الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الْحق فَخرج من رِبَاط الْفَتْح وأسلمه فضبطه السُّلْطَان وثقفه ثمَّ نَهَضَ إِلَى بِلَاد تأمسنا فاستولى عَلَيْهَا وَملك مَدِينَة آنفى وَهِي الْمُسَمَّاة الْآن بِالدَّار الْبَيْضَاء فضبطها وَلحق يَعْقُوب بن عبد الله بحصن علودان من جبال غمارة فَامْتنعَ بِهِ وسرح السُّلْطَان ابْنه أَبَا مَالك عبد الْوَاحِد وَعلي بن زيان لمنازلته وَسَار هُوَ إِلَى لِقَاء يغمراسن فَلَقِيَهُ وَعقد مَعَه المهادنة وافترقا على السّلم وَوضع أوزار الْحَرْب وَرجع السُّلْطَان إِلَى الْمغرب فَخرج عَلَيْهِ بَنو أَخِيه إِدْرِيس على مَا نذكرهُ
خُرُوج بني إِدْرِيس بن عبد الْحق على عمهم السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق رحمه الله
قد تقدم لنا أَن الْأَمِير عبد الْحق المريني كَانَ لَهُ تِسْعَة من الْوَلَد أكبرهم إِدْرِيس وَقتل مَعَ وَالِده فِي حَرْب ريَاح وَكَانَ لإدريس هَذَا عدَّة أَوْلَاد بقوا فِي كَفَالَة أعمامهم وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب وَكَانَ أَوْلَاد إِدْرِيس قد ملكوا أَمر أنفسهم واشتدت شكيمتهم فنفسوا عَلَيْهِ مَا أَتَاهُ الله من الْملك وَرَأَوا أَنهم أَحَق بِهِ مِنْهُ لِأَن أباهم هُوَ الْأَكْبَر من ولد عبد الْحق كَمَا مر فَخَرجُوا على عمهم يَعْقُوب وَلَحِقُوا بقصر كتامة وتابعوا ابْن عمهم يَعْقُوب بن عبد الله على رأية واجتمعوا الى كَبِيرهمْ مُحَمَّد بن ادريس بن عبد الْحق وانضم اليه من كَانَ على رَأْيهمْ من عشيرتهم ومواليهم واعتصموا بجبال غمارة فَنَهَضَ إِلَيْهِم السُّلْطَان يَعْقُوب وتلطف بهم حَتَّى اسْتَنْزَلَهُمْ واسترضاهم وَعقد لعامر بن إِدْرِيس مِنْهُم سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة على عَسْكَر من ثَلَاثَة آلَاف فَارس أَو يزِيدُونَ من المتطوعة من بني مرين وأغزاهم الأندلس لجهاد الْعَدو بهَا وَحَملهمْ وَفرض لَهُم فِي الْعَطاء وشفع بِهَذِهِ الفعلة الْحَسَنَة عمله فِي وَاقعَة سلا وَهُوَ أول جَيش عبر الْبَحْر إِلَى الأندلس من بني مرين فَكَانَ لَهُم فِي الْجِهَاد والمرابطة مَوَاقِف مَذْكُورَة ومقامات محمودة تبع الْخلف فِيهَا السّلف ودام ذَلِك فيهم بُرْهَة من الدَّهْر وَقَامُوا عَن أهل الْمغرب والأندلس بِهَذَا الْوَاجِب الْعَظِيم رحمهم الله وجزاهم عَن الْمُسلمين خيرا
وَأما يَعْقُوب بن عبد الله صَاحب سلا فَإِنَّهُ أَقَامَ خَارِجا بالنواحي متنقلا فِي الْجِهَات إِلَى أَن قَتله طَلْحَة بن محلي من أَوْلِيَاء السُّلْطَان يَعْقُوب على سَاقيه غبولة من نَاحيَة رِبَاط الْفَتْح سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَكفى السُّلْطَان يَعْقُوب أمره
حِصَار السُّلْطَان يَعْقُوب حَضْرَة مراكش ونزوع أبي دبوس مِنْهَا إِلَيْهِ وهلاك المرتضى بعد ذَلِك
لما فرغ السُّلْطَان يَعْقُوب من شَأْن الخارجين عَلَيْهِ من عشيرته أجمع رَأْيه لمنازلة المرتضى والموحدين فِي دَارهم وحضرتهم وَرَأى أَنه أوهن لشوكتهم وَأقوى لأَمره عَلَيْهِم فَبعث فِي قومه وحشد أهل مَمْلَكَته واستكمل التعبئة وَسَار سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة حَتَّى انْتهى إِلَى جبل جيليز فشارف دَار الْخلَافَة وَنزل بعقرها وَأخذ بمخنقها وخفقت ألويته على جنباتها وَعقد المرتضى على حربه لأبي دبوس إِدْرِيس بن مُحَمَّد بن أبي حَفْص بن عبد الْمُؤمن فعبأ كتائبه ورتب مصافه وبرز لمدافعتهم ظَاهر الحضرة فَكَانَت بَينهم حَرْب بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا هلك فِيهَا الْأَمِير عبد الله بن يَعْقُوب بن عبد الْحق ففت مهلكه فِي عضدهم وَارْتَحَلُوا عَنْهَا إِلَى أَعْمَالهم واعترضتهم عَسَاكِر الْمُوَحِّدين بوادي أم الرّبيع وَعَلَيْهِم يحيى بن عبد الله بن وانودين فَاقْتَتلُوا فِي بطن الْوَادي وانهزمت عَسَاكِر الْمُوَحِّدين هزيمَة شنعاء وَتركُوا الْأَمْوَال والأثاث فاحتوى بَنو مرين على ذَلِك كُله وَهِي وَاقعَة أم الرجلَيْن
ثمَّ سعى سماسرة الْفِتَن عِنْد الْخَلِيفَة المرتضى فِي ابْن عَمه وقائد حربه أبي دبوس بِأَنَّهُ يطْلب الْأَمر لنَفسِهِ وَشعر هُوَ بالسعاية فِي جَانِبه فخشي بادرة المرتضى وَلحق بالسلطان يَعْقُوب سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة عِنْد دُخُوله إِلَى فاس من محاصرته مراكش فَأَقَامَ عِنْده مَلِيًّا ثمَّ سَأَلَهُ الْإِعَانَة على أمره بعسكر يمده بِهِ وَآلَة يتخذها لملكه وَمَال يصرفهُ فِي ضرورياته على أَن يشركهُ فِي
الْفَتْح وَالْغنيمَة وَالسُّلْطَان فأمده السُّلْطَان يَعْقُوب بِخَمْسَة آلَاف من بني مرين وبالمستجاد من الْآلَة والكفاية من المَال وأهاب لَهُ بالعرب والقبائل من أهل مَمْلَكَته وَغَيرهم أَن يَكُونُوا مَعَه يدا وَاحِدَة حَتَّى يبلغ مُرَاده فِي فتح مراكش وَسَار أَبُو دبوس فِي الْكَتَائِب حَتَّى شَارف الحضرة ودس إِلَى أشياعه من الْمُوَحِّدين بأَمْره فثاروا بالمرتضى فَكَانَ من فراره إِلَى آزمور ونزوله على صهره ابْن عطوش ومقتله على يَده مَا قدمنَا ذكره فِي دولته واستتب أَمر أبي دبوس بمراكش وَثَبت قدمه بهَا فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان فِي الْوَفَاء بالمشارطة فاستنكف واستكبر وَنقض الْعَهْد وأساء الرَّد فَنَهَضَ إِلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب فِي جموع بني مرين وعساكر الْمغرب فخام عَن اللِّقَاء واعتصم بالأسوار فزحف إِلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب وحاصره أَيَّامًا ثمَّ سَار فِي الْجِهَات والنواحي يحطم الزروع وينسف الأقوات وَعجز أَبُو دبوس عَن مدافعته فاستجاش عَلَيْهِ بيغمراسن بن زيان ليفت فِي عضده ويشغله عَمَّا أَمَامه بِمَا وَرَاءه فَكَانَ مَا نذكرهُ
وقْعَة تلاغ بَين يَعْقُوب بن عبد الْحق ويغمراسن بن زيان
لما نزل السُّلْطَان يَعْقُوب حَضْرَة مراكش وربض على ترائبه للتوثب عَلَيْهَا لم يجد أَبُو دبوس ملْجأ من دون الِاسْتِظْهَار عَلَيْهِ بيغمراسن بن زيان ليَأْخُذ بحجزته عَنْهَا فَبعث إِلَيْهِ بالصريخ فِي ذَلِك وأكد الْعَهْد وأسنى الْهَدِيَّة فشمر يغمراسن لاستنفاذه وجذب السُّلْطَان يَعْقُوب عَنهُ من خَلفه بشن الغارات على ثغور الْمغرب وَإِيقَاد نَار الْفِتْنَة بهَا فهاج عَلَيْهِ من السُّلْطَان يَعْقُوب لَيْث عاديا وأرهف مِنْهُ حدا مَاضِيا فأفرج للْوَقْت عَن مراكش وَرجع عوده على بدئه يُرِيد تلمسان وصاحبها يغمراسن بن زيان فَنزل فاسا وتلوم بهَا أَيَّامًا حَتَّى أَخذ أهبة الْحَرْب وعدة النزال ثمَّ نَهَضَ إِلَى تلمسان منتصف محرم سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وسلك على أكرسيف ثمَّ على تافرطاست
وَأما رُؤُوس الْقَتْلَى فقد أَمر السُّلْطَان رحمه الله بتوجيه نَحْو الثَّمَانِينَ مِنْهَا إِلَى سلا فعلقت بالصقالة الْقَرِيبَة من ضريح الشَّيْخ ابْن عَاشر رضي الله عنه وَبعد هَذَا وَقع الصُّلْح مَعَ جنس الفرنسيس وانعقدت الشُّرُوط مَعَه كَمَا سَيَأْتِي
ثمَّ إِن السُّلْطَان رحمه الله قدم العرائش عقب الْوَقْعَة وَأقَام بهَا شهرا واعتنى بشأنها فَبنى بهَا الصقائل والأبراج حَتَّى صَارَت من أعمر الثغور وبيد الله تصاريف الْأُمُور
مراسلة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمه الله لطاغية الإصبنيول وَمَا اتّفق فِي ذَلِك
كَانَ السَّبَب الَّذِي أوجب مراسلة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله لطاغية الإصبنيول أَن جمَاعَة من أسرى الْمُسلمين الَّذين كَانُوا بأصبانيا كتبُوا مكاتيب عديدة إِلَى السُّلْطَان رحمه الله يعلمونه بِمَا هم فِيهِ من ضيق الْأسر وَثقل الإصر وَمَا نالهم من الْكفَّار من الامتهان وَالصغَار وَكَانَ فيهم من ينتمي للْعلم وَمن يقْرَأ الْقُرْآن وَغير ذَلِك فَلَمَّا وصلت كتبهمْ إِلَى السُّلْطَان وقرئت عَلَيْهِ تأثر لذَلِك وَوَقعت مِنْهُ موقعا كَبِيرا وَأمر فِي الْحسن بالكتب إِلَى طاغية الإصبنيول يَقُول لَهُ إِنَّه لَا يسعنا فِي ديننَا إهمال الْأُسَارَى وتركهم فِي قيد الْأسر وَلَا حجَّة فِي التغافل عَنْهُم لمن ولاه الله الْأَمر وَفِيمَا نظن أَنه لَا يَسَعكُمْ ذَلِك فِي دينكُمْ أَيْضا وأوصاه أَن يعتني بخواص الْمُسلمين الَّذين هُنَالك من أهل الْعلم وَحَملَة الْقُرْآن وَأَن لَا يسْلك بهم مَسْلَك غَيرهم من عَامَّة الْأُسَارَى قَالَ مثل مَا نَفْعل نَحن بأساركم من الفرايلية فَإنَّا لَا نكلفهم بِخِدْمَة وَلَا نخفر لَهُم ذمَّة
فَلَمَّا وصل هَذَا الْكتاب إِلَى الطاغية أعظمه وَكَاد يطير سُرُورًا بِهِ وللحين أَمر بِإِطْلَاق الْأُسَارَى الَّذين بِحَضْرَتِهِ وَبعث بهم إِلَى السُّلْطَان ووعده أَن يلْحق بهم غَيرهم من الَّذين بقوا بِسَائِر إيالته فَوَقع ذَلِك من السُّلْطَان رَحمَه
الله الْموقع وَعظم فِي عَيْنَيْهِ وَكَانَ كريم الطَّبْع يحب الْفَخر ويعنى بِهِ فَأطلق لطاغية الإصبنيول جَمِيع من كَانَ تَحت يَده من أُسَارَى جنسه وعززهم بأسرى غير جنسه أَيْضا لتَكون للطاغية بذلك مزية على سَائِر الْأَجْنَاس وَبعث مَعَهم بهدية فِيهَا عدد من الْأسود على يَد قَائِد سبتة فاتصل ذَلِك كُله بالطاغية فطارت نَفسه شعاعا من شدَّة الْفَرح وشمر عَن ساعد الْجد وهيأ هَدِيَّة استوفى فِيهَا غَايَة مقدوره وبعثها مَعَ كبراء القسيسين والفسيان وأصحبهم كتابا أفْصح بِهِ عَمَّا بَين جَنْبَيْهِ للسُّلْطَان من الْمحبَّة وَالِاعْتِرَاف بِالْفَضْلِ والْمنَّة وَطلب مِنْهُ مَعَ ذَلِك أَن يتفضل عَلَيْهِ ببعث أحد أَرْبَاب دولته وكبرائها لتتشرف أرضه بمقدمه وتشتهر هَذِه المواصلة والملاحظة عِنْد أَجنَاس الفرنج فيعظم بذلك قدره ويكمل فخره فأسعفه السُّلْطَان رحمه الله بذلك وَبعث إِلَيْهِ خاليه الرئيسين أَبَا يعلى عمَارَة بن مُوسَى وَأَبا عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر وَكِلَاهُمَا من الودايا ومعهما كَاتبه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الغزال بَعثه كَاتبا لَهما لَا غير فَلَمَّا وصلوا إِلَى جبل طَارق كتب الغزال إِلَى بعض وزراء السُّلْطَان يَقُول لَهُ إِنِّي أُرِيد مِنْك أَن تعرف أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن هذَيْن الرجلَيْن لَا معرفَة لَهما بقوانين النَّصَارَى وَإِنِّي قد خفت عَاقِبَة الْأَمر فِيمَا ينشأ عَن رأيهما فَلَا يؤاخذني أَمِير الْمُؤمنِينَ بِشَيْء من ذَلِك إِن كَانَ فَأخْبر الْوَزير السُّلْطَان فَقَالَ صدق وَقد نَدِمت على تقديمهما عَلَيْهِ وَمَا راعيت إِلَّا منزلتهما والآن فَاكْتُبْ إِلَى الطاغية وَقل لَهُ إِنِّي قد بعثت إِلَيْك بكاتبي أَحْمد الْغَزالِيّ باشدورا وَابعث بِالْكتاب إِلَى الغزال فَإِذا بلغه فليستمسك بِهِ وليحز الْكتاب الأول الَّذِي عِنْدهمَا ويلي الْأَمر دونهمَا فَلَمَّا بلغه كتاب السُّلْطَان امتثل وَقضى الْغَرَض على الْوَجْه الْمَطْلُوب وَأبقى ذكرا جميلا رحمه الله
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة تسع وَسبعين وَمِائَة وَألف ألزم السُّلْطَان أهل فاس ببعث الإدالة مِنْهُم إِلَى الصويرة وَهِي خَمْسُونَ راميا بقائدها وفقيه مدرس ومؤقت ومؤذن وشاهدان وَأسْقط عَنْهُم الْبَعْث الَّذِي كَانُوا يفرضونه للمملوك
قبله وَهِي خَمْسمِائَة رام فعينوا الإدالة الْمَذْكُورَة بعد الَّتِي واللتيا وبعثوهم إِلَيْهِ بمراكش فبعثهم السُّلْطَان إِلَى الصويرة ورتب لَهُم الْمُؤَن والمرافق فَكَانُوا يقومُونَ على المرسى وينتفعون بمستفادها فحسنت حَالهم واغتبطوا بهَا وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك
وَفِي هَذِه السّنة بعث أَيْضا السُّلْطَان الرئيس أَبَا الْحسن عليا مارسيل الرباطي إِلَى بِلَاد الفرنسيس لتقرير الصُّلْح مَعَهم وَقبض مَال أُسَارَى العرائش وَشِرَاء الْإِقَامَة مِنْهُ فبذلوا المَال وَالْإِقَامَة مَعًا طائعين وفيهَا بعث السُّلْطَان الفقيهين السَّيِّد الطَّاهِر بن عبد السَّلَام السلاوي وَالسَّيِّد الطَّاهِر بناني الرباطي باشدورين إِلَى صَاحب الاسطنبول السُّلْطَان مصطفى العثماني وأصحبهما هَدِيَّة نفيسة فِيهَا خيل عتاق بسروج مثقلة بِالذَّهَب مرصعة بالجوهر والياقوت ونفيس الْأَحْجَار وفيهَا أسياف محلاة بِالذَّهَب ومرصعة بالياقوت الْمُخْتَلف الألوان وفيهَا حلى من عمل الْمغرب فَقبل ذَلِك السُّلْطَان العثماني وابتهج بِهِ ثمَّ كافأ عَلَيْهِ بمركب موسوق من آلَة الْحَرْب مدافع ومهاريس وبارود وَإِقَامَة كَثِيرَة للمراكب القرصانية من كل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ
وَفِي هَذِه السّنة خرج السُّلْطَان إِلَى بِلَاد الرِّيف فَجعل طَرِيقه على تطاوين ثمَّ على بِلَاد غمارة وانْتهى إِلَى جارت وبلاد الرِّيف فمهد تِلْكَ النواحي كلهَا وَرجع على طَرِيق تازا وفيهَا قدم الْمولى عَليّ ابْن السُّلْطَان خَليفَة عَن أَبِيه فَنزل فاسا الْجَدِيد وأضاف إِلَيْهِ قبائل الْجَبَل والريف وفيهَا قدمت ربة الدَّار الْعَالِيَة المولاة فَاطِمَة بنت سُلَيْمَان من مراكش إِلَى فاس بِقصد الزِّيَارَة فركبت ذَات لَيْلَة إِلَى ضريح الْمولى إِدْرِيس رضي الله عنه وضريح الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حرزهم وضريح الشَّيْخ أبي عبد الله التاودي فطافت عَلَيْهِم وتبركت بتربهم وذبحت أَكثر من مائَة ثَوْر وأخرجت صدقَات كَثِيرَة ثمَّ خرجت بعد ذَلِك إِلَى مَدِينَة صفرو فزارت ضريح سَيِّدي أبي سرغين وضريح سَيِّدي أبي عَليّ وذبحت وتصدقت
(فجَاء الْعَفو مِنْك وهم ثَلَاث
…
أَسِير أَو كسير أَو ذبيح)
(وَقد قسمت بِلَادهمْ بِعدْل
…
ودورهم كَمَا قسم الوطيح)
(وَقد نظمت مكايدهم قَدِيما
…
بني سعد وزيدان نطيح)
(فظنوا آل إِسْمَاعِيل يرنو
…
لغير الحزم طرفهم الطموح)
(وَمَا علمُوا بأنكم سيوف
…
لحدكم نجيعهم سفوح)
(أَبَا زيد إِذا تبقى عَلَيْهِم
…
بصفح رُبمَا نَدم الصفوح)
(فَلَا تحلم فَإِن الْجرْح يكوي
…
طريا بالمحاور أَو يقيح)
(فَلَا زَالَت بك الدُّنْيَا عروسا
…
ومجدك من مفارقها يفوح)
وَمن ذَلِك قَول بَعضهم وَلَعَلَّه الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الله الديماني قَالَ
(بشرى تقر بأعين الْإِيمَان
…
كالوصل ينْسَخ دولة الهجران)
(جاد الزَّمَان بهَا على مقداركم
…
فتقاصرت عَنْهَا خطا الأذهان)
(أَيْن المفر لمن عَنَّا عَن أَمركُم
…
أَتَرَى البغاث تفوت مَا لعقبان)
(الْأَمر أَمر الله غير مُنَازع
…
لَاحَ الصَّباح لمن لَهُ عينان)
(يَا من يُطَالب أَمرهم بدلائل
…
أتطالب الْبُرْهَان بالبرهان)
(إِن كنت تجْهَل فالحسام معلم
…
يشفي البريء بِهِ ويشقي الْجَانِي)
(كم من غوي قد عتا عَن أَمرهم
…
كزرارة فَمضى إِلَى الخسران)
(أَيْن المفر لمن عتا عَن أَمركُم
…
يَوْم الكفاح إِذا التقى الْجَمْعَانِ)
(لم يمْنَع الْأَعْدَاء مِنْهُم معقل
…
لَو أَنهم صعدوا إِلَى كيوان)
(لكِنهمْ باؤوا بأخسر صَفْقَة
…
فكأنهم غصبوا أَبَا غبشان)
(جَيش تسد وفوده مسرى الصِّبَا
…
وتهد وطأته ذرى ثهلان)
(يَا مَالِكًا مَلأ الْوُجُود محاسنا
…
لَا تختفي عَن أعين العميان)
(أجريت بَين المعتقين مكارما
…
يسلوا الْغَرِيب بهَا عَن الأوطان)
(لوقيل للغيث اعْترف لم يعْتَرف
…
إِلَّا بِفضل نداكم الهتان)
(إِنْسَان عين الدَّهْر أَنْت وَإِنَّمَا
…
تَكْمِيل شكل الْعين بالإنسان)
(ذكراك بالأفواه تعذب كاللما
…
وتخف كالبشرى على الآذان)
(أيقظت جفن الْحق من إغفائه
…
وأقمت مَيْلَة عطفه الكسلان)
(ألْقى لَك الزَّمن العصى زمامه
…
وعنا لطاعة أَمرك الثَّقَلَان)
(فالدهر دُونك دَافع ومدافع
…
وصروفه لكم من العبدان)
(فَإِذا أشرتم فِي الزَّمَان لمقصد
…
كَانَ الْقَضَاء لكم من الأعوان)
(أخلصت للرحمن فِي طاعاته
…
فَلِذَا دعيت بعابد الرَّحْمَن)
(ألقيت رحلي فِي ذراك مخيما
…
فجريت فِي الآمال طوع عنان)
(وَتركت أوطاني وَجئْت وَإِنَّمَا
…
من فرط حبك غبت عَن أوطاني)
(يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ بأنني
…
من جودكم أرد الْفُرَات الثَّانِي)
(لَا زلتم فِي أسعد مبسوطة
…
مَقْبُوضَة عَنْهَا يَد الْحدثَان)
وَاسْتمرّ السُّلْطَان مُقيما بمراكش مُدَّة طَوِيلَة وَبعث أَخَاهُ الْمولى الْمَأْمُون بن هِشَام لقطر السوس فجباه
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَفِي شعْبَان مِنْهَا عقد السُّلْطَان الصُّلْح مَعَ جنس النابريال وَيُقَال لَهُ استرياك وَهِي اثْنَا عشر شرطا مضمنها المخالطة بِالْبيعِ وَالشِّرَاء وَغير ذَلِك مَعَ الْأمان والاحترام من الْجَانِبَيْنِ وَالْآخر مِنْهَا مضمنه الصُّلْح الدَّائِم على هَذِه الشُّرُوط لَا يُفْسِدهُ أَمر يحدث بعده وَلَا يَقع فِيهِ زِيَادَة وَلَا نُقْصَان ثمَّ حدثت الْفِتْنَة عقب هَذَا بِيَسِير على مَا نذكرهُ
هجوم جنس النابريال على ثغر العرائش وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد قدمنَا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رحمه الله قد طَاف فِي آخر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف على ثغور الْمغرب ومراسيه وَأَنه أَرَادَ إحْيَاء سنة الْجِهَاد فِي الْبَحْر الَّتِي كَانَ أغفلها السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله وَأمر أَعنِي الْمولى عبد الرَّحْمَن بإنشاء أساطيل تضم إِلَى مَا كَانَ قد بَقِي من آثَار جده سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَأذن لرؤساء الْبحار من أهل العدوتين
سلا ورباط الْفَتْح أَن يخرجُوا فِي القراصين الجهادية للتطواف بسواحل الْمغرب وَمَا جاورها فَخرج الرئيسان الْحَاج عبد الرَّحْمَن باركاش والحاج عبد الرَّحْمَن بريطل فصادفوا بعض مراكب النابريال فاستاقوها غنيمَة إِذْ لم يَجدوا مَعهَا ورقة الباصبورط الْمَعْهُودَة عِنْدهم وعثروا فِيهَا على شَيْء كثير من الزَّيْت وَغَيرهَا وَكَانَ بَعْضهَا قد جِيءَ بِهِ إِلَى مرسى العدوتين وَبَعضهَا إِلَى مرسى العرائش فهجم النابريال على مرسى العرائش بِسِتَّة قراصين يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّالِث من ذِي الْقعدَة سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَرمى عَلَيْهَا من الكور شَيْئا كثيرا من الضُّحَى إِلَى الاصفرار وَعمد فِي أثْنَاء ذَلِك إِلَى سَبْعَة قوارب فشحنها بِنَحْوِ خَمْسمِائَة من الْعَسْكَر ونزلوا إِلَى الْبر من جِهَة الْموضع الْمَعْرُوف بالمقصرة وتقدموا صُفُوفا قد انتشب بَعضهم فِي بعض بمخاطيف من حَدِيد لِئَلَّا يَفروا وَمَشوا إِلَى مراكب السُّلْطَان الَّتِي كَانَت مرساة بداخل الْوَادي وهم يقرعون طنابيرهم ويصفرون ومراكبهم الَّتِي فِي الْبَحْر ترمي بالضوبلي مَعَ امتداد الْوَادي لتمنع من يُرِيد العبور إِلَيْهِم فَانْتَهوا إِلَى المراكب وأوقدوا فِيهَا النَّار وقصدوا بذلك أَخذ ثأرهم فِيمَا انتزع مِنْهُم فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى انثال عَلَيْهِم الْمُسلمُونَ من كل جِهَة من أهل السَّاحِل وَغَيرهم وَعبر إِلَيْهِم أهل العرائش وأحوازها سبحا فِي الْوَادي وعَلى ظهر الْفلك إِلَى أَن خالطوهم وفتكوا فيهم فتكة بكرا وَكَانَ هُنَالك جملَة من الحصادة يحصدون الزروع فِي الفدن فَشَهِدُوا الْوَقْعَة وأبلوا بلَاء حسنا حَتَّى كَانُوا يحتزون رُؤُوس النابريال بمناجلهم وَقد ذكر منويل هَذِه الْوَقْعَة وبسطها وَقَالَ إِن النابريال قتل مِنْهُم ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ سوى الأسرى وَتركُوا مدفعا وَاحِدًا وشيئا كثيرا من الْعدة وأفلت الْبَاقِي مِنْهُم إِلَى مراكبهم وذهبوا يلتفتون وَرَاءَهُمْ
وَاعْلَم أَن هَذِه الْوَقْعَة هِيَ الَّتِي كَانَت سَببا فِي إِعْرَاض السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن عَن الْغَزْو فِي الْبَحْر والاعتناء بِشَأْنِهِ فَإِنَّهُ رحمه الله لما أَرَادَ إحْيَاء هَذِه السّنة صَادف إبان قيام شَوْكَة الفرنج ووفور عَددهمْ وأدواتهم