الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس
364 -
عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ مِنْ تَوْبَتي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"(1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (2606)، كتاب: الوصايا، باب: إذا تصدق أو أوقف بعضَ ماله أو بعضَ رقيقه أو دوابه، فهو جائز، و (4156)، كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك، و (4399)، كتاب: التفسير، باب:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 17]، و (6312)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة، ومسلم (2769)، كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، وأبو داود (3317)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: فيمن نذر أن يتصدق بماله، والنسائي (3823)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا نذر، ثم أسلم قبل أن يفي، و (3824 - 3826)، باب: إذا أهدى ماله على وجه النذر، والترمذي (3102)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (8/ 274)، و"شرح مسلم" للنووي (17/ 96)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 160)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1546)، و"التوضيح" لابن الملقن (30/ 364)، و"فتح الباري" لابن حجر =
* الشرح:
إن قلت: كان الأَوْلى في حقِّ كعب رضي الله عنه أن يستشيرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ويستغني (1) برأيه قبل أن يقولَ ما قالَ من الانخلاع؛ كما فعل سعدُ بنُ أبي وقاص رضي الله عنه حيث قال:"أفأتصدَّقُ بثُلُثَي مالي؟ " الحديث (2).
قلت: (3) أجل، و (4) لكن هذا كلامُ مَنْ أدهشَه فرحُ التوبة من اللَّه -تعالى- عليه (5)، وكأنه (6) قامت به (7) حالة أوجبتْ عنده أن إتيانه بجميع الطاعات من بعض ما يجب أن تُتلقى (8) به تلك النعمةُ (9)، حتى أورود الاستشارة بصيغة الحكم، وإنه لجديرٌ بذلك، وحقيقٌ به، ويشير إلى هذا المعنى قولُ الآخَرِ الذي وجد راحلتَه عندَ رأسه، الحديث:
= (8/ 122)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 294)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 402)، و"كشف اللثام" للسفاريني (6/ 435)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 150).
(1)
في "ت": "ولا يستغني".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
في "ت" زيادة: "من".
(4)
الواو ليست في "ت".
(5)
"عليه" ليس في "ت".
(6)
في "ت": "وكانت".
(7)
في "ت": "عنده".
(8)
في "ت": "يتلقى".
(9)
في "ت" زيادة: "أو دفعت عنه نقمة".
أنتَ عبدي، وأنا ربُّكَ (1).
وهذا عندي أصلٌ كبير للمتصوفةِ ونحوِهم في عمل الشكران إذا تجددت لأحدهم نعمةٌ، أو رُفعت (2) عنه نقمةٌ، ونحو ذلك، وتسميتهم ذلك شكرانًا -أيضًا-، وهو مصدرُ شَكَر.
وفي الحديث: دليل على أن إمساكَ ما يحتاج إليه أولى من التصدُّق بجميع ماله، وعليه يدل -أيضًا- قولُه عليه الصلاة والسلام أيضًا (3) في الحديث الآخر:"أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى"(4)، وقد ذهب بعضُ أصحابنا، وأظنه سحنونًا رضي الله عنه: إلى أنه لا يجوز للإنسان أن يتصدَّق بجميع ماله، فجعلَ ذلك واجبًا، لا مندوبًا.
والأمثلُ في هذا عندي (5): ما قاله العلماء رضي الله عنهم من التفصيل بين مَنْ له صبرٌ وطاقة على الإضاقة وغيره، ففي الأول (6): يجوز، وفي الثاني: يكره، ولعل قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
(1) رواه مسلم (2747)، كتاب: التوبة، باب: في الحض على التوبة والفرح بها، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
في "ت": "دفعت".
(3)
"أيضًا" ليس في "خ".
(4)
رواه البخاري (1361)، كتاب: الزكاة، باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومسلم (1034)، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
(5)
في "ت": "والأمثل عندي في هذا".
(6)
في "ت": "والأول".
خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] يتنزل على هذا المعنى، فيكون المخصوصون بهذا المدح (1) من القسم الأول، دون الثاني.
وانظرْ عَتْبَهُ عليه الصلاة والسلام على الذي جاء بمثل بيضةِ (2) من ذهب، ورميه (3) بها، وإنكارِه ذلكَ عليه، إذْ لم يكن له مالٌ غيرُها (4)، أو (5) عدم إنكاره على أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أتى بماله كلِّه، وهو ثمانون ألفًا على ما قيل، وما ذاك إلا لتبايُن الحالين، واختلاف الوصفين، واللَّه أعلم.
ولا يحسُن الاستدلالُ لمذهب مالك بهذا الحديث (6): على أن مَنْ نذر أن يتصدق بماله كلِّه: أنه يجزئه منه الثلثُ؛ لأن (7) كعبًا رضي الله عنه لم يأت بصيغة التنجيز ولابدَّ، والاستدلالُ بما رواه ابنُ وهبٍ من أن رجلًا تصدَّقَ بجميع ماله على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأجاز له منه الثلثَ أحسنُ (8).
(1) في "ت": "المخصوص بعد المدح".
(2)
في "ت": "ببيضة" بدل "بمثل بيضة".
(3)
في "ت": "ورَدُّهُ".
(4)
رواه أبو داود (1673)، كتاب: الزكاة، باب: الرجل يخرج من ماله، والحاكم في "المستدرك"(1507)، وغيرهما من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما.
(5)
في "ت": "و".
(6)
"بهذا الحديث" ليس في "ت".
(7)
في "ت": "أن".
(8)
في "ت": "ليس غير" مكان "أحسن".
وتحريرُ هذه المسألة من حيثُ المذهب: أنه إن نذر أن يتصدق بجميع ماله إطلاقًا من غير تعيين، لزمه الثلث؛ لما تقدم، وإن تصدَّقَ بشيء من ماله بعيِنه، فإن كان قدرَ ثلثه، أو أقلَّ، لزمَه، وإن كان أكثرَ من ذلك؛ فعن مالك روايتان:
مشهورُهما: التصدُّق بالجميع، وإن كان أكثرَ من الثلث، أو جميعَ ماله.
والأخرى: أنه لا يلزمه (1) إلا قدرُ ثلثِ ماله.
وقال سحنون: سواء عيَّن، أو لم يعيِّن، فإنه يُخرج ما لا يضرُّ به إخراجه، واستحسنه اللخمي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى"(2)، فإن كان جميعَ ماله لا فضل فيه، لم يكن عليه شيء، وإن (3)[كان] الفضلُ نصفَه، أو ثلاثةَ أرباعه، أخرجَ جميعَ ذلك الفضل، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالنذر (4).
و (5) قالوا: والفرق بين التعيين والإطلاق: أن الذي عين شيئًا من ماله قد أبقى لنفسه بقيةً، ولو ثيابَ طهره، أو ما لا يعلم به من ميراث أو غيره، وأما الذي قالَ: مالي، فإنه لم يُبق لنفسه شيئًا،
(1) من قوله: "وإن كان كثير من ذلك، فعن مالك. . . " إلى هنا ليس في "ت".
(2)
تقدم تخريجه قريبًا.
(3)
في "ت": "فإن".
(4)
في "ت": "بالنذور".
(5)
الواو ليست في "ت".
وما جهلَه (1) أو علمَه، فكان هذا من الحرج المرفوع، فوجب قصرُه على الثلث.
قلت: ولعل تخصيصَ (2) عدمِ الحرج بالثلثِ دونَ غيره من الأجزاء المتمسك (3) بحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين استشاره في التصدُّق بثلثي ماله، إلى أن قال-عليه الصلاة والسلام:"الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ"(4).
ق: وفيه: دليل على أن الصدقة لها أثرٌ في محو الذنوب، ولأجل هذا شُرعت الكفارات المالية، وفيها مصلحتان، كلُّ واحدةٍ منهما تصلُح للمحو:
إحداهما: الثوابُ (5) الحاصل بسببها، وقد تحصل به الموازنة، فتمحو أثرَ الذنب.
والثانية: دعاء مَنْ يتصدق عليه، فقد يكون سببًا لمحو الذنب (6).
قلت: في (7) هذا نظر؛ فإن (8) التوبة تجبُّ ما قبلها، لا سيما هذه
(1) في "ت": "وما حمله".
(2)
في "خ": "تخصص".
(3)
في "ت": "التمسك".
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
في "ت": "للثواب".
(6)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 161).
(7)
في "ت": "وفي".
(8)
في "ت": "لأن".
التوبةِ القطعيةِ المستجمعةِ الشرائطَ، فلا ذنبَ حالَ حصولها، فلا يحصل أخذُ محوِ الذنب (1) بالصدقة من هذا الحديث، وإنما الظاهرُ من حال كعب رضي الله عنه في قصد انخلاعه من ماله: أن ذلك (2) على جهة الشكر للَّه -تعالى- على كمال نعمته عليه؛ لنزول توبته -كما تقدم-، لا لمحو الذنب ولابُدَّ؛ إذ الذنب إنما كان قبل حصول التوبة، لا بعدَه، واللَّه أعلم.
وقصةُ كعبِ بنِ مالكٍ هذا وصاحبيه، وهما هلالُ بنُ أميةَ الواقفيُّ، ومُرَارَةُ بنُ الربيعِ العامريُّ، ويقال: ابنُ ربيعة، ويقال: ابن ربعي رضي الله عنهم، قد خرجه البخاري، ومسلم، وأهل السير (3)، وقد ضبطت أسماؤهم بأن (4) أولها مكة (5)، وآخرها عكة، واللَّه أعلم.
* * *
(1) في "ت": "فلا يحسن لأحد الاستدلال على محو الذنوب".
(2)
"أن ذلك" ليس في "ت".
(3)
"ومسلم وأهل السير" ليس في "ت".
(4)
في "ت": "كان".
(5)
على ترتيب: مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية.