الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حُدُوث الْفِتْنَة بَين السُّلْطَان يُوسُف وَابْن الْأَحْمَر واستيلاء الطاغية على طريف بمظاهرة ابْن الْأَحْمَر لَهُ عَلَيْهَا
لما قفل السُّلْطَان يُوسُف من الأندلس وَقد أبلغ فِي نكاية الْعَدو كَمَا قُلْنَا عظم على الطاغية أمره وثقلت عَلَيْهِ وطأته فشرع فِي إِعْمَال الْحِيلَة فِي الْإِفْسَاد بَينه وَبَين ابْن الْأَحْمَر وَكَانَ ابْن الْأَحْمَر يتخوف من السُّلْطَان يُوسُف أَن يغلبه على بِلَاده فخلص مَعَ الطاغية نجيا وتفاوضا فِي أَمر السُّلْطَان يُوسُف وَأَن تمكنه من الْإِجَازَة إِلَيْهِم إِنَّمَا هُوَ لقرب مَسَافَة بَحر الزقاق وانتظام ثغور الْمُسلمين حفافيه وَتصرف شوانيهم وسفنهم فِيهِ مَتى أَرَادوا فضلا عَن الأساطيل الجهادية وَأَن أم تِلْكَ الثغور هِيَ طريف وَأَنَّهُمْ إِذا استمكنوا مِنْهَا منعُوا السُّلْطَان من العبور وَكَانَت عينا لَهُم على الزقاق وَكَانَ أسطولهم بمرفئها رصدا لأساطيل صَاحب الْمغرب الخائضة لجة ذَلِك الْبَحْر فاعتزم الطاغية على منازلة طريف وَبهَا يَوْمئِذٍ مسلحة بني مرين وتكفل لَهُ ابْن الْأَحْمَر بمظاهرته على ذَلِك وَالْتزم لَهُ بالمدد والميرة للعسكر أَيَّام منازلتها على أَن تكون لَهُ إِن خلصت للطاغية وتعاهدوا على ذَلِك وأناخ الطاغية بعساكر النَّصْرَانِيَّة على طريف وألح عَلَيْهَا بِالْقِتَالِ وَنصب الْآلَات من المجانيق والعرادات وأحاط بهَا برا وبحرا وَانْقطع المدد والميرة عَن أَهلهَا وحالت أساطيل الْعَدو بَينهم وَبَين صريخ السُّلْطَان واضطرب ابْن الْأَحْمَر مُعَسْكَره بمالقة قَرِيبا من عَسْكَر الطاغية وسرب إِلَيْهِ المدد من الرِّجَال وَالسِّلَاح والميرة وأصناف الأقوات وَبعث عسكرا لمنازلة حصن إسطبونة فتغلب عَلَيْهِ بعد مُدَّة من الْحصار واتصلت هَذِه الْحَال أَرْبَعَة أشهر حَتَّى أصَاب أهل طريف الْجهد ونال مِنْهُم الْحصار فراسلوا الطاغية فِي الصُّلْح وَالنُّزُول عَن الْبَلَد فَصَالحهُمْ واستنزلهم وتملكها آخر يَوْم من شَوَّال سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة ووفى لَهُم بِمَا عاهدهم عَلَيْهِ واستشرف ابْن الْأَحْمَر إِلَى تجافي الطاغية لَهُ عَنْهَا حَسْبَمَا تعاهدا عَلَيْهِ فَأَعْرض عَن ذَلِك واستأثر بهَا بعد أَن كَانَ نزل لَهُ عَن سِتَّة من الْحُصُون عوضا عَنْهَا فَخرج من يَده الْجَمِيع وَلم
يحصل على طائل فَكَانَت حَاله فِي ذَلِك كَحال صَاحِبَة النعامة الْمَضْرُوب بهَا الْمثل عِنْد الْعَرَب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
ثورة عمر بن يحيى بن الْوَزير الوطاسي بحصن تازوطا
اعْلَم أَن بني وطاس فَخذ من بني مرين لكِنهمْ لَيْسُوا من بني عبد الْحق وَكَانَت الرياسة فيهم لبني الْوَزير مِنْهُم وَبَنُو الْوَزير يَزْعمُونَ أَن نسبهم دخيل فِي مرين وَأَنَّهُمْ من أعقاب يُوسُف بن تاشفين اللمتوني لَحِقُوا بالبادية ونزلوا على بني وطاس فالتحموا بهم ولبسوا جلدتهم وحازوا رياستهم وَلما دخل بَنو مرين الْمغرب واقتسموا أَعماله كَمَا قدمنَا بقيت بِلَاد الرِّيف خَالِصَة لبني وطاس هَؤُلَاءِ فَكَانَت ضواحيها لنزولهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم وَكَانَ حصن تازوطا بهَا من أمنع معاقل الْمغرب وَلما غلب الْأَمِير أَبُو بكر بن عبد الْحق على مكناسة وَأقَام فِيهَا دَعْوَة الحفصيين ونهض السعيد بن الْمَأْمُون الموحدي من مراكش لغزوه فر أَمَامه إِلَى حصن تازوطا هَذَا وَنزل بِهِ على بني الْوَزير هَؤُلَاءِ لاجئا إِلَيْهِم ومستجيرا بهم فأرادوا الفتك بِهِ غيرَة مِنْهُ وحسدا لَهُ فشعر بهم وتحول عَنْهُم إِلَى عين الصَّفَا من بِلَاد بني يزناسن حَسْبَمَا تقدم ذَلِك كُله
وَلما انقرض أَمر بني عبد الْمُؤمن واستقام ملك الْمغرب لبني مرين صرفُوا عنايتهم إِلَى هَذَا الْحصن فَكَانُوا ينزلون بِهِ من الحامية من يثقون بغنائه واضطلاعه ليَكُون آخِذا بناصية هَؤُلَاءِ الرَّهْط من بني وطاس لما يعلمُونَ من سموهم إِلَى الرياسة وتطلعهم إِلَيْهَا وَكَانَ السُّلْطَان يُوسُف رحمه الله قد عقد على هَذَا الْحصن لِابْنِ أَخِيه مَنْصُور بن عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب وَكَانَ عمر وعامر ابْنا يحيى ابْن الْوَزير رئيسين على بني وطاس لذَلِك الْعَهْد فاستهونوا أَمر السُّلْطَان يُوسُف بعد موت وَالِده وَحَدثُوا أنفسهم بالثورة فِي ذَلِك الْحصن والاستبداد بِتِلْكَ النَّاحِيَة فَوَثَبَ عمر بن يحيى مِنْهُم بمنصور بن عبد الْوَاحِد فِي شعْبَان من سنة إِحْدَى وَتِسْعين
وسِتمِائَة وفتك بحاشيته وَرِجَاله وأزعجه عَن الْحصن وغلبه على مَا كَانَ بقصره من مَال وَسلَاح ومتاع وأعشار للروم كَانَت مختزنة هُنَالك وَضبط الْحصن وشحنه بِرِجَالِهِ ووجوه قومه وَلحق مَنْصُور بن عبد الْوَاحِد بِعَمِّهِ السُّلْطَان يُوسُف فَهَلَك لليال أسفا على مَا أَصَابَهُ
وسرح السُّلْطَان يُوسُف وزيره الناصح أَبَا عمر بن السُّعُود بن خرباش الحشمي بِالْحَاء الْمُهْملَة فِي العساكر لمنازلة حصن تازوطا فَأَنَاخَ عَلَيْهِ بكلكله ثمَّ تبعه السُّلْطَان يُوسُف على أَثَره وَفِي صحبته عَامر بن يحيى بن الْوَزير أَخُو عمر الثائر فَإِنَّهُ كَانَ قد نزع إِلَيْهِ فأحاط السُّلْطَان بالحصن وضيق عَلَيْهِ حَتَّى اشفق عمر لشدَّة الْحصار ويئس من الْخَلَاص وَظن أَنه قد أحبط بِهِ فَدس إِلَى أَخِيه عَامر فِي كشف مَا نزل بِهِ فضمن عَامر للسُّلْطَان يُوسُف نزُول أَخِيه إِن هُوَ تَركه يصعد إِلَيْهِ حَتَّى يجْتَمع بِهِ فَأذن لَهُ السُّلْطَان يُوسُف فِي ذَلِك فَصَعدَ إِلَيْهِ وتفاوضا فِي أَمرهمَا وَآخر الْأَمر أَن عمر احْتمل الذَّخِيرَة وفر لَيْلًا الى تلمسان وبدا لعامر فِي النُّزُول عِنْدَمَا صَار فِي الْحصن فَامْتنعَ بِهِ قيل لِأَنَّهُ بلغه أَن السُّلْطَان يُوسُف عزم على قَتله أخذا بثار ابْن أَخِيه مَنْصُور ولإفلاته أَخَاهُ من يَده
وَاسْتمرّ على ذَلِك إِلَى أَن قدم على السُّلْطَان يُوسُف وَفد الأندلس وَفِيهِمْ الرئيس أَبُو سعيد فرج بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر صَاحب مالقة رَاغِبًا فِي الصُّلْح مَعَ ابْن عَمه ومعتذرا عَنهُ فأرسى أساطيله بمرسى غساسة وَنزل إِلَى السُّلْطَان وَقدم بَين يَده هَدِيَّة تناسب الْحَال فَسمع بهم عَامر الوطاسي وَهُوَ فِي الْحصن فَبعث إِلَيْهِم يسألهم الشَّفَاعَة لَهُ عِنْد السُّلْطَان يُوسُف لوجاهتهم لَدَيْهِ فشفع لَهُ الرئيس أَبُو سعيد فَقبل السُّلْطَان يُوسُف شَفَاعَته بِشَرْط أَن ينْتَقل بحاشيته إِلَى المرسى وَركب أَكْثَرهم الأسطول وَتَأَخر عَامر إِلَى جَوف اللَّيْل فَنزل من الْحصن وخاض الفلاة إِلَى تلمسان فتبعت الْخَيل أَثَره ففاتهم وأدركوا وَلَده أَبَا الْخَيل فجيء بِهِ إِلَى السُّلْطَان يُوسُف فَبعث بِهِ إِلَى فاس فَضربت عُنُقه وصلب
هُنَالك وَأنزل السُّلْطَان يُوسُف بَقِيَّة الْحَاشِيَة من الأسطول فَأمر بهم فاستلحموا مَعَ من كَانَ من بالحصن من أتباعهم وقرابتهم وذرياتهم وتملك السُّلْطَان يُوسُف حصن تازوطا وَأنزل بِهِ عماله ومسلحته وقفل إِلَى حَضرته بفاس أخر جُمَادَى الأولى من سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة
وَلما كَانَ السُّلْطَان نازلا على تازوطا قدم عَلَيْهِ رجل من فرنج جنوة بهدية جليلة فِيهَا شَجَرَة مموهة بِالذَّهَب عَلَيْهَا أطيار تصوت بحركات هندسية مثل مَا صنع للمتوكل العباسي وَفِي هَذِه الْمدَّة سعي عِنْد السُّلْطَان يُوسُف بأولاد الْأَمِير أبي بكر بن عبد الْحق وَأَنَّهُمْ أَرَادوا الْخُرُوج عَلَيْهِ فحقد عَلَيْهِم لذَلِك وأحسوا بِالشَّرِّ فَفرُّوا إِلَى تلمسان وَأَقَامُوا هُنَالك إِلَى أَن بعث السُّلْطَان يُوسُف إِلَيْهِم بالأمان فَأَقْبَلُوا حَتَّى إِذا كَانُوا بصبرة من نَاحيَة ملوية اعْتَرَضَهُمْ الْأَمِير أَبُو عَامر عبد الله ابْن السُّلْطَان يُوسُف فاستلحمهم أَجْمَعِينَ وَهُوَ يرى أَنه قد أرْضى أَبَاهُ بذلك الْفِعْل واتصل الْخَبَر بالسلطان يُوسُف فسخطه وأقصاه وتبرأ مِنْهُ فَلم يزل طريدا بِبِلَاد الرِّيف وجبال غمارة إِلَى أَن هلك ببني سعيد مِنْهُم آخر سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة وَحمل إِلَى فاس فَدفن بالزاوية الَّتِي دَاخل بَاب الْفتُوح وَخلف ثَلَاثَة أَوْلَاد عَامر وَسليمَان وَدَاوُد فكفلهم جدهم السُّلْطَان يُوسُف إِلَى أَن هلك فولي الْأَمر بعده حافده عَامر وَبعد عَامر سُلَيْمَان وَسَيَأْتِي ذكرهمَا إِن شَاءَ الله
انْعِقَاد الصُّلْح بَين السُّلْطَان يُوسُف وَابْن الْأَحْمَر ووفادته عَلَيْهِ بطنجة
لما استولى الطاغية على طريف بمظاهرة ابْن الْأَحْمَر لَهُ عَلَيْهَا وَنقض الطاغية عهد ابْن الْأَحْمَر فِي النُّزُول لَهُ عَنْهَا سقط فِي يَد ابْن الْأَحْمَر وَنَدم على فعله وَرجع إِلَى التَّمَسُّك بالسلطان يُوسُف فأوفد عَلَيْهِ ابْن عَمه الرئيس أَبَا سعيد فرج بن إِسْمَاعِيل ووزيره أَبَا سُلْطَان عَزِيز الداني فِي وَفد من أهل حَضرته لتجديد الْعَهْد وتأكيد الْمَوَدَّة وَتَقْرِير المعذرة عَن شَأْن طريف فوافوه
بمكانه من حِصَار تازوطا كَمَا قدمنَا فأبرموا العقد وأحكموا الصُّلْح وَانْصَرفُوا إِلَى ابْن الْأَحْمَر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة بإسعاف غَرَضه من المؤاخاة واتصال الْيَد فَوَقع ذَلِك مِنْهُ أجمل موقع وطار سُرُورًا من أعواده وَأجْمع الرحلة إِلَى السُّلْطَان لإحكام العقد والاستبلاغ فِي الْعذر عَن وَاقعَة طريف وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ فِي نَصره بِلَاد الأندلس وإغاثة الْمُسلمين الَّذين بهَا فتهيأ لذَلِك وَعبر الْبَحْر فِي ذِي الْقعدَة من سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة واحتل بجبل بيونش من نَاحيَة سبتة ثمَّ ارتحل إِلَى طنجة فَلَقِيَهُ بهَا الأميران أَبُو عَامر عبد الله وَأَبُو عبد الرَّحْمَن يَعْقُوب ابْنا السُّلْطَان يُوسُف وَكَانَ أَبُو عَامر لَا زَالَ يَوْمئِذٍ من أَبِيه بِعَين الرِّضَا
وَلما علم السُّلْطَان يُوسُف بقدومه خرج من فاس للقائه وبرور مقدمه فوافاه بطنجة فَقدم ابْن الْأَحْمَر بَين يَدي نَجوَاهُ هَدِيَّة أتحف بهَا السُّلْطَان يُوسُف كَانَ من أحْسنهَا موقعا لَدَيْهِ الْمُصحف الْكَبِير الَّذِي يُقَال إِنَّه مصحف أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه كَانَ بَنو أُميَّة يتوارثونه بقرطبة ثمَّ خلص إِلَى ابْن الْأَحْمَر فأتحف بِهِ السُّلْطَان يُوسُف فِي هَذِه الْمرة فَقبل السُّلْطَان ذَلِك وكافأه بأضعافه وَبَالغ فِي تكرمته وأسعفه بِجَمِيعِ مطالبه وَأَرَادَ ابْن الْأَحْمَر أَن يبسط الْعذر عَن شَأْن طريف فتجافى السُّلْطَان يُوسُف عَن سَماع ذَلِك وأضرب عَن ذكره صفحا وبر وأحفى وَوصل وأجزل وَنزل لِابْنِ الْأَحْمَر عَن الجزيرة ورندة والغربية وَعشْرين حصنا من ثغور الأندلس كَانَت قبل فِي ملكته وملكة أَبِيه وَعَاد ابْن الْأَحْمَر إِلَى أندلسه آخر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وسِتمِائَة محبوا محبورا وعبرت مَعَه عَسَاكِر السُّلْطَان يُوسُف لحصار طريف ومنازلته وَعقد على حربها لوزيره الشهير الذّكر عمر بن السُّعُود بن خرباش الحشمي فنازلها مُدَّة فامتنعت عَلَيْهِ وَأَفْرج عَنْهَا
وَفِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين بعْدهَا فرغ السُّلْطَان يُوسُف من بِنَاء جَامع تازا
مسالمته أَجنَاس النَّصَارَى كلهم إِلَّا المسكوب فَإِنَّهُ لم يسالمه لمحاربته للسُّلْطَان العثماني وَلَقَد وَجه رسله وهديته إِلَى طنجة فَردهَا السُّلْطَان رحمه الله وأبى من مسالمته ووظف على الْأَجْنَاس الْوَظَائِف فالتزموها وَكَانُوا يؤدونها كل سنة وَاسْتمرّ ذَلِك من بعده إِلَى أَن انْقَطع فِي هَذِه السنين الْمُتَأَخِّرَة وَكَانُوا يستجلبون مرضاته بالهدايا والألطاف وكل مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ وَمهما كتب إِلَى طاغية فِي أَمر سارع إِلَيْهِ وَلَو كَانَ محرما فِي دينه ويحتال فِي قَضَاء الْأَغْرَاض مِنْهُم بِكُل وَجه أَحبُّوا أم كَرهُوا وَكَانَ أعظم طواغيتهم طاغية النجليز وطاغية الفرنسيس فَكَانَا يأنفون من أَدَاء الضريبة عَلَانيَة مثل غَيرهم من الْأَجْنَاس فَكَانَ رحمه الله يستخرجها مِنْهُم وَأكْثر مِنْهَا بِوَجْه لطيف وَكَانَ لَهُ عدَّة أَوْلَاد أكبرهم أَبُو الْحسن عَليّ والمأمون وَهِشَام وَعبد السَّلَام هَؤُلَاءِ لربة الدَّار المولاة فَاطِمَة بنت عَمه سُلَيْمَان بن إِسْمَاعِيل ثمَّ عبد الرَّحْمَن أمه حره هوارية من هوارة السوس ثمَّ يزِيد ومسلمة أمهما علجة من سبي الإصبنيول ثمَّ الْحسن وَعمر أمهما حرَّة من الأحلاف ثمَّ عبد الْوَاحِد أمه حرَّة من أهل رِبَاط الْفَتْح ثمَّ سُلَيْمَان وَالطّيب ومُوسَى لحرة من الأحلاف أَيْضا ثمَّ الْحسن وَعبد الْقَادِر لحرة من الأحلاف أَيْضا ثمَّ عبد الله لحرة من عرب بني حسن ثمَّ إِبْرَاهِيم لعلجة رُومِية
وَمِمَّا مدح بِهِ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمه الله من الشّعْر أرجوزة الأديب البليغ أبي الْعَبَّاس أَحْمد الونان الْمَعْرُوفَة بالشمقمقبية الَّتِي يَقُول فِي مطْلعهَا
(مهلا على رسلك حادي الأينق
…
وَلَا تكلفها بِمَا لم تطق)
وَهَذِه الأرجوزة مَشْهُورَة بَين النَّاس وَهِي من الشّعْر الْفَائِق وَالنّظم البديع الرَّائِق أبان منشئها عَن بَاعَ كَبِير وإطلاع غزير على أَخْبَار الْعَرَب وأيامها وَحكمهَا وأمثالها بِحَيْثُ أَن من حفظهَا وَعرف مقاصدها أغنته عَن غَيرهَا من كتب الْأَدَب وَقد كنت فِي أَيَّام التعاطي اعتنيت بتصحيح ألفاظها والتتبع لأخبارها وأمثالها والتنقير عَن تلميحاتها وتلويحاتها حَتَّى فضضت ختامها واستوعبت مبدأها وتمامها ثمَّ شرعت فِي كِتَابَة شرح عَلَيْهَا يُحِيط بمعانيها
ويستوعب دقائق مبانيها فَكتبت مِنْهُ نَحْو أَرْبَعَة كراريس ثمَّ عاقت الأقدار عَن إِتْمَامه نَسْأَلهُ سبحانه وتعالى أَن يصرف عَنَّا الْعَوَائِق فِيمَا ينفعنا فِي ديننَا ودنيانا ويحفنا بالسعادة الدُّنْيَوِيَّة والأخروية فِي متقلبنا ومثوانا إِنَّه ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ
وَمن وزراء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمه الله الْوَزير الشهير أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ قادوس الْمَدْعُو أفاندي كَانَ من موَالِي السُّلْطَان وغرس نعْمَته وربي دولته وَأَصله من أعلاج الإصبنيول وَكَانَ شعلة من الذكاء والفطنة وركنا شَدِيدا من أَرْكَان الدولة المحمدية فِي حسن التَّدْبِير والحزم الَّذِي لَا يعزب عَنهُ من أُمُور الحضرة قَلِيل وَلَا كثير وَقد أدْرك من فخامة الجاه وضخامة الرياسة غَايَة تفرد بهَا فِي وقته بِحَيْثُ كَانَت الأعاظم من وُجُوه الدولة تقف بِبَابِهِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة فَلَا يَتَيَسَّر لَهُم لقاؤه
وَلما توفّي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله امتحن الْمولى يزِيد هماما الْوَزير فِي جملَة من امتحنه من أهل مراكش كَمَا سَيَأْتِي
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى يزِيد بن مُحَمَّد وأوليته ونشأته رحمه الله
كَانَ الْمولى يزِيد هَذَا عِنْد وَالِده رحمه الله بِعَين الْعِنَايَة ملحوظا وَمن النقائص محروسا ومحفوظا وَكَانَ عَامَّة أهل الْمغرب وخاصتهم من الْجند والرعية متشوفين لَهُ ومغتبطين بِهِ يهتفون باسمه ويلهجون بِذكرِهِ لما كَانَ عَلَيْهِ من الْكَرم والشجاعة والتمسك بمذاهب الفتوة وَالدّين والاعتناء بجوائز أهل الْبَيْت ومحبة أهل الْخَيْر وإكرامهم وَإِقَامَة الصَّلَوَات لأوقاتها حضرا وسفرا لَا يشْغلهُ عَن ذَلِك شاغل فأصابته عين الْكَمَال وَصَارَ ينْتَقل من حَال إِلَى حَال حَتَّى خالطته جمَاعَة من الأغمار كَانُوا فِي خدمته فلزموه وحسنوا لَهُ الاستبداد على وَالِده وَالْخُرُوج عَلَيْهِ وأتوه من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه حَتَّى وقر ذَلِك فِي صَدره وارتسم فِيهِ وَكَانَ ذَلِك على حِين أَوَان الشبيبة وَأَخذهَا
مِنْهُ مأخذها وَكَانَت همته طماحة لَا تقف بِهِ عِنْد غَايَة فاستعجل الْأَمر قبل أَوَانه وَخرج على وَالِده بجبش العبيد حَسْبَمَا مر ولسان حَاله ينشد
(فَإِن يَك عَامر قد قَالَ جهلا
…
فَإِن مَظَنَّة الْجَهْل الشَّبَاب)
فَسَقَطت مَنْزِلَته عِنْد أَبِيه بعد أَن بلغ من الحظوة لَدَيْهِ مَا بلغ وَكَانَ يرشحه للخلافة ويقمه على كبار إخْوَته لما ظهر لَهُ من نجدته واقتداره وجوده فِي مَحل الْجُود ورغبته فِي الْجِهَاد وولوعه بصناعة الرَّمْي بالمهراس فأسند إِلَيْهِ أَمر الطبجية والبحرية وَصَارَ يوجهه مَعَ الرؤساء والطبجية إِلَى الثغور كل سنة ليقف على الملازمين لصقائلها وأبراجها وَيُعلمهُم مَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تعلمه وَلما رَآهُ وَالِده مغتبطا بذلك وتوسم فِيهِ النجابة أقبل عَلَيْهِ بالعطاء ثمَّ ولاه الْكَلَام مَعَ قناصل الْأَجْنَاس الَّذين بالمراسي واستنابة فِي ذَلِك
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف ولاه السُّلْطَان على قَبيلَة كروان وهم يَوْمئِذٍ أعظم قبائل البربر خيلا ورجالا فأسند إِلَيْهِ أَمرهم وَتقدم إِلَيْهِ فِي أَن يَكفهمْ عَن الْحَرْب مَعَ آيت أدراسن فَسَار إِلَيْهِم واغتبطوا بِهِ واغتبط بهم وَصَارَ أحداثهم وَأَبْنَاء أعيانهم يركبون مَعَه للصَّيْد فغمرهم بالعطاء وأنعم عَلَيْهِم بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح والكسي ولزموا مَجْلِسه حَتَّى أفسدوا قلبه وحسنوا لَهُ الانتزاء على الْملك وَقَالُوا هَذَا بَيت المَال الَّذِي بقبة الخياطين هُوَ فِي يدك وَلَيْسَ دونه مَانع وَبِه يقوم ملكك وَمَتى استدعيت إِخْوَاننَا آيت ومالو لم يتوقفوا عَنْك طرفَة عين وَلَا يقوم لَهُم شَيْء من الْجند وَغَيره وَلم يزَالُوا يفتلون لَهُ فِي الذرْوَة وَالْغَارِب حَتَّى شرهت نَفسه وَصَارَ لَا حَدِيث لَهُ إِلَّا فِي ذَلِك واطلع على ذَلِك قَائِد الودايا أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن الْخضر وَكَانَ محبا فِي جَانب السُّلْطَان صَادِق الْخدمَة وَالطَّاعَة لَهُ فَكتب إِلَيْهِ بِمَا عَلَيْهِ وَلَده مَعَ جروان وَأَنَّهُمْ يأْتونَ إِلَيْهِ بِالْمِائَةِ والمائتين ويبيتون عِنْده بالقصبة وَنحن خفنا أَن يبرز من ولدك أَمر فتعاقبنا عَلَيْهِ فأخبرناك بالواقع
وَلما وصل كِتَابه إِلَى السُّلْطَان بعث للحين قائده الْعَبَّاس البُخَارِيّ فِي مائَة من الْخَيل للقبض على الْمولى يزِيد وَأَصْحَابه وَقد قُلْنَا لَك أَن الْجند والرعية مَعًا كَانُوا مغتبطين بالمولى يزِيد فَلَمَّا وصل الْقَائِد الْعَبَّاس إِلَى سلا دس إِلَى الْمولى يزِيد أَنه مَقْبُوض فلينج بِنَفسِهِ فَخرج الْمولى يزِيد من مكناسة لَيْلًا فِي خاصته وَأَصْحَابه من جروان وقصدوا آيت ومالو وَلما وصل الْقَائِل الْعَبَّاس إِلَى مكناسة ألفاها مقفرة من الْمولى يزِيد وشيعته فَأَقَامَ بهَا وَكتب إِلَى السُّلْطَان يُعلمهُ بالْخبر فَبعث السُّلْطَان إِلَى الْمولى يزِيد كَاتبه أَبَا عُثْمَان سعيد الشليخ فَقدم عَلَيْهِ بزاوية آيت إِسْحَاق لِأَنَّهُ لم يجد من قبائل آيت ومالو إِلَّا مهاوش وشقيرين فتجاوزهم إِلَى الزاوية الْمَذْكُورَة وَلما أَتَاهُ أَبُو عُثْمَان الْمَذْكُور بِكِتَاب وَالِده وأمانه سَار مَعَه إِلَى مراكش وَلما وصل إِلَيْهَا دخل ضريح أبي الْعَبَّاس السبتي فاحترم بِهِ ثمَّ عَفا عَنهُ السُّلْطَان وَاجْتمعَ بِهِ فتنصل مِمَّا رمي بِهِ وَنسب ذَلِك إِلَى سُفَهَاء جروان وَأَنه لم يوافقهم على ذَلِك فأضمر السُّلْطَان الْإِيقَاع بهم وَلما قدم من مراكش سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف قصدهم بالكريكرة وأوقع بهم وَقتل مِنْهُم نَحْو الْخَمْسمِائَةِ حَسْبَمَا مر وَأنزل الْمولى يزِيد مَعَ أَخَوَيْهِ الْمولى عَليّ وَالْمولى عبد الرَّحْمَن بفاس فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ حدثت حَرْب بَينه وَبَين أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن بوسط فاس الْعليا وَهلك فِيمَا بَينهمَا عدد وَبلغ خبر ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فَقدم مكناسة وَبعث من يقبض عَلَيْهِمَا فَقبض على الْمولى عبد الرَّحْمَن وَأَصْحَابه وفر الْمولى يزِيد إِلَى ضريح الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر بزرهون فَأتى بِهِ الْأَشْرَاف إِلَى وَالِده فسامحه ثمَّ سرح الْمولى عبد الرَّحْمَن وَسَأَلَ عَن أَحْوَال أَصْحَاب الْأَخَوَيْنِ مَعًا ثمَّ عرف صَالحهمْ من طالحهم فَأخْرجهُمْ من السجْن وَقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف وَكَانُوا ثَلَاثِينَ رجلا وسرح البَاقِينَ وَنقل الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى مكناسة وَترك الْمولى يزِيد بفاس ثمَّ إِن الْمولى عبد الرَّحْمَن كَانَ يسابق يَوْمًا فِي الميدان ويلعب بالبارود فَقتل رجلا من بني مطير فجَاء إخْوَته إِلَى
قائدهم مُحَمَّد بن مُحَمَّد واعزيز فَأدى دِيَته من عِنْده وعفوا وَكتب عَلَيْهِم سجلا بذلك وسكنت الهيعة فاتفق أَن وَجه السُّلْطَان قائده الْعَبَّاس إِلَى مكناسة لقتل أنَاس كَانُوا بسجن مكناسة فَلَمَّا سمع بِهِ الْمولى عبد الرَّحْمَن ظن أَنه قدم فِي شَأْن المطيري الْمَقْتُول وَأَن خَبره قد بلغ السُّلْطَان ففر من مكناسة لَيْلًا إِلَى وَجدّة ثمَّ إِلَى تلمسان واتصل خبر فراره بالسلطان فَسَأَلَ عَن السَّبَب فَأخْبرهُ الْقَائِد الْعَبَّاس بالواقع فَبعث إِلَيْهِ الْأمان فَلم يَثِق ثمَّ سَار إِلَى تلمسان إِلَى سجلماسة فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان من يُؤمنهُ وَيَأْتِي بِهِ إِلَيْهِ فَلم يَثِق وفر إِلَى السوس فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان أَمَانًا إِلَى السوس ففر إِلَى الْقبْلَة وَأقَام يتَرَدَّد فِي قبائلها إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان رحمه الله فجَاء إِلَى تارودانت فَأَقَامَ بهَا وَطلب الْأَمر فَلم يتم لَهُ أَمر وَمَات رحمه الله وَأما الْمولى يزِيد فَإِنَّهُ أَقَامَ بفاس إِلَى أَن استدعاه وَالِده للقدوم عَلَيْهِ بمراكش فَقدم عَلَيْهِ
ثمَّ اتّفق قيام العبيد على السُّلْطَان بِسَبَب الإدالة الَّتِي أَمرهم بتوجيهها إِلَى طنجة حَسْبَمَا مر فَبعث الْمولى يزِيد لإصلاحهم وردهم عَن غيهم فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم استفزوه بقَوْلهمْ وحركوا مِنْهُ مَا كَانَ سَاكِنا وَاسْتَخْرَجُوا مَا كَانَ كامنا فَبَايعُوهُ وخطبوا بِهِ حَسْبَمَا مر الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى وانحرف قدور بن الْخضر بالودايا عَنهُ وَلما فتح الْمولى يزِيد بَيت المَال وَأعْطى العبيد بعث إِلَى الودايا بعطائهم يستهويهم بِهِ وَكَانَ شَيْئا كثيرا فَردُّوهُ عَلَيْهِ وانضم مُحَمَّد واعزيز فِي بربره إِلَى الودايا فقصدهم الْمولى يزِيد والتقوا بالمشتهى من مكناسة فهزموه وَقتل من العبيد مَا ينيف على الْخَمْسمِائَةِ ثمَّ قدم السُّلْطَان فِي العساكر وجموع الْقَبَائِل ففر الْمولى يزِيد إِلَى زرهون فَتَبِعَهُ السُّلْطَان وزار الْمولى إِدْرِيس رضي الله عنه فشفع لَهُ الْأَشْرَاف الأدارسة فِيهِ فَقبل شفاعتهم وَعَفا عَنهُ حَسْبَمَا مر ثمَّ بعد هَذَا بَعثه إِلَى الْمشرق وَصدر مِنْهُ بِمَكَّة فِي حق شيخ الركب مَا صدر فَكَانَت تِلْكَ الفعلة هِيَ الْمُخَالفَة وَبهَا تَبرأ السُّلْطَان مِنْهُ ثمَّ قفل من الْمشرق سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَألف والتجأ إِلَى ضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش إِلَى أَن توفّي وَالِده حَسْبَمَا قَصَصنَا عَلَيْك من قبل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
وَفِي هَذِه السّنة انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان وَبَين النجليز وَهِي قِسْمَانِ قسم فِي أُمُور التِّجَارَة وَبَيَان الصاكة والأعشار وَأَن لَا تُعْطى من أَعْيَان السّلع إِلَّا إِذا أَرَادَ التَّاجِر ذَلِك عَن طيب نَفسه وَهِي خَمْسَة عشر شرطا وَقسم فِي أُمُور الْهُدْنَة بشمول الْأَمْن والاحترام لرعيتي الْجَانِبَيْنِ فِي أَي مَوضِع كَانُوا وَهِي ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ شرطا وَكَانَ الْمُبَاشر لعقدها أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْخَطِيب التطاوني بطنجة
بعث السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن أَوْلَاده إِلَى الْحجاز وَمَا اتّفق لَهُم فِي ذَلِك
وَفِي سنة أَربع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف بعث السُّلْطَان رحمه الله أَوْلَاده إِلَى الْحجاز بِقصد أَدَاء فَرِيضَة الْحَج وهم الْمولى عَليّ وَالْمولى إِبْرَاهِيم وَالْمولى عبد الله وَالْمولى جَعْفَر وَابْن عمهم الْمولى أَبُو بكر بن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن عبد الله وَبَالغ السُّلْطَان رحمه الله فِي حسن تجهيزهم بِمَا لم يتَقَدَّم مثله لإخوتهم الَّذين حجُّوا قبلهم لَا من الْأَمْوَال وَلَا من الرِّجَال وَلَا من الأدوات والمراكب الفارهة والمرافق العديدة وَبعث مَعَهم من الْأَمْوَال شَيْئا كثيرا لأشراف الْحَرَمَيْنِ ولخواص مُعينين من الْفُقَهَاء والمجاورين وَوجه أكَابِر التُّجَّار والأمناء العارفين بعوائد الْبِلَاد والأقاليم والأمم مثل الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج أَحْمد الرزيني التطاوني والحاج مُحَمَّد بن جنان البارودي التلمساني وَبعث مَعَهم قَاضِي مكناسة الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد الْمهْدي بن الطَّالِب بن سَوْدَة المري الفاسي وأخاه الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد أَحْمد بن سَوْدَة فِي جملَة من الْفُقَهَاء يقرؤون عَلَيْهِم
أَخْبرنِي الْحَاج عبد الْكَرِيم بن الْحَاج أَحْمد الرزيني وَهُوَ أَخُو الْحَاج مُحَمَّد الْمَذْكُور آنِفا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رحمه الله لما عزم على بعث أَوْلَاده إِلَى الْحجاز استدعى الْأمين الْحَاج مُحَمَّد الْمَذْكُور فَدخل عَلَيْهِ
فَأَوْصَاهُ بِمَا تنبغي الوصاة بِهِ وَأخْبرهُ أَن المَال الَّذِي عينه للنَّفَقَة على الْأَوْلَاد الْمَذْكُورين هِيَ نَفَقَة جمعت من حَلَال بَعْضهَا من أصُول بتافيلالت وَبَعضهَا من غَيرهَا مِمَّا هُوَ حَلَال وَقَالَ لَهُ احتفظ بذلك المَال وَاجعَل السخاء فِيهِ بِمَنْزِلَة الْملح فِي الطَّعَام اه وَلما عزم الْأَوْلَاد الْمَذْكُورين على الِانْفِصَال إِلَى وجهتهم أصحبهم السُّلْطَان رحمه الله وَصِيَّة كَافِيَة يَقُول فِيهَا مَا نَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَوْلَادنَا عبد الله وَإِبْرَاهِيم وعليا وَأَبا بكر وجعفرا وفقنا الله وَإِيَّاكُم للْعَمَل بِطَاعَتِهِ وحفظكم وأرشدكم وتولاكم وَكَانَ لكم فِي سَائِر أحوالكم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإِنَّهُ لما كَانَت الْأَوْلَاد قطع الأكباد وعماد الظُّهُور وثمار الْقُلُوب وشفاء الصُّدُور وَجب أَن يكون لَهُم الْآبَاء السَّمَاء الظليلة والسحابة المنيلة وَخير الْآبَاء للأبناء مَا لم تَدعه الْمَوَدَّة للتفريط فِي الْحُقُوق وَخير الْأَبْنَاء للآباء مَا لم يَدعه التَّقْصِير إِلَى الْمُخَالفَة والعقوق قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْأَوْلَاد من رياحين الْجنَّة وَقَالَ الْقَائِل
(وَإِنَّمَا أَوْلَادنَا بَيْننَا أكبادنا
…
تمشي على الأَرْض)
(إِن هبت الرّيح على بَعضهم
…
تمْتَنع الْعين من الغمض)
هَذَا وَإِن أولى مَا زود بِهِ وَالِد وَلَده وَصِيَّة يتخذها فِي سَفَره إِمَامه ومعتمده فاعلموا أَنا وجهناكم لحج بَيت الله الْحَرَام وزيارة قبر نبيه عليه الصلاة والسلام واستودعناكم الله الَّذِي لَا تضيع ودائعه فاقدروا قدر هَذِه الوجهة الَّتِي قصدتموها واعرفوا حق هَذِه الْعِبَادَة الَّتِي يممتموها فتوجهوا لَهَا بِحسن النِّيَّة راجين من الله سُبْحَانَهُ بُلُوغ الْقَصْد والأمنية وأوصيكم بتقوى الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى وَبِمَا أوصى بِهِ إِبْرَاهِيم بنيه {يَا بني إِن الله اصْطفى لكم الدّين فَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} الْبَقَرَة 132 وَبِمَا قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه {يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم} {يَا بني أقِم الصَّلَاة وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَن الْمُنكر} لُقْمَان 13، 17 الْآيَة وَاسْتَوْصُوا بَعْضكُم بَعْضًا خيرا وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَتَوَاصَوْا بالمرحمة وأخوكم مولَايَ عبد الله أكبركم فكونوا عِنْد إِشَارَته فَإِن للسن حَقًا فِي
التَّقَدُّم وَفِي الحَدِيث الشريف كبر كبر ومنذ نوينا توجيهكم لهَذِهِ الوجهة السعيدة وَنحن نجيل الْفِكر فِيمَن نوجهه مَعكُمْ حَتَّى وَقع اختيارنا على خديمنا الْحَاج مُحَمَّد الرزيني لكَونه نعم الرجل وَاجْتمعَ فِيهِ من الْأَوْصَاف المحمودة مَا افترق فِي غَيره فكونوا لَهُ بِمَنْزِلَة الْأَوْلَاد البررة وَليكن لكم بِمَنْزِلَة الْوَالِد الشفيق كَمَا قَالَ الْقَائِل
(وَكَانَ لَهَا أَبُو حسن عَليّ
…
أَبَا برا وَنحن لَهُ بَنِينَ)
وآزرناه بالحاج أبي جنان البارودي لمروءته وَحسن هَدْيه وسمته وَكِلَاهُمَا خير وَالْحَمْد لله وآثرناكم على أَنْفُسنَا بالفقيه الأوحد المشارك السَّيِّد الْمهْدي ابْن سَوْدَة وَتوجه مَعَه أَخُوهُ وَهُوَ أَيْضا مِمَّن يشفع بِعِلْمِهِ فأوفوا كل وَاحِد مِنْهُم قسطه ومستحقه مِمَّا أرشد إِلَيْهِ الرَّسُول فهذب وأدب إِذْ قَالَ لَيْسَ منا من لم يوقر كَبِيرنَا وَيرْحَم صَغِيرنَا وَيعرف لعالمنا حَقه وحافظوا على دينكُمْ وَاشْتَغلُوا بِمَا يعنيكم واتركوا مَا لَا يعنيكم فَفِي الحَدِيث الشريف من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَالا يعنيه واعكفوا على قراءتكم وَلَا تضيعوا الْأَوْقَات فِي البطالة خُصُوصا مَا يتَعَلَّق بِالْعبَادَة الَّتِي أَنْتُم بصددها فَمن الْآن اصرفوا كليتكم لقِرَاءَة الْمَنَاسِك وابدؤوا بأسهلها وأقربها مَنَاسِك المرشد الْمعِين ثمَّ مِنْهَا إِلَى مَا هُوَ أوسع فروعا وَأكْثر مسَائِل وعَلى الْفَقِيه السَّيِّد الْمهْدي الْمَذْكُور أَن لَا يألو جهدا ونصيحة فِي تعليمكم وَالْقِرَاءَة مَعكُمْ وَاجْعَلُوا أَيْضا وقتا مَعَ أَخِيه فَإِنَّهُ من طلبة الْوَقْت المدرسين فَلم يبْق لكم عذر فِي التَّقْصِير والبطالة وكل من توجه مَعكُمْ من الْأَصْحَاب والأتباع والدايات فَهُوَ فِي رعايتكم وَفِي الحَدِيث كلكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَن رَعيته فعلموهم أَمر دينهم ومناسك حجهم وخاطبوهم فِي ذَلِك على قدر مَا يفهمون ليَكُون عَمَلهم فِي صحيفتكم وَفِي الحَدِيث خَيركُمْ من تعلم وَعلم وَفِيه أَيْضا لِأَن يهدي الله بك رجلا وَاحِدًا خير لَك مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس وتحلوا بحلية أهل الْفضل والكمال وَكُونُوا على مَا يَنْبَغِي من الْأَدَب مَعَ الْخلق وَمَعَ الْخَالِق وهذبوا أخلاقكم وهشوا وبشوا لملاقاة النَّاس وعاملوا كل وَاحِد بِمَا يسْتَحقّهُ وَلَا زَالَ النَّاس يذكرُونَ هُنَالك أَخَاكُم مولَايَ سُلَيْمَان
أصلحه الله وَيدعونَ لَهُ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِن الشَّرِيفَة لما رَأَوْا من سَعَة أخلاقه وَحسن بشره وبشاشته مَعَ النَّاس ونعهد إِلَيْكُم أَن لَا تتركونا من الدُّعَاء فِي أَي موطن حللتموه من تِلْكَ المواطن الشَّرِيفَة خُصُوصا عِنْد الْمُلْتَزم وَالْمقَام وَغَيرهمَا من الْأَمَاكِن الَّتِي ترجى إِجَابَة الدُّعَاء عِنْدهَا وتوبوا عَنَّا فِي استلام الْحجر الأسعد وَفِي زِيَارَة قبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَالتَّسْلِيم عَلَيْهِ وعَلى صَاحِبيهِ أبي بكر وَعمر رضي الله عنهما وَعَلَيْكُم بالاستقامة فِي جَمِيع أُمُوركُم وسلوك سَبِيل الْمُوَافقَة والائتلاف وَترك المشاجرة وَالِاخْتِلَاف وَمُخَالفَة الْهوى وَالنَّفس والشيطان فَإِن لَهُ مزِيد تسلط بِالشَّرِّ فِي طرق الْخَيْر فكونوا فِي جَمِيعهَا على حذر قَالَ تَعَالَى {إِن الشَّيْطَان لكم عَدو فاتخذوه عدوا} فاطر 6 نسْأَل الله لكم الْحِفْظ والسلامة والأمن والعافية ذَهَابًا وإيابا فِي أَنفسكُم ودينكم ودنياكم ونستودع الله دينكُمْ وأمانتكم وخواتم عَمَلكُمْ فتوجهوا فِي حفظ الله على مهل حَتَّى تصلوا إِلَى الْقصر وَأقِيمُوا بِهِ فِي جوَار أبي الْحسن بن غَالب نفعنا الله وَإِيَّاكُم ببركاته كَمَا فعل إخْوَانكُمْ قبل فَإِن الْمقَام بِالْقصرِ خير من الْمقَام بطنجة حَتَّى يقدم البابور وَيكْتب لكم الْخَطِيب بالإعلام وَحِينَئِذٍ توجهوا إِلَيْهَا راشدين وَقد كتبنَا بذلك للطَّالِب مُحَمَّد الْخَطِيب وطالعوا الْحَاج مُحَمَّد الرزيني على كتَابنَا هَذَا حِين تتلاقوا مَعَه إِن شَاءَ الله وَاعْلَمُوا أننا عينا عشْرين ألف ريال بِقصد أَن يَشْتَرِي بهَا حبس فِي سَبِيل الله عشرَة آلَاف ريال يَشْتَرِي بهَا مَا يكون حبسا بِمَكَّة وَعشرَة آلَاف ريال يَشْتَرِي بهَا مَا يكون حبسا فِي سَبِيل الله بِالْمَدِينَةِ المنورة وَهِي من جملَة مَا حَاز الْحَاج مُحَمَّد الرزيني ورفيقه فِيمَا حازا من الصائر رَجَاء أَن يبْقى أجر ذَلِك جَارِيا مُنْتَفعا بِهِ إِن شَاءَ الله وَالسَّلَام فِي السَّادِس من رَمَضَان الْمُعظم عَام أَرْبَعَة وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف
قَالَ أكنسوس وَكَانَ ركوبهم من طنجة فِي قرصان النجليز فَلَمَّا بلغُوا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة تلقاهم صَاحب مصر بغاية الْفَرح وَالسُّرُور وَفَوق مَا يُوصف من الْإِكْرَام والبرور وأنزلهم فِي أعز مساكنه وأبهاها وأبهجها وأشهاها وَأعد فِيهَا كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من أواني الْفضة وَالذَّهَب وفرش الْحَرِير
والديباج والنفائس الغريبة ورتب لَهُم الرَّوَاتِب الْعَالِيَة من أَنْوَاع الْأَطْعِمَة والأشربة الفاخرة الَّتِي تناسب أقدارهم وأباح لَهُم الدُّخُول إِلَى كل مَحل أَرَادوا رُؤْيَته من الْأَبْنِيَة والمصانع والرياض والبساتين الملوكية الَّتِي يتعجب من رؤيتها وتنقل أَخْبَارهَا فشاهدوا من ذَلِك مَا لَا يكْشف حَقِيقَته اللِّسَان وَمَا لَا يظنّ أَن تناله قدرَة الْإِنْسَان ثمَّ ركبُوا فِي بَحر القلزم إِلَى جدة فقضوا مناسكهم وشفوا غلتهم من مُبَاشرَة شَعَائِر الشَّرِيعَة المطهرة من الطّواف وَالسَّعْي وَالْوُقُوف وزيارة الْمشَاهد الْمُبَارَكَة وتوجهوا إِلَى أعظم الْمَقَاصِد وأسناها الَّتِي هِيَ لنفوس الْمُؤمنِينَ غَايَة منأها زِيَارَة شَفِيع الْأُمَم فِي الْموقف الْأَعْظَم وَكَانُوا صادفوا بِمَكَّة وخما وَفَسَاد هَوَاء مَاتَ مِنْهُ كثير من الْحجَّاج الأفاقين فَمَاتَ من أَصْحَابهم جملَة وَمَات من أَوْلَاد السُّلْطَان الْمولى إِبْرَاهِيم وَالْمولى جَعْفَر الأول بِمَكَّة وَالثَّانِي بِالْمَدِينَةِ وَسلم الله الْبَاقِي وأكرمه وَأَعْلَى مقَامه وعظمه وَجمع لَهُ بَين شرف الْحَيَاة وثواب احتساب مصيبته لمن مَاتَ وَلما فازوا بزيارة سيد الْأَرْضين وَالسَّمَوَات ووافقتهم السَّعَادَة فِي ذَلِك الْمقَام الَّذِي تتضاءل دونه جَمِيع المقامات وأدركوا مَا أَملوهُ من لثم تُرَاب أشرف الْبِقَاع وَأكْرم الْحجر وانفجر عَلَيْهِم من كرم الله مَا انفجر ونال كل وَاحِد مَا كَانَ يؤمله ويرجوه فَخَرجُوا من الْمَدِينَة رَاجِعين بِكُل خير وغسلوا بالدموع مَا كَانُوا عفروه فِي تِلْكَ الْأَمَاكِن من الْوُجُوه وَلَكِن نالتهم مشقة فادحة من عتاة الْأَعْرَاب فِي الْمسَافَة الَّتِي بَين الْمَدِينَة وينبع لأَنهم انفردوا عَن الركب عِنْد الرُّجُوع وَلَوْلَا لطف الله لاستؤصلوا عَن آخِرهم وَلَقَد كَانَت نجاتهم من تِلْكَ الشدَّة من أعجب العجاب وَفِي خلوصهم مِنْهَا عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب فَإِنَّهُم كمن بعث بعد مماته وإقباره وَانْقِطَاع أنفاسه وأخباره وَالْحَمْد لله الَّذِي لَا تخفر ذمَّته وَلَا تنتهك حرمته فَلَمَّا بلغُوا يَنْبع وجدوا المراكب الَّتِي تحملهم فِي انتظارهم فَرَكبُوا قافلين ورياح السَّلامَة تسوقهم وأرباح التِّجَارَة والسعادة قد تكفل بهَا سوقهم فَلَمَّا وردوا حَضْرَة مراكش تَحت ظلال السَّلامَة وَقد نشر عَلَيْهِم الْقبُول بنوده وأعلامه باتوا بقنطرة تانسيفت وَفِي الْغَد ركبت الْخُيُول والعساكر السُّلْطَانِيَّة لتلقيهم وَخرج أهل