الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المخضرمين الذين أدركوا زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يروه والله تعالى أعلم. وترجمة امرئ القيس تقدمت في الإنشاد الرابع.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الثامن والخمسون بعد السبعمائة:
(758)
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه
…
وقد حيل بين العير والنزوان
على أن هذا البيت يؤيد التأويل في الآية، قال الدماميني: يعني أن التأويل في هذا البيت متعين، إذ لا سبيل إلى أن يقال فيه بأن فتحة "بين" فتحة بناء، لأنه مضاف إلى معرب كما قال، فيجب التأويل يدعى أن النائب عن الفاعل ضمير مصدر مقرب معهود، والمعنى: وقد حيل الحول بين العير والنزوان. انتهى.
وقوله: أهم بأمر الحزم مراده قتل زوجته كما يأتي قريباً، و "لو" هنا للتمني، والعير، بفتح العين المهملة: الحمار، اهلياً كان أم وحشياً، والنزوان، بفتح النون والزاي المنقوطة بعدها واو: مصدر نزا الحمار ينزو على أنثاه: إذا وثب عليها للجماع، والمصراع الأخير مدون، وقد أورده الزمخشري في أمثاله المسمى ب "المستقصى" فقال:
حيل بين العير والنزوان
يضرب في منع الرجل مراده. وأول من قاله: صخر بن عمرو بن الشريد، وهو أخو الخنساء، وذلك أنه طعنه ربيعة الأسدي، فأدخل حلقة من حلقات الدرع في جوفه، فمرض زماناً حتى ملته زوجته، فمر بها رجل، وكانت ذات خلق وأوراك، فقال لها: [كيف مريضكم؟ فقالت: لا حي فيرجى، ولا ميت
فينعى، ثم قال لها: ] ع=هل يباع الكفل؟ قالت: نعم، عما قليل، وذلك بمسمع من صخر، فقال [لها]: أما والله لئن قدرت لأقدمنك قبلي، فقال لها: ماوليني السيف أنظر إليه هل تقله يدي، فناوله، فإذا هو لا يقله، فقال:
أرى أم صخر لا تمل عيادتي
…
وملت سليمى موضعي ومكاني
فإي امرئ ساوى بأم حليلة
…
فلا عاش إلا في شقى وهوان
أهم بأمر الحزم .. البيت.
وما كنت أخشى أن أكون جنازة
…
عليك ومن يغتر بالحدثان
فللموت خير من حياة كأنها
…
معرس يعسوب برأس سنان
انتهى.
وهذا اليوم الذي طعن فيه صخر يقال له: "يوم ذات الأثل" أورده أبو عبيدة في أيام العرب، ونقله عنه ابن عبد ربه في أيام العرب من "العقد الفيد" قال الصاغاني: كل شيء ثقل على قوم واغتموا به، فهو جنازة، وأنشد هذا البيت، والعرس: موضع التعريس؛ وهو نزول القوم في السفر آخر الليل، يقعون فيه وقعة الاستراحة، ثم يرتحلون، واليعسوب: أمير النحل، وسيد كل قوم.
وقال المبرد في أواخر "الكامل": وكان سبب قتل صخر بن عمرو بن الشريد أنه جمع جمعاً، واغار على بني أسد خزيمة، فنذروا به، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فارفض أصحابه عنه، وطعن بطعنة في جنه، فاستقل بها، فلما صار إلى أهله تعالج منها فنتأ من الجرح مثل اليد، فأضناه، ذلك حولاً، فسمع سائلاً يسأل امرأته وهو يقول: كيف صخر اليوم؟ فقالت: لا ميت فينعى،
ولا صحيح فيرجى، فعلم أنها قد برمت به، ورأى تحرق أمه عليها، فقال: أرى أم صخر ما تمل عيادتي .. الأبيات السابقة.
ثم عزل على قطع ذلك الموضع، فلما قطعه يئس من نفسه فبكاها، وقال:
أيا جارتا إن الخطوب قريب
…
من الناس كل المخطئين تصيب
أيا جارتا إنا غريبان ههنا
…
وكل غريب للغريب نسيب
انتهى. وقال ابن قتيبة في كتاب "الشعراء" طال مرضه 8 من تلك الطعنة وعاده قومه، فكانوا إذا سألوا امرأته عنه:[قالت لا هو حي فيرجى ولا ميت فينسى] وضخر يسمع كلامها، ويشق جوابها عليه، وإذا سألوا أمه، قالت: أصبح صالحاً بنعمة الله تعالى، فلما أفاق [من علته] بعض الإفاقة، عمد إلى إمرأته، فعلقها بعمود الفسطاط حتى ماتت، وقيل: بل قال: ناولوني سيفي أنظر كيف قوتي، فناولوه، فلم يطق السيف، ففي ذلك يقول:
أهم بأمر الحزم .. البيت، وأول الشعر:
أرى أم صخر لا تمل عيادتي
…
. . . . . البيت.
وآخره:
لعمري لقد نبهت من كان راقداً
…
وأسمعت من كانت له أذنان
ثم نكس بعد ذلك فمات، فكانت أخته الخنساء تريثه، ولم تزل تبكيه حتى عميت. انتهى.
وقال الأخفسش جامع ديوان الخنساء الصحابية: إن صخربن عمرو بن الشريد خرج ذات يوم يتصيد، فبينا هو كذلك إذ أغارت بنو عبس على قومه، فساقوا النعم، وعاثوا، فلما رجع من صيده، رأى محله قومه بلاقع لا أحد بها، فركب فرسه، واستخرج رمحه من الرمل وكان مدفوناً، ثم أتبع القوم، فالتفت عبسي، فأبصره مقبلاً نحوهم، فقال: هذا رجل من بني سليم قد أتاكم وقد أحب الله أن لا يدع منهم أحداً إلا أظفركم به، فليرجع إليه رجل منكم، فليقتله، فشد عليه رجل منهم، فطعنه صخر، فقتله، ثم حمل عليه آخر فقتله صخر، ثم حمل رهط منهم، فاستطرد لهم وجعل ينفرد فارس فيقتله حتى قتل منهم نفراً، فلما رأى ذلك أسراء بني سليم حل بعضهم بعضاً، ثم ثاروا إليهم، فقاتلوهم، وكانت ابنة عمه سليمى على ظهر زنجي من عبيد بني عبس، وكان مولاه قد جعل له أفضل جارية من بني سليم إذا هم ظفروا بهم لشدته وبأسه وإبلائه- أي: إظهار جودة العمل في الحرب- فاختار سليمى، فأخذها وربطها بظهره، فجعل يقاتل وهي على ظهره، فخاف صخر أن يطعنه، فتصل الطعنة إلى الجارية، فعمد إلى عمامته، فربطها دون السنان ليمتنع من الإغراق في جوفه، فينال سليمى، ثم طعن الزنجي، فقتله فرأسته بنو سليم يومئذ عليهم، وقالوا له: اختر أي بنات عمك، فاختار سليمى، فتزوجها، فكانت من أحب الناس إليه، وأكرمهم عليه، ثم إن صخراً خرج في غزاة، فقاتل قتالاً شديداً، وأصابته جراحة عظيمة، فمرض منها، فطال مرضه، وعاده قومه فأتاه يوماً عائد، فقال لسليمى: كيف أصبح صخر؟ فقالت: أصبح لا حياً يرجى، ولا ميتاً ينسى، فسمع ذلك صخر، فشق عليه، وقال في نفسه: هذه ابنة عمي وأحب الناس إلي، وكلاهما عندي حسن، تقزل هذا تضجراً بي وغرضاً منى، وتمنياً لفراقي! أما والله لئن عافاني الله لأقضين ما في نفسي عليها، ثم قال: أنت القائلة لعائدي كذا وكذا؟ قالت غير
معتذرة عن ذلك: نعم، قال: أما والله لقد نذرت نذراً فيك، وإني لأرجو أن أفي به إن عافاني الله تعالى، قالت: وما نذرك، خير أم شر؟ قال: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، قالت: والله إن قولي فيك للحق عندي، وما كذبت عليك، فأحفظته. ثم أتاه عائد آخر، فقال: كيف أصبح صخر اليوم؟ قالت أمه: أصبح اليوم بحمد الله ونعمته صالحاً، ما كان منذ اشتكى خيراً منه اليوم، وإنا لنرجو له العافية. ففي ذلك يقول صخر:
أرى أم صخر لا تمل عيادتي
…
الأبيات، وآخرها كذا:
فللموت خير من حياة كأنها
…
عقاب تعلى في شباة سنان
وأنه أفاق من طعنته فعمد إلى سليمى، فعلقها بعمود الفسطاط، فلم تزل كذلك حتى خرجت، فدفنها، ثم نكس من طعنته، فمات، ثم ساق رواية أبي عبيدة. وقد أطنب العباسي في قصته عند شرح قول الخنساء في مرثية لها من "معاهد التنصيص":
وإن صخراً لتأتم الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار
وصخر مات في الجاهلية، لم يدرك الإسلام. والخنساء أدركته وأسلمت، واجتمعت بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وكان يلاطفها، ويقول لها: أنشدينا يا خناس، وتقدمت ترجمتها في الإنشاد الرابع والعشرين بعد المائة:
تتمة: قال ياقوت الحموي في كتاب "معجم الأدباء" في ترجة الحسن بن عبد الله أبي أحمد العسكري: إن الصاحب أبا القاسم إسماعيل بن عباد الوزير، كان يتمنى لقاء أبي أحمد العسكري، ويكاتبه على ممر الأوقات، ويستميل قلبه،
فيعتل عليه بالشيخوخة، فلما يئس منه الصاحب، احتال في جذب السلطان إلى ذلك الصوب، وكتب إليه حين قرب من عسكر مكرم كتاباً يتضمن علوماً نظماً ونثراً، ومما ضمنه من المنظوم قوله:
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم
…
ضعفنا ولم نقدر على الوخدان
أتيناكم من بعد أرض نزوركم
…
على منزل بكر لنا وعوان
نسائلكم هل من قرى لنزيلكم
…
بملء جفون لا بملء دفان
فلما قرأ أبو أحمد الكتاب، أقعد تلميذاً له، فأملى عليه الجواب عن النثر نثراً، وعن النظم نظماً، وبعث به إليه في الحال وكان في آخر جواب أبيانته التي ذكرها على الحال:
وقد حيل بين العير والنزوان
وهو تضمين، إلا أن الصاحب استحسنه، ووقع منه موقعاً عظيماً، وقال: لو عرفت أن هذا المصراع يقع في هذه القافية لم أتعرض لها، وكنت قد ذهلت عنه وذهب علي. ثم إن أبا أحمد قصده وقت حلوله بعسكر مكرم بلده، ومعه أعيان أصحابه وتلامذته في ساعة لا يمكن الوصول إليه إلا لمثله، وأقبل عليه بالكلية بعد ان أقعده في أرفع موضع من مجلسه، فتفاوضا في مسائل، فزادت منزلته عنده، وأخذ أبو أحمد بالحظ الأوفر منه، وادر على المتصلين به إراداً كانوا يأخذونه إلى أن توفي، وبعد وفاته أيضاً، وأبيات العسكري هي:
أروم نهوضاً ثم يثني عزيمتي
…
تعوذ أعضائي من الرجفان
فضمنت بيت ابن الشريد كأنما تعمد تشبيهي به وعناني
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه .. البيت.
قال ثم نهض، وقال: لابد من الحمل على النفس، فإن الصاحب لا يقنعه هذا، فركب بغلة وقصده، فلم يتمكن من الوصول إلى الصاحب لا ستيلاء الحشم، فصعد تلعة، ورفع صوته بقول أبي تمام:
ما لي أرى القبة الفيحاء مقفلة
…
دوني وقد طالما استفتحت مقفلها
كأنها جنة الفردوس معرضة .. وليس لي عمل زاك فأدخلها
قال: فناداه الصاحب: ادخلها يا أبا أحمد، فلك السابقة الأولى، فتبارد إليه أصحابه، فحملوه حتى جلس بين يديه، فسشأله عن مسألة، فقال: الخبير صادفت، فقال الصاحب: يأ أبا أحمد تغرب في كل شيء حتى في المثل السائر؟ فقال: تفاءلت عن السقوط بحضرة مولانا، وإنما كلام العرب "على الخبير سقطت" ولما نعى إلى الصاحب، أنشد فيه:
قالوا مضى الشيخ أبو أحمد
…
وقد رثوه بضروب الندب
فقلت ما من فقد شيخ مضى
…
لكنه فقد فنون الأدب
وكانت وفاته سنة تسع وثمانين وثلاثمائة.
وأنشد بعده:
إذ ما مثلهم بشر
أصله:
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم
…
إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر
وهو للفرزدق، وتقدم الكلام عليه في الإنشاد الثامن عشر بعد المائة.
وأنشد بعده:
والشر بالشر عند الله مثلان