الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثانية: ما يجوز التوكيل فيه مما لا يجوز
. (6)
إعْلَمْ أن الأفعال قسمان: منها مالا تحصل مصلحتُه الا بالمباشرةَ، فلا يجوز التوكيل فيها، لفوات المصلحة بالتوكيل، كالعبادة ومصلحة الوطء، ومقصودُ الأيمَان واللعانِ اظهارُ الصِدق في الدعوى، وحَلِفُ زيد ليس دليلا على صدق عَمْرو، وكذلك الشهادة مقصودها الْوُثُوقُ بعدالة المتحمِّلِ، وذلك لا يَحْصُل إذا أدَّى غَيْرُه. ومقصودُ المعاصى إعدامُها فلا يُشرع التوكيل فيها، لأن شرع التوكيل فيها فرْعُ تقريرها شرعا.
وضابطُ الفرق أن مقصود الفعل متى كان يحْصُلُ من الوكيل كما يحصل من الموّكل، وهو مما يجوزُ الإِقدام عليه، جازتْ الوكالة فيه، وإلَّا فلا.
القاعدة الثالثة: في الفرق بين الأملاك الناشئة عن الإِحياء وبين الاملاك الناشئة عن غَير الإِحياء
. (7)
والمعروفُ عندنا أن المِلكً الناشيء عن الإِحياء إذا مات وذهب الإِحياءُ عنه كان لغيره أن يُحييَه ويَملِكه. وقال سحنون والشافعي: لا يزول الملك للذي أحياه أولا، واستدلوا على هذا بأشياء:
(6) هي موضوع الفرق السادس عشر والمائتين بين القاعدتين المذكورتين: جـ 4. ص 26. وهو من أقصر الفروق القصيرة عند الامام القرافي، حيث لم يستغرق الكلامَ فيه أكثرَ من تسعة سطور، ولم يعلق عليه بشيء الشيخ ابو القاسم ابن الشاط رحمه الله.
قال القرافي هنا: ومصلحة الوطء الإعفاف وتحصيل ولد يُنسبُ إليه، وذلك لا يحصل للموكل، بخلاف عقد النكاحِ، لأن مقصود تحقيق سبب الاباحة، وهو يتحقق من الوكيل. ومقصود الْأيمان كلها واللعان إظهار الصدق فيما ادَّعى.
(7)
هي موضوع الفرق الثالث عشر والمائتين بين القاعدتين المذكورتين. جـ 4. ص 18، قال في أوله القرافي رحمه الله: "إعلم أن هذا الموضع مشكل على مذهبنا في ظاهر الامر، فإن الإِحياء عندنا إذا ذهبَ ذهبَ المِلْكُ، وكان لغيره أن يُحْيِيَه، ويصيرُ مواتا كما كان الخ
…
مِنْها قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحْيَى أرضا ميتة فهي له"(8)، فجَعَل عليه السلام المِلْك له، والاصلُ عدمُ إبْطاله، واستصحابُ مِلْكِه. (9)
الثاني قياس الإِحياء على البيع والهبةِ وسائر أسباب التمليك.
الثالث القياس على مَن تَمَلكَ لُقَطةً ثم ضاعت منه، فإنَّ عوْدها إلى حال الإِسقاط لا يُسقِط مِلْكَ متملِّكها.
والجواب عن الأول أن الحديث يدل لنا، بسَبب أن القاعدة أن ترتب الحكم على الوصفِ يدل على عِلّيّة ذلك الوصف لذلك الحكم، وقد رتَّب المِلك على وصف الإِحياء، فيكون الإِحياء سببَاَ له وعِلَّتَه، والحكم ينتفي لانتفاء علته، فَيَبْطُلُ المِلْك بهذا الحديث. (10)
قلت: مُطْلُقُ الإِحياء هو عِلَّةُ الحكم لا دَوامِه، وقد حصل وما انتفَى، والذي انتفى دوامُهُ، وليس هو العِلَّه. (11)
(8) رواه أصحاب السنن: أبو داود والنسائي والترمذى، وقال: إنه حسن. وفي معناه حديث عائشة رضي الله عنها: "من أعْمرَ أرضا ليست لأحد فهو أحقُّ"، رواهُ الامام البخاري رحمه الله. والارض الميتة. كما سبق، يراد بها في الحديث والفقه الارضُ التي ليستْ مِلْكا لأحد، ولا حريما لِملك معْمور بالبناء أو الزرع أوْ الغرس، وليست للمنفعة العامة كمحل اجتماع الناس في سُوقٍ ونحوه، والإِحياء او الإِعمار يكون بما جرى به العرف بين الناس من زرع وغرس وتحويط وبناء في الأرض إستصلاحها وتسويتها لذلك .. الخ.
(9)
قال ابن الشاط هنا: ما قاله القرافي حكاية أقوال واحتجاج، ولا كلام في ذلك.
(10)
علق ابن الشاط على هذا الكلام بقوله: "أما القاعدتان فمسَلّمتان وصحيحتان، ولكن لا يلزَم ما قالهُ من بطلان هذا الحكم، لأن الإِحياء قد ثبت فترتب عليه مسبَّبُه ولم يَرْتفع الإِحياء، ولا يصح ارتفاعُه، لأن ذلك من باب ارتفاع الواقع وهو محال، وإنما مغزاه أن الإِحياء لم يستمرَّ، وذلك غير لازم في الأسباب كلها، فإن المِلْك المرتَّب على الشراء او على الارث او على الهبة لم تستمرَّ أسبابُهُ، فكان يلزم على قياس قوله، متَى غفل الانسان عن تجديد شراءِ مشتراه، أن ييطُل مِلْكُه عليه، وذلك باطل قطعا، فجوابه هذا غير صحيح.
(11)
قول: هذا التعقيب يبدو متقاربا ومتوافقا مع تعليق ابن الشاط. رحم الله الجميع، فليتأمل في ذلك.
قال شهاب الدين: سلَّمْنا ما قلتم، غيرَ أنَّ قوله عليه السلام:"فهي له" لفظ يقتضي مطلق المِلك، فإن "لَهُ" ليس من صِيغ العموم، بل دَليلٌ على أصل ثبوت المِلك، ونحن نقول بموجبه. فإذَن إنما ثَبَت مطلَقُ الملك زمنَ الإِحياء، وإنما يحصل مقصود الخصم أنْ لَوْ اقتضَى الحديثُ المِلكَ على وجْهِ الدوام، وليس كذلك (12).
قلت: إذا ثَبت المِلك له بتثبيتِ الشارع فأصلُهُ أن ييقى له حتى يدل دليل على زواله عنه.
قال شهاب الدين: وعن الثاني، الفرقُ بأن الإِحياء سبب فِعْل تُمْلَك به المباحاتُ، وهو سببٌ ضعيف لِوُرُودِه على غير ملكٍ سابق (13).
وعن الثالث أن تَملُّكَ الملتقِط ورَد على ما تقدمَ فيه المِلك، وتَقَرر، فكان تأثير السبب فيه أقوى. ويؤكّده أن الاسباب القولية ونحوها تَرفع مِلك الغير كالبيع ونحوه، فهي في غاية القوة. وأما الفعل بمجرده فليس له قوةُ رفع ملك الغير، بل ييْطل ذلك الفعل كمَن بَنَى في ملك غيره (14).
قلت: وكذا من باع مِلك غيره لا أثر له، والأظهر ما قاله سحنون.
(12) علق الشيخ ابن الشاط على هذا الكلام والاستدلال عند القرافي بقوله: ما قاله من أن الحديث لا يقتضي المِلك بِوصْفِ الدَّوام صحيح، ولكن هنا قاعدة شرعية، وهَي أن المِلك يدومُ بعد ثبوت سبَبه إلَا أن يلزمه ما يناقضه". وهذا التعقيب في مضمونه ومحتواه هو ما نجده كذلك في تعقيب الشيخ البقوري على كلام القرافي وتصويبه، رحم الله الجميع.
(13)
قال ابن الشاط معلقا على هذا الجواب: ما قاله دعوى يقابَلُ بمثلها، بأن يقال:
إن الاسباب القولية هي الضعيفة، لورودها على مِلك سابق، فيتعارض المِلْكان: السابقُ واللاحق، وأما المملوك بالإِحياء فلم يَسْبقه ما يعارِضه فهو أقوى.
(14)
زاد القرافي هنا قوله: "وبذلك ذهب أثره بذهابه، وهذا فقه حسن على القواعد، فلْيُتأمَّلْ، ومذهب الشافعى رضي الله عنه في بادئ الرأي أقوى وأظهر، وبهذه الباحث ظهر الفرق بين القاعدتين من جهة القوة والضعف كما تقدم بسْطُهُ وتقريره".
وقد علق المحقق ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله: جوابُه هنا مبني على دعواهُ قوة الاسباب القولية، فجوابه ما سبَق. وقد تبيَّن أن مذهب الشافعي أقوى على الاطلاق. والله تعالى أعلم".