الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الرابع والتسعون بعد الستمائة:
(694)
لقد أذهلتني أم عمرو بكلمة
…
أتصبر يوم البين أم لست تصبر
وأذهلتني: شغلتي عن النظر في أمري بما ألقته إلى من قولها ذلك، لإشعاره بوقوع التفرقة وتشتيت الشمل، ولأنه في الظاهر كلام من لم يعتقد من محب صدق دعواه، إذ هو يقتضي صدق الصبر والتسليم والانقياد. وسمي الكلام الاستفهامي كلمة لإِطلاق الكلمة على الكلام، وفي الحديث "أصدق كلمة قالها لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل"
وأنشد بعده:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
تمامه:
وإلا فكن في السر والجهر مسلما
وتقدم اكلام عليه في الإنشاد السبعين بعد الستمائة.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الخامس والتسعون بعد الستمائة:
(695)
رويد بني شيبان بعض وعيدكم
…
تلاقوا غداً خيلي علىا سفوان
تلاقوا جياداً لا تحيد عن الوغا
…
إذا ما غدت في المأزق المتداني
تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم
…
على ما جنت فيهم يد الحدثان
قال ابن جني في "المحتسب" قرأ ابن مسعود {يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 284] جزم بغير وفاء، وجزم هذا على البدل من "يحاسبكم" على وجه التفصيل لجملة الحساب، ولا محالة أن التفصيل أوضح من المفصل، فجرى مجرى بدل البعض أو الاشتمال، والبعض: كضربت زيداً رأسه، والاستمال: كأحب زيداً عقله، وهذا البدل ونحوه واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان، فمن ذلك قول الله سبحانه:{وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68 و 69] لأن مضاعفة العذاب هو لقى الآثام، وعليه قوله: رويد بن شيبان بعض وعيدكم
…
. . . . . إلى آخر الأبيات الثلاثة.
فأبدل "تلاقوا جياداً" من قوله: "تلاقوا غداً خيلي" وجاز إبداله منه للبيان، وإن كان من لفظه، وعلى مثاله لما اتصل بالثاني من قوله:"جياداً لا تحيد عن الوغا" وأبدل "تلاقوهم" من "تلاقوا جياداً" لما اتصل به من المعطوف عليه، وهو قوله:"فتعلموا كيف صبرهم" وإذا حصلت فائدة البيان لم تبل أمن نفس المبدل كانت، أم مما اتصل به فضله عليه، أم من معطوف مضموم إليه، فإن أكثر الفوائد إنما تجتنى من الإلحاق والفضلات، وما أكثر ما تصلح الجمل وتتممها! ولولا مكانها لوهت ولم تستمسك، ألا تراك لو قلت: زيد قامت هند. لم تتم الجملة! فلو وصلت بها فضلة ما لتمت، وذلك كأن تقول: زيد قامت هند في داره، أو: معه أو بسببه، أو لتكرمه، أو فاكرمته أو نحو ذلك، فصحت المسألة لعود
الضمير على المبتدأ من الجملة. هذا كلامه. ولله دره في اتساق كلامه كعقود الجمان مع بيان ليس فوقه تبيان!
وقال أيضاً في "إعراب الحماسة": وأما قوله: "تلاقوا جياداً" فبدل من قوله: "تلاقوا غداً خيلي"، والأفعال قد تبدل بعضها من بعض، تقول: إن تقصدني تزرني أحسن إليك، وتقول: إن تزرني أحسن إليك أعطك، فتبدل "أعطك" من "أحسن إليك" قال تعالى:(وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)[الفرقان: 68 و 69] وعلى هذا لا يحسن أن تقول: "إن تزرني أعطك ألفاً أحسن إليك"، وذلك أن إعطاءك إياه ألفاً أوضح في البيان من "أحسن إليك" لأن الإحسان قد يكون عطية وغيرها، وإنما يبدل الأعراف من الأنكر لما فيه من البيان، ولا يبدل الأعم من الأخص، لأنه بضد ما وضع الأمر عليه، ولهذا عدل سيبويه في قول الشاعر:
اعتاد قلبك من سلمى عوائده
…
وهاج أهواءك المكنونة الطلل
ربع قواء أذاع المعصرات به
…
وكل حيران سار ماؤه خضل
عن أن يجعل "ربع" بدلاً من "طلل" لأنه أكثر منه، وإنما يبدل الأقل من الأكثر للبيان، ل الأكثر من الأقل، ثم أبدل من بعد "تلاقوهم" من "تلاقوا جياداً" المبدل من "تلاقوا غداً خيلي"، وساغ ذلك لما في قوله: تلاقوهم، فتعرفوا كيف صبرهم على كذا. وجاز أن يبدل الثالث من الثاني لما معه من ذكر الصبر المفخور به، وهذا يدلك على فوة اتصال المعطوف بالمعطوف عليه، وذلك أن الفائدة إنما هي في ذكر الصبر، لا في مجرد تلاقوهم، ونحو من هذا قول كثير:
وإنسان عيني يحسر الماء تارة
…
فيبد وتارات يجم فيغرق
فالعائد على الإنسان إنما هو من " يبدو" لا من "يحسر" ويكفيك من هذا أن العطف نظير التثنية، وحسبك بها اتصالاً وامتزاجاً. انتهى كلامه.
وفي هذا من الفوائد ما ليس في كلامه الأول.
وفي هذا الشعر من أبيات ستة لو دالك بن ثميل المازني أوردها أبو تمام في أوائل "الحماسة" وبعد البيت الثاني:
عليها الكماة الغر من آل مازن
…
ليوث طعان عند كل طعان
تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم
…
. . . . . البيت
مقاديم وصالون في الروع خطوهم
…
بكل رقيق الشفرتين يمان
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم
…
لآية حرب أم لأي مكان
وقوله: رويد بني شيبان، قال الخطيب التبريزي في شرحه؛ ويروى:"رويداً بني شيبان" وهو الأكثر، ورويداً تصغير إرواد مرخماً، وانتصابه بفعل مضمر دل عليه لفظه، وأكثر ما يجيء تصغير الترخيم في الأعلام، ورويداً اسم ل "أرفق"، فيبني كما يبني أسماء الأفعال، وانتصب:"بعض وعيدكم" بفعل مضمر دل عليه رويد، فكأنه لما قال: أرودوا يا بني شيبان، قال: كفوا بعض الوعيد، وهذا تهكم، وتلاقوا: مجزوم على أنه جواب الأمر الذي دل عليه رويد، وقوله:"غداً" لم يرد به اليوم الذي هو غد يومه، وإنما دل به على تقريب الأمر، كأنه قال: تلاقوا خيلي قريباً على سفوان، وهو ماء على أميال من البصرة، وكان بنو شيبان توعدوا تميماً، وتنزعم أن سفوان لهم، وأرادوا إجلاء بني مازن عنه ومن كان معهم من بني تميم.
وقوله: "تلاقوا جيااً": بدل من قوله الأول، ونبّه بهذا على أنَّ المراد بالخيل الفرسان، ويجوز أن يكون أراد بالخيل الدواب ووصفها بأنها لا تجبن في الوغا لدوام ممارستها، ثم خبَّر عن أصحابها بقوله: تلاقوهم، والوغا (بالغين معجمة و)
بالعين غير منقوطة. أصله الجلبة والأصوات، ثم سميت الحرب به، والمأزق: المضيق، وأصله من الأزق، وهو الضيق في الحرب، [فهو مفعل منه].
وقوله: فتعرفوا، أي: من بلائهم ما يستدل به على حسن صبرهم على ما جنت، أي: على جناية، وموضعه نصب على الحال، والعامل فيه "تعرفوا" ويد الحدثان: مثل [أراد الحوادث]، وليس للحدثان يد، إنما استعار ذلك، لأن أكثر الجناية باليد تكون، ورقيق الشقرتين، أي: الحدين، وأصل الشفر: القطع، وسمي الحرف من كل شيء شفراً، لأنه كالمقصود منه، والاستنجاد: الاستنصار، يقول: هؤلاء لحرصهم على الحرب إذا استنصرهم صارخ، ودعاهم إلى الحرب؛ لم يطلبوا علة يتأخرون بها. هذا آخر كلام الخطيب.
وقال ابن جني: قوله: على ما جنت فيهم يد الحدثان. يحتمل أمرين، أحدهما: أن يكون "على" متصلة بنفس الصبر، ومعمولة له، كقولك: عجبت من صبرك على الضرب! والآخر أن يكون بمنزلة مع، كقول الأعشى:
وأصفدني على الزمانة قائدا
أي: مع أنا فيه من الزمانة، فتكون متعلقة بنفس كيف، كقولك: كيف [هو] زيد، على ما [هو] فيه من المعرفة والفضل، ويجوز أيضاً مع هذا المعنى أن تكون متعلقة بنفس الصبر، لا على قولك صبرت على كذا، ولكن كقولك: صبرت مع أنا فيه من الشدة والبؤس، أي: صبرت على ما هذه الحال، أي: وأنا في هذه الحال، فاعرف ذلك فرقاً بين العوين. انتهى.
وقال أيضاً في رويد: من رواه: "رويد يني" بغير تنوين، فهو اسم سمي به الفعل، بمنزلة عندك، ودونك، وصه، ومه، وإيه، وهلم. ومن رواه منوناً:[فهو] منصوب عنده على المصدر، أي: أرود إرواداً، غير أنه حقر تحقير الترخيم بحذف زيادته، وفي هذا رد على الفراء في قوله: إنه لا يحقر الاسم تحقير الترخيم إلا في الأعلام نحو قولهم: أسود سويد، وفي أزهر زهير، ولا أدفع أن يكون [ذلك] في الأعلام أقيس منه في الأجناس من حيث كانت العلمية فيه دالة على المحذوف، فأما أنه لا يجوز إلا في الأعلام فلا. ألا ترى قولهم في تحقير أكمت وكتماء: كميت، وقولهم قفي السكت: سكيت. وبني شيبان منصوب على نداء المضاف [البتة] في القولين جميعاً، كقولك مع التنوين: رفقاً [يا] بني شيبان، فكذلك حاله إذا بناه، وجعله اسماً للفعل في الأمر، كأنه قال: رويدكم يا بني شيبان [أي: انتظروا الأمر يابني شيبان]. فإن قلت: فهلا تجيز أن يكون "بني شيبان" مع كون رويد اسماً للفعل مجروراً بإضافة رويد [هذه لاسم المبني] إليه، كما تقول في الكاف والميم من رويدكم: إنها اسم مجرور بإضافة هذا السم المبني إليه! ويستدل على أنها اسم لا حرف خطاب بما حكاه سيبويه عنهم من قولهم: رويدكم أجمعين وأجمعون، وأجمعين توكيد للكاف والميم، وأجمعون توكيد للضمير المرفوع فيه؟ فالجواب: أن ذلك لا يجوز هنا من قبل أن هذه الأسماء المسمى بها الأفعال لا يؤمر بها الغائب، وإنما هي موضوعة لأمر الحاضر تقول: عليك زيداُ، ولا يجوز: عليه زيداً، لأن الغائب لا يتمكن في الأمر تمكن الحاضر فيه، لأنك حينئذٍ تحتاج إلى فعلين: أحدهما للغائب، والآخر للحاضر، ليؤديه عنك الغائب، فيكثر الإضمار فيجتنب لما فيه من كثرة الاتساع. انتهى كلامه.
وسفوان، بفتح السين والفاء، قا ياقوت في "معجم البلدان": كأنه فعلان من سفت الريح التراب، وأصضله الياء، إلا أنه هكذا تكلموا به، قال أبو منصور:
سفوان: ماء على قدر مرحلة من باب المربد من البصرة، وبه ماء كثير السافي، وهو التراب. انتهى.
وقال البكري: سفوان: ما بين ديار بني شيبان، وديار بني مازن، على أربعة أميال من البصرة عند جبل سنام، ومكان سفوان من البصرة، كمكان القادسية من الكوفة، وقال الشرقي بن القطامي: التقت عليه القبيلتان، فتنازعتا فيه، فاقتلوا قتالاً شديداً، فظهرت بنو تميم، وشلوا بني شيبان [حتى وردوا المحدثة]، فقال ودال المازني:
رويد بني شيبان بعض وعيدكم
…
. . . . . البيت، انتهى.
وفي "العقد الفريد" لابن عبد ربه، يوم سفوان، قال أبو عبيد: التقت بنو مازن وبنو شيبان على ماءٍ يقال له سفوان، فزعمت بنو شيبان أنه لهم، وأرادوا أن يجلوا تميماً عنه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظهر عليهم بنو تميم، فأجلوهم عنه، وكانوا يتوعدون بني مازن قبل ذلك، فقال في ذلك الوداك، وأنشد الأبيات. انتهى.
ووداك بن ثميل المازني، وهو مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، شاعر إسلامي في الدولة المروانية، وهو بفتح الواو وتشديد الدال وآخره كاف، وثميل بضم المثلثة. قال الخطيب التبريزي: وقيل: هو وداك بن سنان، مثل وداك: فعال، من الودك، وهو الدسم، وأصله الصفة، وثميل: تصغير ثمل أو ثامل، على الترخيم، ويقال فيه أيضاً: نميل بالنون.