الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَيْضا أَخَوَيْهِ عبد الْعَزِيز وخالدا من خلاف فهلكا وَكَانَ الْحَاجِب أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين قد حس بِالشَّرِّ من جِهَة عمر المتغلب وتوقع النكبة من جَانِبه فتسلل إِلَى قصره وَأخذ مَا خف من ذخيرته وَلحق بالسلطان أبي الْحسن وقص عَلَيْهِ الْخَبَر وأغراه بتملك إفريقية وَأوجب عَلَيْهِ النّظر للْمُسلمين فِيهَا وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن يتَمَنَّى ذَلِك لَوْلَا مَكَان صهره أبي بكر فَأَقَامَ بتحين لَهَا الْأَوْقَات ويترقب لَهَا الفرص حَتَّى كَانَت هَذِه وَإِنَّمَا تنجع الْمقَالة فِي الْمَرْء إِذا صادقت هوى فِي القؤاد فأظهر أَبَوا لحسن الإمتعاض لما فعله عمر بأَخيه ولي الْعَهْد من مَنعه من حَقه أَولا ثمَّ غراقة دَمه ثَانِيًا لَا سِيمَا وَقد كَانَ أعْطى خطّ يَده بالموافقة على الْعَهْد الْمَذْكُور فأجمع الْحَرَكَة إِلَى إفريقية وَلحق بِهِ خَالِد بن حَمْزَة بن عمر أَخُو أبي الهول الْمَقْتُول مَعَ ولي الْعَهْد فاستعداه على عدوه فَفتح السُّلْطَان أبوة الْحسن ديوَان الطعاء ونادى فِي النَّاس بِالْمَسِيرِ إِلَى إفريقية وأزاح عللهم وعسكر بِظَاهِر تلمسان ثمَّ نَهَضَ فِي صفر من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة يجر الدُّنْيَا بِمَا حملت بعد أَن عقد لِابْنِهِ الْأَمِير أبي عنان على الْمغرب الْأَوْسَط وعهد إِلَيْهِ بِالنّظرِ فِي أُمُوره كَافَّة وَجعل إِلَيْهِ جبايته وقدمت عَلَيْهِ فِي طَرِيقه أَعْرَاب إفريقية وولاة قابس وبلاد الجريد وأطاعته طرابلس والزاب وبجاية وصاحبها يَوْمئِذٍ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء بن أبي بكر وَلما وصل قسنطينة خرج غليه أَبنَاء الْأَمِير أبي عبد الله بن أبي بكر وَلما وصل إِلَى قسنطينة خرج إِلَيْهِ أَبنَاء الْأُمِّي أبي عبد الله بن أبي بكر فَبَايعُوهُ فَأقبل عَلَيْهِم وصرفهم إِلَى الْمغرب وأنزلهم بوحدة وأقطعهم جبايتها وَأنزل بقسنطينة خلفاءه وعماله وَقد كَانَ صرف أَبَا عبد الله صَاحب بجاية إِلَى ندرومة فأنزله بهَا وأقطعه الْكِفَايَة من جبايتها ثمَّ وَفد عَلَيْهِ بَنو حَمْزَة بن عمر أُمَرَاء الكعوب من سليم فأخبروه بإجفال عمر المتغلب بتونس مَعَ ظاعنة أَوْلَاد مهلهل واستحثوه فِي اعتراضهم قبل لحاقهم بالقفر فسرح مَعَهم العساكر فِي طلبه لنظر حمو بن يحيى العسكري
وتلوم السُّلْطَان أَبُو الْحسن بقسنطينة وَعرض جيوشه بسطح الجعاب مِنْهَا ثمَّ ارتحل على أَثَرهم وأغذ حمو بن يحيى السّير مَعَ ناجعة أَوْلَاد أبي اللَّيْل فَلَحقُوا بعمر صَاحب تونس بِأَرْض الحامة من نَاحيَة قابس فدافعوا عَن
أنفسهم بعض الشَّيْء ثمَّ انْهَزمُوا وكبا بعمر جَوَاده فِي نافقاء بعض اليرابيع وانجلى الْغُبَار عَنهُ وَعَن مَوْلَاهُ ظافر راجلين فتقبض عَلَيْهِمَا وأوثقهما قَائِد الْعَسْكَر بِيَدِهِ حَتَّى إِذا جن اللَّيْل ذبحهما خوفًا من أَن تفتكهما الْعَرَب من يَده وَبعث برأسيهما إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن فوصلا إِلَيْهِ بباجية وخلص الفل من تِلْكَ الْوَقْعَة إِلَى قابس فتقبض عبد الْملك بن مكي صَاحبهَا على رجالات من أهل الدولة كَانَ فيهم أَبُو الْقَاسِم بن عتو من مشيخة الْمُوَحِّدين وصخر بن مُوسَى من رجالات سدويكش وَغَيرهمَا من أَعْيَان الدولة فَبعث بهم ابْن مكي إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن ممقرنين فِي الأصفاد فَأَما ابْن عتو وصخر بن مُوسَى وَعلي بن مَنْصُور فقطعهم من خلاق لفتيا الْفُقَهَاء بجرابتهم واعتقل الْبَاقِي
وسرح السُّلْطَان عساكره إِلَى تونس وَعقد عَلَيْهِم لصهره على ابْنَته يحيى بن سُلَيْمَان من بني عَسْكَر فاحتلوا بتونس ثمَّ جَاءَ السُّلْطَان على أَثَرهم فَنزل بظاهرها يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن من جُمَادَى الْآخِرَة من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وتلقاه وَفد تونس وشيوخها من أهل الْفتيا وأرباب الشورى فآتوه طاعتهم وانقلبوا مسرورين بولايته مغتبطين بملكته وَكَانَت تونس يَوْمئِذٍ مشحونة بالأعلام الأكابر مِنْهُم ابْن عبد السَّلَام وَابْن عَرَفَة وَابْن عبد الرفيع وَابْن رَاشد القفصي وَابْن هَارُون وأعلام آخَرُونَ ثمَّ عبا السُّلْطَان أَبُو الْحسن يَوْم السبت مواكبه لدُخُول الحضرة فَصف جُنُوده سماطين من مُعَسْكَره بسيجوم إِلَى بَاب الْبَلَد نَحْو أَرْبَعَة أَمْيَال وَركبت بَنو مرين من مراكزهم من جموعهم وَتَحْت راياتهم وَركب السُّلْطَان من فسطاطه وَعَن يَمِينه وليه عريف بن يحييى كَبِير سُوَيْد ويليه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن تافراجين وَعَن يسَاره الْأَمِير أ [وَعبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء وَهُوَ أَخُو السُّلْطَان أبي بكر ويليه الْأَمِير أَبُو عبد الله ابْن أَخِيه خَالِد كَانَا معتقلين بقسنطينة فأطلقهما السُّلْطَان أَبُو الْحسن وصحببوه إِلَى تونس فَكَانُوا طراز ذَلِك الموكب فِيمَن لَا يُحْصى من أعياص بني مرين وكبرائهم وهدرت طبوله وخفقت راياته وَكَانَت يَوْمئِذٍ نَحْو الْمِائَة وَجَاء السُّلْطَان والمواكب تَجْتَمِع عَلَيْهِ صفاصفا إِلَى أَن وصل إِلَى الْبَلَد
وَقد ماجت الأَرْض بالجيوش قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ يَوْمًا لم ير مثله فِيمَا عَقَلْنَاهُ قلت كَانَ سنّ أبن خلدون يَوْمئِذٍ سِتّ عشرَة سنة لِأَنَّهُ ولد غرَّة رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة
وَكَانَ قدم فِي جملَة السُّلْطَان أبي الْحسن جمَاعَة كَبِيرَة من أَعْلَام الْمغرب كَانَ يلْزمهُم شُهُود مَجْلِسه ويتجمل بمكانهم نيه ثمَّ دخل الْقصر الخلافي وخلع على أبي مُحَمَّد بن تافراجين وَقرب إِلَيْهِ فرسا بسرجه ولجامه وَطعم النَّاس بَين يَدَيْهِ وانتشروا إِلَى مَنَازِلهمْ ثمَّ دخل السُّلْطَان أَبُو الْحسن مَعَ ابْن تافراجين إِلَى حجر الْقصر ومساكن الْخُلَفَاء فَطَافَ عَلَيْهَا وَدخل مِنْهَا الى الرياض الْمُتَّصِلَة بهَا المدعوة بِرَأْس الطابية فَطَافَ على تِلْكَ الْبَسَاتِين وسرح نظره فِيهَا وَاعْتبر بِحَالِهَا ثمَّ أفْضى مِنْهَا إِلَى مُعَسْكَره وَأنزل يحيى بن سُلَيْمَان بقصبة تونس فِي عَسْكَر لحمايتها ثمَّ ارتحل من الْغَد إِلَى القيروان فجال فِي نَوَاحِيهَا ووقف على اثار الْأَوَّلين ومصانع الأقدمين والطلول الماثلة لصنهاجة والعبيديين وَالْتمس الْبركَة فِي زِيَارَة الْقُبُور الَّتِي نذْكر للصحابة وَالسَّلَف من التَّابِعين والأولياء فِي ساحتها ثمَّ سَار إِلَى سوسة ثمَّ إِلَى المهدية ووقف على سَاحل الْبَحْر مِنْهَا وَتَطوف فِي معالمها وَنظر فِي عَاقِبَة الَّذين كَانُوا من قبله أَشد قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض وَاعْتبر باحوالهم وَمر فِي طَرِيقه بقصر الأجم ورباط المنستير وانكفأ رَاجعا إِلَى تونس فاحتل بهَا غرَّة رَمَضَان من السّنة وَنزل المسالح على ثغور إفريقية وأقطع بني مرين الْبِلَاد والضواحي وأمضى إقطاعات الْعَرَب الَّتِي كَانَت لَهُم من قبل الحفصيين وَاسْتعْمل على الْجِهَات وخفتت الْأَصْوَات وسكنت الدهماء وانقبضت أَيدي أهل الْفساد وانقرض أَمر الحفصيين فِي هَذِه الْمدَّة إِلَّا أَنه عقد على بونة لصهره الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي بكر إِكْرَاما لصهره ووفادته عَلَيْهِ واتصلت ممالك السُّلْطَان أبي الْحسن مَا بَين مسراته إِلَى السوس الْأَقْصَى من هَذِه العدوة وَإِلَى رندة من عدوة الأندلس وَدخل الْمغرب بأسره فِي طَاعَته وحذر مُلُوك مصر وَالشَّام مَا شاع من بسطته وانفساخ دولته ونفوذ كَلمته وَالْملك لله يؤتيه من يَشَاء من عبَادَة وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَقد كَانَ الشُّعَرَاء رفعوا إِلَيْهِ قصائد فِي سَبِيل التهنئة بِالْفَتْح وَكَانَ سَابق
الحلبة يَوْمئِذٍ أَبُو الْقَاسِم الرحوي فِي قصيدة يَقُول فِي مطْلعهَا
(أجابك شَرق إِذْ دَعَوْت ومغرب
…
فمكة هشت للقاء وَيشْرب) وَهِي طَوِيلَة تخطيناها اختصارا وَالله تَعَالَى ولي التَّوْفِيق بمنه
انْتِقَاض عرب سليم بإفريقية على السُّلْطَان أبي الْحسن وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
قد تقدم لنا عِنْد الْكَلَام على الْعَرَب الداخلين إِلَى الْمغرب أَن جمهورهم كَانَ من بني جشم بن مُعَاوِيَة بن بكر وَبني هِلَال بن عَامر بن صعصعه وَبني سليم بن مَنْصُور وَإِن الَّذين بقوا مِنْهُم بإفريقية هم بَنو سليم وَبَعض هِلَال وَكَانَ لَهُم استطالة على الدول واعتزاز عَلَيْهَا فَكَانَ مُلُوك الحفصيين يتألفونهم بالولايات والإقطاعات وَنَحْو ذَلِك وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن المريني حَاله مَعَ عرب الْمغرب الْأَقْصَى غير حَال الحفصين مَعَ عرب إفريقية وملكته لأهل باديته غير ملكتهم لأهل باديتهم فَلَمَّا ورد إفريقية وَاسْتولى عَلَيْهَا رَأْي من اعتزاز الْعَرَب بهَا على الدولة وَكَثْرَة إقطاعاتهم من الضواحي والأمصار مَا تجَاوز الْحَد الْمُعْتَاد عِنْده فَأنْكر ذَلِك وَضرب على أَيْديهم وعوضهم عَنهُ بأعطيات فَرضهَا لَهُم فِي الدِّيوَان من جملَة الْجند واستكثر جبايتهم فنقصهم الْكثير مِنْهَا ثمَّ شكا إِلَيْهِ الرّعية من أُولَئِكَ الْعَرَب وَمَا ينالونهم بِهِ من الظلامات وَضرب الإتاوة الَّتِي يسمونها الخفارة فَقبض أَيْديهم عَن ذَلِك كُله وَتقدم إِلَى الرعايا بمنعهم مِنْهَا فارتابت الْعَرَب لذَلِك وفسدت ضمائرهم وثقلت وَطْأَة الدولة المرينية عَلَيْهِم فتربصوا بهَا وتحزبوا لَهَا وتعاوت ذئابهم فِي بواديهم فَاجْتمعُوا وأغاروا على قياطين بني مرين ومسالحهم فِي ثغور إفريقية حَتَّى أَنهم أَغَارُوا على ضواحي تونس فَاسْتَاقُوا الظّهْر الَّذِي كَانَ فِي مرعاها وَالسُّلْطَان يَوْمئِذٍ بهَا فَعظم عَلَيْهِ ذَلِك وحقد على كبرائهم وأظلم الجو بَينه وَبينهمْ ثمَّ وَفد عَلَيْهِ أَيَّام الْفطر من رجالاتهم خَالِد بن حَمْزَة أَمِير بني كَعْب وَأَخُوهُ أَحْمد وَخَلِيفَة بن عبد الله من بني مِسْكين وَابْن عَمه خَليفَة بن
أبي زيد أَوْلَاد الْقوس فأنزلهم السُّلْطَان أَبُو الْحسن وأجمل لقاءهم مغضبا عَمَّا صدر من غوغاتهم ثمَّ رفع إِلَيْهِ عبد الْوَاحِد بن اللحياني من أَوْلَاد الْمُلُوك الحفصيين أَنهم بعثوا إِلَيْهِ مَعَ بعض حَاشِيَته يطْلبُونَ مِنْهُ الْخُرُوج مَعَهم لينصبوه لِلْأَمْرِ بإفريقية وَأَنه خشِي على نَفسه بادرة السُّلْطَان فتبرأ إِلَيْهِ من ذَلِك فَقَامَتْ قِيَامَة السُّلْطَان أبي الْحسن عِنْد سَمَاعه ذَلِك فأحضرهم وأحضر الحفصي مَعَهم وَقَررهُ بِمَا دَار بَينه وَبينهمْ فَبُهِتُوا وأنكروا فوبخهم وَأمر بهم فسحبوا إِلَى السجْن ثمَّ فتح ديوَان الْعَطاء وَعرض الْجند لغزوهم وعسكر بسيجوم من ظَاهر تونس وَذَلِكَ بعد قَضَاء نسك الْفطر من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة
واتصل الْخَبَر بأولاد أبي اللَّيْل وَأَوْلَاد الْقوس باعتقال وفدهم وَجمع السُّلْطَان لغزوهم فضاقت عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ وَانْطَلَقُوا فِي إحيائهم يحزبون الْأَحْزَاب ويستشيرون الثوار وعطفوا على أعدائهم من أَوْلَاد مهلهل فوصلوهم بعد القطيعة وَكَانُوا بعد مقتل سلطانهم عمر بن أبي بكر قد لَحِقُوا بالقفر خوفًا من أبي الْحسن لأَنهم كَانُوا شيعَة لعمر الْمَذْكُور فَلَمَّا وَقع بَين أبي الْحسن وَبَين أَوْلَاد أبي اللَّيْل مَا وَقع ركب قُتَيْبَة بن حَمْزَة إِلَيْهِم وَمَعَهُ أمه وَنسَاء أَوْلَادهَا فتطارحوا عَلَيْهِم وَرَغبُوا إِلَيْهِم فِي الإجتماع مَعَهم على الْخُرُوج على السُّلْطَان ومنابذته فَكَانَ أَوْلَاد مهلهل إِلَيْهَا مُسْرِعين فارتحلوا مَعَهم وتوافت أَحيَاء سليم من بني كَعْب وَبني حَكِيم بتوزر من بِلَاد الجريد فتذامروا وتصافوا وأهدروا الدِّمَاء بَينهم وتبايعوا على الْمَوْت وصاروا نفسا وَاحِدَة على تبَاين أغراضهم وَفَسَاد ذَات بَينهم والتمسوا من أعياص الْملك من ينصبونه لِلْأَمْرِ فدلهم بعض سماسرة الْفِتَن على رجل من ببني عبد الْمُؤمن وَهُوَ أَحْمد بن عُثْمَان بن أبي دبوس آخر مُلُوك بني عبد الْمُؤمن وَكَانَ يحترف بالخياطة فِي توزر بعد مَا طوحت بِهِ الطوائح فَانْطَلقُوا إِلَيْهِ وجاؤوا بِهِ ونصبوه لِلْأَمْرِ وجمعوا لَهُ شَيْئا من الفساطيط وَالْخَيْل والآلات وَالْكِسْوَة وَأَقَامُوا لَهُ رسم السُّلْطَان وعسكروا عَلَيْهِ بقياطينهم وحللهم وتحالفوا على نَصره
وَلما قضى السُّلْطَان ابو الْحسن نسك عيد الْأَضْحَى من السّنة الْمَذْكُورَة
أَن يعود إِلَيْهِم وَلما اسْتَقر بطنجة بعث إِلَى أهل تطاوين وراودهم على الرُّجُوع إِلَى الطَّاعَة فَأَبَوا ولجوا فِي عصيانهم فَبعث إِلَيْهِم جَيْشًا كثيفا مَعَ الْقَائِد حمان الصريدي البُخَارِيّ فَنزل بوادي أبي صفيحة وحاصرهم مُدَّة فَكَانَت الْحَرْب بَينه وَبينهمْ سجالا مرّة لَهُ وَمرَّة عَلَيْهِ وَهَلَكت نفوس من أَعْيَان تطاوين وَغَيرهم
مَجِيء الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام من الصويرة إِلَى الغرب واستخلافه بفاس وَمَا تخَلّل ذَلِك
كَانَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فِي ابْتِدَاء أمره بتافيلالت وَلما توسم فِيهِ عَمه الْمولى سُلَيْمَان مخايل الْخَيْر والنجابة استقدمه مِنْهَا وولاه على الصويرة وأعمالها فكفاه أمرهَا وَقَامَ بشأنها ثمَّ لما كَانَ الْمولى سُلَيْمَان بطنجة فِي هَذِه الْمرة واستعصى عَلَيْهِ أَمر فاس وتطاوين وانصرم فصل الشتَاء وَأَقْبل فصل الرّبيع كتب إِلَى ابْن أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور يَأْمُرهُ بالقدوم عَلَيْهِ فِي قبائل الْحَوْز ويلقاه بهم برباط الْفَتْح وَكَانَ غَرَض السُّلْطَان أَن يزحف بهم إِلَى فاس إِلَّا أَن السياسة اقْتَضَت أَن يكون الْأَمر هَكَذَا فَجمع الْمولى عبد الرَّحْمَن قبائل الْحَوْز وقواده وَقدم بهم إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَلما لم يَجدوا السُّلْطَان بِهِ تثاقلوا عَن العبور مَعَ الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى بِلَاد الغرب لِأَن السُّلْطَان إِنَّمَا وعدهم أَن يلقوه برباط الْفَتْح فَكتب الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى عَمه يُعلمهُ بِصُورَة الْحَال وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه قد استوزر فِي هَذِه الْمدَّة الْفَقِيه أَبَا عبد الله أكنسوس فَبَعثه إِلَى الْمولى عبد الرَّحْمَن وأصحبه مَالا يفرقه على جَيْشه لينشطوا للقدوم وَكَانَ قدر المَال خمسين أُوقِيَّة لكل فَارس وَأمره إِذا قدم أَرض سلا أَن ينزل عِنْد عاملها أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي عزة الْمَعْرُوف بِأبي جميعة وَبعث للْمولى عبد الرحمن ليعبر إِلَيْهِ فِي وُجُوه الْجَيْش لقبض الصِّلَة وَلَا يذكر لَهُم سفرا فَإِذا قبضوها فليقرأ عَلَيْهِم كِتَابه وَكَانَ مضمنه أَنه يَأْمُرهُم بالقدوم عَلَيْهِ لقصر كتامة لقبض الْكسْوَة
الَّتِي أَتَى بهامن طنجة وَحِينَئِذٍ يذهب مَعَهم السُّلْطَان إِلَى الْحَوْز فَفعل الْوَزير ذَلِك كُله وَتقدم الْمولى عبد الرَّحْمَن فِي جَيْشه إِلَى قصركتامة
قَالَ الْوَزير الْمَذْكُور فَلَمَّا جِئْنَا الْقصر وجدنَا السُّلْطَان لَا زَالَ مُقيما بطنجة فتقدمت إِلَيْهِ وأعلمته بوصول الْمولى عبد الرَّحْمَن وجيشه إِلَى الْقصر فَخرج السُّلْطَان من طنجة وَجعل طَرِيقه على آصيلا وَلما بَات بسوق الْأَحَد بالغربية بعث إِلَيْهِ الْمولى المجذوب سَيِّدي مُحَمَّد بن مَرْزُوق يَدعُوهُ للقدوم عَلَيْهِ والبيات عِنْده فَأجَاب دَعوته وَدخل عَلَيْهِ وتبرك بِهِ وَمن هُنَاكَ كتب إِلَى ابْن أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن أَن يتَقَدَّم بالجيش إِلَى العرائش ويلقاه بِهِ هُنَالك فَفعل الْمولى عبد الرَّحْمَن وَهُنَاكَ اجْتمع بِعَمِّهِ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فسر بمقدمه ودعا لَهُ بِخَير وَأثْنى عَلَيْهِ بِمحضر أُولَئِكَ الْمَلأ من النَّاس ثمَّ دَعَا السُّلْطَان قواد الْحَوْز فيهم الْقَائِد عبد الْملك بن بيهي والقائد عَليّ بن مُحَمَّد الشيظمي وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن الغنيمي نَائِبا عَن الْحَاج حمان الْعَبْدي وَكَانَ فِي ركابه ابْنه فضول بن حمان صَغِيرا والقائد بلعباس بن المزوار الدكالي البوزراري والحاج الْعَرَبِيّ بن رقية البوزراري والقائد مُحَمَّد بن حَدِيدَة البوعزيزي والقائد الْمُعْطى الحمري والقائد الصّديق ابْن الْفَقِيه العمراني وَلم يكن فيهم من الرحامنة إِلَّا الْحَاج الْمُعْطى بن مُحَمَّد الْحَاج وَلم يكن فيهم من السراغنة وَلَا من الشاوية أحد وَلما اجْتَمعُوا خرج عَلَيْهِم السُّلْطَان وَجلسَ على طنفسة ثمَّ دَعَا بالقائد عبد الْملك بن بيهي فأجلسه إِلَى جنبه ودعا لَهُ بِخَير ثمَّ قَالَ إِنَّكُم تعبتم فِي سَبِيل الله وَنحن أتعب مِنْكُم ونسأل الله أَن لَا يضيع أجرنا وأجركم وأعلموا أَنكُمْ فِي طَاعَة الله وَطَاعَة رَسُوله وَلكم المزية التَّامَّة وَقد وَجب علينا الْإِحْسَان إِلَيْكُم وَقد ظهر لي أَنكُمْ حِين وصلتم إِلَى هَذَا الْمحل لَا يَنْبَغِي لكم أَن ترجعوا بِدُونِ زِيَارَة مَوْلَانَا إِدْرِيس وَكنت أردْت أَن أوجهكم إِلَى بِلَادكُمْ من هُنَا وَلَكِن أَنا لايمكنني أَن أرجع إِلَّا بعد أَن يحكم الله بيني وَبَين هَؤُلَاءِ الخارجين عَن الْحق وَأَنْتُم لَا يجمل بكم أَن ترجعوا بِغَيْر سُلْطَان فَاصْبِرُوا قَلِيلا وتمموا عَمَلكُمْ حَتَّى تذْهبُوا إِن شَاءَ الله بسلطانكم فرحين مستبشرين
فَقَالُوا كلهم سمعا وَطَاعَة لَا نُفَارِقك حَتَّى نرْجِع بك وَلَو مكثنا عشر سِنِين وعَلى أثر هَذَا عقد السُّلْطَان لقائد خيل الْجَيْش البُخَارِيّ الْحَاج إِبْرَاهِيم بن رزوق على مِائَتَيْنِ من الْخَيل مَفْرُوضَة من الحوزية وَالْعَبِيد وَأمره أَن يسير إِلَى تطاوين وَيُقِيم بمرتيل وَيمْنَع أَهلهَا من الْوُصُول إِلَى المرسى فَفعل وارتحل السُّلْطَان من العرائش يُرِيد فاسا فِي قبائل الْحَوْز فَمر بِبِلَاد سُفْيَان وَنزل بسوق الْأَرْبَعَاء مِنْهَا قرب ضريح سَيِّدي عِيسَى بن الْحسن المصباحي فَأَصَابَهُ مرض هُنَالك وَورد عَلَيْهِ الْخَبَر بِأَن إِبْرَاهِيم بن رزوق قد كاده صَاحب تطاوين الْعَرَبِيّ بن يُوسُف حَتَّى قبض عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه وسلبهم وسجنهم فآلم هَذَا الْخَبَر السُّلْطَان وزاده إِلَى مَا بِهِ من الْمَرَض ثمَّ أبل مِنْهُ بعد أَيَّام فَنَهَضَ إِلَى فاس وعرج على طَرِيق تازا وَلما بَات بسوق الْخَمِيس بالكور من بِلَاد الحياينة أغارت عَلَيْهِ غياثة وَمن شايعهم من أهل تِلْكَ النواحي وَكَانُوا قد دخلُوا فِي بيعَة أبي يزِيد فَدَارُوا بالمحلة ونضحوها بالرصاص فَقَامَ السُّلْطَان وَجعل يسكن النَّاس بِنَفسِهِ ونهاهم عَن الرّكُوب وَالِاضْطِرَاب فحفظ الله الْمحلة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَلم يصب أحد من النَّاس وَلَا من الدَّوَابّ وأصبحت قَتْلَى الْعَدو مصرعة حول الْمحلة ثمَّ دخل السُّلْطَان مَدِينَة تازا فوفد عَلَيْهِ بهَا أهل الرِّيف وعرب آنقاد والصحراء وَجعلُوا يزدحمون عَلَيْهِ ليروا وَجهه وَيَقُولُونَ إِنَّه وَالله للسُّلْطَان لِأَن أهل فاس كَانُوا يشيعون مَوته ويكتبون بذلك إِلَى الْقَبَائِل ثمَّ تقدم السُّلْطَان إِلَى فاس فَنزل بقنطرة وَادي سبو وَذَلِكَ أَوَاخِر رَجَب سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَكَانَ أهل فاس قد سئموا الْحَرْب وعضهم الْحصار وملوا دولة أبي يزِيد فاختلفت كلمتهم عِنْد مَا قدم السُّلْطَان وهاجت الْحَرْب دَاخل الْبَلَد بَين شيعَة السُّلْطَان وشيعة السعيد فكثرهم شيعَة السُّلْطَان وفتحوا الْبَاب وَخَرجُوا إِلَيْهِ بالأشراف وَالصبيان والمصاحف وتهافتوا على فسطاطه تَائِبين خاضعين وَجَاء السعيد فِي جوَار الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَمَعَهُ الْأمين الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون فَكَانَ جَوَاب السُّلْطَان لَهُم أَن قَالَ {قَالَ لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} يُوسُف 92 وَكَانَ رحمه الله قد رأى
وَهُوَ سَائِر إِلَى فاس رُؤْيا وَهِي أَنه دخل فاسا وزار تربة الْمولى إِدْرِيس رضي الله عنه وقلده سَيْفا وَصعد الْمنَار وَأذن فَكَانَ من عَجِيب صنع الله أَن فتح عَلَيْهِ فاسا ودخلها وزار الْمولى إِدْرِيس وَأذن بمنارة على الْهَيْئَة الَّتِي رأى وَجَاء رجل من أَوْلَاد الْبَقَّال فقلده سَيْفا تَصْدِيقًا للرؤيا وَلما دخل ضريح الْمولى إِدْرِيس وجد الشريف الْبركَة سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني هُنَالك فَعَاتَبَهُ السُّلْطَان عتابا خَفِيفا وَزَالَ مَا بصدره عَلَيْهِ وانقطعت أَسبَاب الْفِتَن وَالْحَمْد لله
وَاعْلَم أَن مَا صدر من أهل فاس وَمن وافقهم على هَذِه الْبيعَة لَا لوم عَلَيْهِم فِيهِ وماكان من حق السُّلْطَان رحمه الله أَن يبْعَث إِلَيْهِم بذلك الْكتاب الَّذِي أوقعهم فِي حيص بيص وَكَانَ سَببا لهَذِهِ الْفِتَن وَقَول أكنسوس إِن السُّلْطَان أَرَادَ تهييجهم على التَّمَسُّك بِطَاعَتِهِ كَمَا فعل مَعَ أهل مراكش لَيْسَ بِشَيْء أَو مَا علم السُّلْطَان رحمه الله كَلَام الكبراء خُصُوصا الْمُلُوك مِمَّا تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله وَأَن الْعَامَّة إِذا نقلته وَضعته غَالِبا فِي غير مَحَله وَفِي الصَّحِيح أَن عمر رضي الله عنه بلغه وَهُوَ بمنى أَن رجلا قَالَ وَالله لَو قد مَاتَ عمر لبايعنا فلَانا يُرِيد رجلا من غير قُرَيْش فَقَالَ عمر رضي الله عنه لأقومن العشية فأحذر هَؤُلَاءِ الرَّهْط الَّذين يُرِيدُونَ أَن يغصبوهم فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رضي الله عنه لَا تفعل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن الْمَوْسِم يجمع رعاع النَّاس يغلبُونَ على مجلسك فَأَخَاف أَن يسمعوا مِنْك كلمة فَلَا ينزلوها على وَجههَا ويطيروا بهَا عَنْك كل مطير فامهل حَتَّى تقدم الْمَدِينَة دَار الْهِجْرَة وَدَار السّنة فتخلص بأصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فيحفظوا مَقَالَتك وينزلوها على وَجههَا فَقَالَ عمر وَالله لأقومن بِهِ فِي أول مقَام أقومه بِالْمَدِينَةِ الحَدِيث فَانْظُر كَيفَ منع عبد الرَّحْمَن عمر رضي الله عنه من الْكَلَام بِالْمَوْسِمِ وبمحضر الْعَامَّة خوفًا من وُقُوع الْفِتْنَة وانقاد لَهُ عمر حَيْثُ علم أَن ذَلِك هُوَ الصَّوَاب وَكَانَ وقافا عِنْد الْحق هَذَا وَالنَّاس نَاس وَالزَّمَان زمَان وَفِي خير الْقُرُون فَكيف فِي زمَان قل علمه وَكثر
جَهله وغاض خَيره وفاض شَره وَأمر السُّلْطَان متداع مختل والفتنة قَائِمَة على سَاق كَمَا رَأَيْت فَلهَذَا قُلْنَا مَا كَانَ من حق السُّلْطَان أَن يبْعَث بذلك الْكتاب الموجه بمقصدين الْمُحْتَمل احْتِمَالَيْنِ وَلَكِن قَضَاء الله غَالب
وَلما افْتتح السُّلْطَان رحمه الله فاسا وَصفا لَهُ أمرهَا عزم على النهوض إِلَى تطاوين فاستخلف على فاس وأعمالها ابْن أَخِيه الْفَارِس الأنجد السّري الأسعد الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام لعدالته وكفايته وَحسن سياسته وَأخذ مَعَه الْمولى السعيد بن يزِيد وَخرج فِي جَيش الودايا وَالْعَبِيد وقبائل الْحَوْز أَوَائِل شعْبَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف فَجعل طَرِيقه على بِلَاد سُفْيَان وَلما وصل إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بِالْحجرِ الْوَاقِف بَين نهري سبو وورغة قدم عَلَيْهِ هُنَالك الْقَائِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن العامري اليحياوي فِي قومه بني حسن والقائد أَبُو عبد الله مُحَمَّد المعتوجي السفياني وقاسم بن الْخضر فِي قومهما سُفْيَان وَبني مَالك وَقدم عَلَيْهِ هُنَالك أَوْلَاد الشَّيْخ أبي عبد الله سَيِّدي الْعَرَبِيّ الدرقاوي صبية صغَارًا يشفعون فِي أَبِيهِم ليسرحه لَهُم فوصلهم وكساهم وَقَالَ لَهُم وَالله مَا سجنته وَلَا أمرت بسجنه وَلَكِن اتركوه فسيسرحه الله الَّذِي سجنه فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ بَقِي فِي السجْن حَتَّى توفّي السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وبويع الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فَافْتتحَ عمله بتسريحه وَلما نزل السُّلْطَان رَحمَه بمشرع مسيعيدة من نهر سبو وَفد عَلَيْهِ أهل تطاوين تَائِبين وَمَعَهُمْ قائدهم الْعَرَبِيّ بن يُوسُف المسلماني وَكَانَ النَّاس يظنون أَنه ينكل بِهِ وبمن قَامَ مَعَه فِي الْفِتْنَة فَلم يفل لَهُم إِلَّا خيرا حَتَّى لقد قَالَ لَهُ ابْن يُوسُف يَا مَوْلَانَا إِن أهل تطاوين لم يَفْعَلُوا شَيْئا وَإِنِّي أَنا الَّذِي فعلت يُرِيد أَن يبرئهم ويفديهم بِنَفسِهِ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان رحمه الله مَا عنْدك مَا تفعل أَنْت وَلَا هم وَإِنَّمَا الْفَاعِل هُوَ الله تَعَالَى وصفح عَنْهُم وَأحسن إِلَيْهِم وَلما صفا أَمر تطاوين وَلم يبْق بِبِلَاد الغرب مُنَازع انْقَلب السُّلْطَان رَاجعا إِلَى الْحَوْز وجد السّير إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة
(أدر كؤوسك فالسراء فِي الكأس
…
واشرب على طرب بروضك الكاسي)
(وقم لتنظر وَجه الدَّهْر مبتهجا
…
مُسْتَبْشِرًا بعد تقطيب وتعباس)
(والأفق طلق وَذَا النسيم منطلق
…
مسكي نشر خلال الجو جواس)
(وَالْأَرْض تضحك من بكا الْغَمَام كَمَا
…
يشكو الكئيب على مستهزىء قاسي)
(كَأَنَّهَا وَهِي بِالربيعِ حَالية
…
عواطل قد تحلت يَوْم أعراس)
(وَالْوَرق من ضحك الأزهار نائحة
…
كنوح صب على أحبابه آسى)
(والدوح زاهية الأفنان زاهرة
…
تهدي الْبَهَاء إِلَى البهار والآس)
(كَأَنَّمَا الزهر إِذْ ترَاهُ منتثرا
…
على جداولها الْحباب فِي الكاس)
(كَأَنَّمَا طيب نشره شمائل من
…
قد سَاد بالمكرمات سَائِر النَّاس)
(إمامنا الْحسن المجلي بطلعته
…
عَن الورى كل أزمة وقسقاس)
(كسا الرّعية أَثوَاب المنى جددا
…
من بعد مَا اشْتَمَلت بِكُل إدراس)
(سبط الرَّسُول وَفرع من سلالته
…
طيب الْفُرُوع ترى بِطيب أغراس)
(خَليفَة الله من دَانَتْ لعزته
…
شم الْمُلُوك برغم كل دمناس)
(أنداهم فِي الندى كفا وأشجعهم
…
قلبا وأسطاهم بِكُل دعاس)
(من ذَا ينازله عِنْد الجلاد وَهل
…
يهول اللَّيْث يَوْمًا صوب ولاس)
(قد عَمه النَّصْر فِي ورد وَفِي صدر
…
وحفه الْيمن من سَاق إِلَى راس)
(مولى تردى رِدَاء المكرمات فَقل
…
مَا شِئْت فِي شيم لَهُ واتواس)
(لم يمض مشبهه على الْحَقِيقَة فِي
…
بني أُميَّة أَو أَبنَاء عَبَّاس)
(من ذَا يدانيه فِي حلم وَفِي كرم
…
وَمن يضاهيه فِي الْإِقْدَام والباس)
(يَا كم بِهِ قوي الضَّعِيف وامتلأت
…
كف الْفَقِير وأثرى رب إفلاس)
(سلا كَمثل سلا الغرا وضرتها
…
أَو مثل مراكش وحضرتي فاس)
(فكم بهَا من مآثر لَهُ كرمت
…
لَيست تعد بأقلام وأنقاس)
(بل كل مصر وقرية لَهُ ديم
…
تهمي لأهلهما بِكُل ارغاس)
(فدا الْأَمِير أدام الله عزته
…
طول المدى كل أنفس وأنفاس)
(إليكها أَيهَا الجحجاح مائسة
…
أزرت طلاوتها بِكُل مياس)
(خريدة من بَنَات الْفِكر غانية
…
لرقمها يتَمَنَّى كل قرطاس)
(جاءتك تطلبك الْقبُول عائذة
…
بِاللَّه من شَرّ وسواس وخناس)
(فليهنها أَنَّهَا تشرفت بك إِذْ
…
حوت مَعَاني من مديحك الراسي)
(وَأَنَّهَا لَك قد وافت مهنئة
…
بليلة ذَات أسفار وإهلاس)
(أكْرم بهَا لَيْلَة غراء قد فضلت
…
بِأَفْضَل الرُّسُل كل ذَات إغباس)
(إِذْ أشرق الْكَوْن من أنوار مولده
…
حَتَّى كَفاهُ سناها كل نبراس)
(والشرك فِي الْهون قد أضحت طوائفه
…
مستيقنين حُلُول الْبُؤْس والبأس)
(إِذْ هالهم أَمر أَحْمد وأوقعهم
…
فِي حيرة عبثت بهم وإبلاس)
(تيقنوا أَنه مَا كَانَ يُخْبِرهُمْ
…
بِشَأْنِهِ كل قسيس وشماس)
(وأصبحت جملَة الْأَصْنَام سَاقِطَة
…
منكسات الرؤوس أَي تنكاس)
(وَفِي انصداع الْبناء أَصبَحت عبر
…
لَهُم كَذَا فِي خمود نَار أَفْرَاس)
(وَالْجِنّ لَا تصل السَّمَاء إِذْ منعت
…
مِنْهَا بشهب لرميها وحراس)
(وَمن يرم مِنْهُم للسمع مسترقا
…
ينحط محترقا مِنْهَا بمقباس)
(مُحَمَّد صفوة الْبَارِي وَخيرته
…
من خلقه الْجِنّ والأملاك وَالنَّاس)
(جَاءَت شَرِيعَته البيضا مطهرة
…
للدّين من كل أدران وأدناس)
(وَلم تزل أمد الْأَعْصَار رَافِعَة
…
عَن الْهَدْي كل شُبْهَة وتدلاس)
(أصل الْهدى والندى فَلَيْسَ يُشبههُ
…
هطال غيث وَلَا تيار رجاس)
(فَلَا تقسه بِشَيْء فِي مكارمه
…
فَمَا ترام خلاله بمقياس)
(فَإِنَّهُ الْبَحْر فِي فضل وَفِي كرم
…
وَفِي الشجَاعَة ضيغم بأخياس)
(كَانُوا بِهِ يَتَّقُونَ فِي الوغا بَدَلا
…
عَن اتِّخَاذ مغافر وأتراس)
(أسرى بِهِ الْملك الْأَعْلَى لحضرته
…
وَالروح مونسه أتم إيناس)
(وَاللَّيْل أحرس لَيْسَ فِيهِ يسمع من
…
صياح ديك وَلَا عواء لواس)
(حَتَّى دنا فَتَدَلَّى ثمَّ كَلمه
…
وَقد رأى ربه بمقة الراس)
(ونال من فَضله عزت جلالته
…
مَا لَا يسام بأوهام وأحداس)
(فآب وَالدّين أسست قَوَاعِده
…
على أصُول حميدة وأساس)
(ترَاهُ كَالْقَمَرِ الْمُنِير فِي غسق
…
من الدجى بَين أَصْحَاب وجلاس)
(غَدا يحدث والملا يصدقهُ
…
وَلَيْسَ يرتاب غير المائق الماس)
(دَعَا على المعتدي عتيبة فغدا
…
يَوْمًا بدعوته قَتِيل هماس)
(ورد عين قَتَادَة فَصَارَ بهَا
…
بعد الْعَمى ذَا تمقل وإيناس)
(وَالْمَاء من كَفه السمحاء سَالَ فكم
…
من وَارِد عذبه الروي وَكم حاسي)
(هُوَ الرَّسُول الَّذِي جمت فضائله
…
فَلَيْسَ تحصر أَو تحصى بأطراس)
(مديم ذكر فَإِن تذهل لواحظه
…
فالقلب لَيْسَ بذاهل وَلَا ناسي)
(فالأرض طاولت السَّمَاء قائلة
…
لخير رسل بِبَطن خير ارماس)
(كل النَّبِيين طرا لائذون بِهِ
…
كَمثل نوح وَيُونُس والياس)
(كَذَاك مُوسَى وَعِيسَى والخليل بِهِ
…
لدفع باس بِيَوْم الْحَشْر أباس)
(يَا أكْرم الْخلق يَا خير الورى شرفا
…
يَا من أَتَانَا بتطهير وتقداس)
(أشكوك دَاء أساي فأسه كرما
…
فَمَا لداء الأسى سواك من آسى)
(قسا الزَّمَان وَفِي قسم النوائب لم
…
يعدل فيا ويحه من قَاسم قاسي)
(لَكِن قصدتك والكريم قاصده
…
مَا أَن يرد بخيبة وَلَا يأس)
(وَقد توسلت للْمولى بجاهك أَن
…
يشد بالشرعة الْبَيْضَاء أمراسي)
(وَأَن يحسن أعمالي ومعتقدي
…
فِيهِ ويكشف بلبالي ووسواسي)
(وَأَن يعاملني بِالْعَفو عَن زللي
…
وَأَن يُبدل إقلالي بإقعاس)
(وَأَن يهيىء أَسبَاب السَّعَادَة لي
…
حَتَّى أُنِيخ بِذَاكَ الْبَيْت عرماسي)
(إِذْ قلت من أم طيبتي وَمَات بهَا
…
نَالَ الشَّفَاعَة فِي أهل وَفِي نَاس)
(صلى عَلَيْك إِلَه الْعَرْش مَا نفحت
…
نوافح الزهر من دوح وأخياس)
(صلى عَلَيْك إِلَه الْعَرْش مَا اعتصمت
…
بك الْخَلَائق من عَار وَمن كاس)
(صلى عَلَيْك إِلَه الْعَرْش مَا رمقت
…
بيض الْقَرَاطِيس يَوْمًا سود أنقاس)
(والآل مَا قَالَ نشوان بحبهم
…
أدر كؤوسك فالسراء فِي الكاس)
ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان أعزه الله من رِبَاط الْفَتْح فِي عَاشر جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف قَاصِدا مكناسة وَجعل طَرِيقه على زمور الشلح فَخَرجُوا إِلَيْهِ متذللين خاضعين متقربين إِلَيْهِ بالهدايا والضيافات فَضرب عَلَيْهِم الإتاوة والبعث فانقادوا ثمَّ دخل أعزه الله مكناسة ثامن عشر الشَّهْر الْمَذْكُور فَمَكثَ بهَا أَيَّامًا يسيرَة ثمَّ نَهَضَ إِلَى فاس فَمَكثَ بهَا أَيَّامًا يسيرَة كَذَلِك ريثما
اجْتمعت إِلَيْهِ الْجنُود وَخرج قَاصِدا بِلَاد وَجدّة وَبني يزناسن وَكَبِيرهمْ الْحَاج مُحَمَّد بن البشير بن مَسْعُود وَكَانَ خُرُوجه من فاس منتصف جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة فاجتاز بتازا وأناخ على قَبيلَة غياثة جاعلا الهضبة الْمَعْرُوفَة بِذِرَاع اللوز أَمَامه قبْلَة ووظف عَلَيْهِم الْمُؤْنَة قيل إِنَّه وظف عَلَيْهِم مائَة صَحْفَة من الْقَمْح وَالشعِير فدفعوا شَيْئا يَسِيرا وعجزوا وتعللوا بِأَن هَذَا الَّذِي جرت الْعَادة أَن يدفعوا للملوك من قبل وَكَانَت هَذِه الْقَبِيلَة لم يهجها هيج مُنْذُ قديم لتحصنهم بجبالهم وأوعارهم وَلَهُم استطالة على أهل تازا يركبونهم كل خسف فَظهر للسُّلْطَان أعزه الله قِتَالهمْ فَقَاتلهُمْ يَوْم الْخَمِيس أَوَاخِر الشَّهْر الْمَذْكُور واقتحم عَلَيْهِم حصنهمْ الْمَعْرُوف بالشقة وَهُوَ خَنْدَق بَين جبلين فِيهِ وَاد وعَلى حافتيه بناءات ودور فَحرق ذَلِك كُله وهدمه وانتسف مَا فِيهِ من قَمح وشعير وأدام وَغير ذَلِك وَقطع مِنْهُم رؤوسا يسيرَة وَلما كَانَ الْغَد وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس وَالْعشْرُونَ من الشَّهْر الْمَذْكُور ركب السُّلْطَان أيده الله وَركب مَعَه أهل الْمحلة إِلَّا قَلِيلا وَقدم المدافع والمهاريس أَمَامه واقتحم الشقة فَتَبِعَهُ النَّاس ودخلوا بِلَاد غياثة وتوسطوها وقاتلوا أَهلهَا فهزموهم وَالسُّلْطَان أَمَام الْجَيْش فِي موكبه فَسَار حَتَّى بلغ المداشر وَرمى عَلَيْهَا من الكور والبنب شَيْئا يَسِيرا وَكَانَت غياثة قد وضعت الكمائن على الأنقاب وشحنوها بالرماة وَتركُوا منفذا وَاحِدًا يُفْضِي إِلَى مهواة متلفة ذَات شقوق غامضة وأشجار شائكة وصخور متراكمة لَا يدْرك قعرها وَلَا يبصرها إِلَّا من وقف عَلَيْهَا وَلما وغل الْجَيْش فِي مَزَارِعهمْ ومداشرهم خرجت الكمائن من خَلفهم ورموهم عَن يَد وَاحِدَة بالرصاص فدهش النَّاس وتذكروا فعلهم الْقَدِيم من الانهزام عَن الْمُلُوك بِلَا مُوجب إِذْ لم يكن فِي شَوْكَة غياثة هَؤُلَاءِ وكثرتهم مَا ينهزم مِنْهُ ذَلِك الْجَيْش اللهام وَلَو تلبثوا يَسِيرا وقاوموهم لهزموهم فِي الْحَال كَمَا هزموهم أول مرّة وَلَكِن الْعَادة الْعَادة فَوَلوا مُدبرين لَا يلوون على شَيْء وتكاثر الرصاص على موكب السُّلْطَان حَتَّى سقط حَامِل الرَّايَة وجرح الْمولى عَرَفَة أَخُو السُّلْطَان وَقتل سَيِّدي مُحَمَّد بن الحبيب نقيب الْأَشْرَاف بالعدوتين وَأما الْجَيْش وقواده فَإِنَّهُم لما انْهَزمُوا صرفُوا وُجُوههم إِلَى المهواة
الَّتِي ذكرنَا وقصدوها على عمياء وَقد ارْتَفع دُخان البارود وغبار الْخَيل فتهافتوا فِيهَا تهافت الْفراش فِي النَّار لَا يعلم اللَّاحِق مَا وَقع بالسابق إِلَى أَن امْتَلَأت من الْخَيل وَالرِّجَال والأثاث وَمَا كَادَت وَكَانَ ذَلِك قَضَاء من الله وتمحيصا مِنْهُ فَهَلَك من النَّاس وَالْخَيْل مَا لَا يُحْصى وَبقيت أشلاؤهم ناشبة فِي تِلْكَ الأوعار تلوح مثل المجزرة وترجل السُّلْطَان أعزه الله عَن فرسه حَتَّى خلص من تِلْكَ الشقوق ثمَّ ركب وَاجْتمعَ النَّاس عَلَيْهِ وراجعوا بصائرهم بعد الكائنة ثمَّ انشمر غياثة بعْدهَا إِلَى رُؤُوس الْجبَال وَتركُوا المداشر والجنات فاقتحهما السُّلْطَان بعد يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة عَلَيْهِم فَلم يقف أَمَامه مِنْهُم أحد فعاث فِيهَا وحرقها وَجعلهَا حصيدا كَأَن لم تغن بالْأَمْس وَكتب أيده الله بذلك إِلَى الْآفَاق وَذكر فِي كِتَابه أَن الْخَيل وَالرُّمَاة قد انتسفوا بِلَادهمْ انتسافا ودوخوها أماما وخلفا حَتَّى أشرفوا على بِلَاد جيرانهم وأناخوا فِيهَا بكلكلهم وجرانهم ثمَّ توجه السُّلْطَان نَصره الله إِلَى نواحي وَجدّة فَانْتهى إِلَيْهَا أَوَائِل شعْبَان من السّنة فَتَلقاهُ بَنو يزناسن خاضعين تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم لكَوْنهم ثغرا من ثغور الْمُسلمين وعصبة تدخر لنصرة الدّين إِلَّا أَنه عزل عَنْهُم ولد البشير وَبعث بِهِ مسجونا إِلَى فاس وَولى عَلَيْهِم قوادا مِنْهُم من أهل الحزم والنجدة ووظف عَلَيْهِم قدرا صَالحا من المَال فشرعوا فِي دَفعه فِي الْحَال والتزموا رد مَا تعلق بذممهم من الْمَظَالِم وصلحت أَحْوَالهم واستقام أَمر تِلْكَ النَّاحِيَة وَلما قضى السُّلْطَان أعزه الله غَرَضه مِنْهَا قفل رَاجعا إِلَى فاس فَدَخلَهَا لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان الْمُعظم وَكتب بذلك إِلَى الْأَمْصَار يَقُول هَذَا وَقد كتبنَا لكم هَذَا بعد القفول من حركتنا السعيدة وحلولنا بحضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه بفاس بالفتوحات الجديدة والإنعامات المزيدة حُلُول عز وظفر وإسعاد وَنصر من لَدنه لم يكن بحيلة وَلَا استعداد وَذَلِكَ بعد الْفَرَاغ من تَرْتِيب تِلْكَ الْقَبَائِل وتطهيرها مِمَّا تعلق بهَا من الرذائل ونلنا بِفضل الله فِي هَذِه الْحَرَكَة من أثر الْخَيْر واليمن وَالْبركَة مَا أثلج الصُّدُور وحمدنا غبه فِي الْوُرُود والصدور وَتَركنَا أهل تِلْكَ النواحي وساكني جبالها والضواحي على أحسن مَا يكون صلاحا واطمئنانا وسلوكا للجادة المخزنية بِالْقَلْبِ والقالب سرا