الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب "أبيات المعاني": وفيه وجه آخر وهو أن يكون ضمير التثنية، ويكون قد أجرى الواحد مجرى الاثنين، فإنهم كثيراً ما كانوا يفعلون ذلك تعظيماً للمخاطب، ولا يكون في الأكثر ممن ينفرد بنفسه، فإذا انفرد يوماً، حمل أمره على الغالب من حاله، قال تعالى:(أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ)[ق/ 24] فأمر مالكاً بأمر الاثنين، وقد حذف النون من قوله:
لا تهين الفقير عليك
…
.. البيت
للضرورة، وحذفها منه أحسن من حذفه في قوله:"اضرب عنك الهموم" لالتقاء الساكنين.
والبيت مصنوع لم يعلم قائله، والله أعلم، وعلم مما نقلنا أن الرواية: ضربك بالسوط لا بالسيف.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد التاسع والسبعون بعد الثمانمائة:
(879)
هما خطتا إما إسار ومنة
…
وإما دم والقتل بالحر أجدر
قال ابن جني في "إعراب الحماسة": روي برفع إسار وجره، أما الرفع، فطريف المذهب، وظاهر أمره أنه على لغة من حذف نون التثنية لغير إضافة، وقد حكى ذلك، ومما يعزى إلى كلام البهائم قول الحجلة للقطاة: بيضك ثنتا، وبيضتي مائتا، أي: ثنتان ومائتان، وقول الآخر:
لنا أعنز لبن ثلاث فبعضها
…
لأولادها ثنتا وما بيننا عنز
وقد تقصيت القول على هذا الموضع في كتابي "سر الصناعة" فعلى هذا يجليء قوله:
هما خطتا إما إسار ومنة .. البيت
على أنه أراد: خطتان، ثم حذف النون على ما تقدمه، فإن قلت: فإذا كان بالتثنية قد أثبت شيئين، فكيف فسر بالواحد، فقال: إما وإما، وهما يثبتان الواحد كما تثبته أو؟ فالجواب: أنه تصور أمرين، واعتقد أنه لا بد من أحدهما، وعلم أن المحصول عليه أحدهما لا كلهما، ففسر ما تصوره وهما شيئان، بما يحصل عليه وهو الواحد كما يخص بعد العموم في نحو قولك: ضربت زيداً رأسه، ولقيت بني فلان ناساً منهم، فإن قلت: فهلا حملته على حذف المضاف فكان أقرب مذهباً وأيسر متوهماً حتى كأنه قال: هما إحدى خطتين؟ قيل: يمنع من ذلك قوله: هما، وهما لا يكون في خبره مفرد، ألا ترى لا تقول: أخواك جالس! فلذلك انصرفنا عن هذا الوجه إلى الذي قبله، ويجوز عندي فيه وجه أعلى من هذا الضعيف حذف نون التثنية عندنا، وهو أن يكون على وجه الحكاية حتى كأنه قال: هما خطتا قولك إما إسار ومنة، وإما دم، فتحذف النون على هذا للإضافة البتة. وأما من جر: إما إسار ومنة [وإما دم] فأمره واضح، وذلك أنه حذف النون [من خطتان] للإضافة، ولم يعتد "إما" فاصلاً بين المضاف والمضاف إليه، وعلى هذا تقول: هما غلاما إما زيد، وإما عمر، وهذان ضاربا إما زيد وإما جعفر، وأجود من هذا أن تقول: هما إما خطتا إسار ومنة، وإمادم، وإن شئت: وإما خطتا دم، فإن قلت:"إن "إما" مثل "أو" في أن كل واحدة منهما توجب أحد الشيئين فترجع بك الحال إذن إلى أنك كأنك قلت: هما خطتا أحد هذين الأمرين، وليس الأمر كذلك إنما، [المعنى] هما خطتان: إحداهما كذا، والأخرى كذا، وليست أيضاً كل واحدة من الخطتين للإسار والدم جميعاً، إنما إحداهما لأحدهما على ما تقدم، فالجواب أن سبب جواز ذلك هو أن كل واحد من الإسار والدم لما كان معرضاً لكل واحدة من الخطتين فيصلح أن يصير بصاحب الخطة إليه أطلقا جميعاً على كل واحدة منهما بأن أضيفا إليه، وجعل مفضى له ومظنة
منه، ونحو منه قول الله تبارك وتعالى:(ومِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ)[القصص/ 73]، ولم يجعل كل واحد من الليل [والنهار] لكل واحد من السكون والابتغاء، وإنما جعل الليل للسكون، والنهار للابتغاء، فخلط الكلام اكتفاء بمعرفة المخاطبين بوقت السكون من وقت الابتغاء. إلى هنا كلام ابن جني.
والبيت من أبيات لتأبط شراً، أوردها أبو تمام في "الحماسة" وهذا أولها:
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده
…
أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلاً
…
به الخطب إلا وهو للقصد مبصر
فذاك قريع الدهر ما عاش حول
…
إذا سد منه منخر جاش منخر
أقول للحيان وقد صفرت بهم
…
وطابي ويومي ضيق الحجر معور
هما خطتا إما إسار ومنة .. البيت
وأخرى أصادي النفس عنها وإنها
…
لمورد حزم إن فعلت ومصدر
فرشت لها صدري فزل عن الصفا
…
به جؤجؤ عبل ومتن مخصر
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا
…
به كدحة والموت خزيان ينظر
فأبت إلى فهم وما كدت آيباً
…
وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
وخبر هذه الأبيات: أن تأبط شراص كان يشتار عسلاً في غار من بلاد هذيل، وكان يأتيه كل عام، وإن هذيلاً ذكر لها ذلك، فرصدته، حتى إذا جاء هو وأصحابه تدلى، فدخل الغار، فأغارت هذيل على أصحابه وأنفروهم، ووقفوا على الغار، فحركوا الحبل فأطلع رأسه، فقالوا: اصعد، قال: فعلام أصعد! على الطلاقة والفداء؟ قالوا: لا شرط لك، قال: أفتراكم آخذي وقاتلي وآكلي جناي،
لا والله لا أفعل، ثم جعل يسير العسر على فم الغار، ثم عمد إلى زق فشده على صدره، ثم لصق بالعسل، ولم يزل يتزلق عليه حتى جاء سليماً إلى أسفل الجبل، فنهض وفاتهم، وبين موضعه الذي وقع فيه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام.
وقوله: وقد جد جده، أي: ازداد جده جداً، والجد بالكسر: الاجتهاد، وقوله: فذاك قريع الدهر، يجوز أن يكون في معنى مختار الدهر، ويكون من قرعت، أي: اخترته بقرعتي، ويجوز أن يكون من قرعه الدهر بنوائبه حتى جرب وتبصر. وقوله: إذا سد منه منخر .. إلخ، مثل للمكروب المضيق عليه، وجاش: تحرك واضطرب، والمعنى: لا يؤخذ عليه طريق إلا نفذ في طريق آخر لافتنانه في الحيل.
ولحيان، بكسر اللام: بطن من هذيل خاطبهم لما كانوا على رأس الغار، والواو للحال، والطاب هنا: ظروف العسل، جمع وطب وهو في الأصل سقاء اللبن، وصفرت: خلت أشار إلى ظروف العسل التي صبت العسل منها على الجانب الآخر، وركبه متزلقاً حتى لحق بالسهل، وقيل معناه: خلا قلبي من ودهم، يريد: وطاب ودي، وقيل: اشرفت نفسي على الهلاك فيكون أراد بالوطاب جسمه، ومعور: اسم فاعل من أعور لك الشيء: إذا بدت عورته لك، وهي موضع المخافة، وكل ما طلبته فأمكنك، فقد أعورك وأعور لك.
وقوله: هما خطتا .. إلخ، هذا مقول القول، والخطة بالضم: الحالة والشأن، والمعنى: ليس إلا واحدة من الحالتين على زعمكم: إما استئسار والتزام منتكم إن رأيتم العفو، وإما قتل، وهو بالحر أليق مما يكسبه الذل، فهاتان هما الخطتان.
وقوله: وأخرى أصادي، المصاداة: إدارة الرأي في تدبير الشيء أو الإتيان به، يقول: وهنا هنا خطة أخرى أداري نفسي فيها، وإنها هي الموضع الذي يرده الحزم، ويصدر عنه.