الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحلبة يَوْمئِذٍ أَبُو الْقَاسِم الرحوي فِي قصيدة يَقُول فِي مطْلعهَا
(أجابك شَرق إِذْ دَعَوْت ومغرب
…
فمكة هشت للقاء وَيشْرب) وَهِي طَوِيلَة تخطيناها اختصارا وَالله تَعَالَى ولي التَّوْفِيق بمنه
انْتِقَاض عرب سليم بإفريقية على السُّلْطَان أبي الْحسن وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
قد تقدم لنا عِنْد الْكَلَام على الْعَرَب الداخلين إِلَى الْمغرب أَن جمهورهم كَانَ من بني جشم بن مُعَاوِيَة بن بكر وَبني هِلَال بن عَامر بن صعصعه وَبني سليم بن مَنْصُور وَإِن الَّذين بقوا مِنْهُم بإفريقية هم بَنو سليم وَبَعض هِلَال وَكَانَ لَهُم استطالة على الدول واعتزاز عَلَيْهَا فَكَانَ مُلُوك الحفصيين يتألفونهم بالولايات والإقطاعات وَنَحْو ذَلِك وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن المريني حَاله مَعَ عرب الْمغرب الْأَقْصَى غير حَال الحفصين مَعَ عرب إفريقية وملكته لأهل باديته غير ملكتهم لأهل باديتهم فَلَمَّا ورد إفريقية وَاسْتولى عَلَيْهَا رَأْي من اعتزاز الْعَرَب بهَا على الدولة وَكَثْرَة إقطاعاتهم من الضواحي والأمصار مَا تجَاوز الْحَد الْمُعْتَاد عِنْده فَأنْكر ذَلِك وَضرب على أَيْديهم وعوضهم عَنهُ بأعطيات فَرضهَا لَهُم فِي الدِّيوَان من جملَة الْجند واستكثر جبايتهم فنقصهم الْكثير مِنْهَا ثمَّ شكا إِلَيْهِ الرّعية من أُولَئِكَ الْعَرَب وَمَا ينالونهم بِهِ من الظلامات وَضرب الإتاوة الَّتِي يسمونها الخفارة فَقبض أَيْديهم عَن ذَلِك كُله وَتقدم إِلَى الرعايا بمنعهم مِنْهَا فارتابت الْعَرَب لذَلِك وفسدت ضمائرهم وثقلت وَطْأَة الدولة المرينية عَلَيْهِم فتربصوا بهَا وتحزبوا لَهَا وتعاوت ذئابهم فِي بواديهم فَاجْتمعُوا وأغاروا على قياطين بني مرين ومسالحهم فِي ثغور إفريقية حَتَّى أَنهم أَغَارُوا على ضواحي تونس فَاسْتَاقُوا الظّهْر الَّذِي كَانَ فِي مرعاها وَالسُّلْطَان يَوْمئِذٍ بهَا فَعظم عَلَيْهِ ذَلِك وحقد على كبرائهم وأظلم الجو بَينه وَبينهمْ ثمَّ وَفد عَلَيْهِ أَيَّام الْفطر من رجالاتهم خَالِد بن حَمْزَة أَمِير بني كَعْب وَأَخُوهُ أَحْمد وَخَلِيفَة بن عبد الله من بني مِسْكين وَابْن عَمه خَليفَة بن
أبي زيد أَوْلَاد الْقوس فأنزلهم السُّلْطَان أَبُو الْحسن وأجمل لقاءهم مغضبا عَمَّا صدر من غوغاتهم ثمَّ رفع إِلَيْهِ عبد الْوَاحِد بن اللحياني من أَوْلَاد الْمُلُوك الحفصيين أَنهم بعثوا إِلَيْهِ مَعَ بعض حَاشِيَته يطْلبُونَ مِنْهُ الْخُرُوج مَعَهم لينصبوه لِلْأَمْرِ بإفريقية وَأَنه خشِي على نَفسه بادرة السُّلْطَان فتبرأ إِلَيْهِ من ذَلِك فَقَامَتْ قِيَامَة السُّلْطَان أبي الْحسن عِنْد سَمَاعه ذَلِك فأحضرهم وأحضر الحفصي مَعَهم وَقَررهُ بِمَا دَار بَينه وَبينهمْ فَبُهِتُوا وأنكروا فوبخهم وَأمر بهم فسحبوا إِلَى السجْن ثمَّ فتح ديوَان الْعَطاء وَعرض الْجند لغزوهم وعسكر بسيجوم من ظَاهر تونس وَذَلِكَ بعد قَضَاء نسك الْفطر من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة
واتصل الْخَبَر بأولاد أبي اللَّيْل وَأَوْلَاد الْقوس باعتقال وفدهم وَجمع السُّلْطَان لغزوهم فضاقت عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ وَانْطَلَقُوا فِي إحيائهم يحزبون الْأَحْزَاب ويستشيرون الثوار وعطفوا على أعدائهم من أَوْلَاد مهلهل فوصلوهم بعد القطيعة وَكَانُوا بعد مقتل سلطانهم عمر بن أبي بكر قد لَحِقُوا بالقفر خوفًا من أبي الْحسن لأَنهم كَانُوا شيعَة لعمر الْمَذْكُور فَلَمَّا وَقع بَين أبي الْحسن وَبَين أَوْلَاد أبي اللَّيْل مَا وَقع ركب قُتَيْبَة بن حَمْزَة إِلَيْهِم وَمَعَهُ أمه وَنسَاء أَوْلَادهَا فتطارحوا عَلَيْهِم وَرَغبُوا إِلَيْهِم فِي الإجتماع مَعَهم على الْخُرُوج على السُّلْطَان ومنابذته فَكَانَ أَوْلَاد مهلهل إِلَيْهَا مُسْرِعين فارتحلوا مَعَهم وتوافت أَحيَاء سليم من بني كَعْب وَبني حَكِيم بتوزر من بِلَاد الجريد فتذامروا وتصافوا وأهدروا الدِّمَاء بَينهم وتبايعوا على الْمَوْت وصاروا نفسا وَاحِدَة على تبَاين أغراضهم وَفَسَاد ذَات بَينهم والتمسوا من أعياص الْملك من ينصبونه لِلْأَمْرِ فدلهم بعض سماسرة الْفِتَن على رجل من ببني عبد الْمُؤمن وَهُوَ أَحْمد بن عُثْمَان بن أبي دبوس آخر مُلُوك بني عبد الْمُؤمن وَكَانَ يحترف بالخياطة فِي توزر بعد مَا طوحت بِهِ الطوائح فَانْطَلقُوا إِلَيْهِ وجاؤوا بِهِ ونصبوه لِلْأَمْرِ وجمعوا لَهُ شَيْئا من الفساطيط وَالْخَيْل والآلات وَالْكِسْوَة وَأَقَامُوا لَهُ رسم السُّلْطَان وعسكروا عَلَيْهِ بقياطينهم وحللهم وتحالفوا على نَصره
وَلما قضى السُّلْطَان ابو الْحسن نسك عيد الْأَضْحَى من السّنة الْمَذْكُورَة
ارتحل من ساحة تونس يُرِيد الْعَرَب فوافاهم بالموضع الْمَعْرُوف بالتينة بَين بسيط تونس وبسيط القيروان فأجفلوا أَمَامه فأتبعهم وألح عَلَيْهِم إِلَى أَن وصلوا إِلَى القيروان فَلَمَّا رَأَوْا أَن لَا ملْجأ لَهُم مِنْهُ عزموا على الثَّبَات لَهُ وتحالفوا على الإستماتة وَكَانَ عَسْكَر السُّلْطَان أبي الْحسن يَوْمئِذٍ مشحونا بأعدائه من بني عبد الواد المغلوبين على ملكهم ومغراوة وَبني توجين وَغَيرهم فدسوا إِلَى الْعَرَب أثْنَاء هَذِه المناوشة بِأَن يناجزوا السُّلْطَان غَدا حَتَّى يتميزوا إِلَيْهِم ويجروا عَلَيْهِ الْهَزِيمَة فأجابوهم إِلَى ذَلِك وصبحوا معسكر السُّلْطَان من الْغَد فَركب إِلَيْهِم فِي التعبية وَلما تقابلوا تحيز إِلَيْهِم الْكثير مِمَّن كَانَ مَعَه واختل مصافه فَانْهَزَمَ هزيمَة شنعاء وبادر الى القيروان فَدَخلَهَا فِيمَن مَعَه من الفل مستجيرا بهَا ودافع عَنهُ أَهلهَا وتسابقت الْعَرَب إِلَى مُعَسْكَره فانتهبوه بِمَا فِيهِ من الْمضَارب وَالْعدَد والآلات ودخلوا فسطاط السُّلْطَان فاستولوا على ذخيرته وَالْكثير من حرمه وَأَحَاطُوا بالقيروان وزحفت إِلَيْهَا حللهم فدارت بهَا سياجا وَاحِدًا وتعاوت ذئابهم بأطراف الْبِقَاع وأجلب ناعق الْفِتْنَة مِنْهُم بِكُل قاع واضطرمت إفريقية نَارا وَكَانَت الْهَزِيمَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع محرم من سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَبلغ الْخَبَر إِلَى تونس وَكَانَ السُّلْطَان قد خلف بهَا عِنْد رحيله الْكثير من أبنائه وَحرمه ووجوه قومه وأمناء بَيت مَاله وَبَعض الْحَاشِيَة من جنده فَتَحَصَّنُوا بالقصبة وأحاط بهم الغوغاء كي يستنزلوهم عَنْهَا فامتنعوا عَلَيْهِم وَكَانُوا بهَا أملك مِنْهُم وَكَانَ الْأَمِير أَبُو سَالم إِبْرَاهِيم بن السُّلْطَان أبي الْحسن قد جَاءَ من الْمغرب فِي هَذَا التَّارِيخ فوافاه الْخَبَر قرب القيروان فانفض مُعَسْكَره وَرجع إِلَى تونس فَكَانَ مَعَهم فِي القصبة ثمَّ نزع أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين عَن السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ محصورا مَعَه بالقيروان وَكَانَ قد سئم صحبته ومل خدمته لِأَنَّهُ كَانَ أَيَّام حجابته للسُّلْطَان الحفصي مستبدا عَلَيْهِ مفوضا إِلَيْهِ فِي جَمِيع أُمُوره فَلَمَّا استوزره السُّلْطَان أَبُو الْحسن لم يجره على تِلْكَ الْعَادة لِأَنَّهُ كَانَ قَائِما على أُمُوره بِنَفسِهِ وَلَيْسَ التَّفْوِيض للوزراء من شَأْنه وَكَانَ ابْن تافراجين يظنّ أَنه سيوكل إِلَيْهِ أَمر إفريقية وَينصب مَعَه لملكها الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي بكر شَقِيق زَوجته وَرُبمَا زَعَمُوا أَنه عاهده على ذَلِك
فَكَانَ فِي قلبه من الدولة المرينية مرض وَكَانَ الْعَرَب أَيَّام عزمهم على الْخُرُوج يفاوضونه بِذَات صُدُورهمْ فَلَمَّا حصلوا على البغية من الظُّهُور على السُّلْطَان وحصاره بالقيروان احْتَالُوا فِي أَمر ابْن تافراجين فبعثوا إِلَى السُّلْطَان يطْلبُونَ مِنْهُ بَعثه إِلَيْهِم ليفاوضوه فِي الرُّجُوع إِلَى الطَّاعَة والانخراط فِي سلك الْجَمَاعَة فَأذن لَهُ فَخرج إِلَيْهِم وَوصل يَده بيدهم وَلم يرجع الى السُّلْطَان أبي الْحسن فقلدوه حجابة سلطانهم ابْن أبي دبوس ثمَّ سرحوه إِلَى حِصَار من بالقصبة من بني مرين وطمعوا فِي الإستيلاء عَلَيْهَا وفض ختامها فَسَار ابْن تافراجين إِلَيْهَا وانضم إِلَيْهِ أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين فِي زعانف من الغوغاء وَأَحَاطُوا بالقصبة ثمَّ لحق بهم ابْن أبي دبوس فعاودوها الْقِتَال ونصبوا عَلَيْهَا المجانيق فامتنعت عَلَيْهِم وَلم يغنوا شَيْئا وَابْن تافرجين فِي أثْنَاء ذَلِك يحاول الْفِرَار بِنَفسِهِ لاضطراب الْأُمُور واختلال الرسوم إِلَى أَن بلغه خلوص السُّلْطَان أبي الْحسن من القيروان إِلَى سوسة
وَكَانَ من خَبره أَن الْعَرَب بعد حصارهم إِيَّاه بالقيروان اخْتلفت كلمتهم لَدَيْهِ وَكَانَ قد دخل أَوْلَاد مهلهل فِي الإفراج عَنهُ وَاشْترط لَهُم على ذَلِك أَمْوَالًا وَنذر بَنو أبي اللَّيْل بذلك فاضربت كلمتهم وَدخل عَلَيْهِ قُتَيْبَة بن حَمْزَة مِنْهُم بمكانه من القيروان زعيما بِالطَّاعَةِ فتقبله وَأطلق أَخَوَيْهِ خَالِدا وَأحمد وَمَعَ ذَلِك فَلم يطمئن إِلَيْهِم ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ مُحَمَّد بن طَالب من أَوْلَاد مهلهل وَخَلِيفَة بن أبي زيد وَأَبُو الهول بن يَعْقُوب من أَوْلَاد الْقوس وَعَاهَدُوهُ على الإفراج عَنهُ وَالْقِيَام مَعَه حَتَّى يصل إِلَى مأمنه فَخرج مَعَهم لَيْلًا على التعبية وذؤبان الْعَرَب تطَأ أذياله وضباعها تنوشه إِلَى أَن اسْتَقر بسوسة وَأمن على نَفسه وَقد أَتَى النهب على جلّ مَا كَانَ مَعَه وَلما سمع ابْن تافراجين وَهُوَ محاصر للقصبة بوصول السُّلْطَان إِلَى سوسة تسلل من أَصْحَابه وَركب الْبَحْر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَأَصْبحُوا وَقد فقدوه فاضطرب أَمرهم وارتاب سلطانهم ابْن أبي دبوس لما علم بِخَبَرِهِ فانفض جمعهم عَن القصبة وأفرجوا عَنْهَا وَخرج بَنو مرين فملكوا الْبَلَد وخربوا منَازِل الْحَاشِيَة بهَا ثمَّ ركب السُّلْطَان أَبُو الْحسن من سوسة الْبَحْر فاحتل بتونس فِي ربيع الآخر سنة تسع وَأَرْبَعين
وَهُوَ سَائِر إِلَى فاس رُؤْيا وَهِي أَنه دخل فاسا وزار تربة الْمولى إِدْرِيس رضي الله عنه وقلده سَيْفا وَصعد الْمنَار وَأذن فَكَانَ من عَجِيب صنع الله أَن فتح عَلَيْهِ فاسا ودخلها وزار الْمولى إِدْرِيس وَأذن بمنارة على الْهَيْئَة الَّتِي رأى وَجَاء رجل من أَوْلَاد الْبَقَّال فقلده سَيْفا تَصْدِيقًا للرؤيا وَلما دخل ضريح الْمولى إِدْرِيس وجد الشريف الْبركَة سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني هُنَالك فَعَاتَبَهُ السُّلْطَان عتابا خَفِيفا وَزَالَ مَا بصدره عَلَيْهِ وانقطعت أَسبَاب الْفِتَن وَالْحَمْد لله
وَاعْلَم أَن مَا صدر من أهل فاس وَمن وافقهم على هَذِه الْبيعَة لَا لوم عَلَيْهِم فِيهِ وماكان من حق السُّلْطَان رحمه الله أَن يبْعَث إِلَيْهِم بذلك الْكتاب الَّذِي أوقعهم فِي حيص بيص وَكَانَ سَببا لهَذِهِ الْفِتَن وَقَول أكنسوس إِن السُّلْطَان أَرَادَ تهييجهم على التَّمَسُّك بِطَاعَتِهِ كَمَا فعل مَعَ أهل مراكش لَيْسَ بِشَيْء أَو مَا علم السُّلْطَان رحمه الله كَلَام الكبراء خُصُوصا الْمُلُوك مِمَّا تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله وَأَن الْعَامَّة إِذا نقلته وَضعته غَالِبا فِي غير مَحَله وَفِي الصَّحِيح أَن عمر رضي الله عنه بلغه وَهُوَ بمنى أَن رجلا قَالَ وَالله لَو قد مَاتَ عمر لبايعنا فلَانا يُرِيد رجلا من غير قُرَيْش فَقَالَ عمر رضي الله عنه لأقومن العشية فأحذر هَؤُلَاءِ الرَّهْط الَّذين يُرِيدُونَ أَن يغصبوهم فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رضي الله عنه لَا تفعل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن الْمَوْسِم يجمع رعاع النَّاس يغلبُونَ على مجلسك فَأَخَاف أَن يسمعوا مِنْك كلمة فَلَا ينزلوها على وَجههَا ويطيروا بهَا عَنْك كل مطير فامهل حَتَّى تقدم الْمَدِينَة دَار الْهِجْرَة وَدَار السّنة فتخلص بأصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فيحفظوا مَقَالَتك وينزلوها على وَجههَا فَقَالَ عمر وَالله لأقومن بِهِ فِي أول مقَام أقومه بِالْمَدِينَةِ الحَدِيث فَانْظُر كَيفَ منع عبد الرَّحْمَن عمر رضي الله عنه من الْكَلَام بِالْمَوْسِمِ وبمحضر الْعَامَّة خوفًا من وُقُوع الْفِتْنَة وانقاد لَهُ عمر حَيْثُ علم أَن ذَلِك هُوَ الصَّوَاب وَكَانَ وقافا عِنْد الْحق هَذَا وَالنَّاس نَاس وَالزَّمَان زمَان وَفِي خير الْقُرُون فَكيف فِي زمَان قل علمه وَكثر
جَهله وغاض خَيره وفاض شَره وَأمر السُّلْطَان متداع مختل والفتنة قَائِمَة على سَاق كَمَا رَأَيْت فَلهَذَا قُلْنَا مَا كَانَ من حق السُّلْطَان أَن يبْعَث بذلك الْكتاب الموجه بمقصدين الْمُحْتَمل احْتِمَالَيْنِ وَلَكِن قَضَاء الله غَالب
وَلما افْتتح السُّلْطَان رحمه الله فاسا وَصفا لَهُ أمرهَا عزم على النهوض إِلَى تطاوين فاستخلف على فاس وأعمالها ابْن أَخِيه الْفَارِس الأنجد السّري الأسعد الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام لعدالته وكفايته وَحسن سياسته وَأخذ مَعَه الْمولى السعيد بن يزِيد وَخرج فِي جَيش الودايا وَالْعَبِيد وقبائل الْحَوْز أَوَائِل شعْبَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف فَجعل طَرِيقه على بِلَاد سُفْيَان وَلما وصل إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بِالْحجرِ الْوَاقِف بَين نهري سبو وورغة قدم عَلَيْهِ هُنَالك الْقَائِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن العامري اليحياوي فِي قومه بني حسن والقائد أَبُو عبد الله مُحَمَّد المعتوجي السفياني وقاسم بن الْخضر فِي قومهما سُفْيَان وَبني مَالك وَقدم عَلَيْهِ هُنَالك أَوْلَاد الشَّيْخ أبي عبد الله سَيِّدي الْعَرَبِيّ الدرقاوي صبية صغَارًا يشفعون فِي أَبِيهِم ليسرحه لَهُم فوصلهم وكساهم وَقَالَ لَهُم وَالله مَا سجنته وَلَا أمرت بسجنه وَلَكِن اتركوه فسيسرحه الله الَّذِي سجنه فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ بَقِي فِي السجْن حَتَّى توفّي السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وبويع الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فَافْتتحَ عمله بتسريحه وَلما نزل السُّلْطَان رَحمَه بمشرع مسيعيدة من نهر سبو وَفد عَلَيْهِ أهل تطاوين تَائِبين وَمَعَهُمْ قائدهم الْعَرَبِيّ بن يُوسُف المسلماني وَكَانَ النَّاس يظنون أَنه ينكل بِهِ وبمن قَامَ مَعَه فِي الْفِتْنَة فَلم يفل لَهُم إِلَّا خيرا حَتَّى لقد قَالَ لَهُ ابْن يُوسُف يَا مَوْلَانَا إِن أهل تطاوين لم يَفْعَلُوا شَيْئا وَإِنِّي أَنا الَّذِي فعلت يُرِيد أَن يبرئهم ويفديهم بِنَفسِهِ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان رحمه الله مَا عنْدك مَا تفعل أَنْت وَلَا هم وَإِنَّمَا الْفَاعِل هُوَ الله تَعَالَى وصفح عَنْهُم وَأحسن إِلَيْهِم وَلما صفا أَمر تطاوين وَلم يبْق بِبِلَاد الغرب مُنَازع انْقَلب السُّلْطَان رَاجعا إِلَى الْحَوْز وجد السّير إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة
وقْعَة زَاوِيَة الشرادي وَمَا جرى فِيهَا على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله
هَؤُلَاءِ الشراردة أصلهم من عرب معقل من الصَّحرَاء وهم طوائف زُرَارَة والشبانات وهم الخلص مِنْهُم ويضاف لَهُم بعض أَوْلَاد دليم وتكنة وذوو بِلَال وَغَيرهم وَكَانَت مَنَازِلهمْ فِي دولة السُّلْطَان الْأَعْظَم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله غربي مراكش على بعض يَوْم مِنْهَا فَنَشَأَ فيهم الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الشرادي من أهل الصّلاح زمن أَصْحَاب الشَّيْخ سَيِّدي أَحْمد بن نَاصِر الدرعي فاعتقدوه وَرُبمَا ناله بعض الْإِحْسَان من السُّلْطَان الْمَذْكُور ثمَّ نَشأ ابْنه السَّيِّد أبي مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس فَجرى مجْرى أَبِيه وَبنى الزاوية المنسوبة إِلَيْهِم واعتقده قومه أَيْضا بل وَغَيرهم
فقد ذكر صَاحب نشر المثاني أَن السَّيِّد مُحَمَّدًا هَذَا لما قدم من الْحَج سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وَألف اجتاز بِمَدِينَة فاس فَاجْتمع عَلَيْهِ نَاس مِنْهَا وتلمذوا لَهُ وبنوا لَهُ زَاوِيَة بدرب الدرج من عدوة الأندلس وَأثْنى عَلَيْهِ وعَلى أَبِيه فَانْظُرْهُ ثمَّ جَاءَ ابْنه الْمهْدي بن مُحَمَّد فسلك ذَلِك المسلك أَيْضا وَنَشَأ فِي دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله وَاتخذ شَيْئا من كتب الْعلم من غير أَن يكون لَهُ فِيهِ يَد تعْتَبر ثمَّ تظاهر بِمَعْرِِفَة السيميا والحدثان فازداد ناموسه وَتمكن من جهلة قومه وَرُبمَا نمى شَيْء من أمره إِلَى السُّلْطَان فتغافل عَنهُ ثمَّ لما قدم السُّلْطَان رحمه الله مراكش هَذِه الْمرة وجد أمره قد زَاد واستفحل وَكَانَ الشراردة يَوْمئِذٍ قد حسنت حَالهم فأثروا وكثروا وَكَانَ السُّلْطَان قد ولى عَلَيْهِم رجلا مِنْهُم اسْمه قَاسم الشرادي فَحدث بَينه وَبَين الْمهْدي مَا يحدث بَين المرابطين وأرباب الْولَايَة وَكَانَ رُبمَا التجأ جَان إِلَى زَاوِيَة الْمهْدي فَيقبض عَلَيْهِ الْقَائِد ويخرجه مِنْهَا فاستحكمت الْعَدَاوَة بَين الْقَائِد وَبَين الْمهْدي ثمَّ جرى شنآن بَين الْمهْدي وَبَين بعض قرَابَته ففر ذَلِك الْقَرِيب إِلَى مراكش وَكَانَ الْقَائِد قَاسم بهَا فَشَكا إِلَيْهِ عَمه الْمهْدي فاغتنمها
الْقَائِد وَدخل على السُّلْطَان فشرح لَهُ حَال الْمهْدي وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من التهور والسمو بِنَفسِهِ إِلَى الْمحل الَّذِي لَا يبلغهُ وَأَنه لَا يَسْتَقِيم أَمر المخزن بِتِلْكَ الْقَبِيلَة مَعَه وَلم يزل بِهِ حَتَّى أعطَاهُ السُّلْطَان مِائَتَيْنِ من الْخَيل أغار بهَا على الزاوية فانتهبوها على حِين غَفلَة من أَهلهَا وجلهم غَائِب فِي أَعماله فتسامعوا بِأَن الْخَيل قد عاثت فِي دِيَارهمْ وجاؤوا على الصعب والذلول وأوقعوا بخيل المخزن واستلبوهم من خيلهم وسلاحهم وعادوا إِلَى مراكش راجلين فَعظم ذَلِك على السُّلْطَان واغتاظ وَاتفقَ أَن كَانَ مَعَ السُّلْطَان عَامل مراكش أَبُو حَفْص عمر بن أبي سِتَّة وعامل الرحامنة الْقَائِد قَاسم الرحماني وَكِلَاهُمَا عَدو للشراردة لَا سِيمَا الرحماني فشنعوا فِي ذَلِك بِمحضر السُّلْطَان وأسدوا وألحموا فِي غَزْو الشراردة وتأديبهم حَتَّى لَا يعودوا لمثلهَا وَفِي أثْنَاء ذَلِك نَدم الشراردة على مَا كَانَ مِنْهُم وبعثوا إِلَى السُّلْطَان بالشفاعات وذبحوا عَلَيْهِ وعَلى صلحاء مراكش فَلم يقبل مِنْهُم وَيُقَال إِن ذَلِك لم يكن يبلغ السُّلْطَان لِأَن النَّقْض والإبرام إِنَّمَا كَانَ لعمر بن أبي سِتَّة وقاسم الرحماني وَكَانَ السُّلْطَان رحمه الله كالمغلوب على أمره مَعَهُمَا فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى بعث إِلَى قبائل الْحَوْز يستنفرهم لغزو الشراردة فَاجْتمعُوا عَلَيْهِ وَكَانَ مَعَه جَيش الودايا وكبارهم مثل الطَّاهِر بن مَسْعُود الحساني والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر وَغَيرهمَا وَمَعَهُ الْقَائِد مُحَمَّد بن العامري فِي بني حسن وَغَيرهم من قبائل الغرب
وَلما أجمع السُّلْطَان الْخُرُوج إِلَيْهِم قدم أَمَامه قاسما الرحماني إِذْ كَانَ قد تكفل لَهُ بِأَن يَكْفِيهِ أَمر الشراردة وَحده فَكَانَ متسرعا إِلَيْهِم قبل كل أحد فرابط بِعَين دادة ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا والوسائط تَتَرَدَّد بَين السُّلْطَان وَبَين الشراردة وكادت كلمتهم تخْتَلف إِذْ قَامَ فيهم رجل مرابط اسْمه الحبيب من أَوْلَاد سَيِّدي أَحْمد الزاوية وَبعث نَحْو الْأَرْبَعين من الشراردة إِلَى السُّلْطَان سعيا فِي الصُّلْح فَأَشَارَ الرحماني وَابْن أبي سِتَّة فِيمَا قيل على السُّلْطَان بِالْقَبْضِ
اجْتمعت إِلَيْهِ الْجنُود وَخرج قَاصِدا بِلَاد وَجدّة وَبني يزناسن وَكَبِيرهمْ الْحَاج مُحَمَّد بن البشير بن مَسْعُود وَكَانَ خُرُوجه من فاس منتصف جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة فاجتاز بتازا وأناخ على قَبيلَة غياثة جاعلا الهضبة الْمَعْرُوفَة بِذِرَاع اللوز أَمَامه قبْلَة ووظف عَلَيْهِم الْمُؤْنَة قيل إِنَّه وظف عَلَيْهِم مائَة صَحْفَة من الْقَمْح وَالشعِير فدفعوا شَيْئا يَسِيرا وعجزوا وتعللوا بِأَن هَذَا الَّذِي جرت الْعَادة أَن يدفعوا للملوك من قبل وَكَانَت هَذِه الْقَبِيلَة لم يهجها هيج مُنْذُ قديم لتحصنهم بجبالهم وأوعارهم وَلَهُم استطالة على أهل تازا يركبونهم كل خسف فَظهر للسُّلْطَان أعزه الله قِتَالهمْ فَقَاتلهُمْ يَوْم الْخَمِيس أَوَاخِر الشَّهْر الْمَذْكُور واقتحم عَلَيْهِم حصنهمْ الْمَعْرُوف بالشقة وَهُوَ خَنْدَق بَين جبلين فِيهِ وَاد وعَلى حافتيه بناءات ودور فَحرق ذَلِك كُله وهدمه وانتسف مَا فِيهِ من قَمح وشعير وأدام وَغير ذَلِك وَقطع مِنْهُم رؤوسا يسيرَة وَلما كَانَ الْغَد وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس وَالْعشْرُونَ من الشَّهْر الْمَذْكُور ركب السُّلْطَان أيده الله وَركب مَعَه أهل الْمحلة إِلَّا قَلِيلا وَقدم المدافع والمهاريس أَمَامه واقتحم الشقة فَتَبِعَهُ النَّاس ودخلوا بِلَاد غياثة وتوسطوها وقاتلوا أَهلهَا فهزموهم وَالسُّلْطَان أَمَام الْجَيْش فِي موكبه فَسَار حَتَّى بلغ المداشر وَرمى عَلَيْهَا من الكور والبنب شَيْئا يَسِيرا وَكَانَت غياثة قد وضعت الكمائن على الأنقاب وشحنوها بالرماة وَتركُوا منفذا وَاحِدًا يُفْضِي إِلَى مهواة متلفة ذَات شقوق غامضة وأشجار شائكة وصخور متراكمة لَا يدْرك قعرها وَلَا يبصرها إِلَّا من وقف عَلَيْهَا وَلما وغل الْجَيْش فِي مَزَارِعهمْ ومداشرهم خرجت الكمائن من خَلفهم ورموهم عَن يَد وَاحِدَة بالرصاص فدهش النَّاس وتذكروا فعلهم الْقَدِيم من الانهزام عَن الْمُلُوك بِلَا مُوجب إِذْ لم يكن فِي شَوْكَة غياثة هَؤُلَاءِ وكثرتهم مَا ينهزم مِنْهُ ذَلِك الْجَيْش اللهام وَلَو تلبثوا يَسِيرا وقاوموهم لهزموهم فِي الْحَال كَمَا هزموهم أول مرّة وَلَكِن الْعَادة الْعَادة فَوَلوا مُدبرين لَا يلوون على شَيْء وتكاثر الرصاص على موكب السُّلْطَان حَتَّى سقط حَامِل الرَّايَة وجرح الْمولى عَرَفَة أَخُو السُّلْطَان وَقتل سَيِّدي مُحَمَّد بن الحبيب نقيب الْأَشْرَاف بالعدوتين وَأما الْجَيْش وقواده فَإِنَّهُم لما انْهَزمُوا صرفُوا وُجُوههم إِلَى المهواة
الَّتِي ذكرنَا وقصدوها على عمياء وَقد ارْتَفع دُخان البارود وغبار الْخَيل فتهافتوا فِيهَا تهافت الْفراش فِي النَّار لَا يعلم اللَّاحِق مَا وَقع بالسابق إِلَى أَن امْتَلَأت من الْخَيل وَالرِّجَال والأثاث وَمَا كَادَت وَكَانَ ذَلِك قَضَاء من الله وتمحيصا مِنْهُ فَهَلَك من النَّاس وَالْخَيْل مَا لَا يُحْصى وَبقيت أشلاؤهم ناشبة فِي تِلْكَ الأوعار تلوح مثل المجزرة وترجل السُّلْطَان أعزه الله عَن فرسه حَتَّى خلص من تِلْكَ الشقوق ثمَّ ركب وَاجْتمعَ النَّاس عَلَيْهِ وراجعوا بصائرهم بعد الكائنة ثمَّ انشمر غياثة بعْدهَا إِلَى رُؤُوس الْجبَال وَتركُوا المداشر والجنات فاقتحهما السُّلْطَان بعد يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة عَلَيْهِم فَلم يقف أَمَامه مِنْهُم أحد فعاث فِيهَا وحرقها وَجعلهَا حصيدا كَأَن لم تغن بالْأَمْس وَكتب أيده الله بذلك إِلَى الْآفَاق وَذكر فِي كِتَابه أَن الْخَيل وَالرُّمَاة قد انتسفوا بِلَادهمْ انتسافا ودوخوها أماما وخلفا حَتَّى أشرفوا على بِلَاد جيرانهم وأناخوا فِيهَا بكلكلهم وجرانهم ثمَّ توجه السُّلْطَان نَصره الله إِلَى نواحي وَجدّة فَانْتهى إِلَيْهَا أَوَائِل شعْبَان من السّنة فَتَلقاهُ بَنو يزناسن خاضعين تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم لكَوْنهم ثغرا من ثغور الْمُسلمين وعصبة تدخر لنصرة الدّين إِلَّا أَنه عزل عَنْهُم ولد البشير وَبعث بِهِ مسجونا إِلَى فاس وَولى عَلَيْهِم قوادا مِنْهُم من أهل الحزم والنجدة ووظف عَلَيْهِم قدرا صَالحا من المَال فشرعوا فِي دَفعه فِي الْحَال والتزموا رد مَا تعلق بذممهم من الْمَظَالِم وصلحت أَحْوَالهم واستقام أَمر تِلْكَ النَّاحِيَة وَلما قضى السُّلْطَان أعزه الله غَرَضه مِنْهَا قفل رَاجعا إِلَى فاس فَدَخلَهَا لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان الْمُعظم وَكتب بذلك إِلَى الْأَمْصَار يَقُول هَذَا وَقد كتبنَا لكم هَذَا بعد القفول من حركتنا السعيدة وحلولنا بحضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه بفاس بالفتوحات الجديدة والإنعامات المزيدة حُلُول عز وظفر وإسعاد وَنصر من لَدنه لم يكن بحيلة وَلَا استعداد وَذَلِكَ بعد الْفَرَاغ من تَرْتِيب تِلْكَ الْقَبَائِل وتطهيرها مِمَّا تعلق بهَا من الرذائل ونلنا بِفضل الله فِي هَذِه الْحَرَكَة من أثر الْخَيْر واليمن وَالْبركَة مَا أثلج الصُّدُور وحمدنا غبه فِي الْوُرُود والصدور وَتَركنَا أهل تِلْكَ النواحي وساكني جبالها والضواحي على أحسن مَا يكون صلاحا واطمئنانا وسلوكا للجادة المخزنية بِالْقَلْبِ والقالب سرا
وإعلانا وأبقينا طَائِفَة من جيشنا السعيد عِنْد قبائل الرِّيف زِيَادَة فِي الاطمئنان والتأليف بِقصد اسْتِيفَاء مَا بذممهم من الْوَاجِب واستخلاص مَا تعلق بهم من الْحُقُوق الَّتِي ألزموها ضَرْبَة لازب وَذَلِكَ كُله من تيسير الله ورفده وفضله على عَبده فَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْده فَأَما نَحن فَلَا حول لنا وَلَا قُوَّة وَلَا أنصار مرجوة وَلَا نعتمد على عدَّة وَلَا عدد بل على فَضله تَعَالَى الْمعول وَالْمُعْتَمد عرفنَا الله حق النِّعْمَة وألهمنا شكرها وحمدها وأجرانا على عوائده الجميلة وفوائده الجليلة الَّتِي لَا يقدر قلم الواصف أَن يدْرك حصرها وَحدهَا وَقد اقْتضى نَظرنَا العالي بِاللَّه إعلامكم بذلك لِتَأْخُذُوا حظكم من الْفَرح بتأييد الله وَنَصره وتخلصوا فِي حمد نعمه الجزيلة وشكره وَالسَّلَام فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان عَام ثَلَاثَة وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اه اسْتمرّ السُّلْطَان أعزه الله مُقيما بفاس وجد فِي بِنَاء مقاصيره ومنتزهاته ببستان آمِنَة من فاس الْجَدِيد وَكتب أيده الله إِلَى وصيفه أَحْمد بن مَالك قَائِد الْجَيْش السُّوسِي بالمنشية من حَضْرَة مراكش أَن بيني لَهُ على الْبَاب الْمَعْرُوف بِبَاب الرئيس من الدَّار الْكُبْرَى بالحضرة المراكشية قبَّة فارهة ويبالغ فِي رَفعهَا وتنجيدها وتنميقها فشرع فِيهَا فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَكُنَّا يَوْمئِذٍ نتولى إحصاء صائرها وصائر غَيرهَا من البناءات المراكشية فَكَانَ مَا صير على الْقبَّة وَحدهَا أَكثر من مائَة ألف مِثْقَال وَكَذَلِكَ بنى بمكناسة الْقبَّة الْعَظِيمَة الَّتِي طاولت السَّمَاء ترفعا وَذَهَبت فِي الجو صعدا بِحَيْثُ أشرفت على مَا حولهَا من بسيط سائس وَغَيره حَتَّى صَارَت مثلا فِي الطول والاشتهار وَبنى أعزه الله قبَّة عَظِيمَة حفيلة على ضريح الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الصَّالح ابْن الْمُعْطِي الشرقاوي بِأبي الْجَعْد فصير عَلَيْهَا أَكثر من ثَلَاثِينَ ألف مِثْقَال تقبل الله مِنْهُ
وَفِي عَاشر شَوَّال من هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الناسك قَاضِي رِبَاط الْفَتْح أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْن الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد أَحْمد بن التهامي البريبري وَدفن بزاوية حنصالة من الْبَلَد الْمَذْكُور وَكَانَ رحمه الله من أمثل قُضَاة الْوَقْت وَمن المتحريين للعدل ولي
الْقَضَاء برباط الْفَتْح أَكثر من عشْرين سنة ثمَّ تخلى عَنهُ من غير عزل وَدخل دَاره فَلم يخرج بعد فَاحْتمل السُّلْطَان وَالنَّاس ذَلِك واعتقدوه وَاسْتمرّ حَاله على ذَلِك إِلَى أَن توفّي فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور رحمنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين
وَفِي سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من محرم مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب شَاعِر الْعَصْر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد أكنسوس المراكشي وَدفن قرب ضريح الإِمَام أبي الْقَاسِم السُّهيْلي خَارج بَاب الرب من مراكش وَحضر جنَازَته الجم الْغَفِير من النَّاس وَهُوَ صَاحب كتاب الْجَيْش رحمه الله
وَفِي صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّابِع عشر من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة ولد لنا ولد سميناه مُحَمَّدًا الْعَرَبِيّ وَكَانَ من عَجِيب صنع الله أَنه ولد مختونا وَلذَا ذَكرْنَاهُ هُنَا وَهُوَ الْآن حَيّ أصلحه الله وأنبته نباتا حسنا وَجعله من عباد الله الصَّالِحين وَمن الْعلمَاء العاملين آمين وَفِي جُمَادَى الأولى من السّنة أَخذ السُّلْطَان أعزه الله فِي الاستعداد بالحضرة الفاسية للحركة اسْتِعْدَادًا لم يتَقَدَّم لَهُ مثله حَتَّى أَنه كتب إِلَى أَخِيه وخليفته بمراكش الْمولى عُثْمَان بن مُحَمَّد أَن يُوَجه إِلَيْهِ من الْعدة الرومية وَهِي مكاحل مركبة فِيهَا توافلها مَا قدرهَا ألف وسِتمِائَة وَعِشْرُونَ مكحلة تخرج أبخاشها بالحبة الرومية وَأَن يُوَجه إِلَيْهِ أَرْبَعمِائَة ألف وَعشرَة آلَاف من الْحبَّة الْمَذْكُورَة وَعشرَة قناطير من البارود وَمِائَة قِنْطَار من ملحه ومدفعين وَكتب أعزه الله إِلَى أُمَنَاء الصائر بِأَن يبعثوا إِلَيْهِ بثلاثمائة وَسِتِّينَ سرجا وسِتمِائَة كسْوَة من الملف للعسكر وَخَمْسَة عشر ألفا من الْبلْغَة وَمثلهَا من النعالة وَبعث أعزه الله عَمه الْمولى الْأمين بن عبد الرَّحْمَن إِلَى رِبَاط الْفَتْح لجمع عَسَاكِر الثغور وحشد قبائل دكالة وتامسنا والغرب وَبني حسن وَغَيرهم وَوجه أَخَاهُ الْمولى الْحسن الصَّغِير لحشد قبائل الدَّيْر والجيش المتفرق بهَا ثمَّ كَانَ خُرُوج السُّلْطَان من فاس إِلَى مكناسة أَوَاخِر الشَّهْر الْمَذْكُور وَلما سَمِعت قبائل البربر بِخُرُوجِهِ ارتابت وحذرت وظنت كل قَبيلَة أَنَّهَا الْمَقْصُودَة ففرت مجاط وَبَنُو مطير إِلَى رُؤُوس الْجبَال