ عالية ودرجة رفيعة في الدنيا والاخرة. رواه أبو داود وكذا الترمذي، واللفظ له.
(281)
قال القرافي هنا رحمه الله: "وذلك بأن تكون الحقيقتان، كلّ واحدة منهما لها ثمرة، وهي مثمرة، غيرَ أن إحدى الحقيقتين ثمرتها أعظم، وجدواها أكثْرُ، فتكون أفضل، وله أمثلة: أحدها الفِقه والهندسة، كلاهُمَا مثمر أحكاماً شرعية، لأن الهندسة يستعان بها في الحساب والمساحات، والحساب يدخل في المواريث وغيرها، والمساحات تدخل في الإجارات وغيرها. ثم ذكر القرافي هنا مسألتين، رأيتُ من الأنسب ذكرهما تتميما للفائدة عن ما فيهما من طول، فقال:
"ومِن نوادر المسائل الفقهية التي يدخل فيها الحساب، المسألة المحكية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
1) رذلك أن رجلين كان مع أحدهما خمسة أرْغفة، ومع الآخَر ثلاثة، فجلسا ياكلان، فجلس معهما ثالثٌ ياكل معهما، ثمّ بعد الفراغ من الاكل دفع لهما الذي أكَلَ معهما ثمانيةَ دراهم، وقال: إقْسِما هذه الدراهمَ على قدر ما أكلتُهُ لكما. فقال صاحب الثلاثة: إنهُ أكلَ نصف أكْلِهِ من أرغفتى ونصفَ أكله من أرغفتك، فأعطني النصفَ أربعةَ دراهم، فقال له الآخر: لا أعطيك إلا ثلاثة دراهم، لأنّ لي خمسة أرغفة، فآخُذُ خمسةَ دراهم، ولك ثلاثة أرغفة تاخذ ثلاثة دراهم، فحلف صاحب الثلاثة لا ياخذ إلا ما حكم به الشرع، فترافعا إلى علي رضي الله عنه، فحكم لصاحب الثلاثة بدرهم واحد، ولصاحب الخمسة بسبعة دراهم، فشكَا من ذلك صاحبُ الثلاثة، فقال له علي كرم الله وجهه: الأرغفة ثمانية، وأنتم ثلاثة، أكَل كلْ واحد منكم ثلاثة أرغفة إلَّا ثلثا، بقي لك ثلث من أرغفتك أكله صاحب الدراهم، وأكل صاحبك من أرغفته ثلاثةً إلَّا ثلثا، وهي. خمسة، يبقَى له رغيفان وثُلُث، وذلك سبعة أثلاث أكلها صاحب الدراهم، فأكل لك ثلثا، وله سبعةَ أثلاث، فيكون لك درهمٌ، وله سبعةُ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= دراهم. فهذه مسألة فقهية يحتاج إليها الفقيه المفتي، والقاضي الملزم، وهي لا تعلم إلا بدقيق الحساب كما ترى.
2) ثم قال القرافي: ومن مسائل المساحة الغريبة المتعلقة بالفقه رجل استاجر رجلا يحفر له بئرا، عشرةً في عشرة طولا وعرْضا وعُمقا، جميعُ ذلك عشرة من كل وجه، فحفر له بئراً: خمسة في خمسة، فاخْتُلِفَ فيما يستحقه من الأجْرَة، فقال ضعاف الفقهاء: يستحِقُّ النِصفَ، لأنه عمل النصف، وقال المحققون: يستحق الثُّمُنَ، لأنه عَمل الثمُنَ. وبيانه أنه استاجره على عشرة في عشرة، وذلك ألفُ ذراع، بسبب أن الذراع الأول من العشرة لو عُمل وبُسط على الارض ومُسِحَ كان حصيرا، طوُله عشرة وعَرْضُهُ عشرة، ومساحته عشرة في عشرة بمائة، فالذراع الأول تُحَصلُ مساحته مائة، وهي عشرة أذرع في عشرة، ومائة في عشرة بألف، وعمل خمسة في خمسة، فالذراع الاول لو بسط على الارض ترابا على وجهه لكان خمسة في خمسة، وخمسةً في خمسة بخمسة وعشرين. فالذِراع مساحته خمسة وعشرون، وهي خمسة أذرع، وخمسة وعشرون في خمسة، بمائة وخمسة وعشرين، 5 × 125، ونسبة مائة وخمس وعشرين إلى الألفِ نسبة الثُّمُن، فيستحق الثمُنَ من الأجرة، لأنه قد عمِل ثمن ما استؤجر عليه.
وهذه الدقائق من المسائل إنما تحصُل من الهندسة، فإن علِم الهندسة شمِل الحساب والمساحة وغيرها.
وهذه المسائل، وإن كانت كثيرةٌ، غير أنما بالنسبة إلى مسائل الفقه قليلة، فثمرة الفقه أعظم من ثمرة الهندسة، فيكون أعظم منها.
وثانيها: علم النحو والمنطق، كلاما له ثمرة جليلة، غير أن ثمرة النحو أعظم، بسبب أنه يستعان به على فَهْم كتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم وكلام العرب في نطق اللسان وكتابة اليد، فإن اللحن يقع في الكتابة، وفي اللفظ، ويستعان به في الفقه وأصول الفقه، وفي غير ذلك مما عُلِمَ في مواضعه.
وأما المنطق إنما يُحتاج إليه في ضبط المعاني المتعلقة بالبراهين والحدود خاصة، وقد كفي فيها الطبعُ السليم والعقل المستقيم، ولا يهدى العقل بمجرده لتقويم اللسان وسلامته من اللحن، فإنها أمور سَمْعيِّة، ولا مجالَ للعقل فيها عن سبيل الاستقلال، فلابدَّ من النحو، بالضرورة، فيها، والمنطقُ يُستغنَى عنه بصفاء العقل، فصارت الحاجةُ للنحو أعظمَ، وثمرتُه أكثرُ، فيكون أفضل.
وثالثها: علم النحو مع أصُول الفقه، كلاهما مثْمِرٌ، غير أن أصول الفقه يثمر الاحكام الشرعية، فإنها مِنه توخذ، فالشريعة من أولها إلى آخرها مبنية على أصول الفقه، والنحوُ إنما أثره في تصحيح الالفاظ وبعض المعاني، والالفاظ إنما هي وسائل، والاحكام الشرعية مقاصد، والمقاصِدُ أفضل من الوسائل.
قلت: والغاية من ايراد هاتين المسألتين الفقهيتين المتعلقتين بالحساب والمساحة، والهدف من إيراد بعض الامثلة في تفضيل بعض العلوم على بعض، وهي مسائل اختصرها الشيخ البقوري =
الثامن عشر: التفضيل بالتاثير، وهذا كتفضيل قدرة الله تعالى على الْعِلم والكلام. (282)
= ولم يذكرها، هو التنبيه إلى مدى اهمام علمائنا القدامي رحمهم الله بالعلوم الرياضية، وعنايتهم بفهمها وتحصيلها الجيّد، وتوظيفُها في مجال علوم الشريعة الاسلامية، وإجادتُهم لأصولها واتقانهِمْ لفروعها. وأنهم ليسوا - كما قد يظن البعض - أنهم لم كونوا يعرفون إلَّا ما يتعلق بالعلوم العربية الآلية والعلوم الدينية الأصيلة من تفسير وحديث وأصول وفقه وما إلَيْها، بل كانوا مشاركين في العلوم النقلية والعقلية، وبعضهم نبغ فها نبوغا عبقريا خاصا كما هو مدون في كتب التاريخ الاسلامي وحضارته وتاريخ العلوم عند العرب المسلمين.
وكذا التنبيهُ إلى أن بعض المسائل الفقهية تبدو في أول نظرة اليها مسائل واضحة المعالم، فيقع التسرع في الاجابة عها او الحكم بما ظهر فها، كما يؤدي إلى حصول الغلط، والوقوع في الحطأ والزلل، مع أنها عند التامُّل. والتفكر ملِيًّا تبدو على خلاف ذلك، ويهتدي الفقيه المفتي، والقاضي الحاكم، إلى الصواب فيها، وفقا لنصوص الشريعة، واستنباط الأحكام منها.
ومن المسلَّم به أن العلوم كثيرة، والمعارف متنوعة، وفها الأهم والمهم، والأهمُّ بالنسبة للمسلم ما يتعلق بالضروري من علوم الدين في مجال العقيدة والعبادة، والاخلاق والمعاملة، ثم التوسع والتعمق فيها بالنسبة للخاصة، من العلماء وأهل الافتاء والقضاء، وتبقى العلوم الأخرى مطلوبة التعلم على سبيل فرض الكفاية بالنسبة لبعض ابناءِ الأمة ليضطلِعُوا في دراستهم لها، ومعرفتهم لتلك العلوم بشؤون الحياة وتصريفها فيما يعود بالنفع على الناس، ويصلح أحوالهم دينا ودنيا، وينهض بوطنهم المسلم، وأمتهم الاسلامية جمعاء، ويحقق لها التقدم والازهار في كل مجال. وقد لخص بعضهم الاشارة إلى بعض العلوم الاسلامية وأفضليتها وتقديمها على غيرها فقال:
وقدّم الأهَمّ إن العلمَ جمٌّ
…
والعُمْرُ طيفٌ زارَ أو ضيفٌ ألمٌ
فهمُّه عقائدٌ ثم فروعٌ
…
تَصَوُّفٌ وآلةٌ بها الشروع
كلمة هَمُّهُ في صدر البيت الثاني اسمُ تفضيل، حُذفت همزته لضرورة النظم والوزْن، فأصله أهمُّه، كما يقال - سماعاً مُطرداً: خيرٌ وشرٌّ، بدلَ أخْيَرُ وأشَرُّ، كما قال الناظم لذلك:
"وغالباً أغناهم خيْرٌ وشرٌ
…
عن قوله أخْيَرُ منه وأشَرُّ
فالعلوم الاسلامية والانسانية غزيرة وفيرة، والعمر مهما طال بالانسان وامتد به، فهو بمنزل طيفِ الخيال فيٍ حُلُمِ يَراه الانسان، فلا يلبث أن يختفي عند الاستيقاظ من المنام، وبمنزلة ضيفٍ زار أحدا من الاهل والاخوان، لابد أن يؤول أمْرُه إلى السفر - والارتحال، فالحياة يجب اغتنامها فيما هو أهمّ وأفيَدُ وفيما هُوَ منْ صالح الأقوال والاعمال، كما جاء في الحديث: إغنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قَبْلَ فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل مماتك، وذلك فيما يرضي الله ورسوله، وويعود بالخير والنفع على البلاد والعباد.
(282)
قال القرافي مُبَيِّناً وجه ذلك: "فإن القدرة مؤثرة في تحصيل وجود الممكنات، والعلم والكَلام تابعان ليسا بمؤثرين، وكذلك السمع والبصر من قبل العلم، ومالَهُ التأثير أفضل مما لا تأثر له، وليس من صفات الله السبعة ما هو مؤثر إلا القدرة والإرادة فقط. =
التاسعَ عشر: التفضيل بجودة البِنْية والتركيب، كتفضيل الملائكة عليهم السلام على الجَانِّ بسبب جودة أبنيتهم. (283)
= وكتفضيل الحياءِ على ضده وهو القَحَّة، فإن الحياء خيْرٌ كله، ولا ياتي إلا بالخير، وهو من الايمان، وهو يؤثر الحثِّ على الخيرات، والزَّجْرَ عن المنكرات، وكتفضيل صاحب الشريعة السخاءَ على البخل، لكون السخاء من مكارم الاخلاق.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء في هذه القاعدة بقوله: ما قاله القرافي فيها محل نظر.
(283)
قال القرافي مبينا ذلك، فإنهم خُلِقُوا من نور، ويسيرُ جبريلُ عليه السلام مسيرة سبعة آلاف سنة في لحظة واحدة، ويحمل مدائن لوط الخمسةَ من تحت الارض على جناحه لا يضطرب منها شيء، بل يقتلعها من تحتها على هذا الوجه، ويصعدُ بها إلى الجوّ ثم يقلبُها، وهذا عظيم
…
قلت: وفي هذا إشارة إلى قوله تعالى في شأن إهلاك قوم لوط ومدينتهم. {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} . سورة هود. الايتان: 82 - 83.
وقد علَّق الشيخ ابن الشاط على ما جاء في هذه القاعدة عند القرافي، بقوله:
ما قاله في هذه القاعدة التاسعة عشرة، غيرُ صحيح، لأنه بنَى جميع قوله فيها على نسبة تلك الآثار التي ذكرَها إلى تأثير غير القدرة القديمة على ما ظهر من مساق كلامه، وألله أعلم. قلت: لم يذكر الشيخ البقوري رحمه الله القاعدة العشرين كما ذكرَها القرافي، ولم يتعرض لها في قليل ولا كثير، فهي لا توجد في أيّة نسخة من النسخ المعتمدة عندنا في التحقيق والتصحيح، ولعلّه رأى أن يختصرها، نظرا لطولها، واكتفاءً بالقواعِدِ السابقة. ولأهميتها، وتتميما للفائدة رأيت أن أنقلها عن القرافي حيث جاء فيها قوله:
"القاعدة العشرون: التفضيل باختيار الرب تعالى لمن يشاء على من يشاء، ويحكم ما يريد، فيفضِّل أحد المتساويَيْن من كل وجْه على الآخَر، كتفضيل شاة الزكاة على شاة التطوع، وتفضيل فاتحة الكتاب داخل صلاةِ الفرض على الفاتحة خارج الصلاة، فإن والواجب أفضل مما ليس بواجب، وكذلك تفضيل حج الفرض على تطوعه، والأذكار في الصلاة على مثلها خارج الصلاة.
ثم قال: إذا تقررت هذه القواعد لأ أسباب التفضيل فاعلم أن هذه الاسبابَ الموجبة للتفضيل قد تتعارض، فيكون الأفضلُ منْ حازَ أكثره وأفضلها، والتفضيل إنما يقع بين المجموعات، وقد يختص المفضوُل ببعض الصفات الفاضلة، ولا يقدَحُ ذلك في التفضيل عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: أقضاكمُ عَلِيٌّ، وأفرَضُكُم زيدٌ، وأقْرَؤكم أُبَيٌّ، وأعْلمُكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، رضي الله عنهم أجمعين، مع أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الجميع، وكاختصاص سليمان عليه السلام بالمُلْك العظيم، ونوح عليه السلام بالمئين من السنين، (إشارة إلى قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} . سورة العنكبوت. الآيتان 14 - 15)، كتفضيل آدم عليه الصلاة والسلام بِكونهِ أبا البشر، مع تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على الجميع، فلولا هذه القاعدة، وهي تجويز اختصاص المفضول بما ليس للفاضل لَلَزِم التناقُضُ. واعلم أن تفضيل الملائكة والانبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما هو بالطاعات =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وكثرة المثوبات والأحوال السّنِيَّات، وشرَفِ الرسالات والدرجاتِ العليَّاتِ، فمن كان فيها أتمَّ فهو أفضل.
وكذلك التفضيل بين العبادات إنما هو بمجموع ما فيها، فقد يختص المفضول بما ليس للفاضل، كاختصاص الجهاد بثواب الشهادة، والصلاةُ أفضل منه، وليس فيها ذلك، والحجُّ أفضل من الغزو، وكذلك الجج، فيه تكفير الذنوب كبيرِها وصغيرها. وجاء في الحديث:"من حج فَلَم يرفث ولم يفسُق خرجَ من ذنوبه كيوم ولدتْه أمه"، وهو يقتضي الذنوب كلها والتْبعاتِ، لأنه يوْمَ الولادة كان كذلك. وقد ورد في بعض الاحاديث:"إن الله تجاوز لهم عن الخطيئات، وَضمِن عهم التْبعَات"، والصلاة ليس فيها ذلك، مع أنما أفضلُ من الحج، وما ذلك إلا لأنه يجوز أن يَختصْ المفضول بما ليس للفاضل، وقد تقدم أن الشيطان يفر من الأذانِ والاقامةِ، ولا يَفِرُّ من الصلاة، مع أنها أفْضَلُ منهما، وقد تقدّم تفضيلُهُ، وأنة يخرَّجُ على هذه القاعدة.
ثم اعلَمْ أن المفضولات، منها ما يُطْلَعُ على سبب تفضيله؛ ومنها ما لا يعلَمُ إلَّا بالسَّمْع المنقول عن صاحب الشريعة، كتفضيل مسجده صلى الله عليه وسلم، وأن الصلاة فيه خيرٌ من الف صلاة في غيره، وفي المسجد الحرام بألف ومائة، وفي بيت المقدس بخمسمائة صلاة، وهذه أمور لا تُعلَم إلا بالسمعيات، كتفضيل المدينة على مكَة عند مالك رحمه الله، ومكة على المدينة عند الشافعي رضي الله عنه، لا يُعْلَمُ ذلك إلا بالنصوص، وقد ذكرت في مواضعها من الفقه، وانما المقصود ها هنا تحرير القواعد الكليَّة، والتنبيهُ عليها، وأمّا جزئيات المسائل ففي مواضعها تنبيه يطّلعُ منه على تفضيل الصلاة علي سائر العبادات، فنقول:
تقررَ أن تصرف العباد على أربعة أقسام:
أحدُها: حقُّ الله تعالى فقط كالمعارف، وكالإيمان بما يجب ويستحيل ويجوز عليه سبحانه وتعالى.
وثانيها: حقُّ العبادِ فقط، بمعنى أنهم متمكّنون من إسقاطه، وإلا فكُلّ حق للعبد ففيه حق لله تعالى، وهو أمْرُهُ عز وجل بإيصاله إلى مستحِقه، كأداء الديون وردّ الغصوب والودائع.
وثالثها: حق لله تعالى وحق للعباد، والغالبُ مصلحة العباد كالزكوات والصدقات والكفارات، وكالأموال المنذورات والضحايا، والهدايا والوصايا والأوقاف.
ورابعها: حق لله تعالى وحق لرسوله صلى الله عليه وسلم وللعباد كالأذان، فحقه تعالى. التكبيراتُ والشهادة بالتوحيد، وحق رسوله صلى الله عليه وسلم الشهادة له بالرسالة، وحق العباد الإرشاد للاوقات في حق النساء والمنفردِينَ، والدعاء للجماعات في حق المقتدين.
والصلاة مشتمِلَة على حق الله تعالى كالنية والتكبير والتسيح والتشهد والركوع والسجود، وما يصحبها من الحركات والترروكِ والكَفِّ عن الكلام كثير الافعال، وعلى حق النبي صلى الله عليه وسلم كالصلاة عليه والتسليم عليه والشهادةِ له بالرسالة، وعل حق المكلّف، وهو دعاؤه لنفسه بالهداية والاستقامة على العبادة وغيرها، والقنوتُ ودعاؤه في السجود والجلوس لنفسه، وقولُهُ: السلام علينا وعلى عباد الله صالحين، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليمُ آخرَ الصلاة على الحاضرين. ولهذه الوجوه ونحوها كانت الصلاة أفضل الاعمال بعد الإِيمان. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وفي الحديث: أفضلُ اعمالِكم الصلاةُ، فهي من المفضَّلات التي عُلم سَبَبُ تفضيلها. وأما تفضيل مكة على المدينة أو المدينة على مكة فبأمور نعلمها وأمور لا نعلمها.
فمنِ المعلوم كونُ المدينة مهاجَرَ سيد المرسلين، ومَوْطِنَ أستقرار الدين، وظهورِ دعوة المومنين، ومَدفنَ سيد الأولين والآخرين، وبها كَمُل الدين واتضح اليقين، وحصل العز والتمكين، وكان النقل من أهلها أفْضَلَ النقول وأصحَّ المعتمَدَات، لأن الابناء فيه ينقلون عن الآباء، والأخلافَ عن الأسلاف، فيخرج النقل عن حيز الظن والتخمين إلى حيز العلم واليقين.
ومن جهة النصوص بوجوه:
أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم: "المدينة خيرَ من مكة"، وهو نص في الباب.
ويَردُ عليه أنه، وإن كان نصا في التفضيل، غيرَ أنه مطلقٌ في المتعلَّق، فيحتَمِل أنها خيرٌ من جهة سَعةِ الرزق والمتاجر، فما تعَيَّنَ محلّ النزاع.
وثانيها: دعاؤه صلى الله عليه وسلم بمثل ما دعا به ابراهيمُ صلى الله عليه وسلم لمكةَ ومثلِهِ معه.
ويردُ عليه أنه مطلق في المدعو به، فيحمَلُ على ما صرح له في الحديث وهو الصاع والمُدُّ.
وثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنهم أخرجوني من أحَبِّ البقاع إليَّ، فأسنكِنِّي أحبَّ البقاع اليك، وما هو أحبُّ إلى الله يكون أفضلَ، والظاهرُ استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم، وقد أسكنه المدينة، فتكون أفضل البقاع وهو المطلوب.
ويَردُ عليه أن السياقَ لا يَابَى دخول مكة في المفضل عليه، لإياسه صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، فيكون المعنى فأسكِنِّي أحبَّ البقاع إِليك مما عدَاها، واذا لم تدْخل مكة في المفضل عليه احتمل أن تكون أفضل من المدينة فتسقط الحجة، مع أنه لم يصح من جهة النقل، ولو صح فهو من مجاز وصف المكان بصفة ما يقع فيه، كما قال: بلد طيب، أيْ هواؤُها، والارض المقدّسة أيْ قُدّسَ من فيها أو من دَخلها من الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم، لأنهم مقدسون من الذنوب والخطايا، وكذلك الوادى المقدّس، أي قُدّس فيه موسى عليه السلام، والملائكة- الحالون فيه، وكذلك صفتُهُ البقعةَ بالمحبة، وهو وصف لها بما جعله الله تعالى فيها ممّا يحبه الله تعالى ورسوله، وهُو إقامته صلى الله عليه وسلم بها، وإرْشَادُ الخلْقِ إلى الحق، وقد اقتضى ذلك التبليغ وتلك القُربات، فبطل الوصف الموجب للتفضيل على هذا التقدير.
ورابعها: قوله صلى الله عليه وسلم: لا يصبِرُ على لأوائها وشِدَّتها أحدٌ إلا كنتُ له شفيعا وشهيداً يوم القيامة".
ويَرِدُ عليه سؤالان: أحَدُهُما أنه يدل على الفضْلِ لا على الأفضلية، وثانهما أنه مطلق في الزمان، فيُحمَلُ على زمانه صلى الله عليه وسلم والكونِ معه لنصرة الدين. ويعَضِّده. خروجُ الصحابة، رضوان الله عليم بعد وفاته إلى الكوفة والبصرة والشام وغيْر ذلك من البلاد.
وخامسُها: قوله صلى الله عليه وسلم: إن الايمان لَيارِزُ إلى المدينة تأرز الحيَّةُ إلى جحرِها، أيْ تاوِى إليه). ويَرِدُ عَليه أن ذلك عبارة عن إتْيان المومنين لها بسبب وجوده صلى الله عليه وسلم فيها حال حياته، فلا عموم له في الازمان، ولا بقاءَ لهذه الفضيلة بعْدَه، لخروج الصحابة رضي الله عنهم إلى العراقّ وغيره، وهمْ أهلُ الايمان، وخبَرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، فيُحْمَلُ على زمانٍ يكون الواقع فيه ذلك، تحقيقا لِصدقه صلى الله عليه وسلم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وسادسها: قوله صلى الله عليه وسلم: إن المدينة تَنفِي خبَثها كما ينفي الكِيرُ خبَثَ الحديد.
ويَرِدُ عليه أنه مطلق في الازمان، فيُحملُ على زمانه صلى الله عليه وسلم لخروج الصحابة بعده، فيلزم أن يكونوا خَبَثاً، وليس كذلك.
وسابعها: قوله صلى الله عليه وسلم "ما بين قبري ومنبري روضةٌ من رياض الجنة"
ويَرِدُ عليه أنه يدل على فضل ذلك الموضع لا المدينة.
وأما مكة شرَّفها الله تعالى ففضِّلتْ بوجوه:
أحدها: وجوب الحج والعمرة، على الخلاف في وجوب العمرة، والمدينَة يُندَبُ إتيانها ولا يجبُ.
وثانيها: أنَّ اقامة النبي صلى الله عليه وسلم كانتْ بمكة بعد النبوة أكثر من المدينة، فأقام بمكة ثلاثَ عشرة سنة، وبالمدينة عَشراً.
غيرَ أنه يرد على هذا الوجه أن تلك العشرةَ كان كمالهُ صلى الله عليه وسلم، وكمالُ الدين فيها أتمّ وأوْفَرَ، فلعَلّ ساعة بالمدينة كانتْ أفضلَ من سنة بمكة أو من جملة الإقامة بها.
وثالثها: فُضِّلَتْ المدينةُ بكَثْرة الطارئين من عباد الله الصالحين، وفُضِّلت مكة بالطائفين من الانبياء والمرسَلين، فما من نبي إلا حجَّها: آدمُ فمَنْ سِواه، ولو كان لِملكٍ دارانِ فأوجب على رعاياهُ وخدَمِهِ أن ياتوا إحداما، ووعَدَهم على ذلك بمغفرة سيئاتهم ورفع درجاتهم دون الأخرى لَعُلِمَ أنها عنده أفضل.
ورابعها: أن التعْظيم والاستلام نوع من الاحترام، وما خاصان بالكعبة.
وخامسها: وجوبُ استقبالها يدل على تعظيمها
وسادسها: تميم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة يدل على تعظيمها، ولم يحصل ذلك لغيرها.
وسابعها: تحريمها يوم خلَقَ الله السماواتِ والارض، ولم تُحَرَّمْ المدينةُ إلا في زمانه صلى الله عليه وسلم، وذلك دليل على فضلها.
وثامنها: كونها مَثْوى إبراهيمَ واسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
وتاسعها: كونها مولدَ سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم
وعاشرها: كونها لا تُدخَلُ إلا بإحرامٍ، وذلك يدل على تعظيمها.
وحادي عَشَرها: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].
وثاني عشرها: الاغتسال لدخولها دون المدينة.
وثالث عشرها: ثناء الله تعالى على البيت الحرام، {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} الآية 96. سورة آل عمران.
ثم زاد القرافي قائلا: واعلم أن تفضيل الازمان والبقاع قسمان:
تفضيل دنيوى كتفضيل الربيع عن غيره كتفضيل بعض البلدان بالثمار والانهار وطيبِ الهواء وموافقة الأهواء، وتفضيل ديني كتفضيل رمضان على الشهور، وعاشوراء على الأيام، وكذلك يوم عرفة، وأيامُ البيض، وعَشْرُ المحرّم، والخميس والاثنين، ونحو ذلك ممّا ورد الشرع بتفضيله =