الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
333 -
عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إِلَى خَيْبَرَ -وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ-، فتفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ المَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتكَلَّمُ، فَقَالَ:"كَبِّرْ كَبِّرْ"، وَهُوَ أَحْدَثُ القَوْمِ، فَسَكَتَ، فتكَلَّمَا، فَقَالَ:"أتحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ -أَوْ: صَاحِبَكُمْ؟ -"، قَالُوا (1): و (2) كَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نشهَدْ، وَلَمْ نَرَ؟ قَالَ:"فتبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ؟ "، فَقَالُوا: كَيْفَ (3) نَأْخُذُ (4) بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ (5).
(1) في "ت": "فقالوا".
(2)
الواو ليست في "خ".
(3)
في "ت": "فكيف".
(4)
"نأخذ" ليس في "ت".
(5)
* تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاي (3002)، كتاب: الجزية والموادعة، باب: الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره، واللفظ له، ومسلم =
وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زيْدٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ"، قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْ، كَيْفَ نَحْلِفُ (1)؛ قَالَ:"فتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَوْمٌ كُفَّارٌ (2).
وَفِي حَدِيثِ سعيد (3) بْنِ عُبَيْدٍ: فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ بِمِئَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ (4).
= (1669/ 1)، كتاب: القسامة، باب: القسامة، والنسائي (4715)، كتاب: القسامة، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر سهل فيه.
(1)
في "ت" زيادة: "عليه".
(2)
رواه البخاي (5791)، كتاب: الأدب، باب: إكرام الكبير، ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال، ومسلم (1669/ 2)، كتاب: القسامة، واللفظ له، وأبو داود (4520)، كتاب: الديات، باب: القتل بالقسامة، والنسائي (4712 - 4714)، كتاب: القسامة، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر سهل فيه، والترمذي (1422)، كتاب: الديات، باب: ما جاء في القسامة.
(3)
في "خ": "سعد". قال ابن الملقن في "الإعلام"(9/ 62): اعلم أنه وقع في "شرح الشيخ تقي الدين": سعد بن عبيد، بدل: سعيد، وهو من النساخ، وصوابه: سعيد، ووقع في "شرح الفاكهي" على الخطأ أيضًا، انتهى. قلت: وقد علمتَ أنه وقع على الصواب في النسخة "ت" من هذا الشرح، وباللَّه التوفيق.
(4)
رواه البخاي (6502)، كتاب: الديات، باب: القسامة، ومسلم (1669/ 5)، كتاب: القسامة، باب: القسامة، وأبو داود (4523)، كتاب: =
* التعريف:
سَهْلُ بنُ أبي حَثْمَةَ، واسمُ أبي حثمةَ -بالمثلثة الساكنة-: عبدُ اللَّه، وقيل: عامرُ بن ساعدةَ بنِ عامرِ بنِ عديِّ بنِ جُشَم -بضم الجيم وفتح الشين المعجمة- بنِ مَجْدَعَةَ -بالجيم الساكنة والدال المهملة- بنِ حارثةَ بنِ الحارثِ بنِ الخزرجِ.
يكنى: أبا يحيى، ويُقَالُ: أبو محمد، الأنصاريُّ، المدنيُّ (1).
مات النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني سنين، وقد حفظ عنه.
رُوي له عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرون حديثًا، اتفقا على ثلاثة أحاديث.
= الديات، باب: في ترك القود بالقسامة، والنسائي (4719)، كتاب: القسامة، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر سهل فيه.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (4/ 10)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 191)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 192)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 447)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 5)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 143)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 88)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1408)، و"التوضيح" لابن الملقن (31/ 405)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 223)، و"عمدة القاري" للعيني (24/ 58)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 62)، و"كشف اللثام" للسفاريني (6/ 96)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 253)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 183).
(1)
"المدني" ليس في "ت".
روى عنه: بشير (1) بنُ يسار، وصالح بنُ خواتِ بنِ جُبير، وغيرُهم.
روى له: الجماعة.
توفي في أول ولاية معاوية (2).
* ثم (3) الكلام على الحديث من وجوه:
الأول: حُوَيِّصَة ومُحَيِّصَة: -بتشديد الياء فيهما، وبتخفيفها- لغتان مشهورتان، أشهرهما (4): التشديدُ (5).
والقَسامة: -بفتح القاف-، وهي التي يحلف بها المدَّعي للدمِ،
(1) في "خ": "بسر".
(2)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 304)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 97)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 200)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 661)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 570)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 227)، و"تهذيب الكمال" للمزي (12/ 177)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 195).
(3)
"ثم" ليس في "ت".
(4)
في "ت": "أشهرها".
(5)
انظر ترجمة محيصة: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1463)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 411)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 392)، و"تهذيب الكمال" للمزي (27/ 312).
وانظر ترجمة حويصة: "الاستيعاب" لابن عبد البر (10/ 409)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 97)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 173)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 143).
وقيل: إنها في اللغة اسمٌ للأولياء الذين يحلفون على دعوى الدمِ (1).
الثاني: ع: حديث القسامةِ أصلٌ من أصول الشرع، وقاعدةٌ من قواعد الأحكام، وركنٌ من أركانِ مصالحِ العبادِ، وبه أخذَ (2) الأئمةُ كافةً، والسَّلَفُ من الصحابةِ والتابعينَ، وعلماء الأمة (3)، وفقهاء الأمصار؛ من الحجازيين، والشاميين، والكوفيين، وإن اختلفوا في صورة الأخذ به.
وروي التوقفُ (4) عن الأخذ به عن طائفة فلم يَرَوا القسامةَ، ولا أثبتوا (5) لها في الشرع حكمًا؛ وهو مذهب الحكم بن عُتَيبة، ومسلمِ بنِ خالد، وأبي قِلابةَ، وسالمِ بنِ عبدِ اللَّه، وسليمانَ بنِ يسارٍ، وقَتادةَ، وابنِ عُلَيَّة (6)، والمكيين، وإليه ينحو البخاريُّ، ورُوي عن عمرَ بنِ عبد العزيز مثلُه، وروي عنه -أيضًا-: الحكمُ (7) بها.
واختلف قولُ مالك في جواز القسامة في قتل الخطأ.
ثم اختلف القائلون بها في العمد؛ هل يجب بها القتلُ والقصاصُ، أو الديةُ فقط؟
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 88).
(2)
في "ت": "ومأخذ".
(3)
في "خ": "الأئمة".
(4)
في "ت"زيادة: "به".
(5)
في "ت": "ولم يثبتوا".
(6)
في "ت": "عتبة".
(7)
في "ت": "الأخذ".
فمذهبُ معظمِ الحجازيين: إيجابُ القَوَدِ والقتل (1) بها إذا كَمُلَتْ شروطُها وموجِباتُها؛ وهو قولُ الزهريِّ، وربيعةَ، وأبي الزنادِ، ومالكٍ وأصحابِه، والليثِ، والأوزاعيِّ، وأبي ثورٍ، وأحمدَ، وإسحاقَ، وداودَ، والشافعيِّ في أحد قوليه، ورُوي ذلك عن ابن الزبير، وعمرَ بنِ عبد العزيز رضي الله عنهم (2).
إذا (3) ثبت هذا، فللحكم بالقَسامَةِ عندنا شروط:
أحدهما: أن يُدَّعَى الدمُ على مَنْ لا يُعرفُ قاتلُه ببينةٍ، ولا إقرارِ مَنْ يُدَّعى عليه.
والثاني: أن يكون المقتولُ حرًا مسلمًا.
والثالث: أن يكون في قتل، لا في جرحٍ.
والرابع: أن يتفق الأولياء على ثبوت القتل في العَمْد، فإن اختلفوا، فلا قسامة، فأما في الخطأ إذا ادعاه بعضُهم، ولم يَدَّعِه (4) الباقون، فقال مالك: إن المدعين يُقسمون، ويأخذون حقوقَهم من الدية.
والخامس: أن يكون ولاةُ الدمِ في العمد اثنينِ فصاعدًا، فإن كان واحدًا، لم يُقْسِم، إلا أن يعين من عصبته من يحلفُ معه (5)، وإن لم
(1) في "خ" و"ت": "والدية"، والمثبت من "إكمال المعلم".
(2)
انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 448).
(3)
في "ت": "فإذا".
(4)
في "ت": "يدعوه".
(5)
في "ت": "له".
تكن له ولاية (1)؛ كالابن، يستعينُ بعمومته، فأما في الخطأ، فيقسم الواحدُ.
والسادس: أن يكون الأولياءُ في العمد رجالًا عُقلاءَ (2) بالغِينَ، فإن لم يكن إلا نساءٌ، فلا قسامةَ، وأما في الخطأ، فأولياءُ الدم هم الورثةُ، رجالًا كانوا أو نساءً.
والسابع: أن يكون مع الأولياء لَوْثٌ يقوِّي دعواهم، واللوثُ أشياء:
منها: الشاهدُ الواحدُ العدلُ على رؤية القتل، وفي شهادةِ من لا تُعلم عدالتُه، والعدلِ يرى المقتولَ يتشحَّطُ في دمه، والمتَّهَمُ عندَه أو قربَه عليهِ آثارُ الدم، خِلافٌ.
ومنها: أن يقول المقتولُ: دمي عند فلان.
وفي كون ذلك لوثًا في الخطأ: روايتان عن مالك.
وفي شهادة النساء والعبيد خلاف (3).
ومنها: أن يشهد عدلان بالجرح، فيعيش بعدَه أيامًا، ثم يموت قبل أن يُفيق منه.
ومنها: أن تَقْتَتِلَ طائفتان، فيوجد بينهما قتيلٌ، فهذا لوثٌ عند مالكٍ، والشافعيِّ، وأحمدَ (4)، وإسحاقَ.
(1) في "ت": "فإن لم تكن ولاية".
(2)
في "ت": "عقالًا".
(3)
نظر: "التلقين" للقاضي عبد الوهاب (2/ 487) وما بعدها.
(4)
"وأحمد" ليس في "ت".
وعن مالك رواية: أنه لا قسامةَ، بل فيه ديةٌ على الطائفة الأخرى، إن كان من إحدى (1) الطائفتين، وإن كان من غيرهما، فعلى الطائفتين ديتُه (2)(3).
الثالث من الكلام على الحديث: قوله: فذهبَ عبدُ الرحمن يتكلم، فقال عليه الصلاة والسلام:"كَبِّرْ كَبِّرْ": معنى هذا: أن المقتولَ هو عبدُ اللَّه، وله أخ اسمُه عبدُ الرحمن، ولهما ابنا عَمٍّ، وهما: مُحيصة وحُويصة، وهما أكبر سنًا من عبدِ الرحمن، فلما أراد عبدُ الرحمن أخو القتيل أن يتكلم، قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"كَبِّرْ كَبِّرْ"؛ أي: ليتكلمْ أكبرُ منك (4)، وإن كان (5) حقيقة الدعوى إنما هي (6) لأخيه عبد الرحمن، لا حقَّ فيها لابْنَي عمه، ولكن أمرَ عليه الصلاة والسلام أن يتكلم الأكبرُ، وهو حُويصة؛ ليعربَ عن (7) صورة الواقعة كيف جرتْ، لا سماع الدعوى منه، فإذا أُريد (8) سماعُ الدعوى، تكلم صاحبُها؛ وهو عبدُ الرحمن.
(1)"إحدى" ليس في "خ".
(2)
في "ت": "الدية".
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 145).
(4)
في "ت": "أكبركم".
(5)
في "ت": "كانت".
(6)
"إنما هي" ليس في "ت".
(7)
في "ت": "ليعرف من".
(8)
في "ت": "فإذًا يريد".
ويحتمل أن يكون عبدُ الرحمن حين أُمر بالسكوت، وَكَّلَ حُويصة ومُحيصة في الدعوى، وفي هذا فضيلةُ السنِّ عند التساوي في الفضائل، وقد اعتبر العلماء ذلك في الإمامة، وفي عقدِ النكاح، وغيرِ ذلك، على طريق الندب دونَ الوجوب (1).
الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: "أَتَحلفون، وتَستحقون دمَ (2) قاتِلِكم -أو: صاحبكم-؟ "، دليلٌ على ما تقدَّم؛ من أنه إذا كان وليُّ الدمِ واحدًا، استعان بعَصَبَته في الأيمان، فيحلفون معه، وإن لم تكن (3) لهم ولايةٌ، لعرضِه عليه الصلاة والسلام الأيمانَ على الثلاثة: عبدِ الرحمن، وابني عمِّه حويصةَ ومحيصةَ، والولايةُ لعبد الرحمن أخي المقتولِ، لا غيرُ، هذا مذهبنا، وخالفَ في ذلك الشافعيُّ.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "تستحقون (4) قاتلِكم أو صاحبِكم"، فمعناه: يَثْبُتُ حقُّكم على مَنْ حلفتم عليه.
وهل ذلك الحقُّ قصاصٌ، أم ديةٌ؟ فيه الخلاف السابقُ بين العلماء (5).
(1) المرجع السابق، (11/ 146).
(2)
"دم" ليس في "ت".
(3)
في "ت": "يكن".
(4)
في "ت": "ويستحقون".
(5)
المرجع السابق، (11/ 147).
والاستدلالُ بالرواية التي فيها: "فيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ" أقوى من الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم "وتستحقون دم قاتلكم"؛ لأن قولنا: يدفع برُمَّته مستعملٌ في دفع القاتل للأولياء للقتل، ولو أن الواجبَ الديةُ، لبعُدَ استعمالُ هذا اللفظ فيها، وهو في استعماله في تسليمِ القاتل أظهرُ.
والرُّمَّةُ: -بضم الراء-: قطعة من الحبل بالِيَةٌ، والجمعُ: رُمَمٌ، ورِمَامٌ.
قال الجوهري: وأصلُه: أن رجلًا دفع إلى رجل بعيرًا بحبلٍ في عنقه، فقيل ذلك لكلِّ مَنْ دفع شيئًا بجملته، وأما الرِّمَّةُ -بالكسر-، فهي العظام البالية، والجمع (1): رِمَمٌ، ورِمَامٌ (2)، واللَّه أعلم.
والاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام: "وتستحقون دمَ صاحبِكم" أظهرُ (3) من الاستدلال بقوله: "فتستحقون قاتلَكم، أو صاحبَكم"؛ لأن هذا اللفظ الأخيرَ لا بدَّ فيه من إضمار، فيحتمل أن يضمر: ديةَ صاحبَكم احتمالًا ظاهرًا، وأما بعدَ التصريح بالدمِ، فلا، وربما أشار بعض المخالفين لهذا المذهب أن يكون "دمَ صاحبِكم": هو القتيل، لا القاتل، ويرده قوله عليه الصلاة والسلام:"دمَ صاحبِكم، أو قاتلِكم"(4).
(1) في "ت": "وبالجمع".
(2)
انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1937)، (مادة: رمم).
(3)
في "ت": "أقوى".
(4)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 91).
ولتعلمْ (1): أنه إنما يجوز لهم الحلفُ إذا علموا أو ظنوا ذلك، وإنما عرضَ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليمينَ إن وُجد فيهم ذلك الشرط، وليس المرادُ الإذنَ لهم في الحلف من غير علمٍ، ولا ظنٍّ، والتقدير: أتعلمون ذلك، أو تظنونه، فتحلفون؟ ولذلك قالوا:"كيف نحلفُ ولم نشهدْ".
الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: "فتبرِئُكم يهودُ بأيمان خمسين"؛ أي: تُبري إليكم من دعواكم بخمسين يمينًا، وقيل: معناه: يخلصونكم من اليمين بأن يحلفوا، فإذا حلفوا، انتهت الخصومةُ، ولم يثبتْ عليهم شيء، فخلصتم أنتم من اليمين.
وفيه: دليلٌ لصحة يمينِ الكافرِ والفاسق، وأن الحكمَ بين المسلم والذميِّ؛ كالحكمِ بين المسلمين.
ويهود: لا ينصرفُ؛ للتأنيث والعلمية؛ إذ المراد به: القبيلة، أو الطائفة (2)، ومنه قول الشاعر:
فَرَّتْ يَهُودُ وَأَسْلَمَتْ جِيَرانَهَا
…
صَمِّي لِمَا فَعَلَتْ يَهُودُ صَمَامِ (3)
(1) في "ت": "ولتعلموا".
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 147).
(3)
قال ابن بري: البيت للأسود بن يعفر. قال يعقوب: معنى صمي: اخرسي يا داهية، وصمام: اسم الداهية. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (3/ 439).
وقوله: "فعقله النبيُّ صلى الله عليه وسلم من عندِه"؛ أي: أعطى ديتَه من عنده.
وفي الرواية الأخرى: "فَوَدأْهُ من قِبَلِهِ"(1)، - بتخفيف الدال-؛ أي: أعطى ديته أيضًا.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "فيُقسم خمسون منكُم على رجلٍ منهم":
فيه: أن القَسامة لا تكون إلا على واحد؛ كما هو المشهور من مذهبنا، وهو قول أحمد.
وقال أشهبُ وغيرُه: يقسمون على ما شاؤوا، ولا يقتلون إلا واحدًا.
وقال الشافعي: إن (2) ادعوا على جماعة، حلفوا عليهم، وثبتت الدية، على الصحيح، وعلى قول: يجبُ القصاصُ عليهم، وإن حلفوا على واحد، استحقوا عليه وحدَه.
وفيه: أن الأيمان لا تكون (3) أقلَّ من خمسين، وأنها لا يحلفها واحد (4)، وإنما يحلفها خمسون من أولياء المقتول، كلُّ واحد يمينٌ، فإن كانوا دونَ هذا العدد، أو نَكَلَ بعضُهم، ولم يكن ممن يجوز
(1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1669/ 2).
(2)
في "ت": "إذا".
(3)
في "ت": "يكون".
(4)
في "ت": "لا يجعلها واحدة".
عفوُه (1)، أو صرفُ اليمينِ إلى غيره، رُدَّتِ الأيمانُ عليهم، حتى يُتِمُّوا خمسين يمينًا (2)، ويجزىء في ذلك رجلان، ولا يجزىء في قتل العمد أقلُّ من رجلين، هذا مشهور مذهب مالك رحمه الله.
وعنه: إن كان الأولياء أكثرَ من خمسين، حلفوا كلُّهم (3) يمينًا يمينًا، ولا يحلف في ذلك إلا الرجال البالغون من أوليائه، ومَنْ يستعينون به من عَصَبَته، على ما تقدم (4).
السادس: قوله: "فكرهَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُبطل دمَه، فوداهُ بمئةٍ من إبلِ الصدقةِ": قيل: ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لما لم يحلِفوا، ولم يُحَلِّفوا، و (5) تَنَزَّهوا عن اليمين لمَّا لم يحضروه، ولم يَرَوْا إلزامَها الخيبريين (6)، حذرًا من مجاهرتهم للَّه -تعالى- بالحِنْثِ، وأنه يكون سببًا لاغتيال المسلمين إذا علموا أنهم يحلفون لا غير، ولم يتوجَّه لهم حكمٌ، أرضاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأَنْ ودى (7) مِنْ عندهِ، أو من بيت المال.
(1) في "ت": "عقده".
(2)
"يمينًا" ليس في "ت".
(3)
في "ت": "حلفوهم".
(4)
انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 453)، و"الذخيرة" للقرافي (1/ 313).
(5)
في "ت": "أو".
(6)
في "ت": "الخيرين".
(7)
في "ت": "وداه".
وقيل: بل فعل ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما يخشى أن يبقى (1) في نفوس الأنصار على أهل خيبر، وهم ذمة؛ مما تبقى عاديتُه، فرأى من المصلحة قطعَ ذلك، وحسمَ الطلب بما أعطاهم.
وأما هذه الرواية الأخيرة: "فَوَدَاهُ مِنْ إِبلِ الصَّدَقَةِ"، فقيل: هو (2) غلط؛ إذ ليس هذا (3) مصرف الصدقات، والأصحُّ والأكثرُ قولُ مَنْ قال:"مِنْ قِبَلِهِ"، أو "مِنْ عِنْدِهِ"، إمَّا (4) من ماله، أو من مال الفيء.
وقيل: يجمع بينهما: أن يكون تَسَلَّفَ ذلك من إبل الصدقة، حتى يودِّيَها لمستحقيها (5) من الفيء.
ع: فإذا قلنا على التأويل الآخر: إنه للمصلحة، فقد يجوز تصريفُها في مثل هذا عند (6) بعض العلماء في المصالح العامة.
وقيل -أيضًا-: إنه قد يكون فيما فعلَ من ذلك استئلافٌ لليهود؛ رجاءَ (7) إسلامهم، وإعطاؤه عنهم قد يكون من سهم المؤلَّفَة قلوبُهم.
(1) في "ت": "تبقى".
(2)
في "ت": "هي".
(3)
في "ت" زيادة: "إلَّا".
(4)
في "ت": "أو".
(5)
في "ت": "لمستحقها".
(6)
في "خ": "عن".
(7)
في "ت": "ورجاء".
قلت: هذا على تفسير المؤلَّفة قلوبُهم: بأنهم كفارٌ يُتَأَلفون على الإسلام، لا (1) على قول من يقول: حديثو عهد بإسلام (2)؛ ليتمكن الإسلامُ في (3) قلوبهم، أو مسلمونَ لهم أتباعٌ ليستألفوهم، على ما مرَّ في كتاب: الزكاة. أو لكونِ (4) أولياءِ القتيلِ محاويجَ ممن تُباح لهم الصدقةُ، واللَّه أعلم (5).
* * *
(1)"لا" ليس في "ت".
(2)
في "ت": "بالإسلام".
(3)
في "ت": "من".
(4)
في "ت": "يكون".
(5)
انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 457).