الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فبذلت فِي نَفسهَا مَدِينَة طريف وجبل الْفَتْح وَثَمَانِية عشر حصنا فِيمَا حكى بعض المؤرخين فَلم يقبل الْمُسلمُونَ ذَلِك قلت هَذَا خطأ فِي الرَّأْي وَضعف فِي السياسة قَالُوا وزادت عدَّة الْقَتْلَى فِي هَذِه الْغَزْوَة على خمسين ألفا وَيُقَال إِنَّه هلك مِنْهُم بالوادي مثل هَذَا الْعدَد لعدم معرفتهم بِالطَّرِيقِ وَأما الَّذين هَلَكُوا بالجبال والشعاب فَلَا يُحصونَ وَقتل الْمُلُوك السَّبْعَة جَمِيعهم وَقيل خَمْسَة وَعِشْرُونَ وَاسْتمرّ البيع فِي الأسرى والسبي وَالدَّوَاب سِتَّة أشهر ووردت البشائر بِهَذَا النَّصْر الْعَظِيم إِلَى سَائِر الْبِلَاد وَمن الْعجب أَنه لم يقتل من الْمُسلمين سوى ثَلَاثَة عشر نفسا وَقيل عشرَة أنفس وسلخ الطاغية بطرة وحشى جلده قطنا وعلق على بَاب غرناطة وَبَقِي مُعَلّقا سِنِين وَطلبت النَّصَارَى الْهُدْنَة فعقدت لَهُم وَالله تَعَالَى أعلم
انْتِقَاض الْأَمِير أبي عَليّ على أَبِيه السُّلْطَان أبي سعيد وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
لما كَانَت سنة عشْرين وَسَبْعمائة انْتقض الْأَمِير أَبُو عَليّ صَاحب سجلماسة والصحراء على أَبِيه السُّلْطَان أبي سعيد وتغلب على درعة وسما إِلَى طلب مراكش فعقد السُّلْطَان أَبُو سعيد على حربه لِأَخِيهِ الْأَمِير أبي الْحسن واغزاه إِيَّاه ثمَّ نَهَضَ على اثره فاحتل بمراكش وثقف أطرافها وحسم عللها وَعقد عَلَيْهَا لكندوز بن عُثْمَان من صنائع دولتهم وقفل إِلَى الحضرة ثمَّ لما كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَسَبْعمائة نَهَضَ الْأَمِير أَبُو عَليّ فِي جموعه من سجلماسة وأغذ السّير إِلَى مراكش فاقتحمها بعساكره قبل أَن يجْتَمع لكندوز أمره وتقبض عَلَيْهِ وَضرب عُنُقه وَرَفعه على القناه وَملك مراكش وَسَائِر ضواحيها
وَبلغ الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فَخرج من حَضرته فِي عساكره بعد أَن احتشد وأزاح الْعِلَل وَاسْتوْفى الأعطيات وَقدم بَين يَدَيْهِ ابْنه الْأَمِير أَبَا الْحسن
ولي عَهده وَجَاء هُوَ على ساقته وَسَارُوا على هَذِه التعبية وَلما انْتَهوا إِلَى وَادي ملوية اتَّصل بهم الْخَبَر أَن أَبَا عَليّ يُرِيد أَن يبيتهم فأسهروا ليلتهم وَبَاتُوا على ظُهُور خيلهم وَبعد مُضِيّ جُزْء من اللَّيْل طرقهم أَبُو عَليّ فِي جموعه فَكَانَت الدبرة عَلَيْهِ وفل عسكره وَارْتَحَلُوا من الْغَد فِي أَثَره وَكَانَ قد سلك جبل درن فافترقت جُنُوده فِي أوعاره ولحقهم من المشاق مَا يفوت الْوَصْف حَتَّى ترجل الْأَمِير أَبُو عَليّ عَن فرسه وسعى على قَدَمَيْهِ وخلص من ورطة ذَلِك الْجَبَل بعد عصب الرِّيق وَلحق بسجلماسة ومهد السُّلْطَان أَبُو سعيد نواحي مراكش وَعقد عَلَيْهَا لمُوسَى بن عَليّ الهنتاتي فَعظم غناؤه فِي ذَلِك واضطلاعه وامتدت أَيَّام ولَايَته وارتحل السُّلْطَان إِلَى سجلماسة فدافعه الْأَمِير أَبُو عَليّ بالخضوع وَرغب إِلَيْهِ فِي الصفح وَالرِّضَا وَالْعود إِلَى السّلم فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى ذَلِك لما كَانَ قد شغفه من حبه فقد كَانَ يُؤثر عَنهُ من ذَلِك غرائب وَرجع إِلَى الحضرة وَأقَام الْأَمِير أَبُو عَليّ بمكانه وَمن مملكه الْقبْلَة إِلَى أَن هلك السُّلْطَان أَبُو سعيد وتغلب عَلَيْهِ أَخُوهُ السُّلْطَان أَبُو الْحسن كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
بِنَاء مدارس الْعلم بِحَضْرَة فاس حرسها الله
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق رحمه الله كَانَ قد بنى مدرسته الَّتِي بفاس مَعَ غَيرهَا مِمَّا سبق التَّنْبِيه عَلَيْهِ ووقف عَلَيْهَا كتب الْعلم الَّتِي بعث بهَا إِلَيْهِ الطاغية سانجة عِنْد عقد الصُّلْح مَعَه ووقف عَلَيْهَا غير ذَلِك واقتفى أَثَره فِي هَذِه المنقبة الشَّرِيفَة بنوه من بعده فاستكثروا من بِنَاء الْمدَارِس العلمية والزوايا والربط ووقفوا عَلَيْهَا الْأَوْقَاف المغلة وأجروا على الطّلبَة بهَا الجرايات الكافية فأمسكوا بِسَبَب ذَلِك من رَمق الْعلم وأحيوا مراسمه وَأخذُوا بضبعيه جزاهم الله عَن نيتهم الصَّالِحَة خيرا
وَلما كَانَت سنة عشْرين وَسَبْعمائة أَمر السُّلْطَان أَبُو سعيد رحمه الله بِبِنَاء الْمدرسَة الَّتِي بفاس الْجَدِيد فبنيت أتقن بِنَاء وَأحسنه ورتب فِيهَا الطّلبَة لقِرَاءَة
الْقُرْآن وَالْفُقَهَاء لتدريس الْعلم وأجرى عَلَيْهِم المرتبات والمؤن فِي كل شهر وَحبس عَلَيْهَا الرباع والضياع ابْتِغَاء ثَوَاب الله ورغبة فِيمَا عِنْده
وَفِي سنة إِحْدَى وَعشْرين بعْدهَا بنى ولي عَهده الْأَمِير أَبُو الْحسن الْمدرسَة الَّتِي بغربي جَامع الأندلس من حَضْرَة فاس فَجَاءَت على أكمل الهيئات وأعجبها وَبنى حولهَا سِقَايَة وَدَار الْوضُوء وفندقا لسكنى طلبة الْعلم وجلب المَاء إِلَى ذَلِك كُله من عين خَارج بَاب الْجَدِيد أحد أَبْوَاب فاس وَأنْفق على ذَلِك أَمْوَالًا جليلة تزيد عَن مائَة ألف دِينَار وشحنها بطلبة الْعلم وقراء الْقُرْآن وَحبس عَلَيْهَا رباعا كَثِيرَة ورتب فِيهَا الْفُقَهَاء للتدريس وأجرى عَلَيْهِم الْإِنْفَاق وَالْكِسْوَة نَفعه الله بِقَصْدِهِ
وَفِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة فِي فاتح شعْبَان مِنْهَا أَمر السُّلْطَان أَبُو سعيد أَيْضا بِبِنَاء الْمدرسَة الْعُظْمَى بِإِزَاءِ جَامع الْقرَوِيين بفاس وَهِي الْمَعْرُوفَة الْيَوْم بمدرسة العطارين فنيت على يَد الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله بن قَاسم المزوار وَحضر السُّلْطَان أَبُو سعيد بِنَفسِهِ فِي جمَاعَة من الْفُقَهَاء وَأهل الْخَيْر حَتَّى أسست وَشرع فِي بنائها بمحضره فَجَاءَت هَذِه الْمدرسَة من أعجب مصانع الدول بِحَيْثُ لم يبن ملك قبله مثلهَا وأجرى بهَا مَاء معينا من بعض الْعُيُون هُنَالك وشحنها بالطلبة ورتب فِيهَا إِمَامًا ومؤذنين وقومة يقومُونَ بأمرها ورتب فِيهَا الْفُقَهَاء لتدريس الْعلم وأجرى على الْكل المرتبات والمؤن فَوق الْكِفَايَة وَاشْترى عدَّة أَمْلَاك ووقفها عَلَيْهَا احتسابا بِاللَّه تَعَالَى وَسَيَأْتِي التَّنْبِيه على مَا بناه ابْنه أَبُو الْحسن من ذَلِك أَيَّام ولَايَته وحافده أَبُو عنان وَغَيرهمَا إِن شَاءَ الله وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ لبني مرين جنوح إِلَى الْخَيْر ومحبة فِي الْعلم وَأَهله تشهد بذلك آثَارهم الْبَاقِيَة إِلَى الْآن فِي مدارسهم العلمية وَغَيرهَا وَفِي مثل ذَلِك يحسن أَن ينشد
(همم الْمُلُوك إِذا أَرَادوا ذكرهَا
…
من بعدهمْ فبألسن الْبُنيان)
(إِن الْبناء إِذا تعاظم شَأْنه
…
أضحى يدل على عَظِيم الشان)
أَخْبَار بني العزفي أَصْحَاب سبتة
قد تقدم لنا أَن الرئيس أَبَا سعيد فرج بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر صَاحب مالقة كَانَ قد غدر بِأَهْل سبتة وَقبض على رؤسائها من بني العزفي وغربهم إِلَى غرناطة سنة خمس وَسَبْعمائة فاستقروا هُنَالك فِي إيالة السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر الْمَعْرُوف بالمخلوع مُدَّة وَلما استولى السُّلْطَان أَبُو الرّبيع المريني على سبتة وَنفى بني الْأَحْمَر عَنْهَا استأذنه بَنو العزفي فِي الرُّجُوع إِلَى الْمغرب والقدوم عَلَيْهِ فَأذن لَهُم واستقروا بفاس وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى وَأَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْنا أبي طَالب عبد الله بن أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس احْمَد العزفي من سرواتهم وَأهل الْمُرُوءَة وَالدّين فيهم وَكَانُوا يغشون مجَالِس الْعلم بِمَسْجِد الْقرَوِيين من فاس لما كَانُوا عَلَيْهِ من انتحاله وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو سعيد أَيَّام ولَايَة بني أَبِيه من قبله يحضر مجْلِس الشَّيْخ الْفَقِيه أبي الْحسن الصَّغِير وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي طَالب يلازمه ويتودد إِلَيْهِ فاتصل بِهِ وَصَارَت لَهُ بذلك وَسِيلَة عِنْده فَلَمَّا أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد رعى لبني العزفي تِلْكَ الْوَسِيلَة فأنعم عَلَيْهِم وَعقد لأبي زَكَرِيَّاء مِنْهُم على سبتة وردهم إِلَى موطن سلفهم ومقر رياستهم فقدموها سنة عشر وَسَبْعمائة وَأَقَامُوا فِيهَا دَعْوَة السُّلْطَان أبي سعيد والتزموا طَاعَته
وَلما فوض السُّلْطَان أَبُو سعيد إِلَى ابْنه ابي عَليّ الْأَمر وَجعل لَهُ الإبرام والنقض عقد أَبُو عَليّ على سبتة لأبي زَكَرِيَّاء حيون بن أبي الْعَلَاء الْقرشِي وعزل أَبَا زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي طَالب مِنْهَا واستقدمه إِلَى فاس فَقَدمهَا هُوَ وَأَبوهُ أَبُو طَالب وَعَمه أَبُو حَاتِم واستقروا فِي جملَة السُّلْطَان وَهلك أَبُو طَالب بفاس أثْنَاء تِلْكَ الْمدَّة ثمَّ كَانَ من خُرُوج الْأَمِير أبي عَليّ على أَبِيه وانتقاضه عَلَيْهِ مَا قدمْنَاهُ فلحق أَبُو زَكَرِيَّاء بن أبي طَالب وَأَخُوهُ أَبُو زيد بالسلطان أبي
سعيد نازعين إِلَيْهِ ومفارقين لِابْنِهِ الثائر عَلَيْهِ واستمروا فِي جملَته إِلَى أَن مرض الْأَمِير أَبُو عَليّ وزحف أَبوهُ إِلَيْهِ وحاصره بفاس حَسْبَمَا مر فَحِينَئِذٍ عقد السُّلْطَان أَبُو سعيد لأبي زَكَرِيَّاء على سبتة ثَانِيًا وَبَعثه إِلَيْهَا ليقيم دَعوته فِي تِلْكَ الْجِهَات وَترك ابْنه مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء تَحت يَده رهنا على الطَّاعَة فاستقل أَبُو زَكَرِيَّاء بإمارتها وَأقَام دَعْوَة السُّلْطَان أبي سعيد بهَا واتصل ذَلِك مِنْهُ نَحْو سنتَيْن ثمَّ هلك عَمه أَبُو حَاتِم بسبتة سنة سِتّ عشرَة وَسَبْعمائة وانتقض أَبُو زَكَرِيَّاء بن أبي طَالب على السُّلْطَان أبي سعيد وَرجع إِلَى حَال سلفه من الاستبداد وَإِقَامَة الشورى بِالْبَلَدِ واستقدم من الأندلس عبد الْحق بن عُثْمَان الَّذِي كَانَ خرج على السُّلْطَان أبي الرّبيع مَعَ الْوَزير عبد الرَّحْمَن الوطاسي فَقدم عَلَيْهِ وَعقد لَهُ على الْحَرْب ليفرق بِهِ كلمة بني مرين بالمغرب ويوهن بأسهم فتخف عَلَيْهِ وطأتهم
واتصل ذَلِك كُله بالسلطان أبي سعيد فَقَامَ وَقعد وجهز إِلَى سبتة العساكر من بني مرين وَعقد على حربها للوزير إِبْرَاهِيم بن عِيسَى اليريناني فزحف إِلَيْهَا وحاصرها فَاعْتَذر إِلَيْهِ أَبُو زَكَرِيَّاء بِحَبْس ابْنه عَنهُ ومفارقته لَهُ وَأَنه إِذا رَجَعَ إِلَيْهِ ابْنه بذل الطَّاعَة وراجع الدعْوَة فَأعْلم الْوَزير السُّلْطَان بذلك فَبعث إِلَيْهِ بِالْوَلَدِ ليسلمه إِلَى أَبِيه بعد أَن يَقْتَضِي مِنْهُ مُوجبَات الطَّاعَة وأسبابها وَجَاء الْخَبَر إِلَى أبي زَكَرِيَّاء بِأَن ابْنه قد قدم وَأَنه كَائِن بفسطاط الْوَزير بساحل الْبَحْر بِحَيْثُ تتأتى الفرصة فِي أَخذه فَبعث أَبُو زَكَرِيَّاء إِلَى عبد الْحق بن عُثْمَان قَائِد الْحَرْب وأعلمه بمَكَان ابْنه فواطأه عبد الْحق على انْتِزَاعه مِنْهُم ثمَّ هجم لَيْلًا فِي جمَاعَة من حَاشِيَته على فسطاط الْوَزير فَاحْتمل الْوَلَد وَأصْبح بِهِ عِنْد أَبِيه وَسمع أهل عَسْكَر الْوَزير بالهيعة فَرَكبُوا وتبعوا الْأَثر فَلم يقفوا على خبر وتفقد الْوَزير الْوَلَد الَّذِي كَانَ عِنْده فَلم يجده واتهم الْجَيْش الْوَزير بِأَنَّهُ مالأ شيعَة أَبِيه على أَخذه وَإِلَّا فَلَا يقدم أحد هَذَا الْإِقْدَام بِدُونِ مداخلة من بعض الْجَيْش فتقبضوا على الْوَزير وَحَمَلُوهُ الى السُّلْطَان إبلاء فِي الطَّاعَة وابلاغا فِي الْعذر فَشكر لَهُم ذَلِك واطلق الْوَزير لعلمه ببراءته ونصحه
ثمَّ رغب أَبُو زَكَرِيَّاء بعْدهَا فِي رضَا السُّلْطَان وطاعته وولايته فَنَهَضَ
السُّلْطَان أَبُو سعيد رحمه الله سنة سِتّ عشرَة إِلَى طنجة لاختبار طَاعَة أبي زَكَرِيَّاء فَبَان لَهُ صدقه وَعقد لَهُ على سبتة وَاشْترط هُوَ على نَفسه حمل الجباية إِلَى السُّلْطَان وإسناء الْهَدِيَّة فِي كل سنة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن هلك أَبُو زَكَرِيَّاء سنة عشْرين وَسَبْعمائة وَقَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء إِلَى نظر ابْن عَمه مُحَمَّد بن عَليّ بن الْفَقِيه أبي الْقَاسِم شيخ قرابتهم وَكَانَ قَائِد الأساطيل بسبتة ولي النّظر فِيهَا بعد أَن نزع الْقَائِد يحيى الرنداحي إِلَى الأندلس وتغلب مُحَمَّد بن عَليّ هَذَا بسبتة وَاخْتلفت كلمة الغوغاء واضطرب الْأَمر على بني العزفي بهَا
فانتهز السُّلْطَان أَبُو سعيد الفرصة فِيهَا وَأجْمع النهوض إِلَيْهَا فَنَهَضَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة وَنزل عَلَيْهَا فبادر أهل سبتة بإيتاء طاعتهم وَعجز مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء عَن المناهضة وظنها مُحَمَّد بن عَليّ من نَفسه فتعرض لِلْأَمْرِ فِي أوغاد من لفيفها اجْتَمعُوا إِلَيْهِ فدافعهم الْمَلأ من أهل سبتة عَن ذَلِك وحملوهم على الطَّاعَة واقتادوا بني العزفي إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فانقادوا إِلَيْهِ واحتل السُّلْطَان بقصبة سبتة وثقف جهاتها ورم مِثْلَمَا واصلح خللها وَاسْتعْمل كبار رجالاته وخواص مَجْلِسه فِي أَعمالهَا فعقد لحاجبه عَامر بن فتح الله السدراتي على حاميتها وَعقد لأبي الْقَاسِم بن أبي مَدين العثماني على جبايتها وَالنَّظَر فِي مبانيها وَإِخْرَاج الْأَمْوَال للنفقات فِيهَا وأسنى جوائز الْمَلأ من مشيختها ووفر إقطاعاتهم وجراياتهم وأوعز بِبِنَاء الْبَلَد الْمُسَمّى أفراك على سبتة فشرعوا فِي بنائها سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة وانكفأ رَاجعا إِلَى حَضرته وَقد ذكر ابْن الْخَطِيب فِي كتاب الإكليل مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء هَذَا فَقَالَ فِيهِ مَا صورته فرع تأود من الرياسة فِي دوحة وَتردد بَين غدْوَة فِي الْمجد وروحة نَشأ والرياسة العزفية تعله وتنهله والدهر ييسر أمله الْأَقْصَى ويسهله حَتَّى اتسقت اسباب سعده وانتهت إِلَيْهِ رياسة سلفه من بعده فَأَلْقَت إِلَيْهِ رِحَالهَا وحطت ومتعته بقربها بعد مَا شطت ثمَّ كلح لَهُ الدَّهْر بعد مَا تَبَسم وَعَاد زعزعا نسيمه الَّذِي كَانَ تنسم وعاق هلاله عَن تمه مَا كَانَ من تغلب ابْن عَمه وَاسْتقر بِهَذِهِ الْبِلَاد نازح الدَّار بِحكم الأقدار وَإِن كَانَ نبيه المكانة
والمقدار وَجَرت عَلَيْهِ جراية وَاسِعَة ورعاية متتابعة إِلَى آخر كَلَامه وَيَعْنِي بقوله هَذِه الْبِلَاد بِلَاد الأندلس وَالله أعلم
الْمُصَاهَرَة بَين السُّلْطَان أبي سعيد فِي ابْنه أبي الْحسن وَبَين أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ أَبُو تاشفين عبد الرَّحْمَن بن أبي حمو مُوسَى بن عُثْمَان بن يغمراسن صَاحب تلمسان قد ضايق بني أبي حَفْص أَصْحَاب تونس وإفريقية فِي بِلَادهمْ وَاسْتولى على كثير من ثغورهم وردد الْبعُوث والسرايا إِلَى أَطْرَاف ممالكهم وَفِي سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة جهز ابو تاشفين إِلَيْهِم جَيْشًا كثيفا وَعقد عَلَيْهِ ليحي بن مُوسَى من صنائع دولته وَنصب مَعَ ذَلِك لملك تونس وإفريقية بعض أعقاب الحفصيين وَهُوَ مُحَمَّد بن ابي عمرَان كَانَ لَجأ إِلَيْهِ فِي بعض الْفِتَن الَّتِي كَانَت لَهُ مَعَ بني عَمه وَتقدم هَذَا الْجَيْش إِلَى أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي فهزموه واقتحموا مَدِينَة تونس فاستولوا عَلَيْهَا ونصبوا لملكها وَالْولَايَة عَلَيْهَا مُحَمَّد بن أبي عمرَان الْمَذْكُور لَيْسَ لَهُ من الْملك إِلَّا الِاسْم وَالْأَمر كُله بيد يحيى بن مُوسَى قَائِد الْجَيْش وخلص السُّلْطَان أَبُو بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي إِلَى بونة جريحا مطرودا عَن كرْسِي ملكه وَدَار عزه فعزم حِينَئِذٍ على الْوِفَادَة على السُّلْطَان أبي سعيد المريني ليَأْخُذ لَهُ حَقه من آل يغمراسن المتغلبين عَلَيْهِ وَأَرَادَ مَعَ ذَلِك تَجْدِيد الوصلة الَّتِي كَانَت لسلفه مَعَ بني مرين فَأَشَارَ عَلَيْهِ حَاجِبه مُحَمَّد بن سيد النَّاس بإنفاذ ابْنه الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء صَاحب الثغر استنكافا لَهُ عَن مثلهَا فَقبل إِشَارَته وأركب ابْنه الْمَذْكُور الْبَحْر وَبعث مَعَه وزيره أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن تافراجين نافضا أَمَامه طرق الْمَقَاصِد والمحاورات ونزلوا بمرسى غساسة من سَاحل الْمغرب وَقدمُوا على السُّلْطَان أبي سعيد بِحَضْرَتِهِ فأبلغوه رِسَالَة أبي بكر الحفصي فاهتز لذَلِك هُوَ وَابْنه الْأَمِير أَبُو الْحسن وَقَالَ لوفد الحفصيين
وَالله لأبذلن فِي مظاهرتكم مَالِي وقومي وَنَفْسِي ولأسيرن بعساكري إِلَى
تلمسان فأنازلها وَكَانَ فِيمَا شَرط عَلَيْهِم السُّلْطَان أَبُو سعيد مسير أبي بكر الحفصي بعساكره إِلَى منازلة تلمسان مَعَه فقبلوا وَانْصَرفُوا إِلَى مَنَازِلهمْ مسرورين
ونهض السُّلْطَان أَبُو سعيد إِلَى تلمسان سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَلما انْتهى إِلَى وَادي ملوية وعسكر بصبره جَاءَهُ الْخَبَر الْيَقِين بِعُود أبي بكر الحفصي إِلَى تونس وجلوسه على كرسيه بهَا فاستدعى السُّلْطَان أَبُو سعيد ابْنه أَبَا زَكَرِيَّاء ووزيره أَبَا مُحَمَّد بن تافراجين وأعلمهما الْخَبَر وأسنى جوائزهم وَأمرهمْ بالانصراف إِلَى صَاحبهمْ فَرَكبُوا أساطيلهم من غساسة
وَبعث مَعَهم إِبْرَاهِيم بن أبي حَاتِم العزفي وَالْقَاضِي بِحَضْرَتِهِ أَبَا عبد الله بن عبد الرَّزَّاق يخطبون بنت السُّلْطَان أبي بكر الحفصي لِابْنِهِ الْأَمِير أبي الْحسن فوصلوا إِلَى الحفصي وأدوا الرسَالَة وانعقد الصهر بَينهم فِي ابْنَته فَاطِمَة شَقِيقَة الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء وزفها إِلَيْهِم فِي أساطيله مَعَ مشيخة الْمُوَحِّدين وَكَبِيرهمْ ابي الْقَاسِم بن عتو فوصلوا إِلَى مرسى غساسة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فَقَامَ بَنو مرين لَهَا على أَقْدَام الْبر والكرامة وبعثوا بِالظّهْرِ إِلَى غساسة لركوبها وَحمل أثقالها صنعت حكمات الذَّهَب وَالْفِضَّة ومدت ولايا الْحَرِير المغشاة بِالذَّهَب واحتفل السُّلْطَان أَبُو سعيد رحمه الله لوفدها وأعراسها بِمَا لم يسمع بِمثلِهِ فِي دولتهم وتحدث النَّاس بِهِ دهرا وَهلك السُّلْطَان أَبُو سعيد بَين يَدي موصلها كَمَا نذْكر
وَفَاة السُّلْطَان أبي سعيد بن يَعْقُوب رحمه الله
كَانَ السُّلْطَان أَبُو سعيد رحمه الله لما بلغه الْخَبَر بوصول الْعَرُوس فَاطِمَة بنت السُّلْطَان أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة ارتحل بِنَفسِهِ إِلَى تازا ليشارف أحوالها كَرَامَة لَهَا ولأبيها وسرورا بعرس ابْنه فاعتل هُنَالك وازداد مَرضه حَتَّى إِذا أشفا على الهلكة ارتحل بِهِ ولي الْعَهْد لأمير أَبُو الْحسن إِلَى الحضرة وَحمله فِي فرَاشه على أكتاد الْحَاشِيَة والجند
حَتَّى نزل بواد سبو ثمَّ أدخلهُ كَذَلِك لَيْلًا إِلَى قصره فَأَدْرَكته الْمنية فِي طَرِيقه فَتوفي لَيْلَة الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَكَانَ مَرضه بعلة النقرس فوضعوه بمكانه من بَيته واستدعى ابْنه أَبُو الْحسن الصَّالِحين لمواراته فَدفن بِبَعْض قبابه رحمه الله وَكَانَت أَيَّامه أعيادا ومواسم وَمن أكَابِر كِتَابه الرئيس أَبُو مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ السبتي
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان الْمَنْصُور بِاللَّه أبي الْحسن عَليّ ابْن عُثْمَان بن يَعْقُوب بن عبد الْحق رحمه الله
هَذَا السُّلْطَان هُوَ أفخم مُلُوك بني مرين دولة وأضخمهم ملكا وأبعدهم صيتًا وأعظمهم أبهة وَأَكْثَرهم آثارا بالمغربين والأندلس وَيعرف عِنْد الْعَامَّة بالسلطان الأكحل لِأَن لأمه كَانَت حبشية فَكَانَ أسمر اللَّوْن والعامة تسمي الأسمر وَالْأسود أكحل وَإِنَّمَا الأكحل فِي لِسَان الْعَرَب أكحل الْعَينَيْنِ فَقَط وَكَانَ أَخُوهُ أَبُو عَليّ لمملوكة من سبي النَّصَارَى فَكَانَ أَبيض وانضاف لذَلِك أَن كَانَ أَبُو الْحسن ملكا على الحضرة وَأَبُو عَليّ ملكا على بِلَاد الْقبْلَة فَكَانَا أَخَوَيْنِ ملكَيْنِ فِي عصر وَاحِد أَحدهمَا أسمر وَالْآخر أَبيض فَعرف هَذَا بالأكحل وَالْآخر بالأبيض للمقابلة
وَلما هلك السُّلْطَان أَبُو سعيد رحمه الله اجْتمع الْخَاصَّة من المشيخة ورجالات الدولة على ولي عَهده أبي الْحسن الْمَذْكُور وعقدوا لَهُ على أنفسهم وآتوه طاعتهم فَأمر للحين بِنَقْل مُعَسْكَره من نَاحيَة سبو إِلَى الزَّيْتُون من نَاحيَة فاس وَلما فرغ من دفن أَبِيه خرج إِلَى مُعَسْكَره بِالْمحل الْمَذْكُور وَاجْتمعَ النَّاس إِلَيْهِ على طبقاتهم لأَدَاء الْبيعَة بفسطاطة وَتَوَلَّى أَخذ الْبيعَة لَهُ يَوْمئِذٍ على النَّاس الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن قَاسم المزوار والمزوار فِي لِسَان
زناتة مَعْنَاهُ الرئيس وَكَانَ هَذَا الرجل رَئِيس الوزعة والمتصرفين وحاجب الْبَاب السلطاني قديم الْولَايَة فِي ذَلِك مُنْذُ عهد السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب ثمَّ زفت على السُّلْطَان أبي الْحسن زَوجته الحفصية فَبنى بهَا بمكانه من المعسكر الْمَذْكُور وَأجْمع رَأْيه على الإنتقام لأَبِيهَا من عدوه أبي تاشفين الزياني على مَا نذكرهُ
حُدُوث الْفِتْنَة بَين الْأَخَوَيْنِ أبي الْحسن وَأبي عَليّ ثمَّ مقتل أبي عَليّ وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ السُّلْطَان أَبُو سعيد رحمه الله لما عهد بِالْأَمر لِابْنِهِ أبي الْحسن وَتحقّق مصيره إِلَيْهِ كثيرا مَا يستوصيه بأَخيه أبي عَليّ لكلفه بِهِ وشفقته عَلَيْهِ فَلَمَّا خلص الْأَمر إِلَى أبي الْحسن وَكَانَ موثرا رضَا أَبِيه جهده اعتزم على الْحَرَكَة إِلَى سجلماسة لمشارفة أَحْوَال أَخِيه وَاخْتِيَار أمره وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من سلم أَو حَرْب ليعْمَل على مُقْتَضى ذَلِك فارتحل من مُعَسْكَره بالزيتون قَاصِدا سجلماسة فَتَلَقَّتْهُ وُفُود أَخِيه أبي عَليّ أثْنَاء الطَّرِيق مُؤديا حَقه وموجبا مبرته ومهنئا لَهُ بِمَا آتَاهُ الله من الْملك ويعمله مَعَ ذَلِك بِأَنَّهُ متجاف عَن الْمُنَازعَة لَهُ قَانِع من تراث أَبِيه بِمَا فِي يَده طَالب مِنْهُ أَن يعْقد لَهُ بذلك فَأَجَابَهُ السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى مَا سَأَلَ وَعقد لَهُ على سجلماسة وَمَا والاها من بِلَاد الْقبْلَة كَمَا كَانَ لعهد أَبِيه وَأشْهد على ذَلِك الْمَلأ من بني مرين وَسَائِر زناتة وَالْعرب وانكفأ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَاجعا إِلَى تلمسان عَازِمًا على الإنتقام من أبي تاشفين الزياني فَسَار حَتَّى انْتهى إِلَى تلمسان ثمَّ تجوزها إِلَى جِهَة الشرق حَتَّى نزل بتاسالت منتظرا لقدوم صهره السُّلْطَان أبي بكر الحفصي عَلَيْهِ وَفَاء بالعهد الَّذِي كَانَ انْعَقَد لَهُ مَعَ السُّلْطَان أبي سعيد أَيَّام وفادة ابْنه أبي زَكَرِيَّاء عَلَيْهِ من أَنَّهُمَا يكونَانِ يدا وَاحِدَة على حِصَار تلمسان حَتَّى يحكم الله بَينهمَا وَبَين صَاحبهَا فَعَسْكَرَ أَبُو الْحسن بتاسالت ثمَّ بعث بِحِصَّة من جنده فِي الْبَحْر إِلَى صهره الحفصي مدَدا لَهُ وَهُوَ يَوْمئِذٍ ببجايه يُقَاتل جَيش بن زيان عَلَيْهَا
وَلم اتَّصل الْخَبَر بِأبي تاشفين صَاحب تلمسان فكر فِي أَمر أبي الْحسن
وأعمل الْحِيلَة بِأَن دس الى أَخِيه الْأَمِير أبي عَليّ صَاحب سجلماسة فِي اتِّصَال الْيَد بِهِ والاتفاق مَعَه على أَخِيه أبي الْحسن وَأَن يَأْخُذ كل وَاحِد مِنْهُمَا بحجزته عَن صَاحبه ويشغله عَنهُ حَتَّى يتمكنا مِنْهُ ووعده أَبُو تاشفين ومناه وَلم يزل بِهِ حَتَّى انْتقض على أَخِيه ونهض من سجلماسة إِلَى درعة فَقتل عاملها وَولى عَلَيْهَا عَاملا من قبله ثمَّ سرح العساكر إِلَى جِهَة مراكش وأجلب عَلَيْهَا بخيله وَرجله
واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن وَهُوَ بمعسكره من تاسالت ينْتَظر قدوم الحفصي عَلَيْهِ فانكفأ رَاجعا إِلَى الحضرة مجمعا الانتقام من أَخِيه وَلما انْتهى فِي طَرِيقه إِلَى حصن تاوريرت شحنه بالعسكر وَعقد عَلَيْهِ لِابْنِهِ تاشفين بن أبي الْحسن ووقف أمره على نظر منديل بن حمامة شيخ بني تيربعين ثمَّ أغذ السّير إِلَى سجلماسة فَنزل عَلَيْهَا وَأخذ بمخنقها وَحشر الفعلة والصناع لصنع الْآلَات وَالْبناء بساحتها وَأقَام عَلَيْهَا يغاديها بِالْقِتَالِ ويراوحها حولا كَامِلا ونهض أَبُو تاشفين فِي عساكره من تلمسان يُرِيد الْغَارة على أَطْرَاف الْمغرب كي يشغل أَبَا الْحسن عَن أَخِيه بذلك فَانْتهى إِلَى تاوريرت فبرز إِلَيْهِ تاشفين بن ابي الْحسن فِي عَسَاكِر مرين فهزموه وردوه على عقبه إِلَى تلمسان ثمَّ بعث بِحِصَّة من جنده مدَدا للأمير أبي عَليّ فتسربوا إِلَى سجلماسة جماعات وأفذاذا حَتَّى تكاملوا لَدَيْهِ فَلم يغنوا شَيْئا وطاولهم السُّلْطَان أَبُو الْحسن الْحصار أنزل بهم أَنْوَاع النكال حَتَّى اقتحم الْبَلَد عنْوَة تَاسِع عشر محرم سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وتقبض على الْأَمِير أبي عَليّ عِنْد بَاب قصره وَجِيء بِهِ إِلَى أَخِيه أبي الْحسن وَقد خامره الْجزع فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ تضرع إِلَيْهِ وَقبل حافر فرسه فَأمر أَبُو الْحسن بتثقيفه وَحمله على بغل إِلَى فاس وانكفأ هُوَ رَاجعا إِلَى الحضرة فَلَمَّا دَخلهَا اعتقل أَخَاهُ بِبَعْض حجر الْقصر أشهرا ثمَّ قَتله فصدا وخنقا وَكَانَت سنّ أبي عَليّ يَوْمئِذٍ سبعا وَثَلَاثِينَ سنة وَكَانَت دولته بسجلماسة تسع عشرَة سنة وأشهرا وَكَانَ رَقِيق الْحَاشِيَة ينتمي إِلَى الْأَدَب وَهُوَ الَّذِي استقدم ابا مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ من سبتة واستكتبه أَيَّام أَبِيه وَمن شعر الْأَمِير أبي عَليّ يُخَاطب أَخَاهُ أَبَا الْحسن أَيَّام حصاره لَهُ بسجلماسة وَقد أَيقَن بِزَوَال أمره
(فَلَا يغرنك الدَّهْر الخؤون فكم
…
أباد من كَانَ قبلي يَا أَبَا الْحسن)
(الدَّهْر مذ كَانَ لَا يبْقى على صفة
…
لابد من فَرح فِيهِ وَمن حزن)
(أَيْن الْمُلُوك الَّتِي كَانَت تهابهم
…
أَسد العرين ثووا فِي اللَّحْد والكفن)
(بعد الأسرة والتيجان قد محيت
…
رسومها وعفت عَن كل ذِي حسن)
(فاعمل لأخرى وَكن بِاللَّه مؤتمرا
…
واستغن بِاللَّه فِي سر وَفِي علن)
(واختر لنَفسك أمرا أَنْت آمره
…
كأنني لم أكن يَوْمًا وَلم تكن)
وفادة السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر على السُّلْطَان أبي الْحسن بِحَضْرَة فاس وَفتح جبل طَارق
لما هلك السُّلْطَان أَبُو الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن الرئيس أبي سعيد فرج بن الْأَحْمَر المتغلب على ملك الأندلس من يَد ابْن عَمه أبي الجيوش قَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه مُحَمَّد طفْلا صَغِيرا واستبد عَلَيْهِ وزيره مُحَمَّد بن المحروق فَقتله بَعْدَمَا شب وعقل وَكَانَ الطاغية قد استولى على جبل الْفَتْح وَهُوَ جبل طَارق سنة تسع وَسَبْعمائة وزاحم الفرنج بِهِ ثغور الْمُسلمين وَصَارَ شجى فِي صدر الدولتين المرينية والأحمرية وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن بُويِعَ الْأَمِير السُّلْطَان أَبُو الْحسن وَكَانَ لَهُ رَغْبَة فِي الْجِهَاد اقْتِدَاء بِمذهب جده يَعْقُوب بن عبد الْحق فبادر السُّلْطَان مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر إِلَى الْوِفَادَة عَلَيْهِ لإحكام عقد الْمَوَدَّة مَعَه وللمفاوضة فِي أَمر الْجِهَاد وَغير ذَلِك مِمَّا فِيهِ صَلَاح لدولته فَقدم عَلَيْهِ بدار ملكه بفاس سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فأكبر السُّلْطَان أَبُو الْحسن موصله وأركب النَّاس للقائه وأنزله بروض المصارة لصق دَاره واستبلغ فِي إكرامه وفاوضه ابْن الْأَحْمَر فِي شَأْن الْمُسلمين وَرَاء الْبَحْر وَمَا أَهَمَّهُمْ من عدوهم وشكى إِلَيْهِ حَال الْجَبَل واعتراضه شجى فِي صُدُور الثغور قبل وشكى إِلَيْهِ أَمر بني عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء لأَنهم كَانُوا قد استطالوا عَلَيْهِ فِي أرضه فأشكاه أَبُو الْحسن وعامل الله تَعَالَى فِي أَسبَاب الْجِهَاد وَكَانَ يَوْمئِذٍ مَشْغُولًا بفتنة أَخِيه أبي عَليّ وَمَعَ ذَلِك فقد أمده بالجند وَعقد لِابْنِهِ أبي مَالك
على خَمْسَة آلَاف من آنجاد بني مرين وأنفذهم مَعَ ابْن الْأَحْمَر لمنازلة جبل الْفَتْح فاحتل أَبُو مَالك بالجزيرة الخضراء وَتَتَابَعَتْ إِلَيْهِ الأساطيل بالمدد وَأرْسل ابْن الْأَحْمَر فِي الأندلس حاشرين فتسايل النَّاس إِلَيْهِ من كل جِهَة وزحفوا جَمِيعًا إِلَى الْجَبَل وَأَحَاطُوا بِهِ وأبلوا فِي منازلته الْبلَاء الْحسن إِلَى أَن فتحوه سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة واقتحمه الْمُسلمُونَ عنْوَة ونفلهم الله من كَانَ بِهِ من النَّصَارَى بِمَا مَعَهم وَشرع الْمُسلمُونَ فِي شحنه بالأقوات ينقلونها من الجزيرة الخضراء على خيولهم خوفًا من كرة الْعَدو وباشر نقلهَا الأميران أَبُو مَالك وَابْن الْأَحْمَر بأنفسهما ونقلها النَّاس عَامَّة وتحيز الْأَمِير أَبُو مَالك إِلَى الجزيرة الخضراء وَترك بِالْجَبَلِ يحيى بن طَلْحَة بن محلي من وزراء أَبِيه وَوصل الطاغية بعد ثَلَاث من فَتحه فَأَنَاخَ عَلَيْهِ وحاصره وبرز أَبُو مَالك بعساكره من الجزيرة فَنزل بإزائه وزحف ابْن الْأَحْمَر فَنزل بإزائه أَيْضا ثمَّ خَافَ ابْن الْأَحْمَر عَادِية الْعَدو لقرب الْعَهْد بارتجاع الْجَبَل وخفة من بِهِ من الحامية وَالسِّلَاح فبادر إِلَى لِقَاء الطاغية وَسبق النَّاس إِلَى فسطاطة عجلا بَائِعا نَفسه من الله فِي رضَا الْمُسلمين وسد خلتهم فَتَلقاهُ الطاغية رَاجِلا حاسرا إعظاما لَهُ وأجابه إِلَى مَا سَأَلَ من الإفراج عَن هَذَا المعقل وأتحفه بذخائر مِمَّا لَدَيْهِ وارتحل من فوره وَشرع الْأَمِير أَبُو مَالك فِي تحصين ذَلِك الثغر وسد فروجه
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي النفخ ارتجع السطلان أَبُو الْحسن جبل طَارق بعد أَن أنْفق عَلَيْهِ الْأَمْوَال وَصرف إِلَيْهِ الْجنُود والحشود ونازلته جيوشه مَعَ وَلَده وخواصه وضيقوا بِهِ إِلَى أَن استرجعوه ليد الْمُسلمين واهتم ببنائه وتحصينه وَأنْفق عَلَيْهِ أحمال المَال فِي بنائِهِ وحصنه وسوره وَبنى أبراجه وجامعه ودوره ومحاربيه وَلما كَاد يتم ذَلِك نازله الْعَدو برا وبحرا فَصَبر الْمُسلمُونَ وَخيَّب الله سعي الْكَافرين فَأَرَادَ السُّلْطَان الْمَذْكُور أَن يحصن سفح الْجَبَل بسور مُحِيط بِهِ من جَمِيع جهاته حَتَّى لَا يطْمع عَدو فِي منازلته وَلَا يجد سَبِيلا للتضييق عَلَيْهِ بمحاصرته وَرَأى النَّاس ذَلِك من الْمحَال فأنفق الْأَمْوَال وأنصف الْعمَّال فأحاط بمجموعه إحاطة الهالة بالهلال وَكَانَ بَقَاء هَذَا الْجَبَل بيد الْعَدو نيفا وَعشْرين سنة وحاصره السُّلْطَان أَبُو الْحسن سِتَّة
أشهر وَزَاد فِي تحصينه ابْنه السُّلْطَان أَبُو عنان رحمهمَا الله تَعَالَى
وَأما ابْن الْأَحْمَر فَإِن أَوْلَاد عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء شُيُوخ الْغَزْو بالأندلس لما رَأَوْا مَا حصل بَينه وَبَين السُّلْطَان أبي الْحسن من الْوِفَاق واتصال الْيَد خَافُوا أَن تعود موافقتهم بِالضَّرَرِ عَلَيْهِم إِذْ كَانُوا أَعدَاء للدولتين مَعًا أما دولة الْمغرب فبخروجهم عَلَيْهِم ومنابذتهم إيَّاهُم غير مرّة وَأما دولة الأندلس فباستحواذهم على أَهلهَا ومزاحمتهم إيَّاهُم فِي رياستها فتشاوروا فِيمَا بَينهم وفتكوا بِابْن الْأَحْمَر يَوْم رحيله عَن الْجَبَل إِلَى غرناطة فتقاصفوه بِالرِّمَاحِ وَقدمُوا أَخَاهُ ابا الْحجَّاج يُوسُف بن إِسْمَاعِيل مَكَانَهُ فَقَامَ بِالْأَمر بعده وشمر للأخذ بثار أَخِيه فاحتال على بني أبي الْعَلَاء حَتَّى قبض عَلَيْهِم وأودعهم المطبق ثمَّ غربهم إِلَى تونس إِلَى أَن كَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ
فتح تلمسان ومقتل صَاحبهَا أبي تاشفين وانقراض الدولة الأولى لبني زيان بمهلكه
لما استقام ملك الْمغرب للسُّلْطَان أبي الْحسن بمقتل أَخِيه أبي عَليّ صَاحب سجلماسة وَنصر الله جنده على الطاغية بالأندلس تفرغ لشأن تلمسان والانتقام من صَاحبهَا أبي تاشفين الَّذِي ضايق أصهاره من بني أبي حَفْص فِي أَرضهم ونازعهم فِي ملكهم وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن قد بعث لأوّل بيعَته شُفَعَاء إِلَى أبي تاشفين فِي أَن يتخلى عَن عمل الْمُوَحِّدين وَيرجع إِلَى تخوم أَعماله الَّتِي ورثهَا عَن سلفه وَقَالَ لَهُ فِي جملَة ذَلِك كف عَنْهُم وَلَو سنة وَاحِدَة ليسمع النَّاس أَنِّي نافحت عَن صهري ويقدروا قدري فاستنكف أَبُو تاشفين من ذَلِك وَأَغْلظ للرسل فِي القَوْل وأفحش بعض السُّفَهَاء من عبيده فِي الرَّد عَلَيْهِم بمجلسه ونالوا من السُّلْطَان أبي الْحسن بمحضره فَعَادَت الرُّسُل إِلَيْهِ وأعلموه بالقضية على وَجههَا فحمي لذَلِك وَغَضب وتأكد عزمه على النهوض إِلَى تلمسان فَكَانَ من نهوضه أَولا وانتقاض أَخِيه عَلَيْهِ وَعوده إِلَيْهِ من تاسالت مَا قصصناه قبل مُسْتَوفى
وَبينهمْ فَانْهَزَمَ التّرْك ثَانِيَة وَنهب الْعَرَب محلتهم وتبعوهم إِلَى وهران فحاصروهم وَلما مني الباي مِنْهُم بالداء العضال كتب إِلَى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان يعرفهُ بِمَا دهاه مِنْهُم وَيطْلب مِنْهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِم شيخهم أَبَا عبد الله الْمَذْكُور ليكفهم عَنهُ ويراجعوا طَاعَة المخزن فَبعث السُّلْطَان رحمه الله الشَّيْخ الْمَذْكُور وَمَعَهُ الْأمين الْحَاج الطَّاهِر بادو المكناسي فَانْتهى الشَّيْخ إِلَى ابْن الشريف وَهُوَ فِي جموعه بِظَاهِر وهران فَشَكا إِلَى الشَّيْخ مَا نَالَ الْفُقَرَاء والمنتسبين وَسَائِر الرعيه من عسف التّرْك وجورهم وانتهائهم فِي ذَلِك إِلَى الْقَتْل والطرد عَن الوطن فتوقف الشَّيْخ وَرُبمَا صدر مِنْهُ بعض تقبيح لفعل التّرْك وَمَا هم عَلَيْهِ فازدادت الْعَرَب بذلك تظاهرا على التّرْك وتكالبا عَلَيْهِم فاتهم الباي السُّلْطَان بِأَنَّهُ الَّذِي يغريهم لِأَنَّهُ كَانَ ينْتَظر الْفرج على يَده ويرجو رقع الْخرق من جِهَته فأخفق سَعْيه وَحِينَئِذٍ نصب مدافعه فِي وَجه جموع الْعَرَب وفرقهم بالكور والضوبلي فَانْهَزَمُوا عَن وهران وأبعدوا المفر ثمَّ تذامروا وتحالفوا وزحفوا إِلَى تلمسان فنزلوا عَلَيْهَا وحاصروها وَكَانَ أهل تلمسان خُصُوصا وقبائلها عُمُوما لَهُم الْتِفَات كَبِير إِلَى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله لما أكْرمه الله بِهِ من شرف النّسَب وَطيب المنبت وَلما اشْتهر عَنهُ من الْعدْل والرفق بالرعية والشفقة عَلَيْهَا فَكَانُوا يحبونَ الدُّخُول فِي طَاعَته والانخراط فِي سلك رَعيته فَلَمَّا نزلت الْعَرَب على تلمسان تمشت الرُّسُل بَينهم وَبَين الْحَضَر من أَهلهَا وَاتَّفَقُوا على خلع طَاعَة التّرْك ومبايعة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان ففتحوا بَاب الْمَدِينَة وَدخل ابْن الشريف وطائفته وَأخذ الْبيعَة بهَا للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وخطب بِهِ على منابرها وَوجه وفده وهديته إِلَى السُّلْطَان مَعَ شَيْخه أبي عبد الله الْمَذْكُور ثمَّ نهد فِي عربه وحضره من أهل تلمسان لِحَرْب الكرغلية الَّذين بالقصبة فأجحرهم بهَا وضيق عَلَيْهِم فَلم يبْق للترك حِينَئِذٍ شكّ فِي أَن ذَلِك كُله بِأَمْر السُّلْطَان فَكَتَبُوا إِلَى الدولاتي وَهُوَ باشاهم الْأَعْظَم صَاحب الجزائر يعلمونه بالواقع واستمرت الْحَرْب بَينهم
وَبَين ابْن الشريف فِي وسط الْمَدِينَة وَعظم الْخطب وَاشْتَدَّ الكرب وَقدم الشَّيْخ على السُّلْطَان بوفد أهل تلمسان وَالْعرب وهدية ابْن الشريف وبيعته وَأخْبرهُ بِأَن النَّاس فِي شدَّة من أَمر التّرْك وَأَنَّهُمْ قد تطارحوا على بَابه وعلقت آمالهم بِهِ وراموا الاستظلال بِظِل عدله فَرَأى السُّلْطَان رحمه الله أَن يسْلك فِي حَقهم وَحقّ التّرْك مسلكا هُوَ أرْفق بِالْجَمِيعِ فَبعث الْقَائِد أَبَا السرُور عياد بن أبي شفرة الوديي وَأمره أَن يحجز بَين الْحَضَر وَالتّرْك حَتَّى يقدم الباي إِلَى تلمسان ورد مَعَه الْوَفْد الَّذين قدمُوا مَعَ الشَّيْخ وَتقدم إِلَيْهِ فِي الْقَبْض على ابْن الشريف إِن هُوَ لم يرجع عَن الْحَرْب إِلَى السّلم ثمَّ كتب السُّلْطَان إِلَى الباي بِمَا أَزَال شكه وأبطل وهمه وَلما شَارف الْقَائِد عياد تلمسان فر الشريف إِلَى منجاته وَدخل الْقَائِد عياد الْمَدِينَة فحجز بَين الْفَرِيقَيْنِ وَقدم الباي إِلَى تلمسان فَأصْلح بَينه وَبَين رَعيته ومكنه من بَلَده وانقلب إِلَى حَال سَبيله وَمَعَ ذَلِك لم يتم للترك مَا أَرَادوا من أجل الْقَحْط الَّذِي كَانَ قد عَم حَتَّى عدمت الأقوات وجلا أهل تلمسان عَنْهَا إِلَى بِلَاد الْمغرب وَكَذَا عربها وَأهل جبالها كلهم جلوا عَن أوطانهم حَتَّى لم يبْق لباشا التّرْك مَعَ من يتَكَلَّم فضلا عَن أَن يتأمر فَجعل يكْتب إِلَى السُّلْطَان ويرغب إِلَيْهِ أَن يرد عَلَيْهِ أهل تلمسان وعربها فَكَلَّمَهُمْ السُّلْطَان رحمه الله فِي الرُّجُوع فَأَبَوا وَقَالُوا نَذْهَب إِلَى بِلَاد النَّصَارَى وَلَا نجاور التّرْك فنجمع علينا الْجُوع وَالْقَتْل فرق لَهُم السُّلْطَان وتركهم بل جبرهم بِأَن صَار يعينهم بالعطاء ويتخولهم بالصدقات الْمرة بعد الْمرة حَتَّى كَانَ عطاؤه إيَّاهُم كالراتب الْمَفْرُوض وعالج داءهم مَعَ التّرْك إِلَى أَن أخصبت بِلَادهمْ ورخصت أسعارهم فتراجعوا حِينَئِذٍ إِلَى أوطانهم وَكتب السُّلْطَان إِلَى الباي فِي شَأْنهمْ بِالْعَدْلِ وَحسن السِّيرَة فامتثل وكف أَيدي الكرغلية عَنْهُم وَلم يبْق مِنْهُم بالمغرب إِلَّا من كَانَ عَلَيْهِ دين للترك فَلم يقدر على الرُّجُوع لِأَن أَرْبَاب الدُّيُون لَا يُقِيمُونَ لَهُم وزنا وَلَا يعْملُونَ مَعَهم شرعا وَالله أعلم
ذكر مَا اتّفق للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله فِي وسط دولته من الخصب والأمن والسعادة واليمن
كَانَ هَذَا السُّلْطَان رحمه الله مَوْصُوفا بِالْعَدْلِ مَعْرُوفا بِالْخَيرِ مَرْفُوع الذّكر عِنْد الْخَاصَّة والعامة قد ألْقى الله عَلَيْهِ مِنْهُ الْمحبَّة فأحبته الْقُلُوب ولهجت بِهِ الْأَلْسِنَة لحسن سيرته وَطيب سَرِيرَته وَاتفقَ لَهُ فِي أواسط دولته من السَّعَادَة والأمن والعافية ورخاء الأسعار وابتهاج الزَّمَان وتبلج أنوار السعد والإقبال مَا جعله النَّاس تَارِيخا وتحدثوا بِهِ دهرا طَويلا حَتَّى صَارَت أَيَّام السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان مثلا فِي أَلْسِنَة الْعَامَّة وَلَقَد أدركنا الجم الْغَفِير مِمَّن أدْرك أواسط دولته فكلهم يثني عَلَيْهَا بملء فِيهِ وَيذْهب فِي إطرائها كل مَذْهَب لَوْلَا مَا كدر آخرهَا من فتْنَة البربر الَّتِي جرت مَعهَا فتنا أخر كَمَا نذْكر بعد إِن شَاءَ الله
فمما هيأ الله لَهُ من أَسبَاب الْخَيْر والسعادة أَنه بُويِعَ مَطْلُوبا لَا طَالبا ومرغوبا لَا رَاغِبًا ثمَّ لما بُويِعَ كَانَ ثَلَاثَة من إخْوَته كلهم يزاحمه فِي المنصب ثمَّ لم يزل أَمرهم يضعف وَأمره يقوى إِلَى أَن كفى الْجَمِيع من غير ضرب ولاطعن وَلَا بارز أحدا مِنْهُم قطّ وَلَا واجهه بِسوء وَمن ذَلِك أَنه لما دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَجه السُّلْطَان عَامله إِلَى صحراء فجيج وجبى أموالها واسترجع قصر المخزن الَّذِي أغتصبه أَهلهَا من يَد العبيد الَّذين كَانُوا بِهِ أَيَّام السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رحمه الله وَوجه فِي السّنة الْمَذْكُورَة جَيْشًا مَعَ عَامل فاس باعقيل السُّوسِي وَمَعَهُ جمَاعَة من قواد الْقَبَائِل إِلَى نَاحيَة الشرق فَنزل الْعَامِل مَدِينَة وَجدّة وجبى تِلْكَ الْقَبَائِل كلهَا ثمَّ بدا لَهُ فَنَهَضَ إِلَى عرب الأعشاش وَكَانَ ذَلِك خطأ مِنْهُ فِي الرَّأْي إِذْ كَانَت لَهُم شَوْكَة وَكَانَ فِي غنى عَن التَّعَرُّض لَهُم بِمَا در عَلَيْهِ من الجبايات الوافرة من تِلْكَ الْقَبَائِل لَكِن الْحِرْص لَا يزَال بِصَاحِبِهِ حَتَّى يقطع عُنُقه فَلَمَّا علمُوا بِقَصْدِهِ إيَّاهُم عدلوا عَن لِقَائِه إِلَى الْمحلة فَأَغَارُوا عَلَيْهِ وانتهبوها فَرجع أَهلهَا منهزمين
من غير قتال وَتركُوا أثقالهم بيد الْعَدو وَلم يجتمعوا إِلَّا على وَادي ملوية وَمن هُنَاكَ انفض الأحلاف إِلَى بِلَادهمْ ووقف باعقيل بالجيش وأحجم عَن الْقدوم خوفًا من السُّلْطَان فَبعث إِلَيْهِ من قبض عَلَيْهِ وَأَتَاهُ بِهِ فنكبه وعزله عَن فاس وَولى عَلَيْهَا وصيفه ابْن عبد الصَّادِق ثمَّ عَزله وَولى عَلَيْهَا مُحَمَّد واعزيز
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بالعساكر إِلَى تادلا يُرِيد بني مُوسَى وآيت أعتاب ورفالة وَبني عياط الذّبْح آووا بني مُوسَى فَبَثَّ السُّلْطَان عَلَيْهِم العساكر فنهبوا بني مُوسَى وَمن آواهم من رفالة وَبني عياط وأحرقوا مداشرهم وَقَطعُوا أَشْجَارهم وأبلغوا فِي النكاية إِلَى أَن أذعنوا إِلَى الطَّاعَة وجبوا زكواتهم وأعشارهم وعادوا منصورين وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة فتح على السُّلْطَان إقليم تيكرارين وتوات من أقْصَى الصَّحرَاء وجبى عَامله خراجهم وَعَاد سالما معافى وفيهَا حدثت الْحَرْب بَين السُّلْطَان مصطفى بن عبد الحميد العثماني وَبَين الموسكوب فَكتب العثماني إِلَى السُّلْطَان يطْلب مِنْهُ أَن يشد عضده بِأَن يُقيم قراصينه بِبَاب البوغاز من مرسى طنجة لِئَلَّا تدخل قراصين الموسكوب مِنْهُ وتعيث فِي الجزر الَّتِي هِيَ فِي ملكة العثماني كَمَا فعلت فِي دولة عَمه السُّلْطَان مصطفى بن أَحْمد فَأمر السُّلْطَان رحمه الله رُؤَسَاء قراصينه بالتهيىء وَالْمقَام هُنَالك فَفَعَلُوا وَلم يظْهر شَيْء حكى هَذَا الخبرصاحب الْبُسْتَان
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا عقد السُّلْطَان لوصيفه الْقَائِد أَحْمد بن مبارك صَاحب الطابع على جَيش كثيف وَضم إِلَيْهِ جمَاعَة من قواد الْجند والقبائل وَسَار حَتَّى نزل على حُدُود بِلَاد آيت ومالو وأحاطت العساكر السُّلْطَانِيَّة بهم من كل جِهَة وَكَانَ ذَلِك فِي فصل الشتَاء فمنعوهم من النُّزُول إِلَى الْبَسِيط للمرعى وجلب الْميرَة إِلَى أَن ضَاعَت مَوَاشِيهمْ وأذعنوا
لدفع مَا وظف عَلَيْهِم فدفعوا الْمَاشِيَة والكراع وخلى سبيلهم وفيهَا خرج السُّلْطَان من مكناسة لتفقد أَحْوَال الثغور البحرية وَكَانَ الْمُتَوَلِي على جمعهَا الْقَائِد الشهير أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن عَليّ أشعاش التطواني فَعَزله السُّلْطَان فِي هَذِه الْمرة وَولى عَلَيْهَا الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي البُخَارِيّ ثمَّ ولاه على قبائل الغرب وَالْجِبَال كلهَا وتتبع السُّلْطَان رحمه الله الثغور كلهَا وَأحسن إِلَى أَهلهَا
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان إِلَى تادلا يُرِيد عرب ورديغة وقبائل البربر الَّذين هُنَالك فأغارت عَسَاكِر السُّلْطَان عَلَيْهِم وَوَقعت بَينهم حَرْب فظيعة هلك فِيهَا عدد من الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ انتصرت العساكر السُّلْطَانِيَّة عَلَيْهِم فهزموهم ونهبوا أَمْوَالهم وألجؤوهم إِلَى الطَّاعَة فجاؤوا تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ أنفذ جَيْشًا كثيفا لآيت يسري بعد أَن قبض مِنْهُم على عدد مُعْتَبر فَشُنُّوا الْغَارة عَلَيْهِم وقاتلوهم فأذعنوا لإعطاء المَال وَلما بذلوه سرح لَهُم إخْوَانهمْ الْمَقْبُوض عَلَيْهِم وَعَاد السُّلْطَان مظفرا منصورا
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان بِلَاد الرِّيف فَنزل عين زورة وسرح الْكَتَائِب فِي قبائل الرِّيف فحاربوها وهزموها وَقتلُوا مقاتلتها وسلبوا ذراريها وحرقوا مداشرها وألجؤوهم إِلَى الطَّاعَة فقدموا على السُّلْطَان تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم على أَن يدفعوا مَا ترَتّب عَلَيْهِم ثمَّ عين السُّلْطَان الْأُمَنَاء الَّذين استوفوه مِنْهُم على التَّمام وَعَاد مظفرا منصورا وَفِي هَذِه السنين كلهَا كَانَت الرّعية فِي غَايَة الطُّمَأْنِينَة والعافية والأمن وَالْخصب والرخاء وَكَمَال السرُور والهناء حَتَّى كَانَت هَذِه الْمدَّة غرَّة فِي جبهة ذَلِك الْعَصْر ودمية فِي محراب ذَلِك الْقصر ثمَّ انعكست الْأَحْوَال وتراكمت الْأَهْوَال وعظمت الأوجال واتسع فِي الْفِتْنَة المجال وَتمّ على هَذَا السُّلْطَان الْجَلِيل الْعَالم النَّبِيل فِي آخر عمره مَا لم يتم على أحد من مُلُوك بني أَبِيه وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد
بَدْء هيجان فتْنَة البربر وَمَا نَشأ عَنْهَا من التفاقم الْأَكْبَر
لما دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف قَامَت الْفِتْنَة بَين قبائل البربر وَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا أَولا بَين آيت أدراسن وكروان وَبَين أعدائهم آيت ومالو أهل جبل فازاز ثمَّ لما انتشبوا الْحَرْب غدرت كروان بإخوانهم آيت أدراسن وانحازوا إِلَى آيت ومالو فانهزمت آيت أدراسن وَوضع آيت ومالو فيهم السَّيْف ونهبوا حلتهم بِمَا فِيهَا وتركوهم بالقاع مدقعين ولعصا الذل مهطعين وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا أَصْحَاب الْخَيل الَّذين نَجوا بنواصيها وَقدمُوا على السُّلْطَان شاكين بَاكِينَ فَقَامَ وَقعد لذَلِك لما أوجب الله عَلَيْهِ من النّظر لَهُم إِذْ هم رَعيته وشيعته وشيعة وَالِده من قبله فَجهز العساكر لنصرتهم وعادوا إِلَى حَرْب كروان فظاهرهم آيت ومالو عَلَيْهِم وهزموهم مرّة أُخْرَى ثمَّ بعد هَذَا اتّفقت البربر على حَرْب آيت أدراسن مناوأة للسُّلْطَان وبغضا فِي قائدهم مُحَمَّد واعزيز الَّذِي كَانَ يوليه عَلَيْهِم وبعثوا إِلَى دجالهم مهاوش الْمعد عِنْدهم لأمثالها وتحالفوا عِنْده على مَعْصِيّة السُّلْطَان وَطَاعَة الشَّيْطَان وعاثوا فِي الطرقات والرعايا واتسع الْخرق وَعظم الفتق فسارت إِلَيْهِم العساكر من بَاب السُّلْطَان حَتَّى نزلت بأحواز صفرو وَكَانَت لنظر الْقَائِد مُحَمَّد الصريدي الَّذِي يبغضه البربر كبغض مُحَمَّد واعزيز أَو أَكثر فكشفوا القناع فِي الْعِصْيَان وزحفوا إِلَى الْجَيْش وَهُوَ نَازل حول صفرو فأحاطوا بِهِ وانتهبوه ففر من أفلت مِنْهُ وتحصن الْبَاقِي بِمَدِينَة صفرو ونهبت الْقرى الْمُجَاورَة لَهَا وعاثوا فِي طرقات الصَّحرَاء فنهبوا من وجدوا بهَا مُقبلا أَو مُدبرا وأعضل الدَّاء وأعوز الدَّوَاء وَالسُّلْطَان مُقيم بمكناسة يعالج دائهم فَمَا نفع فِيهِ ترياق وشمخت أنوف البربر وَكلما بعث إِلَيْهِم جَيْشًا هزموه أَو سَرِيَّة انتهبوها قيل إِن منشأ ذَلِك كَانَ من أجل تمسك السُّلْطَان رحمه الله بِمُحَمد واعزيز وجبرهم على طَاعَته وَكَانُوا قد نفروا عَنهُ لسوء سيرته فيهم
وَالْمَعْرُوف من حَال السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله خلاف هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ قَلما تَشْكُو رعية إِلَيْهِ بعاملها إِلَّا ويعزله عَنْهَا تحريا للعدل واتهاما للعمال حَتَّى لقد عيب عَلَيْهِ ذَلِك فِي بعض الْأَحْوَال من جِهَة السياسة وَلما أعيا السُّلْطَان أَمرهم تَركهم فوضى ووكل الْقَائِد عياد بن أبي شفرة بتدبير أمرهَا وَتوجه إِلَى مراكش فَكَانَ عياد على أَمرهم أعجز وبسياستهم أَجْهَل وَصَارَ يتألفهم بالعطاء وَيجْرِي الْمُؤَن على كل من يقدم عَلَيْهِ مِنْهُم من طَعَام وعلف وَنَحْو ذَلِك فَكَانَ ذَلِك مِمَّا زَاد فِي طغيانهم حَتَّى كَانُوا ينهبون أَمْوَال النَّاس ومتاعهم بِبَاب فاس ويدخلون لقبض الخفارة وَأخذ الْميرَة وَإِذا تكلم أحد من أهل الْبَلَد قَالَ الْقَائِد الْمَذْكُور إِن السُّلْطَان أَمرنِي بذلك وَرُبمَا عاقب من يعْتَرض عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أمره السُّلْطَان أَن يسوسهم على الْوَجْه الَّذِي لَا ضَرَر فِيهِ على الدولة وَلَا على الرّعية وَالله أعلم
إجلاب السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان على برابرة كروان ورجوعه عَنْهُم من آصرو وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
لما وصل السُّلْطَان إِلَى مراكش اسْتنْفرَ قبائل الْحَوْز كلهَا وَقدم بهم إِلَى مكناسة واستنفر قبائل الغرب من الأحلاف والحياينة وَأهل الفحص وَأهل الغرب وَبني حسن وَأهل الثغور وَضرب الْبَعْث على جَيش العبيد والودايا وشراقة وَأَوْلَاد جَامع واستصحب مَعَه البربر الَّذين هم فِي طَاعَته حَتَّى لم يبْق أحد بالمغرب وَخرج فِي هَذَا الْجمع الْعَظِيم قَاصِدا كروان وهم يَوْمئِذٍ بتاسماكت وَلما وصل إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بآصرو وَبَقِي بَينهم وَبَينه نصف مرحلة بِحَيْثُ صَار يرى محلتهم ويرون محلته بدا لَهُ فَرجع يُرِيد آيت يوسي فَكَانَ ذَلِك الرُّجُوع سَبَب الخذلان وَلما رَأَتْهُ عُيُون كروان رَاجعا ظنُّوا بِهِ جبنا فجرؤوا على الْجَيْش وتبعوه من خَلفه إِلَى أَن خالطوا أخريات
النَّاس فأوقعوا بهم وَقتلُوا ونهبوا وَأَيْنَ أَوله بَينهمَا مرحلة وَلَا علم للسابق بِمَا جرى على اللَّاحِق ثمَّ نزل السُّلْطَان على آيت يوسي بِقرب آعليل وصاروا بَنو مكيلد أَمَامه وكروان من خَلفه وَلم يكن علم بِمَا وَقع فِي الْعَسْكَر من النهب وَالْقَتْل إِلَى أَن ورد عَلَيْهِ منهزمة العبيد لَيْلًا فأخبروه بِمَا وَقع وَأَن قَائِد عسكره أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الشَّاهِد قد قتل فِي جمَاعَة من القواد وَغَيرهم ففت ذَلِك فِي عضده وتجلد رحمه الله ليلته تِلْكَ وَلما أصبح ركبت العساكر وقصدت آيت ومالو الَّذين كَانُوا مَعَ آيت يوسي وَلما وَقعت الْحَرْب انهزم عَسْكَر السُّلْطَان وألجأهم البربر إِلَى شعب لَا منفذ لَهُ فترجلوا وَتركُوا الْخَيل ونجوا بأعناقهم وحمتهم آيت يمور وآيت أدراسن حَتَّى خلصوهم وَكَانَت حلتهم قَرِيبا من الْعَسْكَر فَلَو تبعوهم لوقعوا عَلَيْهَا وَلما حصلت هَذِه المزية لهَؤُلَاء البربر الَّذين هم شيعَة السُّلْطَان وَلم تظهر للْعَرَب مزية حقدوا ذَلِك عَلَيْهِم وصاروا كل من دنا من الْمحلة مِنْهُم قبضوا عَلَيْهِ وقتلوه وَقَالُوا إِن البربر كلهم سَوَاء فَلَمَّا وَقع ذَلِك بشيعة السُّلْطَان امتعضوا وَرفعُوا أَمرهم إِلَيْهِ فَأمر كَاتبه وعامله مُحَمَّدًا السلاوي أَن ينظر فِي أَمرهم فبحث الْقَائِد الْمَذْكُور حَتَّى اطلع على حَقِيقَة الْأَمر وَعلم فَسَاد نِيَّة البربر لما وَقع بهم من الْقَتْل وسط الْمحلة وَرَأى أَن الْقصاص فِي ذَلِك الْوَقْت مُتَعَذر وَأَن عاقبته غير مَأْمُونَة فَأَشَارَ على السُّلْطَان بِالرُّجُوعِ قبل أَن يَتَّسِع الْخرق على الراقع فَرجع وَكَانَ رُجُوعه أكبر غنيمَة وَكَثْرَة هَذِه الجموع بِلَا تَرْتِيب سَبَب تِلْكَ الْهَزِيمَة وَالْأَمر كُله لله وَهَذِه الْوَقْعَة تعرف عِنْد النَّاس بوقعة آصرو إِضَافَة إِلَى الْموضع الَّذِي انْتهى إِلَيْهِ السُّلْطَان من بِلَاد البربر ثمَّ رَجَعَ عَنهُ وَقد جعلهَا الْعَامَّة تَارِيخا يَقُولُونَ كَانَ ذَلِك عَام وقْعَة آصرو وَالله تَعَالَى أعلم
مراسلة صَاحب تونس حمودة باشا ابْن عَليّ باي للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله وَمَا اتّفق فِي ذَلِك
وَفِي هَذِه الْمدَّة أَو مَا يقرب مِنْهَا بعث صَاحب تونس وَهُوَ الرئيس حمودة باشا ابْن عَليّ باي الْعَالم الأديب الطَّائِر الصيت الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الْقَادِر الريَاحي إِلَى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله فَقدم عَلَيْهِ حَضْرَة فاس وَمَعَهُ هَدِيَّة وَكتاب يتَضَمَّن طلب الْإِمْدَاد بالميرة لحدوث المسغبة بالبلاد التونسية فأعظم السُّلْطَان رحمه الله مقدم هَذَا الشَّيْخ واهتزت لَهُ فاس وامتدح السُّلْطَان بقصيدة من جيد شعره يَقُول فِي أَولهَا
(إِن عز من خير الْأَنَام مَزَار
…
فلنا بزورة نجله استبشار)
وَمن جُمْلَتهَا قَوْله
(هَذَا الْخَلِيفَة وَابْن أكْرم مُرْسل
…
وسليل من تمطى لَهُ الأكوار)
(وخلاصة الْأَشْرَاف وَالْخُلَفَاء من
…
بَيت البتول وحبذا الأظهار)
(وَأجل وَارِث ملك إِسْمَاعِيل من
…
بَطل شذا أخباره معطار)
(وأعز سُلْطَان وأشرف مَالك
…
شَرقَتْ بِملك يَمِينه الْأَحْرَار)
(وأحق من تَحت السَّمَاء بِأَن يرى
…
ملك البسيطة والورى أنصار)
(لَكِن إِذا كل الْقُلُوب تحبه
…
فلغيره الْأَجْسَام وَهِي نفار)
(هَذَا سُلَيْمَان الرضي ابْن مُحَمَّد
…
من أشرقت لجبينه الْأَنْوَار)
(هَذَا الَّذِي رد الْخلَافَة غضه
…
وسما بِهِ للْمُسلمين منار)
(وأعز دين الله فَهُوَ بشكره
…
فِي أيكها تترنم الأطيار)
فأعجب السُّلْطَان وَمن حضر بهَا وأمده بمطلبه من الْميرَة وبهدية جليلة وآب الشَّيْخ من سفارته بِخَير مآب
وُصُول كتاب صَاحب الْحجاز عبد الله بن سعود الوهابي إِلَى فاس وَمَا قَالَه الْعلمَاء فِي ذَلِك
وَفِي هَذِه الْمدَّة أَيْضا وصل كتاب عبد الله بن سعود الوهابي النابع بِجَزِيرَة الْعَرَب المتغلب على الْحَرَمَيْنِ الشريفين الْمظهر لمَذْهَب بهما إِلَى فاس المحروسة وأصل هَذِه الطَّائِفَة الوهابية كَمَا عِنْد صَاحب التعريبات الشافية وَغَيره أَن فَقِيرا من عرب نجد يُقَال لَهُ سُلَيْمَان رأى فِي الْمَنَام كَأَن شعلة من نَار خرجت من بدنه وانتشرت وَصَارَت تَأْكُل مَا قابلها فَقص رُؤْيَاهُ على بعض المعبرين فَفَسَّرَهَا لَهُ بِأَن أحد أَوْلَاده يجدد دولة قَوِيَّة فتحققت الرُّؤْيَا فِي ابْن ابْنه الشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن سُلَيْمَان فالمؤسس للْمَذْهَب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب وَلَكِن نسب إِلَى عبد الْوَهَّاب فَلَمَّا كبر مُحَمَّد احترمه أهل بِلَاده ثمَّ أخبر بِأَنَّهُ قرشي وَمن أهل بَيت النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَألف لَهُم قَوَاعِد وعقائد وَهِي عبَادَة الله وَاحِد قديم قَادر حق رحمان يثيب الْمُطِيع ويعاقب العَاصِي وَأَن الْقُرْآن قديم يجب اتِّبَاعه دون الْفُرُوع المستنبطة وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وحبيبه وَلَكِن لَا يَنْبَغِي وَصفه بأوصاف الْمَدْح والتعظيم إِذْ لَا يَلِيق ذَلِك إِلَّا بالقديم وَأَن الله تَعَالَى حَيْثُ لم يرض بِهَذَا الْإِشْرَاك سَخَّرَهُ ليهدي النَّاس إِلَى سَوَاء الطَّرِيق فَمن امتثل فبها ونعمت وَمن أَبى فَهُوَ جدير بِالْقَتْلِ فَهَذِهِ أصُول مذْهبه وَكَانَ قد بثه أَولا سرا فقلده أنَاس ثمَّ سَافر إِلَى الشَّام لهَذَا الْأَمر فَلَمَّا لم يجد بِهِ مُرَاده رَجَعَ إِلَى بِلَاد الْعَرَب بعد غيبته عَنْهَا ثَلَاث سِنِين فاتصل بشيخ من أَشْيَاخ عرب نجد يُقَال لَهُ عبد الله بن سعود وَكَانَ شهما كريم النَّفس فقلده وَقَامَ بنصرة مذْهبه وَقَاتل عَلَيْهِ حَتَّى أظهره واقتسم الرياسة هُوَ وَمُحَمّد بن عبد الْوَهَّاب فَابْن عبد الْوَهَّاب صَاحب الِاجْتِهَاد فِي مسَائِل الدّين وَابْن سعود أَمِير الوهابية وَصَاحب حربهم وَلَا زَالَ أَمر هَؤُلَاءِ الوهابية يظْهر شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن تغلبُوا على الْحجاز والحرمين الشريفين وَسَائِر بِلَاد الْعَرَب ثمَّ
قَالَ صَاحب التعريبات الشافية إِن مَسَاجِد الوهابية خَالِيَة عَن المنارات والقباب وَغَيرهَا من الْبدع المستحسنة لَا يعظمون الْأَئِمَّة وَلَا الْأَوْلِيَاء ويدفنون موتاهم من غير مشْهد واحتفال يَأْكُلُون خبز الشّعير وَالتَّمْر وَالْجَرَاد والسمك وَلَا يَأْكُلُون اللَّحْم والأرز إِلَّا نَادرا وَلَا يشربون القهوة وملابسهم ومساكنهم غير مزينة اه
وَلما استولى ابْن سعود على الْحَرَمَيْنِ الشريفين بعث كتبه إِلَى الْآفَاق كالعراق وَالشَّام ومصر وَالْمغْرب يَدْعُو النَّاس إِلَى اتِّبَاع مذْهبه والتمسك بدعوته وَلما وصل كِتَابه إِلَى تونس بعث مفتيها نُسْخَة مِنْهُ إِلَى عُلَمَاء فاس فتصدى للجواب عَنهُ الشَّيْخ الْعَلامَة الأديب أَبُو الْفَيْض حمدون بن الْحَاج
قَالَ صَاحب الْجَيْش كَانَ تصدي الشَّيْخ أبي الْفَيْض لذَلِك الْجَواب بِأَمْر السُّلْطَان وعَلى لِسَانه وَذهب بجوابه وَلَده الْمولى إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان حِين سَافر لِلْحَجِّ قلت وَهَذَا يَقْتَضِي أَن كتاب ابْن سعود ورد عِلّة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بِالْقَصْدِ الأول لَا أَن نُسْخَة مِنْهُ وَردت بِوَاسِطَة عُلَمَاء تونس وَالله تَعَالَى أعلم
حج الْمولى أبي اسحاق إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَجه السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله وَلَده الْأُسْتَاذ الْأَفْضَل الْمولى أَبَا اسحاق إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان إِلَى الْحجاز لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج مَعَ الركب النَّبَوِيّ الَّذِي جرت الْعَادة بِخُرُوجِهِ من فاس على هَيْئَة بديعة من الاحتفال وإبراز الأخبية لظَاهِر الْبَلَد وقرع الطبول وَإِظْهَار الزِّينَة وَكَانَت الْمُلُوك تعنى بذلك وتختار لَهُ أَصْنَاف النَّاس من الْعلمَاء والأعيان والتجار وَالْقَاضِي وَشَيخ الركب وَغير ذَلِك مِمَّا يضاهي ركب مصر وَالشَّام وَغَيرهمَا فَوجه السُّلْطَان وَلَده الْمَذْكُور فِي جمَاعَة
من عُلَمَاء الْمغرب وأعيانه مثل الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي أبي الْفضل الْعَبَّاس بن كيران والفقيه الشريف الْبركَة الْمولى الْأمين بن جَعْفَر الحسني الرتبي والفقيه الْعَلامَة الشهير أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الساحلي وَغَيرهم من عُلَمَاء الْمغرب وشيوخه فوصلوا إِلَى الْحجاز وقضوا الْمَنَاسِك وزاروا الرَّوْضَة المشرفة على حِين تعذر ذَلِك وَعدم اسْتِيفَائه على مَا يَنْبَغِي لاشتداد شَوْكَة الوهابيين بالحجاز يَوْمئِذٍ ومضايقتهم لحجاج الْآفَاق فِي أُمُور حجهم وزياراتهم إِلَّا على مُقْتَضى مَذْهَبهم
حكى صَاحب الْجَيْش أَن الْمولى إِبْرَاهِيم ذهب إِلَى الْحَج واستصحب مَعَه جَوَاب السُّلْطَان فَكَانَ سَببا لتسهيل الْأَمر عَلَيْهِم وعَلى كل من تعلق بهم من الْحجَّاج شرقا وغربا حَتَّى قضوا مناسكهم وزيارتهم على الْأَمْن والأمان وَالْبر وَالْإِحْسَان قَالَ حَدثنَا جماع وافرة مِمَّن حج مَعَ الْمولى إِبْرَاهِيم فِي تِلْكَ السّنة أَنهم مَا رَأَوْا من ذَلِك السُّلْطَان يَعْنِي ابْن سعود مَا يُخَالف مَا عرفوه من ظَاهر الشَّرِيعَة وَإِنَّمَا شاهدوا مِنْهُ وَمن أَتْبَاعه غَايَة الاسْتقَامَة وَالْقِيَام بشعائر الْإِسْلَام من صَلَاة وطهارة وَصِيَام وَنهي عَن الْمُنكر الْحَرَام وتنقية الْحَرَمَيْنِ الشريفين من القاذورات والآثام الَّتِي كَانَت تفعل بهما جهارا من غير نَكِير وَذكروا أَن حَاله كَحال آحَاد النَّاس لَا يتَمَيَّز عَن غَيره بزِي وَلَا مركوب ولالباس وَأَنه لما اجْتمع بالشريف الْمولى إِبْرَاهِيم أظهر لَهُ التَّعْظِيم الْوَاجِب لأهل الْبَيْت الْكَرِيم وَجلسَ مَعَه كجلوس أحد أَصْحَابه وحاشيته وَكَانَ الَّذِي تولى الْكَلَام مَعَه هُوَ الْفَقِيه القَاضِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم الزداغي فَكَانَ من جملَة مَا قَالَ ابْن سعود لَهُم إِن النَّاس يَزْعمُونَ أننا مخالفون للسّنة المحمدية فَأَي شَيْء رَأَيْتُمُونَا خَالَفنَا من السّنة وَأي شَيْء سمعتموه عَنَّا قبل اجتماعكم بِنَا فَقَالَ لَهُ القَاضِي بلغنَا أَنكُمْ تَقولُونَ بالاستواء الذاتي المستلزم لجسمية المستوى فَقَالَ لَهُم معَاذ الله إِنَّمَا نقُول كَمَا قَالَ مَالك الاسْتوَاء مَعْلُوم والكيف مَجْهُول وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة فَهَل فِي هَذَا من مُخَالفَة فالوا
لَا وبمثل هَذَا نقُول نَحن أَيْضا ثمَّ قَالَ لَهُ القَاضِي وبلغنا عَنْكُم أَنكُمْ تَقولُونَ بِعَدَمِ حَيَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وحياة إخوانه من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي قُبُورهم فَلَمَّا سمع ذكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم ارتعد وَرفع صَوته بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالَ معَاذ الله إِنَّمَا نقُول إِنَّه صلى الله عليه وسلم حَيّ فِي قَبره وَكَذَا غَيره من الآنبياء حَيَاة فَوق حَيَاة الشُّهَدَاء ثمَّ قَالَ لَهُ القَاضِي وبلغنا أَنكُمْ تمْنَعُونَ من زيارته صلى الله عليه وسلم وزيارة سَائِر الْأَمْوَات مَعَ ثُبُوتهَا فِي الصِّحَاح الَّتِي لَا يُمكن إنكارها فَقَالَ معَاذ الله أَن ننكر مَا ثَبت فِي شرعنا وَهل منعناكم أَنْتُم لما عرفنَا أَنكُمْ تعرفُون كيفيتها وآدابها وَإِنَّمَا نمْنَع مِنْهَا الْعَامَّة الَّذين يشركُونَ الْعُبُودِيَّة بالألوهية وَيطْلبُونَ من الْأَمْوَات أَن تقضى لَهُم أغراضهم الَّتِي لَا تقضيها إِلَّا الربوبية وَإِنَّمَا سَبِيل الزِّيَارَة الِاعْتِبَار بِحَال الْمَوْتَى وتذكر مصير الزائر إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ المزور ثمَّ يَدْعُو لَهُ بالمغفرة ويستشفع بِهِ إِلَى الله تَعَالَى وَيسْأل الله تَعَالَى الْمُنْفَرد بالإعطاء وَالْمَنْع بجاه ذَلِك الْمَيِّت إِن كَانَ مِمَّن يَلِيق أَن يتشفع بِهِ هَذَا قَول إمامنا أَحْمد بن حَنْبَل رضي الله عنه وَلما كَانَ الْعَوام فِي غَايَة الْبعد عَن إِدْرَاك هَذَا الْمَعْنى منعناهم سدا للذريعة فَأَي مُخَالفَة للسّنة فِي هَذَا الْقدر أه
ثمَّ قَالَ صَاحب الْجَيْش هَذَا مَا حدث بِهِ أُولَئِكَ المذكورون سمعنَا ذَلِك من بَعضهم جمَاعَة ثمَّ سَأَلنَا الْبَاقِي أفرادا فاتفق خبرهم على ذَلِك اه
قلت مَسْأَلَة زِيَارَة قُبُور الْأَنْبِيَاء والأولياء مَشْهُورَة فِي كتب الْأَئِمَّة وَهِي من الْقرب المرغوب فِيهَا عِنْد الْجُمْهُور ومنعها قوم من الحنابل وشدد تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية مِنْهُم فِيهَا محتجا بقوله عليه الصلاة والسلام لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد مَسْجِدي هَذَا وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى وَهُوَ عِنْد الْجُمْهُور مؤول بِأَن الْمَعْنى لَا تشد الرّحال لصَلَاة فِي مَسْجِد إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد اه وَقد بسط القَوْل فِي هَذَا صَاحب الْمَوَاهِب اللدنية وَالْقَوْل الْفَصْل أَن التَّبَرُّك بآثار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام والأولياء رضي الله عنهم وزيارة مشاهدهم من الْأَمر الْمَعْرُوف عِنْد أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم الْمجمع عَلَيْهِ
خلفا وسلفا لَا يسع إِنْكَاره غير أَن للزيارة آدابا تجب الْمُحَافظَة عَلَيْهَا وشروطا لَا بُد من مراعاتها وَالْوُقُوف لَدَيْهَا ثمَّ القَوْل بمنعها مُطلقًا سدا للذريعة فِي حق الْعَامَّة إِذْ هم أَكثر النَّاس وغولا فِي ذَلِك فِيهِ نظر أما الْأَنْبِيَاء فَلَا يَنْبَغِي لعاقل أَن يحرم نَفسه من الْوُقُوف على مشاهدهم والتبرك بتربتهم والاحتماء بحماهم وَلَا أَن يَقُول بذلك لمزيد ارْتِفَاع درجتهم عِنْد الله تَعَالَى ولندور اتِّفَاق زيارتهم لأكْثر الغرباء وَأما الْأَوْلِيَاء فَالْقَوْل بِمَنْع زيارتهم سدا للذريعة مَعَ بَيَان الْعلَّة وإشهارها بَين النَّاس حَتَّى لَا يلتبس عَلَيْهِم الْمَقْصُود قَول وجيه لَا تأباه قَوَاعِد الشَّرِيعَة بل تَقْتَضِيه وَالله أعلم وَهَذَا القَوْل هُوَ الَّذِي رَآهُ الشَّيْخ الْفَقِيه الصُّوفِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التجاني رحمه الله حَتَّى نهى أَصْحَابه عَن زِيَارَة الْأَوْلِيَاء
وَأَقُول إِن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله كَانَ يرى شَيْئا من ذَلِك ولأجله كتب رسَالَته الْمَشْهُورَة الَّتِي تكلم فِيهَا على حَال متفقرة الْوَقْت وحذر فِيهَا رضي الله عنه من الْخُرُوج عَن السّنة والتغالي فِي الْبِدْعَة وَبَين فِيهَا بعض آدَاب زِيَارَة الْأَوْلِيَاء وحذر من تغالي الْعَوام فِي ذَلِك وَأَغْلظ فِيهَا مُبَالغَة فِي النصح للْمُسلمين جزاه الله خيرا وَمن كَلَامه فِيهَا مَا نَصه تَنْبِيه من الغلو الْبعيد ابتهال أهل مراكش بِهَذِهِ الْكَلِمَة سَبْعَة رجال فَهَل كَانَ لسبعة رجال شيعَة يطوفون عَلَيْهِم إِلَى أَن قَالَ فعلينا أَن نقتدي بسبعة رجال وَلَا نتخذهم آلِهَة لِئَلَّا يؤول الْحَال فيهم إِلَى مَا آل إِلَيْهِ فِي يَغُوث ويعوق ونسرا إِلَى آخر كَلَامه وَصدق رحمه الله فكم من ضَلَالَة وَكفر أَصْلهَا الغلو فِي التَّعْظِيم وَمَا ضلت النَّصَارَى إِلَّا من غلوهم فِي عِيسَى وَأمه عليهما السلام قَالَ الله تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق} النِّسَاء 17 الْآيَة وَمن ذَلِك قصَّة يَغُوث ويعوق ونسرا الْمشَار إِلَيْهَا وَهِي مَذْكُورَة فِي الصَّحِيح وَفِي كتب التَّفْسِير
وَحكى ابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة أَن أصل حُدُوث عبَادَة الْحجر فِي بِلَاد الْعَرَب أَن آل إِسْمَاعِيل عليه السلام لما كَثُرُوا حول الْحرم وَضَاقَتْ بهم
من عِنْده وأعلمناكم لِتَكُونُوا على بَصِيرَة إِذْ رُبمَا يبلغ المرجفون على عَادَتهم النَّازِلَة على غير وَجههَا وَالسَّلَام فِي ثامن عشر شعْبَان الْمُعظم عَام ثَمَانِيَة وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف
إِيقَاع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله بعرب الرحامنة
لما كَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله بِبِلَاد الغرب مشتغلا بِأَمْر الإصبنيول وحربه على تطاوين ثار عرب الرحامنة بالحوز وعمدوا إِلَى سوق الْخَمِيس بمراكش فَأَغَارُوا عَلَيْهِ وانتهبوه وسلبوا الْمَارَّة وأرباب الجنات وضايقوا أهل مراكش حَتَّى منعوهم من الارتفاق حول الْمَدِينَة فَانْقَطَعت السبل وَارْتَفَعت الأسعار وَقطع الرحامنة مَا حول الأسوار من الْأَشْجَار واحتطبوها وحصدوا الزروع فِي الفدن واغتصبوها وَاشْتَدَّ الْحصار وتخاذلت الْأَنْصَار ودام الْحَال إِلَى أَن فرغ السُّلْطَان رحمه الله من حَرْب الإصبنيول وفتنة الروكي فَوجه وجهته إِلَى مراكش فَلَمَّا قرب مِنْهَا تحزب الرحامنة وَأَجْمعُوا على حربه فانحازوا إِلَى نَاحيَة الرميلة والأودية وزاوية ابْن ساسي ليحولوا بَينه وَبَين الدُّخُول إِلَى مراكش فهجم عَلَيْهِم وأوقع بهم وقْعَة سيقوا بهَا بعد سَاعَة إِلَى مراكش مُقرنين فِي الحبال حَتَّى ضَاقَتْ بهم السجون وَلَوْلَا أَنه رحمه الله كف أَيدي الْجَيْش عَنْهُم لاستأصلوهم ثمَّ عَفا عَنْهُم بعد أَن انتزع مِنْهُم بِلَاد آيت سَعَادَة وغواطم والأودية وَهِي من أخصب الْبِلَاد وأزكاها وَكتب السُّلْطَان فِي هَذِه الْوَقْعَة لِأَخِيهِ الْمولى الرشيد بِكِتَاب مختوم عَلَيْهِ بالخاتم الْكَبِير بن الِافْتِتَاح وَالْخطاب وبداخل الْخَاتم مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن غفر الله لَهُ وبدائرته
(وَمن تكن برَسُول الله نصرته
…
إِن تلقه الْأسد فِي آجامها تجم) {وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب} هود 88 وبأركان الْخَاتم الله
مُحَمَّد أَبُو بكر عمر عُثْمَان عَليّ وَنَصّ الِافْتِتَاح الْحَمد لله الَّذِي تدارك الْأمة باللطف الْكَفِيل بتمهيد أقطارها وتيسير أوطارها وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه الَّذين نصروا الدّين بالصفاح والأسنة وأوضحوا أَحْكَام السّنة أخانا الْأَعَز الأرضى مولَايَ الرشيد أصلحك الله وأعانك وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإِنَّهُ لما تَوَاتَرَتْ الأنباء المحققة بعد التباسها وتواردت الْأَخْبَار الَّتِي يُغني نَصهَا عَن قياسها بِمَا ارْتَكَبهُ ظالموا أنفسهم الرحامنة من أَنْوَاع الْفساد الَّتِي أذاعوها وأظهروها وأشاعوها وَقد كَانَت فِي صُدُورهمْ كامنة صرفنَا الوجهة إِلَيْهِم وطوينا المراحل من أَجلهم وَلما حللنا ببلادهم أرسلنَا عَلَيْهِم سيل العرم من العساكر المنصورة والجيوش الموفورة فَمَا كَانَ غير بعيد حَتَّى أَتَوا برؤوس مِنْهُم كَثِيرَة مَحْمُولَة على أسنة الرماح وأسارى من مُقَاتلَتهمْ مجردين من الثِّيَاب وَالسِّلَاح وَمن نجى مِنْهُم رَجَعَ مُجَردا إِلَّا من خيبة سَعْيه وَمَا سقِِي إِلَّا بكأس بغيه واستولت العساكر والأجناد على جَمِيع مَا كَانَ عِنْد أهل الْفساد وَمن الْمَعْلُوم أَن من سل سيف الْبَغي يعود إِلَى نَحره وَمن ركب متن الشقاق يغرق فِي بحره وَأَن الْفِتْنَة نَار تحرق من أوقدها والمخالفة صَفْقَة تعود بالخسارة على من عقدهَا وَلما أردنَا معادوتهم لقطع دابرهم وتشتيت مَا بَقِي من رماد أَثَرهم تعلقوا بالمرابطين من ذَوي الوجاهات وَأَكْثرُوا من الذَّبَائِح على الْمحَال وتوجيه العارات وَقَامُوا بِوَاجِب السّمع وَالطَّاعَة فِي كل مَا أمرناهم بِهِ جهد الِاسْتِطَاعَة فأبقينا عَلَيْهِم وَإِن عَادَتْ الْعَقْرَب عدنا بحول الله لَهَا وَكَانَت النَّعْل لَهَا حَاضِرَة فَالْحَمْد لله الَّذِي خيب آمالهم وأبطل أَعْمَالهم وخذل أنصارهم وأركد أعمارهم لما اعمى أَبْصَارهم وردهم ناكصين على الأعقاب بعد سلب الْأَمْوَال وَقطع الرّقاب {ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب} الْأَنْفَال 13 ونعوذ بِاللَّه من الآراء المعكوسة والحظوظ المنكوسة وَسُوء الْفِعْل الَّذِي يُورد المهالك والحرمان الَّذِي يَجْعَل الْبَصِير كالأعمى فِي دجنة اللَّيْل الحالك هَذَا ويصلكم مَا قطع من رُؤُوس قتلاهم لتتعلق بِبَاب الْمَدِينَة وَيعْتَبر بهَا المعتبرون ويتذكر بهَا
المتذكرون وَالله أسأَل أَن لَا يكلنا إِلَى أَنْفُسنَا طرفَة عين وَلَا أقل من ذَلِك وَأَن يكون لنا وللمسلمين بِمَا كَانَ لأوليائه وأحبائه وأصفيائه وَأَن يوفقنا وإياهم لما يُحِبهُ ويرضاه وَيخْتم للْجَمِيع بِخَير وَالسَّلَام فِي ذِي الْحجَّة الْحَرَام عَام ثَمَانِيَة وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَمن تَمَامه وَأَن علقت يَوْمًا وَاحِدًا فادفعها لحملتها وَلَا بُد ليتوجهوا بهَا إِلَى مكناسة صَحَّ بِهِ اهـ نَص الْكتاب الشريف
وَفِي سنة تسع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف سَافر شَيخنَا الْفَقِيه الْعَلامَة البارع أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز محبوبة السلاوي إِلَى الْحجاز لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج فوافته منيته بِمَكَّة المشرفة بعد الْفَرَاغ من الْحَج وَالْعمْرَة وَدفن بالمعلاة وَكَانَ رحمه الله وَاعِيَة دراكة نفاعة كثير الدَّرْس وَالتَّقْيِيد والنسخ للكتب الْمُعْتَبرَة فصيح الْعبارَة حسن النغمة وَالصَّوْت عَارِفًا بِالْحَدِيثِ دؤوبا على سرده عَارِفًا بالنحو وَالْفِقْه وعلوم الْآلَة لازمناه وانتفعنا بِهِ وعادت علينا بركاته رحمه الله ونفعنا بِهِ وَكنت رثيته بقصيدة ذهبت فِي جملَة مَا ذهب من شعري إِذْ لم يكن لي اعتناء بتقييده ومطلعها
(مُلَازمَة التذْكَار تذْهب باللب
…
وتغري قديم الوجد بالهائم الصب)
وَفِي سنة ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ يَوْم السبت الرَّابِع عشر من شعْبَان مِنْهَا كَانَت هدة البارود بمراكش وَذَلِكَ أَنه كَانَ بِجَامِع الفناء مِنْهَا فندق فِي بعض بيوته نَحْو أَرْبَعمِائَة قِنْطَار من البارود وَبِه أَيْضا شَيْء من فَحم الريش الْمُتَّخذ للبارود فَوَقَعت فِيهِ نَار وسرت مِنْهُ إِلَى البارود فنفض وَقت الْغُرُوب من الْيَوْم الْمَذْكُور وَالنَّاس كَثِيرُونَ حول الفندق فطار الفندق بِمَا فِيهِ وَكَانَت حيطانه عَادِية وطار من كَانَ حوله من النَّاس قيل نَحْو الثلاثمائة فَمنهمْ من لم يُوجد أصلا وَمِنْهُم من وجد بعضه من يَد أَو رجل وَنَحْو ذَلِك وتهدمت كل دَار كَانَت متلاشية بمراكش وانخلعت الأقفال من الْأَبْوَاب وصرصرت السقوف والحيطان وَكَانَ الْحَادِث عَظِيما وَفِي هَذِه السّنة ورد يَهُودِيّ من اللوندرة على السُّلْطَان بمراكش يطْلب مِنْهُ الْحُرِّيَّة ليهود الْمغرب وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
لما كَانَت وقْعَة تطاوين ودهم النَّاس مَا دهمهم من أَمر الحمايات وَأكْثر من تعلق بهَا الْيَهُود لم يقتصروا على ذَلِك وراموا الْحُرِّيَّة تشبها بيهود مصر وَنَحْوهَا فَكَتَبُوا إِلَى يَهُودِيّ من كبار تجارهم باللوندرة اسْمه روشابيل وَكَانَ هَذَا الْيَهُودِيّ قَارون زَمَانه وَكَانَت لَهُ وجاهة كَبِيرَة فِي دولة النجليز لِأَنَّهَا كَانَت تحْتَاج إِلَيْهِ فيسلفها الْأَمْوَال الطائلة وَله فِي ذَلِك أَخْبَار مَشْهُورَة فَكتب يهود الْمغرب إِلَيْهِ أَو بَعضهم يَشكونَ إِلَيْهِ مَا هم فِيهِ من الذلة وَالصغَار وَيطْلبُونَ مِنْهُ الوساطة لَهُم عِنْد السُّلْطَان رحمه الله فِي الإنعام عَلَيْهِم بِالْحُرِّيَّةِ فعين هَذَا الْيَهُودِيّ صهرا لَهُ للوفادة على السُّلْطَان رحمه الله فِي هَذَا الْغَرَض وَفِي غَيره وأصحبه هَدَايَا نفيسة وَسَأَلَ من دولة النجليز أَن يشفعوا لَهُ عِنْد السُّلْطَان ويكتبوا لَهُ فِي قَضَاء غَرَضه فَفَعَلُوا وَقدم على السُّلْطَان بمراكش وَقدم هداياه وَسَأَلَ تَنْفِيذ مطلبه فتجافى السُّلْطَان رحمه الله عَن رده مخفقا وَأَعْطَاهُ ظهيرا فتمسك بِهِ الْيَهُودِيّ يتَضَمَّن صَرِيح الشَّرْع وَمَا أوجب الله لَهُم من حفظ الذِّمَّة وَعدم الظُّلم والعسف وَلم يعطهم فِيهِ حريَّة كحرية النَّصَارَى وَنَصّ الظهير الْمَذْكُور بالطابع الْكَبِير
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم نأمر من يقف على كتَابنَا هَذَا أسماه الله وأعز أمره وأطلع فِي سَمَاء الْمَعَالِي شمسه المنيرة وبدره من سَائِر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أَعمالنَا أَن يعاملوا الْيَهُود الَّذين بِسَائِر إيالتنا بِمَا أوجبه الله تَعَالَى من نصب ميزَان الْحق والتسوية بَينهم وَبَين غَيرهم فِي الْأَحْكَام حَتَّى لَا يلْحق أحدا مِنْهُم مِثْقَال ذرة من الظُّلم وَلَا يضام وَلَا ينالهم مَكْرُوه وَلَا اهتضام وَأَن لَا يتعدوا هم وَلَا غَيرهم على أحد مِنْهُم لَا فِي أنفسهم وَلَا فِي أَمْوَالهم وَأَن لَا يستعلموا أهل الْحَرْف مِنْهُم إِلَّا عَن طيب أنفسهم وعَلى شَرط توفيتهم بِمَا يستحقونه على عَمَلهم لِأَن الظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة وَنحن لَا نوافق عَلَيْهِ لَا فِي حَقهم وَلَا فِي حق غَيرهم وَلَا نرضاه لِأَن النَّاس كلهم عندنَا فِي الْحق سَوَاء وَمن ظلم أحدا مِنْهُم أَو تعدى عَلَيْهِ فَإنَّا نعاقبه بحول الله وَهَذَا الْأَمر الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وأوضحناه وبيناه كَانَ مقررا ومعروفا محررا لَكِن زِدْنَا هَذَا المسطور تقريرا وتأكيدا
ووعيدا فِي حق من يُرِيد ظلمهم وَتَشْديد ليزِيد الْيَهُود أمنا إِلَى أَمنهم وَمن يُرِيد التَّعَدِّي عَلَيْهِم خوفًا إِلَى خوفهم صدر بِهِ أمرنَا المعتز بِاللَّه فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من شعْبَان الْمُبَارك عَام ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما مكنهم السُّلْطَان من هَذَا الظهير أخذُوا مِنْهُ نسخا وفرقوها فِي جَمِيع يهود الْمغرب وَظهر مِنْهُم تطاول وطيش وَأَرَادُوا أَن يختصوا فِي الْأَحْكَام فِيمَا بَينهم لَا سِيمَا يهود المراسي فَإِنَّهُم تحالفوا وتعاهدوا على ذَلِك ثمَّ أبطل الله كيدهم وَخيَّب سَعْيهمْ على أَن السُّلْطَان رحمه الله لما أحس بطيش الْيَهُود عقب ذَلِك الظهير بِكِتَاب آخر بَين فِيهِ المُرَاد وَأَن ذَلِك الْإِيصَاء إِنَّمَا هُوَ فِي حق أهل الْمُرُوءَة وَالْمَسَاكِين مِنْهُم المشتغلين بِمَا يعنيهم وَأما صعاليكهم المعروفون بِالْفُجُورِ والتطاول على النَّاس والخوض فِيمَا لَا يَعْنِي فيعاملون بِمَا يستحقونه من الْأَدَب
وَاعْلَم أَن هَذِه الْحُرِّيَّة الَّتِي أحدثها الفرنج فِي هَذِه السنين هِيَ من وضع الزَّنَادِقَة قطعا لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِم إِسْقَاط حُقُوق الله وَحُقُوق الْوَالِدين وَحُقُوق الإنسانية رَأْسا أما إِسْقَاطهَا لحقوق الله فَإِن الله تَعَالَى أوجب على تَارِك الصَّلَاة وَالصَّوْم وعَلى شَارِب الْخمر وعَلى الزَّانِي طَائِعا حدودا مَعْلُومَة وَالْحريَّة تَقْتَضِي إِسْقَاط ذَلِك كَمَا لَا يخفى وَأما إِسْقَاطهَا لحقوق الْوَالِدين فلأنهم خذلهم الله يَقُولُونَ إِن الْوَلَد الْحَدث إِذا وصل إِلَى حد الْبلُوغ وَالْبِنْت الْبكر إِذا بلغت سنّ الْعشْرين مثلا يفْعَلَانِ بأنفسهما مَا شاءا وَلَا كَلَام للْوَالِدين فضلا عَن الْأَقَارِب فضلا عَن الْحَاكِم وَنحن نعلم أَن الْأَب يسخطه مَا يرى من وَلَده أَو بنته من الْأُمُور الَّتِي تهتك الْمُرُوءَة وتزري بِالْعرضِ سِيمَا إِذا كَانَ من ذَوي البيوتات فارتكاب ذَلِك على عينه مَعَ مَنعه من الْكَلَام فِيهِ مُوجب للعقوق ومسقط لحقه من البرور وَأما إِسْقَاطهَا لحقوق الإنسانية فَإِن الله تَعَالَى لما خلق الْإِنْسَان كرمه وشرفه بِالْعقلِ الَّذِي يعقله عَن الْوُقُوع فِي الرذائل ويبعثه على الاتصاف بالفضائل وَبِذَلِك تميز عَمَّا عداهُ من الْحَيَوَان وَضَابِط الْحُرِّيَّة عِنْدهم لَا يُوجب مُرَاعَاة هَذِه الْأُمُور بل يُبِيح للْإنْسَان أَن يتعاطى مَا ينفر عَنهُ الطَّبْع وتأباه الغريزة الإنسانية من التظاهر بالفحش والزنى وَغير ذَلِك إِن شَاءَ لِأَنَّهُ مَالك أَمر نَفسه فَلَا يلْزم أَن يتَقَيَّد بِقَيْد وَلَا فرق بَينه وَبَين الْبَهِيمَة
الْمُرْسلَة إِلَّا فِي شَيْء وَاحِد هُوَ إِعْطَاء الْحق لإِنْسَان آخر مثله فَلَا يجوز لَهُ أَن يَظْلمه وَمَا عدا ذَلِك فَلَا سَبِيل لأحد على إِلْزَامه إِيَّاه وَهَذَا وَاضح الْبطلَان لِأَن الله تَعَالَى حَكِيم وَمَا ميز الْإِنْسَان بِالْعقلِ إِلَّا ليحمله هَذِه التكاليف الشَّرْعِيَّة من معرفَة خالقه وبارئه والخضوع لَهُ لتَكون لَهُ بهَا الْمنزلَة عِنْد الله فِي العقبى {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَاوَات وَالْأَرْض} الْأَحْزَاب 72 الْآيَة
وَاعْلَم أَن الْحُرِّيَّة الشَّرْعِيَّة هِيَ الَّتِي ذكرهَا الله فِي كِتَابه وَبَينهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وحررها الْفُقَهَاء رضي الله عنهم فِي بَاب الْحجر من كتبهمْ فراجع ذَلِك وتفهمه ترشد وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
وَفِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كمل بِنَاء الدَّار الفيحاء الَّتِي أَنْشَأَهَا السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله بآجدال من ظَاهر رِبَاط الْفَتْح بجوار ضريح جده سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَهِي دَار كَبِيرَة حَسَنَة الْبناء وَاسِعَة المقاعد والفناء يُقَال إِنَّهَا من أَخَوَات بديع الْمَنْصُور وَلما كمل بناؤها أَمر السُّلْطَان رحمه الله أَن يخْتم فِيهَا فُقَهَاء رِبَاط الْفَتْح صَحِيح البُخَارِيّ أَولا وفقهاء سلا ثَانِيًا فدخلناها فِي جُمْلَتهمْ وتقصينا منازلها ومقاعدها فَرَأَيْنَا مَا مَلأ أبصارنا حسنا وإتقانا وَعَجِيب صَنْعَة
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف حدثت فتْنَة بفاس وَذَلِكَ أَن النَّاس كَانُوا فِي صَلَاة الْجُمُعَة بِمَسْجِد الْقرَوِيين خَامِس ربيع الأول وَكَانَ فيهم التَّاجِر الأمجد أَبُو عبد الله حبيب بن هَاشم بن جلون الفاسي فَلَمَّا سجد مَعَ النَّاس شدخ بعض اللُّصُوص رَأسه بِحجر كَبِير من أَحْجَار التَّيَمُّم الَّتِي تكون بِالْمَسْجِدِ ثمَّ انحنى عَلَيْهِ بخنجر كَانَ بِيَدِهِ فَقطع بِهِ صفاق بَطْنه وساوره التَّاجِر الْمَذْكُور وَمَا بالعير من قماص وَلما وَقعت الضجة قطع النَّاس صلَاتهم وَخَرجُوا فارين من الْمَسْجِد وَتركُوا ثِيَابهمْ ونعالهم ومصاحفهم وَغير ذَلِك فَقَائِل يَقُول إِن الإِمَام الْمهْدي قد خرج وَآخر يَقُول إِن النَّاس يذبح بَعضهم بَعْضًا فِي الْجَامِع واهتزت الْمَدِينَة ثمَّ تراجع النَّاس بعد حِين وَأما اللص فَإِنَّهُ خرج شاهرا سلاحه حَتَّى وصل إِلَى بَاب الْمَسْجِد فكثره النَّاس وقبضوا عَلَيْهِ وانتزعوا السِّلَاح من يَده وكشفوه فَإِذا بِهِ قد أدَار حِبَالًا كَثِيرَة من تَحت الثِّيَاب
على بدنه وقاية لَهُ فَقَتَلُوهُ هُنَالك وَبَقِي التَّاجِر ابْن جلون يعالج جراحاته إِلَى أَن مَاتَ من آخر اللَّيْل واتهم أولياؤه نَاسا من أَعْيَان فاس بِأَنَّهُم أغروا بقتْله وَلم يثبت ذَلِك
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَجه السُّلْطَان رحمه الله قَائِد جَيْشه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الشَّرْقِي وعامل سلا أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن سعيد السلاوي باشدورين إِلَى دولة فرنسا بباريس وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك مَا أَخْبرنِي بِهِ الْقَائِد أَبُو عبد الله بن سعيد الْمَذْكُور قَالَ كَانَ سيدنَا أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله قد أصحبنا كتابا إِلَى طاغية الفرنسيس وأمرنا بالْكلَام مَعَه فِي شَأْن هَؤُلَاءِ النواب الَّذين يَبْعَثهُم إِلَى الْمغرب وَأَن يكون ينتخبهم من بيُوت الْأَعْيَان وَمِمَّنْ يَتَّصِف بالتأني وَحسن السِّيرَة وَالْوُقُوف عِنْد مَا حد لَهُم وَلما وصلنا إِلَى باريس شرحنا ذَلِك للطاغية الْمَذْكُور كِتَابَة ففرح وقابلنا بمالا مزِيد عَلَيْهِ من البرور الَّذِي لَا نقدر على شَرحه مَعَ إِن إكرامنا وَالْحَمْد لله لَهُم يفوق ذَلِك فِي الصوائر وَكُنَّا توجهنا ومعنا خُيُول وَغَيرهَا وأقمنا بباريس شهرا وَكَانَ مقامنا بدار كَثِيرَة الْفرش والأثاث من الْفضة والمعدن ووكل بِنَا أَمِين يصير علينا حسب نَظرنَا وقومة يباشرون فرش الْمنزل وتنظيفه وَغير ذَلِك ومعنا أَصْحَابنَا وطباخنا إِلَّا أَنهم منعزلون بِمحل يخصهم وَفِي كل يَوْم تستدعينا الدولة للفرجة بِمحل يُسمى التياترو فِيهِ مواعظ وَحكم لمن تبصر ومتعة للنَّفس لمن كَانَ حَظه النّظر وَقد أكرمنا الطاغية بمنزله وَأَكْرمنَا الوزراء وعامل الْبَلَد والأعيان لَيْلًا وكل وَاحِد يجمع علينا أَعْيَان الدولة وَأهل الْبَلَد نسَاء ورجالا وعادتهم عِنْد دخولك الْمنزل أَن تحيي الزَّوْجَة وَمن مَعهَا بِالسَّلَامِ أَولا ثمَّ بعد ذَلِك تحيي الرجل ورأينا من الطاغية ووزيره على الْأُمُور البرانية من البرور والبشاشة مَا جَاوز الْحَد وَطلب منا هَذَا الطاغية أَن نبحث لَهُ فِي كتب التَّارِيخ بالمغرب هَل نعثر على تَارِيخ بِنَاء رومة وَفِي أَي وَقت بنيت وَاسم بانيها ونبعث بِهِ إِلَيْهِ اهـ كَلَام الْعَامِل الْمَذْكُور وَهُوَ حفظه الله من أمثل النَّاس
وأعدلهم وأتقاهم وَله الْمنزلَة الْكَبِيرَة عِنْد السُّلْطَان وَعند النَّاس حرس الله مجادته وأدام بمنه عافيته وسلامته
وَنَصّ الْكتاب الَّذِي وجههم بِهِ السُّلْطَان رحمه الله مَكْتُوبًا فِيهِ اسْم السُّلْطَان بداخل الطابع الشريف بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم من عبد الله المتَوَكل على الله الْمُفَوض أمره إِلَى الله أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ بالمغرب الْأَقْصَى وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَفقه الله أدام الله نَصره وزين بالخيرات عصره إِلَى الْمُحب الَّذِي حل من مَرَاتِب الرياسة أسناها وَحَازَ من خِصَال التَّقَدُّم أقصاها وَأَدْنَاهَا فَأَصْبَحت ألسن الرؤساء لهجة بِذكرِهِ مفصحة بِتَسْلِيم نتائج فكره ملك الممالك الفرنساوية السُّلْطَان نابليون الثَّالِث بونابارتي أما بعد فموجب تَحْرِير هَذَا المسطور إِلَيْكُم إعلامكم بِمَا تضمنه الْفُؤَاد من خَالص الْمحبَّة وَحفظ الوداد وإننا مسرورون بِمَا يَتَجَدَّد لدينا كل وَقت من عقد أَسبَابهَا وَمَا يظْهر كل حِين من تشييد أَرْكَانهَا وَفتح أَبْوَابهَا فَإِن محبتنا مَعكُمْ الشخصية زَادَت على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي عهد الأسلاف وَذَلِكَ لما جبلتم عَلَيْهِ من صفاء الطوية وَحسن الائتلاف فَإِن الْقُلُوب فِي الوداد تتضاهى وَمَا بني على أصل وثيق كَانَ جَدِيرًا بِأَن يعظم ويتناهى وبموجب ذَلِك عينا للسفارة إِلَيْكُم خَالنَا الأرضى الأنجد الْقَائِد مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الشَّرْقِي وَهُوَ أحد باشات جيشنا وَمن كبراء رجال دولتنا مَعَ مَا تشرف بِهِ من قرَابَة الرَّحِم لدينا وَمَعَهُ خديمنا الأرضي الْأمين الْحَاج مُحَمَّد بن سعيد قَائِد سلا وَهُوَ عندنَا أَيْضا بِالْمَكَانِ المكين لما تخلق بِهِ من الْأَدَب وَالْعقل الرصين وَالْغَرَض من توجيههما تَجْدِيد الْعَهْد بكم والحرص على مُوالَاة المواصلة مَعكُمْ لما فِي ذَلِك من تَأْكِيد أَسبَاب الْمحبَّة بَين الدولتين وتمهيد طَرِيق الْخَيْر بَين الإيالتين وَالظَّن بشيمتكم مقابلتهم بِحسن الْقبُول وتبليغهم فِي وجهتهم غَايَة المأمول جَريا على عادتكم الْقَدِيمَة وسلوكا على طريقتكم القويمة وَقد حملناهم مَا فِي خاطرنا من أُمُور السياسة الجالبة لمصَالح الْجَانِبَيْنِ مَا يقررونه لديكم ويعرضونه عَلَيْكُم فَفِي أخبارهم كِفَايَة وأوصيناهم بِحسن الِاسْتِمَاع لما تلقونه
إِلَيْهِم وَالْأَدب فِي تلقي مَا تعرضونه عَلَيْهِم كَمَا أننا نتحقق أَنكُمْ لحسن معاملتكم ومزيد محبتكم توصون نوابكم الَّذين توجهونهم للْخدمَة بإيالتنا السعيدة بِحسن الْمُعَامَلَة والتقصي فِي ترحيب الصَّدْر والمجاملة وَالْوُقُوف عِنْد الشُّرُوط وَالْعَمَل بمقتضاها والتمام فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ
وَاعْلَم أَن هَذَا الْكتاب بديع فِي بَابه غَرِيب فِي منواله قد اشْتَمَل من التوريات والنكات ومقتضيات الْأَحْوَال على مَا يشْهد لمنشئه بالمعرفة والمهارة والبصيرة والبصارة رحمه الله وَفِي شَوَّال من هَذِه السّنة مرض السُّلْطَان رحمه الله مَرضا شَدِيدا أشرف مِنْهُ على الْهَلَاك بل أشاع المرجفون أَنه قد هلك واضطربت أَحْوَال الرّعية وَعَاد أَعْرَاب الْبَادِيَة إِلَى العيث فِي الطرقات واستلاب النَّاس بهَا من الْمَارَّة وَغَيرهم وحاصر عرب عَامر مَدِينَة سلا وعاثوا فِي جناتها وَمنعُوا الدَّاخِل إِلَيْهَا وَالْخَارِج مِنْهَا وغلقت الْأَبْوَاب وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى عيد الْأَضْحَى ثمَّ ورد الْخَبَر الْيَقِين بإبلال السُّلْطَان وإفاقته من علته وَكَانَت علته الدَّاء الْمَعْرُوف بالخوانق بلغ بِهِ إِلَى حد الْيَأْس والإشراف ثمَّ تدارك الله الْمُسلمين بِلُطْفِهِ وَمن على إمَامهمْ بعافيته فأعملت المفرحات والولائم فِي جَمِيع الْأَمْصَار
قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس مَا ملخصه لما أَفَاق السُّلْطَان رحمه الله من علته هَذِه كتب حجاب الحضرة ووزراؤها لِابْنِهِ الْخَلِيفَة الْمُنْتَصر بِاللَّه أبي عَليّ الْمولى حسن بن مُحَمَّد يهنئونه بعافية السُّلْطَان فَأمر هَذَا الْخَلِيفَة أعزه الله بِإِخْرَاج المدافع والأنفاض حَتَّى اهتزت الْجبَال ثمَّ دَعَا أيده الله النَّاس الدعْوَة الحفلا فَلم يتَخَلَّف مِمَّن كَانَ بمراكش أحد من الْعُقَلَاء فَأمر أيده الله بتهيئة جنان رضوَان ففتحت أبوابه وفرشت قصوره وقبابه وفجرت أنهاره حَتَّى تفتقت أزهاره وَحضر وُجُوه الدولة وأعيانها ورؤساء الْقَبَائِل وأقيالها وَكَانَ ذَلِك بأثر عيد الْأَضْحَى قبل انْفِصَال وُفُود الْعِيد عَن الحضرة ثمَّ انْدفع عَلَيْهِم من الدَّار المولوية من سيول مَوَائِد الطَّعَام الفاخر مَا عَم الأول مِنْهُم وَالْآخر هَذَا للعامة الْمُطلقَة والأوزاع الملفقة وَأما الْخَواص وَالْوُجُوه
فَلهم الْحَظ الأوفر من الْعِنَايَة وَالْخطاب بِصَرِيح الترحيب دون كِنَايَة بالقعود على الْفرش الحريرية المذهبة والمقاعد الْعَالِيَة المطنبة والرش بمياه الأزهار ومباخر الطّيب وكل معنى لطيف ومنظر عَجِيب وَقد أحضر كل وَاحِد مَا شَاءَ من آلَات اللَّهْو والفرح على حسب مَا اشْتهى واقترح فَلَا تكَاد تسمع فِي تِلْكَ الْمجَالِس والمغاني إِلَّا أصوات المثالث والمثاني وضروب الألحان والأغاني وَاسْتمرّ النَّاس فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام وَالْمولى الْخَلِيفَة أعزه الله مَعَ إخْوَته وَبني عَمه فِي الْقبَّة المحمدية الصويرية المشرفة على مجاري الْخَيل وملاعبها ومطاردها ومتاعبها وكل عَشِيَّة يركب من بالحضرة من الْوُجُوه والأكابر على عتاق الْخَيل والجياد الضوامر ويبدي مَا عِنْده من الثقافة والفروسية مَعَ إِظْهَار الشارة المخزنية والأبهة الملوكية ثمَّ بعد هَذَا شرع كبار الدولة ووجوهها ورؤساؤها وقوادها فِي انتخاب الصَّنَائِع والولائم كل على حسب مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اخْتِيَاره واعتناؤه ثمَّ تتَابع النَّاس فِي مزهاتهم وَإِظْهَار أبهاتهم وانتخاب دواعي الأفراح ومقتضيات الازدهاء والانشراح فَمَا يمر اُحْدُ ببستان إِلَّا ويجد بِهِ جمَاعَة زاهية وَطَائِفَة منبسطة لاهية اهـ
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَ بالمغرب جَراد سد الْأُفق وَذَلِكَ فِي ربيع الأول الْمُوَافق لشهر مارس العجمي فَأكل النَّجْم وَالشَّجر ثمَّ عقبه فرخه الْمَعْرُوف بآمرد فَأكل كل خضراء على وَجه الأَرْض واستلب الأعواد من أوراقها وقشرها من لحائها وفاض فِي الْأَمْصَار حَتَّى دخل على النَّاس فِي بُيُوتهم
وَفِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَ الغلاء المفرط بالمغرب الَّذِي لم يتَقَدَّم مثله بلغ فِيهِ الرّبيع وَهُوَ ربع ثمن الْمَدّ بسلا ورباط الْفَتْح سِتِّينَ أُوقِيَّة وَبَاعَ النَّاس أثاثهم وحليهم بالبخس وَكَانَ الْأَمر شَدِيدا على الضُّعَفَاء وَفِي ذِي الْقعدَة من هَذِه السّنة توفّي الْقَائِد الْأَجَل أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الْملك بن بيهي الحاحي وَكَانَ من كبار قواد الْمغرب وَأهل الْبَذْل والإيثار وَالْمَعْرُوف لَهُ فِي ذَلِك أَخْبَار مَذْكُورَة رَحمَه الله
وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَ الوباء بالمغرب بالقيء والإسهال المفرطين على نَحْو مَا وصفناه فِي السنين الْمَاضِيَة وَفِي زَوَال يَوْم الْأَحَد الْحَادِي عشر من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي قَاضِي سلا الْفَقِيه الْعَلامَة الْوَرع أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد بن مَنْصُور وَدفن بالجبانة الْمُتَّصِلَة بضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس بن عَاشر رضي الله عنه وَكَانَت لهَذَا القَاضِي سيرة حَسَنَة وَعدل فِي الْأَحْكَام وتأن فِيهَا مَعَ سمت ومروءة وانقباض رحمه الله وَبقيت سلا بِلَا قَاض أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى وَقع اخْتِيَار السُّلْطَان على شَيخنَا الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي أبي بكر ابْن الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي مُحَمَّد عواد رحم الله الْجَمِيع
وَفِي هَذِه السّنة أَمر السُّلْطَان رحمه الله بِضَرْب الدِّرْهَم الشَّرْعِيّ وحاول ضبط السِّكَّة بِهِ وَحمل النَّاس على أَن لَا يذكرُوا فِي معاملاتهم وأنكحتهم وَسَائِر عقودهم إِلَّا الدِّرْهَم الشَّرْعِيّ وشدد فِي ذَلِك وَكتب فِيهِ إِلَى وُلَاة الْأَمْصَار يَقُول فِي كِتَابه مَا نَصه وَبعد فَإِن أَمر السِّكَّة من الْأُمُور الْوَاجِبَة الْمُتَعَيّن رد البال إِلَيْهَا والاهتمام بشأنها وَالنَّظَر فِيمَا يصدر بِسَبَبِهَا من النَّفْع وَالضَّرَر للْمُسلمين وَبَيت مَالهم وَقد كَانَ أسلافنا رحمهم الله اعتنوا كثيرا بشأنها وبضبط مصالحها وَدفع مفاسدها وجعلوها على قدر شَرْعِي مَعْلُوم لضبط أمرهَا والتبرك بِتِلْكَ النِّسْبَة إِذْ بذلك يعلم الْمُسلم علم يَقِين كَمَال النّصاب عِنْده فَتجب عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاة الَّتِي هِيَ من دعائم الْإِسْلَام أَو عدم كَمَاله فَلَا يكون مُخَاطبا فِي بِشَيْء وَلما رَأينَا مَا حدث فِيهَا من التَّغَيُّر وَعدم الضَّبْط وَنَشَأ عَن ذَلِك من الضَّرَر للْمُسلمين وَبَيت مَالهم مَا لم يخف على أحد اقْتضى نَظرنَا السديد ردهَا لأصلها الْأَصِيل الَّذِي أسسه أسلافنا الْكِرَام سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف أذلنا فيهم أُسْوَة حَسَنَة فِي الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل فَرددْنَا الدِّرْهَم الْكَبِير المسلوك على وزن الدِّرْهَم الشَّرْعِيّ والمنهاج المرعي كَمَا كَانَ على عهد جدنا سَيِّدي الْكَبِير قدسه الله وجدد عَلَيْهِ وابل رحماه بِحَيْثُ تكون عشرَة دَرَاهِم مِنْهُ هِيَ المثقال كَمَا هُوَ مَعْلُوم إِن عشرَة دَرَاهِم من الدَّرَاهِم الَّتِي كَانَت تروج قبل على عهد أسلاقنا رحمهم الله هِيَ المثقال وَبِهَذَا الْعدَد
الَّذِي هُوَ عشرَة مِنْهُ فِي المثقال تكون جَمِيع الْمُعَامَلَات والمخالطات فِي البيع والابتياع وَغَيرهمَا بَين جَمِيع رعيتنا السعيدة فِي كل الْبَوَادِي والحواضر وَبِه أمرنَا جَمِيع الْعمَّال وَمن هُوَ مُكَلّف بِعَمَل من الْأَعْمَال وإشاعته ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب وَبِه يقبل لجَانب المَال وأمرناهم بِالْعَمَلِ بِهَذَا الْأَمر الَّذِي أصدرناه وأبرمناه بحول الله وأمضيناه وَأَن يعاقبوا كل من عثروا عَلَيْهِ ارْتكب خلاف ذَلِك وَبِأَن يسلكوا بِهِ أضيق المسالك جَزَاء وفَاقا على مُخَالفَته وتعديه الْحَد وافتياته نعم مَا سلف من الْمُعَامَلَات بِجَمِيعِ أَنْوَاعهَا فِيمَا تقدم قبل تَارِيخ هَذَا الْكتاب فَحكمه حكم مَا تقدم فِي السِّكَّة فَلَا يُكَلف أحد بِزِيَادَة وَمن كَانَ بِذِمَّتِهِ شَيْء فِيمَا سلف يُؤَدِّيه بِحِسَاب مَا كَانَت تروج بِهِ السِّكَّة فِي الريال وَالدِّرْهَم وَالْعَمَل بِهَذَا الَّذِي أمرنَا بِهِ هُوَ من الْآن لما يسْتَقْبل إِن شَاءَ الله وَبِهَذَا يَزُول الْإِشْكَال فِيمَا تقدم بَين النَّاس فِي الْمُعَامَلَات ونسأل الله أَن يخلص الْعَمَل فِي سَبيله ومرضاته ويجازي من فَضله وَكَرمه على قَصده وَصَلَاح نياته وَالسَّلَام فِي ثامن شَوَّال عَام خَمْسَة وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس عشر من شَوَّال الْمَذْكُور توفّي الْبركَة الْخَيْر المنتسب سَيِّدي الْحَاج مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ الدلائي الرباطي بِالدَّار الْبَيْضَاء وَدفن يَوْم الْجُمُعَة بالزاوية المنسوبة إِلَيْهِ بهَا رحمه الله ونفعنا بِهِ وَفِي هَذِه السّنة كَانَ سوق دَار البلار بباريس من أَرض افرانسا وَذَلِكَ أَن الطاغية نابليون الثَّالِث لما بلغ من ضخامة الدولة ونفوذ الْكَلِمَة مَا قل اتفاقه لغيره من الْأَجْنَاس حاول أَن يتَجَاوَز ذَلِك إِلَى أَن يجلب إِلَى رَعيته وَدَار ملكه كل أَمر غَرِيب فِي الْعَالم حَتَّى يجْتَمع عِنْده مَا افترق عِنْد غَيره فَكتب إِلَى مُلُوك الْآفَاق يَقُول إِنَّه قد عزم على إِقَامَة سوق بباريس فِي وَقت مَعْلُوم وَطلب مِنْهُم أَن يبعثوا بتجارهم لحضورها وجلب سلعهم وغرائبهم إِلَيْهَا وقصده بذلك عُمُوم النَّفْع وتعدي الصَّنَائِع والحرف من أمة إِلَى أُخْرَى فَأجَاب الْمُلُوك داعيه بِمُقْتَضى الْعرف الْجَارِي بَين الدول وَالْعَادَة المقررة من عهد الْمُلُوك الأول وَلم يبْق إِلَّا من بعث تجاره ونفائسه وغرائبه من الْجَلِيل إِلَى الحقير وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله قد بعث تاجره الْحَاج مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ القباج الفاسي
الْمَعْرُوف بالفرنساوي وَهَذَا الرجل من العارفين بِاللِّسَانِ الفرنجي البصيرين بعوائد ذَلِك الجيل وَلذَا لقب بالفرنساوي وَبعث مَعَه السُّلْطَان رحمه الله كل شَيْء غَرِيب مِمَّا اخْتصَّ بِهِ قطر الْمغرب من سروج مذهبَة ومناطق مزخرفة وقطائف منمقة وَغير ذَلِك من الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى حَتَّى الزليج الفاسي والمعلمين الَّذين يباشرون ترصيعه فِي محاله وَحضر هَذَا السُّوق الْمُلُوك فَمن دونهم من كل إقليم حَتَّى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز العثماني رحمه الله فَكَانَ الْحَال كَمَا قَالَ أَبُو الطّيب المتنبي
(تجمع فِيهِ كل لسن وَأمة
…
فَمَا تفهم الحداث إِلَّا التراجم)
وأقامت عمارتها ثَلَاثَة أشهر ثمَّ انفض النَّاس إِلَى بِلَادهمْ وَلما بلغ نابليون الثَّالِث إِلَى هَذِه الْغَايَة فَجِئْته وقْعَة البروس الَّتِي كسرت من شوكته وفلت من غربه وَقبض عَلَيْهِ بِالْيَدِ وحوصرت دَار ملكه باريس مُدَّة طَوِيلَة فَبلغ فِيهَا لحم الْحمار أَرْبَعَة ريالات افرنك لكل رَطْل على مَا قيل وَلم تغب عَنْهُم محنة وَوَقع الصُّلْح على شُرُوط مِنْهَا ألف مليون من الريال تدفعها دولة افرانسا لدول البروس
وَفِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ عَشِيَّة يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع عشر من شعْبَان مِنْهَا توفّي الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب بن الْيَمَانِيّ الْمَدْعُو بِأبي عشْرين وَكَانَ سَبَب وَفَاته أَنه كَانَ بِهِ دَاء الْحصْر فَدخل الميضأة الَّتِي بمشور أبي الخصيصات من دَار السُّلْطَان بِحَضْرَة مراكش فَيُقَال إِن مثانته تمزقت فَمَاتَ رحمه الله وَحمل إِلَى دَاره وَصلى عَلَيْهِ بعد الْجُمُعَة بِمَسْجِد المواسين وَحضر جنَازَته الجم الْغَفِير وَدفن بضريح الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني من حومة الْقُصُور وَكَانَ رحمه الله ذَا جد فِي الْأُمُور ونصح للسُّلْطَان وللمسلمين
وَفِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ لَيْلَة الْخَمِيس الرَّابِع عشر من ربيع الثَّانِي مِنْهَا خسف الْقَمَر خسوفا كليا بعد الْغُرُوب إِلَى نصف اللَّيْل وَفِي فجر يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الْوَلِيّ الصَّالح الناسك السّني أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب ابْن الشَّيْخ الْأَشْهر مولَايَ
الْعَرَبِيّ الدرقاوي وَدفن بِمحل زاويته بآمجوط من بِلَاد بني زروال وَكَانَ من خِيَار عبد الله على غَايَة من التَّقْوَى والورع والتواضع من النَّاس يركب الْحمار ويلبس الْجُبَّة وَلَا يتَمَيَّز عَن أَصْحَابه بِشَيْء مَعَ السكينَة وَالْوَقار وَعدم الْخَوْض فِيمَا لَا يَعْنِي والإعراض عَن زهرَة الدُّنْيَا وَأَهْلهَا رحمه الله ونفعنا بِهِ وَفِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة انكسفت الشَّمْس وَكَانَ ابْتِدَاء الْكُسُوف على مَا أعطَاهُ التَّعْدِيل بعد الزَّوَال بِنَحْوِ نصف سَاعَة وَكَاد يكون كليا حَتَّى أظلم الجو وَبَقِي من الشَّمْس حَلقَة نورانية يسيرَة وَلم يُمكن تَحْقِيق وَقت التجلي لتراكم السَّحَاب وَفِي هَذِه الْأَيَّام ظَهرت حمرَة فِي السَّمَاء غَرِيبَة أرجوانية مَعَ غَايَة الصحو وَكَانَ ظُهُورهَا يكون فِيمَا بَين العشاءين معظمها فِي جِهَة الشمَال ودامت كَذَلِك نَحْو سَبْعَة أَيَّام وانقطعت وَفِي لَيْلَة السبت الثَّامِن من شَوَّال من السّنة وَذَلِكَ فِي السَّاعَة الثَّالِثَة مِنْهَا زلزلت الأَرْض وَلم يشْعر بهَا كثير من النَّاس لكَوْنهم نياما
وَفِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف غزا السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله قبائل تادلا فَمر على السماعلة منتصف رَجَب ثمَّ مِنْهُم لبني زمور ثمَّ لأبي الْجَعْد ثمَّ مِنْهُ توجه لقصبة تادلا وَعبر القنطرة وَنزل على بني عُمَيْر ثمَّ زحف لبني مُوسَى فأوقع بهم لأَنهم كَانُوا خَارِجين على عاملهم الغزواني ابْن زيدوح فَقطع مِنْهُم خمسين رَأْسا وَقبض على أَرْبَعِينَ مسجونا وَفِي أثْنَاء ذَلِك قدم عَلَيْهِ وَفد أهل مراكش وَكَانُوا قد ثَارُوا على عاملهم أَحْمد بن دَاوُد لكَونه كَانَ يسير فيهم سيرة غير حميدة فقدموا على السُّلْطَان متنصلين مِمَّا فرط مِنْهُم فَأَعْرض السُّلْطَان عَنْهُم وَلم يسمع مِنْهُم كلَاما وَلَا قبل لَهُم عذرا فَرَجَعُوا مخفقين ثمَّ تقدم السُّلْطَان رحمه الله إِلَى مراكش وَهُوَ غَضْبَان على أَهلهَا وَكَانُوا مظلومين فِيمَا قيل إِلَّا أَنه لبس على السُّلْطَان فِي أَمرهم فَلَمَّا شَارف الْمَدِينَة خَرجُوا إِلَيْهِ بالعلماء والقراء وصبيان الْمكَاتب متشفعين فَلم يقف لَهُم وَلَا الْتفت إِلَيْهِم وَكَانَ ابْنه وخليفته الْمولى الْحسن حَاضرا يَوْمئِذٍ فَتقدم إِلَى أهل مراكش ورق لَهُم وَقَالَ لَهُم قولا جميلا وَكَانَ هَذَا الْحَادِث فِي رَمَضَان