الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الزَّحْف ورتب المصاف وجرد السَّيْف وَذكر اسْم الله وراجعت زناتة بصائرها وعزائمها وتحركت هممها وأبلت فِي طَاعَة رَبهَا والذب عَن دينهَا وَجَاءَت بِمَا يعرف من بأسها وبلائها فِي مقاماتها ومواقفها فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى هبت ريح النَّصْر وَظهر أَمر الله وانكشفت جموع النَّصْرَانِيَّة وَقتل الزعيم نونه وَكَانَ هَذَا اللعين زعيم النَّصْرَانِيَّة بالأندلس قد قدمه الفنش على جيوشه وَاسْتَعْملهُ على حروبه وفوض لَهُ فِي جَمِيع أُمُوره وَكَانَ النَّصَارَى قد سعدوا بطائرة وتيمنوا بنقيبته لِأَنَّهُ لم تهزم لَهُ قطّ راية وَكَانَ وبالا على بِلَاد الْإِسْلَام كثير الغارات عَلَيْهَا حَتَّى جمع الله بَينه وَبَين السُّلْطَان يَعْقُوب فأراحه من تَعب الْحَرْب وكد الغارات وألحقه بِأُمِّهِ الهاوية ومنح الْمُسلمين رِقَاب الفرنج واستحر فيهم الْقَتْل حَتَّى بلغت قتلاهم عدد الألوف وجمعوا من رؤوسهم مآذن أذنوا عَلَيْهَا لصلاتي الظّهْر وَالْعصر وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين مَا يناهز الثَّلَاثِينَ أكْرمهم الله تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ وآثرهم بِمَا عِنْده وَنصر الله حزبه وأعز أوليائه وَأظْهر دينه وبدا لِلْعَدو مَا لم يكن يحتسبه بمحاماة هَذِه الْعِصَابَة عَن الْملَّة وقيامها بنصر الْكَلِمَة وَبعث السُّلْطَان يَعْقُوب رحمه الله بِرَأْس الزعيم نونه إِلَى ابْن الْأَحْمَر فَيُقَال إِنَّه بَعثه سرا إِلَى قومه بعد أَن طيبه وأكرمه ولَايَة أخلصها لَهُم ومداراة وانحرافا عَن السُّلْطَان يَعْقُوب ظَهرت شَوَاهِد ذَلِك عَلَيْهِ بعد حِين
وَاعْلَم أَن هَذَا الزعيم يُسَمِّيه كثير من المؤرخين دون نونه وَلَفظه دون مَعْنَاهَا فِي لسانهم السَّيِّد أَو الْعَظِيم أَو مَا أشبه ذَلِك فَلِذَا أسقطناها
وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزاته هَذِه إِلَى الجزيرة الخضراء منتصف ربيع من السّنة الْمَذْكُورَة فقسم فِي الْمُجَاهدين الْغَنَائِم وَمَا نفلوه من أَمْوَال عدوهم وسباياهم وأسراهم وكراعهم بعد الاستئثار بالخمس لبيت المَال على مُوجب الْكتاب وَالسّنة ليصرفه فِي مصارفه وَيُقَال كَانَ مبلغ الْغَنَائِم فِي هَذِه الْغُزَاة مائَة ألف من الْبَقر وَأَرْبَعَة وَعشْرين ألفا من السَّبي وَمن الْأُسَارَى سَبْعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة وَثَلَاثُونَ وَمن الكراع أَرْبَعَة عشر ألفا وسِتمِائَة وَأما الْغنم فاتسعت عَن الْحصْر
كَثْرَة حَتَّى لقد زَعَمُوا أَنه قد بِيعَتْ الشَّاة الْوَاحِدَة بدرهم وَكَذَلِكَ السِّلَاح
وَأقَام السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة أَيَّامًا ثمَّ نَهَضَ فِي جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة غازيا إشبيليه فجاس خلالها وتقرى نَوَاحِيهَا وأقطارها وأثخن بِالْقَتْلِ والنهب فِي جهاتها وعاث فِي عمرانها وأوغل فِي مسيره حَتَّى وقف على بَابهَا وزعقت طبوله فِي جوها وخفقت ألويته على جنباتها ولجأت الفرنج إِلَى الأسوار واعتمدوا على الْحصار وَلم يخرج إِلَيْهِ مِنْهُم أحد ثمَّ ارتحل إِلَى شريش فأذاقها من وبال العيث والاكتساح مثل ذَلِك أَو أَكثر وَرجع إِلَى الجزيرة لشهرين من غزاته فبيعت الفرنجية من سبيه بهَا بمثقال وَنصف لِكَثْرَة السَّبي حِينَئِذٍ
وَدخل فصل الشتَاء فَنظر السُّلْطَان يَعْقُوب فِي اختطاط مَدِينَة بفرضة الْمجَاز من العدوة لنزول عسكره منتبذا عَن الرّعية لما يلحقهم من ضَرَر الْعَسْكَر وجفائهم وتخير لَهَا مَكَانا ملاصقا للجزيرة فأوعز بِبِنَاء الْمَدِينَة الْمَشْهُورَة بالبنية ثمَّ أجَاز الْبَحْر إِلَى الْمغرب فِي رَجَب من سنته أَعنِي سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة فَكَانَ مغيبه وَرَاء الْبَحْر سِتَّة أشهر واحتل بقصر مصمودة وَأمر بِبِنَاء السُّور على باديس مرفأ السفن وَمحل العبور من بِلَاد غمارة ثمَّ رَحل إِلَى فاس فَدَخلَهَا فِي النّصْف من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة
فتح جبل تينملل ونبش قُبُور بني عبد الْمُؤمن على يَد الملياني عَفا الله عَنهُ
قد تقدم لنا أَن جبل تينملل كَانَ حصنا للموحدين وملجأ لَهُم إِذا نابهم مَكْرُوه وَكَانَ مَسْجده مزارا عَظِيما لَهُم لِأَنَّهُ مدفن إمَامهمْ وملحد خلفائهم فَكَانُوا يعكفون عَلَيْهِ ويلتمسون بركَة زيارته ويقدمون ذَلِك بَين يَدي غزواتهم
قربَة يَتَقَرَّبُون بهَا إِلَى الله تَعَالَى وَلما استولى السُّلْطَان يَعْقُوب على مراكش فر من كَانَ بهَا من الْمُوَحِّدين إِلَى الْجَبَل الْمَذْكُور واعتصموا بِهِ وَبَايَعُوا إِسْحَاق أَخا المرتضى وأملوا مِنْهُ رَجَعَ الكرة وإدالة الدولة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى هَذِه السّنة فَنَهَضَ عَامل مراكش من قبل السُّلْطَان يَعْقُوب وَهُوَ مُحَمَّد بن عَليّ بن محلي أحد خؤلته ونازل الْجَبَل الْمَذْكُور وحاصره مُدَّة ثمَّ اقتحمه عنْوَة وافتض عذرته وَفك ختامه وتقبض عل خَليفَة الْمُوَحِّدين إِسْحَاق وَابْن عَمه السَّيِّد أبي سعيد بن أبي الرّبيع وَمن مَعَهُمَا من الْأَوْلِيَاء وجنبوا إِلَى مصَارِعهمْ بِبَاب الشَّرِيعَة من مراكش فَضربت أَعْنَاقهم وصلبت أشلاؤهم وَكَانَ فِيمَن قتل مِنْهُم الْكَاتِب القبائلي وَأَوْلَاده
وعاثت عَسَاكِر بني مرين فِي جبل تينملل واكتسحوا أَمْوَاله ونبشوا قُبُور خلفاء بني عبد الْمُؤمن وَاسْتَخْرَجُوا أشلاءهم وَكَانَ فِيهَا شلو يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَابْنه يَعْقُوب الْمَنْصُور فَقطعت رؤوسهم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك أَبُو عَليّ أَحْمد الملياني كَانَ أَبُو عَليّ هَذَا ثار على الحفصيين بِمَدِينَة مليانة فجهزوا إِلَيْهِ عساكره وأجهضوه عَنْهَا ففر إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب فَقبله وآواه وأقطعه بلد أغمات إِكْرَاما لَهُ فَحَضَرَ هَذِه الْوَقْعَة فِي جملَة الْعَسْكَر وارتكب هَذَا الْفِعْل الشنيع وَرَأى أَنه قد شفى نَفسه باستخراج هَؤُلَاءِ الْخَلَائق من أرماسهم والعبث بأشلائهم وَقد أنكر النَّاس عَامَّة وَالسُّلْطَان يَعْقُوب خَاصَّة هَذِه الفعلة مِنْهُ وَلم يرضوها وَمَعَ ذَلِك فقد تجَاوز لَهُ السُّلْطَان يَعْقُوب عَنْهَا تأنيسا لغربته ورعيا لجواره وَلما توفّي السُّلْطَان يَعْقُوب وَولي بعده ابْنه يُوسُف سعى إِلَيْهِ فِي الملياني هَذَا فنبكه على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
وَلما وصل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزوته إِلَى فاس انْتقض عَلَيْهِ طَلْحَة بن محلي أحد أَخْوَاله وتمنع بجبل آصروا من بِلَاد فازاز فَسَار إِلَيْهِ لسلطان يَعْقُوب وحاصره بِهِ فأناب إِلَى الطَّاعَة وَنزل على الْأمان وَذَلِكَ فِي منتصف
رَمَضَان سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة وَفِي ثَانِي يَوْم من شَوَّال من هَذِه السّنة ثارت الْعَامَّة باليهود بفاس بِسَبَب حدث أحدثوه فَقتلُوا مِنْهُم أَرْبَعَة عشر يَهُودِيّا وَلَوْلَا أَن السُّلْطَان ركب بِنَفسِهِ ورد الْعَامَّة عَنْهُم لكَانَتْ إِيَّاهَا
بِنَاء الْمَدِينَة الْبَيْضَاء الْمُسَمَّاة الْيَوْم بفاس الْجَدِيد
لما فتح جبل تينملل ومحيت مِنْهُ بَقِيَّة آل عبد الْمُؤمن وتمهد ملك الْمغرب للسُّلْطَان يَعْقُوب واستفحل أمره وَكَثُرت غاشيته رأى أَن يختط بَلَدا ينْسب إِلَيْهِ ويتميز بسكناه وَينزل فِيهِ بحاشيته وأوليائه الحاملين لسرير ملكه فَأمر بِبِنَاء الْمَدِينَة الْبَيْضَاء ملاصقة لمدينة فاس على ضفة واديها المخترق لَهَا من جِهَة أَعْلَاهُ وَشرع فِي تأسيسها ثَالِث شَوَّال من سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة وَركب السُّلْطَان بِنَفسِهِ فَوقف عَلَيْهَا حَتَّى خطت مساحتها وأسست جدرانها وَجمع الْأَيْدِي عَلَيْهَا وَحشر الصناع والعملة لبنائها وأحضر لَهَا أهل النجامة والمعدلين لحركات الْكَوَاكِب فَاخْتَارُوا لَهَا من الطوالع مَا يرضون أَثَره ويحمدون سيره وأسست فِيهِ وَكَانَ فِي أولائك االمعدلين إمامان شهيران أَبُو الْحسن بن الْقطَّان وَأَبُو عبد الله بن الحباك المقدمان فِي الصِّنَاعَة فكمل تشييد هَذِه الْمَدِينَة على مَا رسم رحمه الله وكما رَضِي ونزلها بحاشيته وَذَوِيهِ سنة أَربع وَسبعين الْمَذْكُورَة واختط النَّاس بهَا الدّور والمنازل وأجريت فِيهَا الْمِيَاه إِلَى الْقُصُور وَكَانَت من أعظم آثَار هَذِه الدولة وأبقاها على الْأَيَّام
قَالَ ابْن أبي زرع وَمن سَعَادَة طالعها أَنه لَا يَمُوت فِيهَا خَليفَة وَلم يخرج مِنْهَا لِوَاء قطّ إِلَّا كَانَ منصورا وَلَا جَيش إِلَّا كَانَ ظافرا
ثمَّ أَمر رحمه الله بِبِنَاء قَصَبَة مكناسة فشرع فِي بنائها وَبِنَاء جَامعهَا فِي السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ استوزر صنيعته أَبَا سَالم فتح الله السدراتي وأجرى لَهُ رزق الوزارة على عَادَتهم
ثمَّ كافأ يغمراسن بن زيان على هديته الَّتِي كَانَ بعث بهَا إِلَيْهِ قبل إِجَازَته
إِلَى الأندلس فَبعث إِلَيْهِ فسطاطا رائقا كَانَ صنع لَهُ بمراكش وَثَلَاثِينَ من البغال الفارهة ذكرانا وإناثا وَغير ذَلِك مِمَّا يباهي بِهِ مُلُوك الْمغرب
وَفِي سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة أهْدى إِلَيْهِ الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الْقوي التوجيني صَاحب جبل وانشريس أَرْبَعَة من الْجِيَاد انتقاها من خيل الْمغرب كَافَّة وَرَأى أَنَّهَا على قلَّة عَددهَا أحفل هَدِيَّة وَفِي نَفسه أثْنَاء هَذَا كُله من أَمر الْجِهَاد شغل شاغل يتخطى إِلَيْهِ سَائِر أَعماله حَسْبَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
الْجَوَاز الثَّانِي للسُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد
لما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزوته الأولى واستنزل الْخَوَارِج وثقف الثغور وهادى الْمُلُوك واختط الْمَدِينَة الْبَيْضَاء لنزوله كَمَا ذكرنَا خرج فاتح سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة إِلَى جِهَة مراكش لسد ثغورها وتثقيف أطرافها وتوغل فِي أَرض السوس وَبعث وزيره فتح الله السدراتي فِي العساكر فجاس خلالها ثمَّ انكفأ رَاجعا وَهُنَاكَ خَاطب السُّلْطَان يَعْقُوب رحمه الله قبائل الْمغرب كَافَّة بالنفير إِلَى الْجِهَاد فتثاقلوا عَلَيْهِ فَلم يزل يحرضهم وهم يسوفون إِلَى أَن دخلت سنة سِتّ وَسبعين بعْدهَا وَلما رأى تثاقل النَّاس عَلَيْهِ نَهَضَ إِلَى رِبَاط الْفَتْح وتلوم بِهِ أَيَّامًا فِي انْتِظَار الْغُزَاة فأبطؤوا عَلَيْهِ فخف فِي خاصته وَتقدم فِي حَاشِيَته حَتَّى انْتهى إِلَى قصر الْمجَاز وَقد تلاحق بِهِ النَّاس من كل جِهَة لما رَأَوْا من عزمه وتصميمه فَأجَاز بهم الْبَحْر واحتل بطريف آخر محرم من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ ارتحل إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ إِلَى رندة فوافاه بهَا الرئيسان أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي الْحسن عَليّ بن أشقيلولة صَاحب مالقة وَأَخُوهُ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أبي الْحسن برسم الْجِهَاد مَعَه
ثمَّ ارتحل السُّلْطَان من رندة فاتح ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة حَتَّى انْتهى إِلَى إشبيلية فعرس عَلَيْهَا يَوْم المولد النَّبَوِيّ وَكَانَ بهَا يَوْمئِذٍ ملك الجلالقة أَن أذفونش فَلم يجد بدا من الْخُرُوج إِلَيْهِ بعد أَن خام عَن اللِّقَاء أَولا فبرز فِي جموعه وصفهَا على ضفة الْوَادي الْكَبِير من نَاحيَة السُّلْطَان وَأظْهر من أبهة الْحَرْب مَا قدر عَلَيْهِ فَكَانَت جيوشه كلهَا فِي الدروع السوابغ وَالْبيض اللوامع
وَالسُّيُوف البواتر وَغير ذَلِك من آلَات الْحَرْب الَّتِي يكَاد شعاعها يدهش الْبَصَر وزحف إِلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب رحمه الله بعد أَن صلى رَكْعَتَيْنِ ودعا الله تَعَالَى وَوعظ النَّاس وَذكرهمْ فرتب مصافه وَجعل وَلَده الْأَمِير يُوسُف فِي الْمُقدمَة وزحف على التعبية فَاقْتَتلُوا مَلِيًّا ثمَّ انْهَزَمت الفرنج فتساقط بَعضهم فِي الْوَادي وَانْحَدَرَ آخَرُونَ مَعَ ضفته وتصاعد آخَرُونَ كَذَلِك واقتحم الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم وسط المَاء وقتلوهم فِي لجته حَتَّى صَار المَاء أَحْمَر وطفت جيفهم من الْغَد عَلَيْهِ فَكَانَ فيهم عِبْرَة لمن اعْتبر وَبَات السُّلْطَان والمسلمون تِلْكَ اللَّيْلَة على صهوات خيولهم يقتلُون وَيَأْسِرُونَ وأضرموا النيرَان بِسَاحَة إشبيلية حَتَّى صَار اللَّيْل نَهَارا وباتت الفرنج على الأسوار ينفخون فِي الْقُرُون ويحترسون طول ليلتهم
ثمَّ ارتحل السُّلْطَان من الْغَد إِلَى جبل الشّرف وَبث السَّرَايَا فِي نواحيه فَلم يزل يتقرى تِلْكَ الْجِهَات حَتَّى أباد عمرانها وطمس معالمها وَدخل حصن قطنيانة وحصن جليانة وحصن القليعة عنْوَة وأثخن فِي الْقَتْل والسبي ثمَّ ارتحل بالغنائم والأثقال إِلَى الجزيرة الخضراء فَدَخلَهَا فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الأول الْمَذْكُور فأراح بهَا وَقسم الْغَنَائِم فِي الْمُجَاهدين ثمَّ خرج غازيا مَدِينَة شريش منتصف ربيع الآخر فنازلها وأذاقها نكال الْحَرْب ووبال الْحصار وَقطع الزياتين وَالْأَعْنَاب وَسَائِر الْأَشْجَار وأباد خضراءها وَحرق ديارها وأثخن فِيهَا بِالْقَتْلِ والأسر وَكَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب يُبَاشر قطع الشّجر وَالثَّمَر بِيَدِهِ وسرح وَلَده الْأَمِير يُوسُف من مُعَسْكَره فِي سَرِيَّة للغارة على إشبيلية وحصون الْوَادي الْكَبِير فَبَالغ فِي النكاية واكتسح حصن روطة وشلوقة وغليانة والقناطر ثمَّ صبح إشبيلية فاكتسحها وانكفأ رَاجعا بالمغانم والسبي إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب فسر بمقدمه وقفلوا جَمِيعًا إِلَى الجزيرة الخضراء فأراح السُّلْطَان بهَا أَيَّامًا وَقسم فِي الْمُجَاهدين غنائمهم ثمَّ جمع أَشْيَاخ الْقَبَائِل وندبهم إِلَى غَزْو قرطبة وَقَالَ يَا معشر الْمُجَاهدين إِن إشبيلية وشريش وأحوازهما قد ضعفت وبادت وَلم يبْق لكم بهَا كَبِير نفع وَلَا نكاية وَإِن قرطبة وأعمالها بِلَاد حَصِينَة عامرة وَعَلَيْهَا اعْتِمَاد الفرنج وَمِنْهَا معاشهم ومادتهم فَإِن عزوتموها واستأصلتم خضراءها مثل مَا فَعلْتُمْ بإشبيلية وشريش كَانَ ذَلِك سَبَب ضعف النَّصْرَانِيَّة بِهَذَا الْقطر فَأَجَابُوا
بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فَدَعَا لَهُم وَفرق فيهم الْأَمْوَال وَالْخلْع وخاطب ابْن الْأَحْمَر يستنفره للْجِهَاد مَعَه وَقَالَ إِن خُرُوجك معي إِلَى قرطبة يكون لَك مهابة فِي قُلُوب الفرنج مَا عِشْت سوى مَا تستوجبه من الله تَعَالَى من الثَّوَاب فِي ذَلِك
ونهض السُّلْطَان إِلَى قرطبة فاتح جُمَادَى الأولى من سنة سِتّ وَسبعين الْمَذْكُورَة فوافاه ابْن الْأَحْمَر بِنَاحِيَة شدونه فَأكْرم موصله وشكر خفوفه إِلَى الْجِهَاد وَبِدَارِهِ إِلَيْهِ ونازلوا حصن بني بشير فدخلوه عنْوَة وَقتلت الْمُقَاتلَة وسبيت النِّسَاء ونفلت الْأَمْوَال وَهدم الْحصن حَتَّى لم يبْق لَهُ أثر ثمَّ بَث السُّلْطَان رحمه الله السَّرَايَا والغارات فِي البسائط فاكتسحها وامتلأت الْأَيْدِي وأثرى الْعَسْكَر وفاض عَلَيْهِم من الْغنم وَالْبَقر والمعز وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير والقمح وَالشعِير وَالزَّيْت وَالْعَسَل مَا لَا يُوصف ثمَّ سَارُوا يتقترون الْمنَازل والعمران فِي طريقهم حَتَّى احتلوا بِسَاحَة قرطبة فنازلوها وخفقت ألوية السُّلْطَان فِي نَوَاحِيهَا وزعقت طبوله فِي فضائها وَتقدم فِي أبطاله وحماته حَتَّى وقف على بَابهَا ثمَّ داربأسوارها ينظر كَيفَ الْحِيلَة فِي قتالها ووقف ابْن الاحمر بعساكر الأندلس أَمَام محلّة الْمُسلمين يحرسونها خوفًا من كرة الْعَدو وخنس الفرنج وَرَاء الأسوار وانبثت بعوث الْمُسلمين وسراياهم فِي نواحي قرطبة وقراها فنسفوا آثارها وخربوا عمرانها وترددوا على جهاتها ودخلوا حصن الزهراء بِالسَّيْفِ وَأقَام السُّلْطَان على قرطبة ثَلَاثًا ثمَّ ارتحل عَنْهَا إِلَى حصن بركونة فدخله عنْوَة ثمَّ أرجونة كَذَلِك ثمَّ قدم بعثا إِلَى مَدِينَة جيان فقاسمها حظها من الْخَسْف والدمار وخام الطاغية عَن اللِّقَاء وأيقن بخراب عمرانه وَإِتْلَاف بِلَاده فجنح إِلَى السّلم وخطبه من السُّلْطَان يَعْقُوب وَرغب فِيهِ إِلَيْهِ وَبعث الأقسة والرهبان للوساطة فِي ذَلِك فرفعهم السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى ابْن الْأَحْمَر وَجعل الْأَمر فِي ذَلِك إِلَيْهِ تكرمة لمشهده ووفاء بِحقِّهِ وَقَالَ لوفد الفرنج إِنَّمَا أَنا ضيف والضيف لَا يُصَالح على رب الْمنزل فَسَارُوا إِلَى ابْن الْأَحْمَر وَقَالُوا لَهُ إِن السُّلْطَان يَعْقُوب قد رد الْأَمر إِلَيْك وَنحن قد جئْنَاك لنعقد مَعَك صلحا مُؤَبَّدًا لَا يعقبه غدر وَلَا حَرْب وأقسموا لَهُ بصلبانهم إِن لم يرضه الفنش ليخلعنه لِأَنَّهُ لم ينصر الصَّلِيب وَلَا حمى الْحَوْزَة فأجابهم ابْن
الْأَحْمَر إِلَيْهِ بعد عرضه على أَمِير الْمُسلمين والتماس إِذْنه فِيهِ لما فِيهِ من الْمصلحَة وجنوح أهل الأندلس إِلَيْهِ مُنْذُ المدد الطَّوِيلَة فانعقد السّلم فِي آخر شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزاته هَذِه وَجعل طَرِيقه على غرناطة احتفاء بالسلطان وَخرج لَهُ عَن الْغَنَائِم كلهَا فاحتوى عَلَيْهَا ابْن الْأَحْمَر وساقها إِلَى غرناطة وَقَالَ لَهُ السُّلْطَان يَعْقُوب يكون حَظّ بني مرين من هذَيْن الْغُزَاة الْأجر وَالثَّوَاب مثل مَا فعل يُوسُف بن تاشفين رحمه الله مَعَ أهل الأندلس يَوْم الزلاقة
وَلما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من هَذِه الْغَزْوَة اعتل الرئيس أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة ثمَّ هلك غرَّة جُمَادَى من السّنة الْمَذْكُورَة فلحق ابْنه مُحَمَّد بالسلطان يَعْقُوب آخر شهر رَمَضَان وَهُوَ متلوم بالجزيرة الخضراء منصرفة من الْغَزْو كَمَا ذَكرْنَاهُ فَنزل لَهُ عَن مالقة وَدعَاهُ إِلَى حوزها مِنْهُ وَقَالَ لَهُ إِن لم تحزها أعطيتهَا للفرنج وَلَا يتملكها ابْن الْأَحْمَر فحازها السُّلْطَان يَعْقُوب مِنْهُ وَعقد عَلَيْهَا لِابْنِهِ أبي زيان منديل بن يَعْقُوب فَسَار إِلَيْهَا وتملكها وَعز ذَلِك على ابْن الْأَحْمَر غَايَة لِأَنَّهُ لما بلغه وَفَاة أبي مُحَمَّد بن أشقيلولة سما أمله إِلَيْهَا وَأَن ابْن أُخْته وَهُوَ مُحَمَّد الْوَافِد على السُّلْطَان يَعْقُوب شيعَة لَهُ لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلا فَأَخْطَأَ ظَنّه وَخرج الْأَمر بِخِلَاف مَا كَانَ يرتقب وَلما قضى السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة الخضراء صَوْمه ونسكه خرج إِلَى مالقة فَدَخلَهَا سادس شَوَّال من السّنة ويرز إِلَيْهِ أَهلهَا فِي يَوْم مشهود واحتفلوا لَهُ احتفال أَيَّام الزِّينَة سُرُورًا بِمقدم السُّلْطَان واغتباطا بدخولهم فِي دَعوته وانخراطهم فِي سلك رَعيته وَأقَام فيهم إِلَى خَاتم سنته ثمَّ عقد عَلَيْهَا لعمر بن يحيى بن محلي من صنائع دولتهم وَأنزل مَعَه المسالح وَترك عِنْده زيان بن أبي عياد بن عبد الْحق فِي طَائِفَة لنظره من أبطال بني مرين واستوصاه بِمُحَمد بن اشقيلولة وارتحل إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ أجَاز مِنْهَا إِلَى الْمغرب فاتح سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة وَقد اهتزت الدُّنْيَا لمقدمه وامتلأت الْقُلُوب سُرُورًا بِمَا هيأه الله من نصر الْمُسلمين بالأندلس وعلو راية الْإِسْلَام على كل راية وعظمت بذلك كُله موجدة ابْن الْأَحْمَر ونشأت الْفِتْنَة كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
حَتَّى لَا يُمكن تحريفها فَيَقُول مثلا والمهادنة بَيْننَا وَبَيْنكُم إِنَّمَا هِيَ فِي الْبَحْر وَأما الْبر فَلَا مهادنة بَيْننَا وَبَيْنكُم فِيهِ أَو نَحْو هَذَا من الْكَلَام فيصعب تحريفه وَقد نَص أهل علم التوثيق على هَذَا وَأَن الموثق يجب عَلَيْهِ أَن يبسط الْكَلَام مَا اسْتَطَاعَ ويجتنب الِاخْتِصَار المجحف وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ بِوَجْه من الْوُجُوه وَالله أعلم
نهوض السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى برابرة آيت ومالو وَالسَّبَب فِي ذَلِك
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمه الله إِلَى جبال آيت ومالو وَكَانَ ذَلِك فِي غَرَض قائده بلقاسم الزموري فَإِنَّهُ كَانَ قد ولاه عَلَيْهِم فَلم يقبلوه فَطلب من السُّلْطَان الْإِعَانَة عَلَيْهِم فأمده بِثَلَاثَة آلَاف فَارس مُضَافَة إِلَى من مَعَه من إخوانه زمور وَبني حكم وَسَار اليهم فَلَمَّا نزل على وَادي أم الرّبيع من نَاحيَة تادلا زحفوا إِلَيْهِ فولى عَنْهُم مُدبرا وَلم يعقب واتصل خبر هزيمته بالسلطان فاغتاظ على آيت ومالوا وَأخذ فِي الاستعداد لغزوهم وبرزت العساكر بِظَاهِر مكناسة وَبعث السُّلْطَان إِلَى أُمَرَاء الْقَبَائِل من الْعَرَب والبربر يستنفرهم فوافاه بمكناسة على الصعب والذلول وَلما تكاملت الْجنُود نَهَضَ إِلَيْهِم
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَهُوَ الْكَاتِب أَبُو الْقَاسِم الصياني بالصَّاد المشممة زايا كَلَفْظِ صِرَاط فِي قِرَاءَة حَمْزَة وَكنت مَعَه فِي هَذِه السفرة وسَاق الحَدِيث عَنْهَا بِأَن قَالَ كنت مَعَ السُّلْطَان وَأَنا يَوْمئِذٍ فِي حيّز الإهمال أتوقع الْمَوْت فِي كل وَقت بِسَبَب مَا كتب إِلَيْهِ فِي شأني الْقَائِد بلقاسم الزموري الْمَذْكُور آنِفا وَأَنِّي أَنا الَّذِي أفسدت عَلَيْهِ قومه وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى محلّة بلقاسم وَنزلت عساكرة فِي بسيط كريكرة أَشَارَ على السُّلْطَان بِأَن يقسم تِلْكَ الجيوش على ثَلَاثَة أَقسَام ثلث مِنْهَا ينزل بتاسماكت من وَرَاء الْعَدو وَثلث
ينزل بزاوية أهل الدلاء على طَرِيق بِلَادهمْ وَثلث يذهب مَعَه على طَرِيق تيقيط ويتقدم السُّلْطَان فِي عساكره حَتَّى ينزل بآدخسان وتقصدهم العساكر من كل وَجه وَقرب على السُّلْطَان الأمد الْبعيد بِاللِّسَانِ والرأي الَّذِي لَا يُفِيد وَكَانَ هُوَ لَا يعرف الْبِلَاد وَمن الْغَد افْتَرَقت العساكر فَتوجه كل إِلَى ناحيته الَّتِي عينت لَهُ وَتقدم السُّلْطَان إِلَى آدخسان وَلما عبر وَادي أم الرّبيع قدم كروان أَمَامه للغارة عَلَيْهِم فَسَارُوا إِلَى أَن بلغُوا قَصَبَة آدخسان فَلم يَجدوا بهَا نافخ نَار فأقاموا هُنَالك إِلَى أَن لحق بهم السُّلْطَان فَقَالَ أَيْن هَؤُلَاءِ قَالُوا مَا رَأينَا أحدا وَهَذِه قَصَبَة آدخسان فَأمر بِنزل الجيوش وَبَقِي هُوَ على فرسه متحيرا فاستدعى أَبَا الْقَاسِم الصياني قَالَ فأسرعت نَحوه فَقَالَ لي أتعرف هَذِه الْبِلَاد قلت نعم أتم الْمعرفَة قَالَ وَأَيْنَ أَهلهَا قلت فِي جبلهم قَالَ أوليس هَذَا جبلهم وَهَذَا آدخسان قلت لَا هَذِه قَصَبَة المخزن والجبل من تِلْكَ الثنايا السود فَمَا خلفهَا وأريته الثنايا فَقَالَ وَأَيْنَ الزاوية الَّتِي سَار إِلَيْهَا الْجَيْش مَعَ قدور بن الْخضر ومسرور قلت هِيَ عَن يَمِين الثنايا فِي الْبَسِيط قَالَ وَأَيْنَ تاسماكت الَّتِي سَارَتْ إِلَيْهَا أُمَم البربر مَعَ ولد مُحَمَّد واعزيز قلت بَيْننَا وَبَينهَا مرحلتان من وَرَاء الثنايا قَالَ وَمن أَيْن يَأْتِي الْقَائِد بلقاسم فأريته الثَّنية الَّتِي يطلع مِنْهَا وَقلت لَهُ إِنَّه لَا يصل إِلَيْنَا إِلَّا غَدا إِن سلم وَمَا صنعنَا نَحن قلت ضربنا فِي حَدِيد بَارِد فَإِن الَّذِي بالزاوية لَا يجدي وَالَّذِي بتاسماكت لَا يجدي وآيت ومالو متحصنون بِالْجَبَلِ وبلقاسم رجل مشؤوم عافى الله مَوْلَانَا من شؤمه قَالَ فَظهر للسُّلْطَان خلاف مَا سمع من بلقاسم وَتحقّق فَسَاد رَأْيه وَعلم أَنه قد أَخطَأ فِيمَا ارْتَكَبهُ من التَّغْرِير بِالْمُسْلِمين قَالَ ثمَّ بيّنت لَهُ السَّبَب الَّذِي نفر بِهِ آيت ومالو عَن بلقاسم حَتَّى عرفه قَالَ اكْتُبْ إِلَى قَوْمك صيان يقدموا علينا فَإِنِّي قد سامحتهم فَكتب إِلَيْهِم وَبعث بِالْكتاب من آدخسان مَعَ بعض الْأَشْرَاف واثنين من أَصْحَاب السُّلْطَان فخاضوا إِلَيْهِم اللَّيْل واجتمعوا بهم
وَمن الْغَد أصبح عندنَا أَرْبَعَة مِنْهُم بهديتهم فَدخلت بهم على السُّلْطَان فأكرمهم وَقبل هديتهم وَقَالَ إِنِّي سامحتكم لوجه كاتبي فلَان وردهم مبشرين إِلَى إخْوَانهمْ وباتت العساكر تِلْكَ اللَّيْلَة بِلَا علف وَلَا تبن وَمن الْغَد ظَهرت محلّة بلقاسم وَمَعَهُ مُخْتَار وَالْعَبِيد وَكَانُوا قد باتوا على الْقِتَال طول ليلتهم وَلما وصلوا إِلَى السُّلْطَان أَمر أَن ينزل العبيد بجواره وَينزل بلقاسم مَعَ قومه زمور وَبني حكم وَأعْرض عَنهُ ثمَّ أمره بتسريح إخوانه إِلَى بِلَادهمْ وسرح الْقَبَائِل كلهَا إِلَى بلادها وَفرق ذَلِك الْجمع وأرتحل رَاجعا إِلَى تادلا
وَأما الَّذين نزلُوا بتاسماكت مَعَ ولد مُحَمَّد واعزيز فبيتهم آيت ومالو بغارة شعواء شردوهم بهَا فِي كل وَجه ونهبوا محلتهم وَقتلُوا مِنْهُم عددا كثيرا وَرَجَعُوا إِلَى مكناسة مفلولين وَلما بَات السُّلْطَان بالزرهونية ورد عَلَيْهِ أَصْحَاب قدور بن الْخضر بكتابه يَقُول فِيهِ إِن البربر قد تألبوا علينا من كل أَوب فَإِن لم يدركنا سيدنَا هلكنا قَالَ الصياني فَأمرنِي السُّلْطَان بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِم والاحتيال فِي خلاصهم بِكُل مَا يُمكن وَبعث معي مائَة فَارس فوافيت الزاوية الدلائية فَوجدت قبائل البربر مُحِيطَة بهم فاجتمعت بآيت يسري ووعدتهم من السُّلْطَان بالعطاء الجزيل إِن هم فسحوا لجيشة حَتَّى يسْلك فِي بِلَادهمْ فأنعموا بذلك ورحل الْجَيْش مَعَ الْفجْر وعدلنا بِهِ من آيت ومالو وعبرنا الْوَادي إِلَى بِلَاد آيت يسري وَسَار مَعنا نَحْو الْمِائَة من أعيانهم إِلَى أَن أخرجونا إِلَى وَادي تاقبالت من تادلا وَرَجَعُوا قَالَ وَتَقَدَّمت إِلَى السُّلْطَان فَأَخْبَرته بخلاص الْجَيْش ووصوله إِلَى وَادي تاقبالت فسره ذَلِك ودعا لي بِخَير وَقَالَ لَا بُد أَن ترجع إِلَيْهِم السَّاعَة وَأَعْطَانِي مَالا أفرقه عَلَيْهِم وأرسم لَهُم الْمنَازل الَّتِي ينزلونها فِي مَسِيرهمْ إِلَى مكناسة وَبهَا ينتظرون السُّلْطَان فَرَجَعت إِلَيْهِم فِي الْحِين وَأَخْبَرتهمْ بِرَأْي السُّلْطَان فِي الْمسير إِلَى مكناسة ورسمت لَهُم الْمنَازل على نَحْو مَا أَمر وَلما أَصْبَحْنَا فرقت عَلَيْهِم المَال
وَارْتَحَلُوا إِلَى مكناسة وانقلبت إِلَى السُّلْطَان فَوَجَدته قد أَصَابَته حمى أَقَامَ لَهَا بقصبة تادلا وَكَانَ الطَّبِيب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد آدراق يعالجه وَلَا يدْخل عَلَيْهِ إِلَّا أَنا وَهُوَ وَصَاحب طَعَامه الْحَاج عبد الله إِلَى أَن عوفي فوصل الطَّبِيب بِأَلف دِينَار ثمَّ سَافر إِلَى مكناسة وبوصوله إِلَيْهَا قبض على بلقاسم الزموري ونكبه واستصفى أَمْوَاله وَولي على زمور وَبني حكم ولد مُحَمَّد واعزيز قَالَ الصياني وَمن ذَلِك الْوَقْت رفع السُّلْطَان منزلتي على أقراني وَصَارَ يقدمني فِي الْمُهِمَّات
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان وَبَين البرتغال وَهِي اثْنَان وَعِشْرُونَ شرطا مضمنها الصُّلْح والأمان كالشروط الْمُتَقَدّمَة
ذكر مَا آل إِلَيْهِ أَمر اليكشارية الَّذين استخدمهم السُّلْطَان من قبائل الْحَوْز
لما جمع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمه الله هَذَا الصِّنْف من رُمَاة الْجند وَسَمَّاهُمْ اليكشارية كَالَّذِين من قبلهم وَكَانَ جمعهم على يَد الْقَائِد عبد النَّبِي المنبهي حَسْبَمَا سبق حصل مِنْهُم ضَرَر كَبِير للرعية فِي المَال والحريم وصاروا يعيثون فِي غلل جناتهم مِمَّا يَمرونَ بِهِ أَيَّام أسفارهم حَتَّى صَار ذَلِك الْفساد عِنْدهم عَادَة وَمَا من منزل يبيتُونَ بِهِ إِلَّا ويكلفون أَهله مَا لَا يُطِيقُونَ فَإِذا كَلمهمْ أَعْيَان الرّعية فِي الرِّفْق بِالنَّاسِ قَالُوا هَذِه عَادَة لَا نتركها وَهِي من قوانين الدولة وَلما علم السُّلْطَان بِمَا يرتكبونه من العسف أسقطهم من الجندية وَنزع مِنْهُم السِّلَاح وردهم إِلَى المغرم مَعَ إخْوَانهمْ وأراح النَّاس من شرهم
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا عزل السُّلْطَان الْقَائِد مُحَمَّد بن أَحْمد البوزراري عَن قبائل تامسنا وتادلا وَمَا اتَّصل بهما وَلم يتْرك
لَهُ إِلَّا إخوانه من أهل دكالة وَولى على السراغنة أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالصغير وعَلى أهل تادلا صَالح بن الرضي الورديغي وعَلى أَوْلَاد أبي رزك المزابي الْقَائِد صَاحب الطابع وعَلى أَوْلَاد أبي عَطِيَّة عمر بن أبي سلهام المزابي وَأمر مُحَمَّد بن أَحْمد أَن يقبض من إخوانه الَّذين كَانُوا عمالا على هَذِه الْقَبَائِل مَا احتجبوه من الْأَمْوَال أَيَّام ولايتهم واستصفى مِنْهُم مائَة وَخمسين ألفا
خُرُوج العبيد على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله ومبايعتهم لِابْنِهِ الْمولى يزِيد وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا كَانَت الْفِتْنَة الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ خُرُوج العبيد على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وبيعتهم لِابْنِهِ الْمولى يزِيد وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن السُّلْطَان كتب إِلَيْهِم وَهُوَ بمراكش يَأْمُرهُم أَن يعينوا مِنْهُم ألف كانون ينتقلون بأولادهم إِلَى طنجة يكونُونَ بهَا وَبعث إِلَيْهِم بِالْكتاب مَعَ الْقَائِد الشَّاهِد رَأس الْفِتْنَة وولاه على ذَلِك الْألف فَلَمَّا أَتَاهُم بِكِتَاب السُّلْطَان قَالَ لَهُم لَا يذهب معي إِلَّا الْأَعْيَان وَمن لَهُ دَار وَأَرْض وضيعة وَلَا يذهب معي إِلَّا أمثالي فَلَمَّا سمع اقتراحه أُولَئِكَ الأجلاف ركبُوا رَأْسهمْ فِي سَبِيل الْخلاف واستفزهم الشَّيْطَان حَتَّى صَرَّحُوا بخلع السُّلْطَان جَريا فِي ذَلِك على مَذْهَبهم الْقَدِيم والتفاتا إِلَى فعل سلفهم الذميم فَلَمَّا أنهى خبرهم إِلَى السُّلْطَان بعث إِلَيْهِم ابْنه الْمولى يزِيد وَكَانَ عِنْده بمراكش كي يستصلحهم بِهِ فازداد فسادهم وَعظم عنادهم
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ برباط الْفَتْح فَلَمَّا ذهبت إِلَى مراكش لقِيت الْمولى يزِيد بالسانية مَوضِع على نَحْو نصف يَوْم مِنْهَا قَالَ فَسَأَلَنِي عَن خبر العبيد فقصصته عَلَيْهِ فسره ذَلِك وجد فِي السّير ففهمت قَصده وَعرفت مَا يؤول إِلَيْهِ أمره فيهم وَزعم أَنه لما قدم على السُّلْطَان لامه فِي
بَعثه الْمولى يزِيد فاعترف بالْخَطَأ فِي ذَلِك وَلما وصل الْمولى يزِيد إِلَى مكناسة وَاجْتمعَ بالعبيد لم يقدموا شَيْئا على بيعَته وَالْخطْبَة بِهِ فَفتح بيُوت الْأَمْوَال وَأَعْطَاهُمْ حَتَّى رَضوا ثمَّ فتح مخازن السِّلَاح والبارود ففرقه فيهم ثمَّ دخل فِي بيعَته من كَانَ قَرِيبا من قبائل الْعَرَب والبربر غير الودايا وآيت أدراسن وجروان الَّذين هم شيعَة السُّلْطَان فَإِنَّهُم تعصبوا لَهُ
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَبعد ثَلَاث بَعَثَنِي السُّلْطَان إِلَى الودايا وأحلافهم بمكاتيب فَقدمت عَلَيْهِم بهَا وأقمت عِنْدهم إِلَى أَن زحف إِلَيْهِم الْمولى يزِيد فِي جَيش العبيد وهم بالأروى وَكَانَت آيت أدراسن وجروان قد دخلُوا مَعَ الودايا وظاهروهم على العبيد فَوَقَعت الْحَرْب بالمشتهى دَاخل القصبة فَانْهَزَمَ العبيد وسلطانهم وَقتل مِنْهُم نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وَأما الْجَرْحى فبلا عدد وانقلبوا مفلولين
واتصل الْخَبَر بالسلطان فَخرج من مراكش فِي الْجند وقبائل الْحَوْز يُرِيد مكناسة وَلما وصل إِلَّا سلا وَسمع الْمولى يزِيد بقدومه فر إِلَى ضريح الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حمدوش ثمَّ إِلَى ضريح الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر رضي الله عنه بزرهون فَتقدم السُّلْطَان إِلَى زرهون وَلما دخل الضريح الشريف أَتَاهُ أَشْرَاف زرهون بِابْنِهِ الْمولى يزِيد فَعَفَا عَنهُ وسامحه واستصحبه مَعَه إِلَى مكناسة وَلما وَجه إِلَيْهَا خرج إِلَيْهِ نَحْو الْمِائَة من العبيد من ذَوي أسنانهم وَمَعَهُمْ الْأَشْرَاف والمرابطون وَالنِّسَاء وَالصبيان فَعَفَا عَنْهُم وسامحهم على شَرط الْخُرُوج من مكناسة فأذعنوا وَأقَام السُّلْطَان بمكناسة يدبر أَمرهم إِلَى أَن فرقهم على الثغور فَبعث مِنْهُم رحيين إِلَى طنجة ورحيين إِلَى العرائش ورحى إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَقصد بتفرقتهم دفع غائلتهم وتوهين عصبيتهم ثمَّ عمد إِلَى الَّذين كَانُوا برباط الْفَتْح ففرقهم أَيْضا فَبعث أَلفَيْنِ مِنْهُم إِلَى السوس وألفا إِلَى مراكش وَأبقى أَلفَيْنِ برباط الْفَتْح مَعَ عبيد مكناسة المغربين إِلَيْهَا واستراحت الدولة من شرهم استراحة مَا
ثمَّ إِن العبيد الَّذين بطنجة وَثبُوا على قائدهم الْقَائِد الشَّيْخ وعَلى قَائِد أهل الرِّيف مُحَمَّد بن عبد الْملك وَأَرَادُوا قَتلهمَا فهربا لآصيلا وَالسُّلْطَان يَوْمئِذٍ لَا زَالَ بمكناسة وَلما أنهى إِلَيْهِ خبرهم كتب إِلَى أعيانهم يتوعدهم فقبضوا على أَصْحَاب الفعلة وبعثوا بهم إِلَيْهِ وتبرؤوا مِنْهُم فَقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف فاستكانوا بعض الشَّيْء وَرجع القائدان إِلَى طنجة ثمَّ لما سَافر السُّلْطَان إِلَى مراكش أَخذ مَعَه عبيد مكناسة فَأنْزل أهل القصبة مِنْهُم بالمنصورية قرب وَادي النفيفيخ لأَنهم كَانُوا رَأس العصاة واستصحب البَاقِينَ إِلَى مراكش فأنزلهم بهَا بعد أَن عزل عَنْهُم قوادهم الَّذين حَضَرُوا فعلة الْمولى يزِيد وأبقاهم عاطلين مهملين وَولى عَلَيْهِم أُنَاسًا من غَيرهم
ذكر مَا سلكه السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فِي حق العبيد من التَّأْدِيب الْغَرِيب
ثمَّ إِن العبيد الَّذين بالثغور عاثوا بهَا وأضروا بِأَهْلِهَا فِي جناتهم وَأَمْوَالهمْ وأعراضهم فأنهى خبرهم إِلَى السُّلْطَان أَيْضا وَلما أعياه أَمرهم وَرَأى أَن تأديبهم بالتفرقة لم يفد فيهم انْتقل رحمه الله مَعَهم إِلَى مرتبَة أُخْرَى من التَّأْدِيب لم يسْبق إِلَيْهَا كَانَت ترياقا لقطع دائهم وَنَارًا لحسم عرق بلائهم وَذَلِكَ أَنه لما بلغه مَا هم عَلَيْهِ من الْجور والطغيان نَهَضَ من مراكش عَازِمًا على الْإِيقَاع بهم فَلَمَّا وصل إِلَى رِبَاط الْفَتْح كتب إِلَى أهل طنجة والعرائش مِنْهُم يَقُول إِنِّي قد رضيت عَنْكُم وبررت قسمي فِي نقلكم من مكناسة إِلَى الثغور والآن إِذا وصلتكم الْإِبِل وَالْبِغَال الَّتِي أبعثها إِلَيْكُم فلتحمل أهل طنجة بأولادهم ومتاعهم وليقدموا إِلَى دَار عَرَبِيّ من بِلَاد سُفْيَان فلينزلوا بهَا ثمَّ يبعثوا الْإِبِل وَالْبِغَال إِلَى أهل العرائش ليتحملوا بأولادهم ومتاعهم إِلَى دَار عَرَبِيّ كَذَلِك فَإِذا اجْتَمَعْتُمْ أَنْتُم وهم بهَا فَإِنِّي أبْعث إِلَيْكُم بغالي تتحملون عَلَيْهَا إِلَى مكناسة كلكُمْ فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم كتاب السُّلْطَان بذلك طاروا فَرحا وأحبوا الرُّجُوع إِلَى مكناسة
وَلما وَردت عَلَيْهِم الْإِبِل وَالْبِغَال ارتحلوا من طنجة وَفِي أثْنَاء ذَلِك
بعث إِلَيْهِم السُّلْطَان قائدهم سعيد بن العياشي الَّذِي خلعوه أَيَّام الْفِتْنَة وأوصاه أَن يُقيم بدار عَرَبِيّ حَتَّى يقدم عَلَيْهِ عبيد طنجة والعرائش فَانْتهى إِلَيْهَا ووافاه بهَا عبيد طنجة فنزلوا عَلَيْهِ بقضهم وقضيضهم ووصلت الْإِبِل وَالْبِغَال إِلَى أهل العرائش فجاؤوا حَتَّى نزلُوا مَعَ إخْوَانهمْ كَمَا رسم السُّلْطَان
ثمَّ إِن السُّلْطَان رحمه الله نَهَضَ من رِبَاط الْفَتْح حَتَّى وافى مشرع مسيعيدة من وَادي سبو ثمَّ انْتقل مِنْهُ إِلَى سوق الْأَرْبَعَاء من بِلَاد سُفْيَان ثمَّ تقدم إِلَى قبائل الغرب وَبني حسن أَن يَسِيرُوا إِلَى العبيد ويعسكروا عَلَيْهِم من جَمِيع الْجِهَات فامتثلوا وَلما استداروا حَولهمْ وَأَحَاطُوا بهم إحاطة بَيَاض الْعين بسوادها قدم السُّلْطَان ودعا رُؤَسَاء الْقَبَائِل فَحَضَرُوا عِنْده فَقَالَ لَهُم إِنِّي قد أَعطيتكُم هَؤُلَاءِ العبيد بأولادهم وخيلهم وسلاحهم وكل مَالهم فاقتسموهم الْآن وكل وَاحِد مِنْكُم يَأْخُذ عبدا وَأمة وأولادهما فَالْعَبْد يحرث وَالْأمة تطحن وَالْولد يرْعَى الْمَاشِيَة فحذوهم وتقلدوا سِلَاحهمْ واركبوا خيولهم وَالْبَسُوا كساهم بَارك الله لكم فيهم فَأنْتم عسكري وجندي دونهم فَلَمَّا سَمِعت قبائل الغرب وَبني حسن هَذَا الْكَلَام من السُّلْطَان وَثبُوا على العبيد من غير أَن تكون مِنْهُم وَقْفَة واقتسموهم فِي أسْرع من لحس الْكَلْب أَنفه وتوزعوهم شذر مذر وصيروهم عِبْرَة لمن اعْتبر
وقفل السُّلْطَان رَاجعا إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَلما دخله نفى العبيد الَّذين بهَا إِلَى مراكش فأنزلهم بهَا بعد أَن عزل عَنْهُم قوادهم وَولى مكانهم غَيرهم وَاسْتمرّ عبيد طنجة والعرائش موزعين فِي الْقَبَائِل أَربع سِنِين ثمَّ عَفا عَنْهُم واستردهم من الْقَبَائِل إِلَى الجندية وأركبهم وكساهم وسلحهم لكنه ميزهم وجعلهم قبائل فِي الْخَلْط وطليق مِنْهُم أنزلهم بقصر كتامة وسُفْيَان وَبَنُو مَالك أنزلهم بمسيعيدة وَبَنُو حسن أنزلهم بسيدي قَاسم والحياينة وَأهل الْجَبَل أنزلهم بتامدرت من أَعمال فاس وَأَقَامُوا هُنَالك عدَّة سِنِين يوجهون حصتهم فِي الْبعُوث ويعسكرون مَعَ السُّلْطَان مَتى احْتَاجَ إِلَيْهِم ثمَّ جمعهم رحمه الله بعد ذَلِك ونقلهم إِلَى مراكش وَأَقْبل عَلَيْهِم بالعطاء إِلَى أَن عَادوا أحسن مِمَّا
الوصيف الْقَائِد فرجى وَقدم الطَّاهِر بن مَسْعُود فأخرجت فِيهِ عمَارَة وحز رَأسه ثمَّ قدم الْحَاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر فَفعل بِهِ مثل صَاحبه فَيُقَال إِنَّه زهقت نَفسه قبل الْقَتْل لِأَنَّهُ لم يسل مِنْهُ دم وَأما الطَّاهِر بن مَسْعُود فَسَالَ مِنْهُ دم كثير وَأمر سَيِّدي مُحَمَّد ولد السُّلْطَان بمواراته فووري وَأما ابْن الطَّاهِر فَإِنَّهُ رمي على المزبلة ووكل بِهِ الحرس إِلَى أَن أَكلته الْكلاب وَلم يبْق إِلَّا رِجْلَاهُ بالقيد وَكَانَ ذَلِك فِي حُدُود خمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَأما ابْن فَرِحُونَ وَأَصْحَابه فَإِنَّهُم استمروا فِي سجن الجزيرة إِلَى أَن هَلَكُوا
وَاعْلَم أَن هَذِه الْوَقْعَة الهائلة دَالَّة على كَمَال عقل السُّلْطَان ووفور حلمه وفضله حَتَّى أَنه مَا عَامل هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين آذوه أَشد الإذاية إِلَّا بِبَعْض الْبَعْض مِمَّا استوجبوه كَمَا قَالَ وكما رَأَيْت وَعلمت ونسأله سبحانه وتعالى أَن يتغمدنا وَالْمُسْلِمين برحمته ويقينا وإياهم مصَارِع السوء وينيلنا الْأَمْن فِي الدُّنْيَا والفوز فِي الْآخِرَة بجنته إِنَّه على ذَلِك قدير وبالإجابة جدير
ظُهُور الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين الْمُخْتَار بالمغرب الْأَوْسَط وَبَعض أخباره
لما رَجَعَ جَيش السُّلْطَان من تلمسان مَعَ الْمولى على بن سُلَيْمَان حَسْبَمَا مر بَقِي أهل تلمسان فوضى وَرجعت الْحَرْب بَين الْحَضَر من أَهلهَا والكرغلية جَذَعَة وهاجت الْفِتَن بَين قبائل الْعَرَب الَّذين هُنَالك وَاخْتَلَطَ الحابل بالنابل وَكَانَ الْفَقِيه المرابط محيي الدّين عبد الْقَادِر المختاري نِسْبَة إِلَى أحد أجداده الْمَشْهُورين بِتِلْكَ النَّاحِيَة نازلا وسط حلَّة الحشم عِنْد المشاشيل مِنْهُم وَكَانَ متظاهرا بِالْخَيرِ وتدريس الْعلم وَاتخذ زَاوِيَة لطلبة الْعلم وقراء الْقُرْآن فاشتهر عِنْد أُولَئِكَ الْقَبَائِل واعتقدوه فَلَمَّا دهم الْعَدو أهل تِلْكَ الْبِلَاد وجاشت فِيمَا بَينهم الْفِتَن اجْتمع الحشم وَبَعض بني عَامر وتفاوضوا فِيمَا نزل بهم فأجمع رَأْيهمْ على بيعَة الشَّيْخ محيي الدّين الْمَذْكُور فَذَهَبُوا إِلَيْهِ
وعرضوا عَلَيْهِ مَا فِي أنفسهم فتجافى عَن منصب الرياسة وَأظْهر الْوَرع وَاعْتذر بِأَنَّهُ قد شاخ وَذهب مِنْهُ الأطيبان وَإِنَّمَا هُوَ هَامة الْيَوْم أَو غَد فسدكوا بِهِ وتطارحوا عَلَيْهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِم بولده الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين وَكَانَ لَهُ يَوْمئِذٍ عدَّة أَوْلَاد لَيْسَ الْحَاج عبد الْقَادِر أكبرهم وَلَا أعلمهم وَلَا أَصْلحهم وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ مضاء وإقدام فأسعفوه بِشَرْط أَن يكون نظره منسحبا عَلَيْهِ ومشيرا بِمَا تَدْعُو الضَّرُورَة إِلَيْهِ وَلما تمّ أَمر الْحَاج عبد الْقَادِر جمع كَتِيبَة من بني عَامر والحشم وزحف إِلَى وهران وَكَانَت يَوْمئِذٍ فِي ملكة النَّصَارَى قد استولوا عَلَيْهَا مُنْذُ سِتَّة أشهر أَو سَبْعَة فأوقع بهم وقْعَة شنعاء قتل فِيهَا وَأسر وأبلغ فِي النكاية وَرجع مظفرا منصورا فتيمنوا بِهِ وأحبوه وَتمكن مِنْهُم ناموسه وَاتخذ عسكرا من الحشم وَبني عَامر لَا بَأْس بِهِ وَلما سمع بِهِ أهل تلمسان وهم أحْوج مَا كَانُوا إِلَى من يقوم بأمرهم وفدوا عَلَيْهِ وَأَخْبرُوهُ بِمَا كَانَ مِنْهُم من مبايعة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن صَاحب مراكش وفاس وَأَنَّهُمْ يبايعونه على بيعَته والإعلان بدعوته فأجابهم الْحَاج عبد الْقَادِر إِلَى ذَلِك وَأخذ عَلَيْهِم الْبيعَة وَأظْهر الطَّاعَة والانقياد للسُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وخطب بِهِ على مَنَابِر تلمسان وَغَيرهَا وَولى على تلمسان وأعمالها وزيره أَبَا عبد الله مُحَمَّد البوحميدي الولهاصي وَكتب إِلَى السُّلْطَان يُعلمهُ بِأَنَّهُ بعض خدمه وقائد من قواد جنده واستقام أَمر الْحَاج عبد الْقَادِر وَثبتت قدمه فِي تِلْكَ الإيالة التلمسانية ثمَّ إِن قبيلتي الزمالة والدوائر الَّذين قدمنَا ذكرهم انحرفوا عَن الْحَاج عبد الْقَادِر لأسباب مِنْهَا أَنهم كَانُوا معادين للحشم وَلما قرب الْحَاج عبد الْقَادِر الحشم وجعلهم جنده ازدادت عداوتهم ونفرتهم عَن الْحَاج عبد الْقَادِر وَسَارُوا إِلَى وهران وأعلنوا بدعوة الفرنسيس فقبلهم وحماهم وَحدثت بَينه وَبَين الْحَاج عبد الْقَادِر بسببهم حروب صعبة
حَدثنِي الْأمين السَّيِّد الْحَاج عبد الْكَرِيم ابْن الْحَاج أَحْمد الرزيني التطاوني قَالَ ذهبت سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف إِلَى مَدِينَة وهران بِقصد التِّجَارَة بهَا وَذَلِكَ عقب اسْتِيلَاء الفرنسيس عَلَيْهَا قَالَ وَكنت يَوْمئِذٍ فِي سنّ
الشَّبَاب حِين بقل عِذَارَيْ فأقمت بهَا مُدَّة وَكَانَ الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين إِذْ ذَاك مهادنا لكبير الفرنسيس بوهران والجزائر قد أنزل كل وَاحِد مِنْهُمَا بِبَلَد الآخر قنصله وتجاره على الْعَادة فِي ذَلِك أَيَّام الْهُدْنَة فَلَمَّا كَانَ ذَات يَوْم ورد الْخَبَر بِأَن قبيلتي الزمالة والدوائر من إيالة الْحَاج عبد الْقَادِر وهم نَحْو الْأَلفَيْنِ كَانُوا قد فروا مِنْهُ ونزلوا حول مَدِينَة وهران مستجيرين بالفرنسيس وَقد رفعوا سنجقة وأعلنوا بِأَنَّهُم تَحت حكمه وَمن جملَة رَعيته فَبعث إِلَيْهِم الفرنسيس يعلمهُمْ بِأَنَّهُ قد قبلهم وَلَا يصيبهم مَكْرُوه فَلَمَّا كَانَ من الْغَد بعث الْحَاج عبد الْقَادِر مَعَ كَبِير دولته الْحَاج الحبيب ولد الْمهْر المعسكري كتابا إِلَى الفرنسيس يَقُول فِيهِ إِنَّك قد علمت أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين فروا إِلَيْك هم رعيتي وَمن إيالتي وَعَلِيهِ فَلَا بُد أَن تردهم عَليّ وَإِلَّا فالحرب بيني وَبَيْنك فَامْتنعَ الفرنسيس من ردهم وَأجَاب إِلَى الْحَرْب وَاتَّفَقُوا أَن يخرج كل مِنْهُمَا إِلَى الآخر تجاره الَّذين فِي أرضه وَأَن من بَقِي مِنْهُم بعد ثَلَاث فَهُوَ هدر وَاتَّفَقُوا أَيْضا على أَن يكون القنصلان آخر من يخرج وَأَن يكون خروجهما فِي سَاعَة مَعْلُومَة من اللَّيْل بِحَيْثُ يَلْتَقِيَانِ على المحدة الَّتِي بَين أَرض الْمُسلمين وَأَرْض النَّصَارَى فَفَعَلُوا وخلص كل إِلَى مأمنه
وَلما انْقَضى الْأَجَل تزاحفوا لِلْقِتَالِ فِي يَوْم مَعْلُوم فَكَانَت بَينهم حَرْب يشيب لَهَا الْوَلِيد وَلما كَانَ عشي النَّهَار سمع النَّاس من دَاخل الْبَلَد ضوضاء وجلبة عَظِيمَة وبارودا كثيرا وَإِذا بالحاج عبد الْقَادِر هزم الْكفَّار هزيمَة شنعاء حَتَّى ألجأهم إِلَى سور الْبَلَد وازدحموا على أبوابه وَركب بَعضهم بَعْضًا وَجَاءَت خيالتهم من خَلفهم فركبوهم أَيْضا وَمَشوا عَلَيْهِم ورفسوهم بخيلهم فَهَلَك بِهَذَا الازدحام من الفرنسيس نَحْو أَرْبَعَة آلَاف دون الَّذين هَلَكُوا خَارج الْبَلَد بالكور والرصاص والتوافل والرماح وَاسْتولى الْمُسلمُونَ على معسكر النَّصَارَى بِمَا فِيهِ من مدافع وعجلات وفساطيط وأخبية وأثاث وَكَانَت فتكة بكرا قَالَ الْحَاج عبد الْكَرِيم الْمَذْكُور وَكنت فِي تِلْكَ الْمدَّة مساكنا لبَعض كبراء عَسْكَر الفرنسيس فِي دَار وَاحِدَة فَلَمَّا انْقَضتْ الْوَقْعَة بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ سَأَلته كم ترَاهُ يكون هلك من عَسْكَر الفرنسيس فِي هَذِه الْوَقْعَة قَالَ أقرب لَك أم
أبعد قلت بل أقرب قَالَ أَنا كَبِير من كبراء الْعَسْكَر وَتَحْت نَظَرِي ثَمَان عشرَة مائَة بَقِي مِنْهَا فِي هَذِه الْوَقْعَة ثَمَانِيَة عشر عسكريا انْتهى كَلَام هَذَا الْمخبر
ثمَّ إِن الزمالة والدوائر لجوا فِي مُوالَاة الفرنسيس وأحكموا أَمرهم مَعَه وولوا عَلَيْهِم رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ الْمُصْطَفى بن إِسْمَاعِيل كَانَ هُوَ السَّبَب الْأَكْبَر فِي تملك الفرنسيس بِلَاد الْمغرب الْأَوْسَط وَجل الحروب الَّتِي كَانَت تكون بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى فِي تِلْكَ الْمدَّة على يَده إِلَى أَن قتل منتصف سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف ضاعف الله عَلَيْهِ غَضَبه ونقمته وَلما اتَّصل بالسلطان الْمولى عبد الرَّحْمَن رحمه الله مَا عَلَيْهِ الْحَاج عبد الْقَادِر من جِهَاد عَدو الدّين وحماية بَيْضَة الْمُسلمين أعجبه حَاله وَحسنت مَنْزِلَته عِنْده لِأَنَّهُ رأى أَنه قد قَامَ بنصرة الْإِسْلَام على حِين لَا نَاصِر لَهُ فَصَارَ السُّلْطَان رحمه الله يمده بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح وَالْمَال الْمرة بعد الْمرة على يَد الْأمين الْحَاج الطَّالِب بن جلون الفاسي وَغَيره وطالت الْحَرْب بَينه وَبَين الفرنسيس وَاسْتولى الفرنسيس فِي بعض الكرات على تلمسان وضايقه الْحَاج عبد الْقَادِر فِيهَا حَتَّى أخرجه مِنْهَا ثمَّ استردها الفرنسيس بعد معارك شَدِيدَة ومواقف صعبة إِلَّا أَن ضَرَر الْحَاج عبد الْقَادِر للفرنسيس كَانَ مَقْصُورا على قتل النُّفُوس واستلاب الْأَمْوَال وَأما الفرنسيس فَكَانَ ضَرَره بِالْمُسْلِمين عَائِدًا على تملك بِلَادهمْ وتنقصها من أطرافها ودام ذَلِك مُدَّة من سِتّ عشرَة سنة
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَقَد كَانَ الْحَاج عبد الْقَادِر هَذَا فِي أول أمره على مَا يَنْبَغِي من المثابرة على الْجِهَاد والدرء فِي نحر الْعَدو وَلَوْلَا أَنه انعكس حَاله فِي آخر الْأَمر وخلصت الأَرْض للفرنسيس وَالله غَالب على أمره
وَفِي سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف ولد مؤلف هَذَا الْكتاب أَحْمد بن خَالِد الناصري السلاوي أَخْبَرتنِي والدتي السِّت فَاطِمَة بنت الْفَقِيه السَّيِّد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن قَاسم بن زَرُّوق الحسني الإدريسي الجباري أَنِّي ولدت بعد طُلُوع الْفجْر صَبِيحَة يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة من السّنة
الْمَذْكُورَة وَفِي محرم فاتح سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْوَزير الشهير السَّيِّد الْمُخْتَار بن عبد الْملك الجامعي بمراكش واستوزر السُّلْطَان بعده الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الحاجي النكنافي مُدَّة يسيرَة ثمَّ أَخّرهُ ورد وزيره الأقدم أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس رحم الله الْجَمِيع وَفِي هَذِه السّنة كَانَ الوباء بالمغرب بالإسهال والقيء وغور الْعَينَيْنِ وبرودة الْأَطْرَاف
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورد سُؤال من عِنْد الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين إِلَى عُلَمَاء فاس يَقُول فِيهِ مَا نَصه
الْحَمد لله سادتنا الْأَعْلَام أَئِمَّة الْهدى ومصابيح الظلام فُقَهَاء الحضرة الإدريسية ومرمى المطالب ومحط الرّحال العيسية أطباء أدواء الدّين ومحقين حَقه ومبطلين باطله ومنتجين قضاياه المتخيلة عقيمة وباطلة جوابكم أبقاكم الله فِيمَا عظم بِهِ الْخطب وَاشْتَدَّ بِهِ الكرب بوطن الجزائر الَّذِي صَار لغربال الْكفَّار جزائر وَذَلِكَ أَن الْعَدو الْكَافِر يحاول ملك الْمُسلمين مَعَ استرقاقهم بِالسَّيْفِ وَتارَة بحيل سياسته وَمن الْمُسلمين من يداخلهم ويبايعهم ويجلب الْخَيل إِلَيْهِم وَلَا يَخْلُو من دلالتهم على عورات الْمُسلمين ويطالعهم وَمن أَحيَاء الْعَرَب المجاورين لَهُم من يفعل ذَلِك ويتمالؤون على الْجُحُود وَالْإِنْكَار فَإِذا طلبُوا بتعيينه جعجعوا وَالْحَال أَنهم يعلمُونَ مِنْهُم الْأَعْين والْآثَار فَمَا حكم الله فِي الْفَرِيقَيْنِ فِي أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فَهَل لَهُم من عِقَاب أم يتركون على حَالهم وَمَا الحكم فِيمَن يتَخَلَّف عَن المدافعة عَن الْحَرِيم وَالْأَوْلَاد إِذا استنفره نَائِب الإِمَام للدفاع والجلاد فَهَل يعاقبون وَكَيف عقابهم وَلَا يَتَأَتَّى بِغَيْر قِتَالهمْ وَهل تُؤْخَذ أَمْوَالهم وأسلابهم كَيفَ الْعَمَل فِيمَن يمْنَع الزَّكَاة أَو يمْنَع بَعْضهَا من التحقق بعمارة ذمَّته فِي الْحَال فَهَل يصدق مَعَ قلَّة الدّين فِي هَذَا الزَّمَان أم يكون للِاجْتِهَاد فِيهِ مجَال وَمن أَيْن يرْزق الْجَيْش المدافع عَن الْمُسلمين الساد ثغورهم عَن المغيرين وَلَا بَيت مَال وَمَا يجمع من الزَّكَاة لَا يَفِي بشبعهم فضلا
عَن كسوتهم وسلاحهم وخيلهم ومؤنتهم وزيهم فَهَل تتْرك فيستبيح الْكَافِر الوطن أم يكون مَا يلْزمهُم على جمَاعَة الْمُسلمين وَإِذا كَانَ فَهَل على الْعُمُوم أم على الْأَغْنِيَاء فَقَط وَلَا يُمكن اخْتِصَاص الْأَغْنِيَاء لجفوة الْأَعْرَاب وجهلهم وَهل يعد مَانع المعونة بَاغِيا أم لَا وَمَا حكم أَمْوَال الْبُغَاة وَهل القَوْل بِعَدَمِ ردهَا يجوز الْعَمَل بِهِ أم لَا أجِيبُوا عَمَّا ذكرنَا وَعَما يُنَاسب الْمقَام وَالْحَال مِمَّا لم يحضرنا داووا عللنا أبقاكم الله فقد ضَاقَ من هَذِه الْأُمُور الذرع وَكَاد الْقَائِم بِأَمْر الْمُسلمين لضيق الْأَسْبَاب أَن يتخلى عَن الْأَمر ويطرح ثوب الْإِمَارَة والدرع مَأْجُورِينَ وَالسَّلَام فِي تَاسِع عشر من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة صَدره عَن إِذن الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين لطف الله بِهِ
وَقد أجَاب عَن هَذَا السُّؤَال بِإِشَارَة السُّلْطَان الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد السَّلَام مديدش التسولي بِجَوَاب طَوِيل يشْتَمل على خمس كراريس وَزِيَادَة وَهُوَ مَوْجُود بأيدي النَّاس وَلأَجل مَا كَانَ يصل من هَذِه الْأُمُور من جَانب الْحَاج عبد الْقَادِر كَانَ السُّلْطَان رحمه الله يبْذل مجهوده فِي إمداده بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح وَالْمَال وَغير ذَلِك ثمَّ لم يكن إِلَّا مَا أَرَادَهُ الله
وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف بعد ظهر يَوْم السبت الْعشْرين من ربيع الأول مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة المتفنن الْمُحدث أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْحَاج الْمَكِّيّ السدراتي السلاوي وَدفن صَبِيحَة يَوْم الْأَحَد فِي الْجَبانَة الَّتِي قرب ضريح ولي الله تَعَالَى سَيِّدي الْحَاج أَحْمد بن عَاشر وَشهد جنَازَته خلق كثير وأمهم الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْهَاشِمِي طُوبَى وللفقيه أبي الْعَبَّاس الْمَذْكُور شرح حفيل على موطأ الإِمَام مَالك رضي الله عنه وَهُوَ مَوْجُود بأيدي النَّاس
وَفِي سنة أَربع وَخمسين بعْدهَا وَذَلِكَ صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي أَبُو عبد الله طُوبَى الْمَذْكُور آنِفا وَكَانَ رحمه الله من قُضَاة الْعدْل وَأهل الْعلم بالنوازل وَالْأَحْكَام مَحْمُود السِّيرَة ذَا سكينَة ووقار
وَفِي سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ فِي سَابِع جُمَادَى الأولى مِنْهَا كمل بِنَاء الْمنَار بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم من سلا وَكَانَ الْمنَار الَّذِي قبله قد أَصَابَته صَاعِقَة تداعت لَهَا أَرْكَانه فَأمر السُّلْطَان رحمه الله بنقضه وإعادته جَدِيدا فأعيد على هَيْئَة متقنة أحسن مِمَّا كَانَ وَأعظم وصير عَلَيْهِ بِوَاسِطَة أُمَنَاء مرسى العدوتين ثَلَاثَة آلَاف مِثْقَال وَأَرْبَعمِائَة مِثْقَال وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ مِثْقَالا وست أَوَاقٍ وَثلث الْأُوقِيَّة والريال الْكَبِير يَوْمئِذٍ من سعر سِتّ عشرَة أُوقِيَّة وَكَانَ جلّ الصائر من بَيت المَال وَأقله من مَال الْحَبْس وَكَانَ الَّذِي يتَوَلَّى النظارة يَوْمئِذٍ وَالْقِيَام على الْبناء عَامل سلا الأبر الْأَخير السَّيِّد الْحَاج أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْهَاشِمِي عواد
وَفِي سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الْمُحَقق البارع أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد السَّلَام التسولي الْمَدْعُو مديدش صَاحب الشَّرْح الْكَبِير على تحفة ابْن عَاصِم فِي الْأَحْكَام وَشرح الشَّامِل وحاشية الزقاقية وَغير ذَلِك من التآليف الحسان رحمه الله ونفعنا بِهِ
وَفِي منتصف سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف غزا السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رحمه الله قَبيلَة زمور الشلح وَكَانُوا قد تجاوزوا الْحَد فِي الْإِفْسَاد وإخافة الْعباد والبلاد فأوقع بهم وقْعَة شنعاء كسرت من حَدهمْ وفلت من غربهم وَكتب السُّلْطَان رحمه الله فِي ذَلِك إِلَى وَلَده وخليفته سَيِّدي مُحَمَّد كتابا من إنْشَاء وزيره أبي عبد الله بن إِدْرِيس يَقُول فِيهِ مَا نَصه ولدنَا الأرضى الأبر الأرشد سَيِّدي مُحَمَّد أصلحك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فقد كُنَّا أردنَا الْإِبْقَاء على قَبيلَة زمور رَحْمَة وإشفاقا وَحَملهمْ على الاسْتقَامَة بالإرهاب من الشدَّة فِي بعض الْأُمُور هِدَايَة وإرفاقا فَلم يرد الله بهم خيرا لفساد نيتهم وخبث طويتهم واتكالهم على حَولهمْ وقوتهم فَمَا رَأَوْا منا لينًا وسدادا إِلَّا ازدادوا شدَّة وَفَسَادًا وَلَا أظهرنَا لَهُم عظة وإرشادا إِلَّا أظهرُوا تطاولا وعنادا وَمَا أخرنا الْمحلة المنصورة عَن الرّكُوب إِلَيْهِم إبْقَاء وألفا إِلَّا ظنُّوا ذَلِك عَجزا وضعفا قد طمس الْإِعْجَاب مِنْهُم بصرا وسمعا وَلم يرَوا أَن الله قد أهلك من قبلهم من الْقُرُون من هُوَ أَشد مِنْهُم قُوَّة وَأكْثر جمعا
(إِذا أَنْت أكرمت الْكَرِيم ملكته
…
وَإِن أَنْت أكرمت اللَّئِيم تمردا)
(وَوضع الندا فِي مَوضِع السَّيْف بالعلى
…
مضربه كوضع السَّيْف فِي مَوضِع الندا)
فَلَمَّا رَأينَا لجاجهم فِي عمالهم وَعدم رجوعهم عَن هواهم وَأَنَّهُمْ لم يعتبروا بجلائهم عَن بِلَادهمْ وَلَا بِمَا أَصَابَهُم من الْفِتْنَة فِي أنفسهم وَأَوْلَادهمْ وَلم يراعوا مَا نهب من زرعهم الْقَائِم والحصيد وَلَا مَا استخرج من مخزونهم الْكثير العتيد رَأينَا قِتَالهمْ شرعا وجهادهم ذبا عَن الدّين ودفعا فاعتمدنا على حول الله وقوته وأمرنا بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِم فِي الْأَخْذ والتضييق وَالْمُبَالغَة فِي النهب وَالتَّحْرِيق وتركهم مَحْصُورين فِي أوعارهم ومقهورين فِي أوكارهم إِذْ رب مطاولة أبلغ من مصاولة فتوالت عَلَيْهِم الغارات وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِم النكبات لَا يَجدونَ إِلَى الرَّاحَة سَبِيلا أَيْنَمَا ثقفوا أخذُوا وَقتلُوا تقتيلا فَفِي كل يَوْم تثمر العوالي رُؤُوس رُؤَسَائِهِمْ وتتخطف أَيدي المنايا أهل بأسائهم وَكلما رادوهم إقداما وطلبا ازدادوا توغلا فِي الْجبَال وهربا حَتَّى نهكتهم الْحَرْب وضرستهم مُوالَاة الطعْن وَالضَّرْب وَضاع بالحصار الْكسْب وَالْمَال وَلحق الضَّرَر الْأَوْلَاد والعيال فَجعلُوا يرحلون لقبائل جوارهم طَالِبين لحلفهم وجوارهم وَبلغ الْبُؤْس فيهم غَايَته وَأظْهر الله فيهم آيَته وهم فِي خلال هَذَا كل حِين يتشفعون ويتذللون فِي قبُول تَوْبَتهمْ ويتضرعون وَنحن نظهر لَهُم التمنع والإباية لنبني أَمرهم على أساس الْجد ونجازيهم على مَا ارتكبوه من خلف الْوَعْد فَلَمَّا أنجزت القهرية فيهم وعدها وَبَلغت الْعقُوبَة فيهم حَدهَا قابلنا إساءتهم بِالْإِحْسَانِ وراعينا فيهم وَجه الْمَسَاكِين وَالنِّسَاء وَالصبيان فولينا عَلَيْهِم مِنْهُم ثَلَاثَة عُمَّال ووظفنا عَلَيْهِم خمسين ألف مِثْقَال وشرطنا عَلَيْهِم تَقْوِيم مِائَتَيْنِ من الحراك مثل قبائل الطَّاعَة والتزام الصّلاح والخدمة جهد الِاسْتِطَاعَة فَقَامُوا بذلك أحسن قيام وأعطوا المراهين فِي أَدَاء المَال بعد أَيَّام وَكَانَ أَخذهم بعد تَقْدِيم الْأَعْذَار وتكرير الْإِنْذَار وعفونا عَنْهُم عَفْو غلب واقتدار وَرب عِقَاب أنتج حسن طَاعَة وتوبة نصوح تداركت مَا سلف من التَّفْرِيط والإضاعة وَفِي النَّاس من لَا يصلح إِلَّا مَعَ التَّشْدِيد وَرَبك يخلق مَا يَشَاء وَيفْعل مَا يُرِيد