الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فَدَعَا لَهُم وَفرق فيهم الْأَمْوَال وَالْخلْع وخاطب ابْن الْأَحْمَر يستنفره للْجِهَاد مَعَه وَقَالَ إِن خُرُوجك معي إِلَى قرطبة يكون لَك مهابة فِي قُلُوب الفرنج مَا عِشْت سوى مَا تستوجبه من الله تَعَالَى من الثَّوَاب فِي ذَلِك
ونهض السُّلْطَان إِلَى قرطبة فاتح جُمَادَى الأولى من سنة سِتّ وَسبعين الْمَذْكُورَة فوافاه ابْن الْأَحْمَر بِنَاحِيَة شدونه فَأكْرم موصله وشكر خفوفه إِلَى الْجِهَاد وَبِدَارِهِ إِلَيْهِ ونازلوا حصن بني بشير فدخلوه عنْوَة وَقتلت الْمُقَاتلَة وسبيت النِّسَاء ونفلت الْأَمْوَال وَهدم الْحصن حَتَّى لم يبْق لَهُ أثر ثمَّ بَث السُّلْطَان رحمه الله السَّرَايَا والغارات فِي البسائط فاكتسحها وامتلأت الْأَيْدِي وأثرى الْعَسْكَر وفاض عَلَيْهِم من الْغنم وَالْبَقر والمعز وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير والقمح وَالشعِير وَالزَّيْت وَالْعَسَل مَا لَا يُوصف ثمَّ سَارُوا يتقترون الْمنَازل والعمران فِي طريقهم حَتَّى احتلوا بِسَاحَة قرطبة فنازلوها وخفقت ألوية السُّلْطَان فِي نَوَاحِيهَا وزعقت طبوله فِي فضائها وَتقدم فِي أبطاله وحماته حَتَّى وقف على بَابهَا ثمَّ داربأسوارها ينظر كَيفَ الْحِيلَة فِي قتالها ووقف ابْن الاحمر بعساكر الأندلس أَمَام محلّة الْمُسلمين يحرسونها خوفًا من كرة الْعَدو وخنس الفرنج وَرَاء الأسوار وانبثت بعوث الْمُسلمين وسراياهم فِي نواحي قرطبة وقراها فنسفوا آثارها وخربوا عمرانها وترددوا على جهاتها ودخلوا حصن الزهراء بِالسَّيْفِ وَأقَام السُّلْطَان على قرطبة ثَلَاثًا ثمَّ ارتحل عَنْهَا إِلَى حصن بركونة فدخله عنْوَة ثمَّ أرجونة كَذَلِك ثمَّ قدم بعثا إِلَى مَدِينَة جيان فقاسمها حظها من الْخَسْف والدمار وخام الطاغية عَن اللِّقَاء وأيقن بخراب عمرانه وَإِتْلَاف بِلَاده فجنح إِلَى السّلم وخطبه من السُّلْطَان يَعْقُوب وَرغب فِيهِ إِلَيْهِ وَبعث الأقسة والرهبان للوساطة فِي ذَلِك فرفعهم السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى ابْن الْأَحْمَر وَجعل الْأَمر فِي ذَلِك إِلَيْهِ تكرمة لمشهده ووفاء بِحقِّهِ وَقَالَ لوفد الفرنج إِنَّمَا أَنا ضيف والضيف لَا يُصَالح على رب الْمنزل فَسَارُوا إِلَى ابْن الْأَحْمَر وَقَالُوا لَهُ إِن السُّلْطَان يَعْقُوب قد رد الْأَمر إِلَيْك وَنحن قد جئْنَاك لنعقد مَعَك صلحا مُؤَبَّدًا لَا يعقبه غدر وَلَا حَرْب وأقسموا لَهُ بصلبانهم إِن لم يرضه الفنش ليخلعنه لِأَنَّهُ لم ينصر الصَّلِيب وَلَا حمى الْحَوْزَة فأجابهم ابْن
الْأَحْمَر إِلَيْهِ بعد عرضه على أَمِير الْمُسلمين والتماس إِذْنه فِيهِ لما فِيهِ من الْمصلحَة وجنوح أهل الأندلس إِلَيْهِ مُنْذُ المدد الطَّوِيلَة فانعقد السّلم فِي آخر شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزاته هَذِه وَجعل طَرِيقه على غرناطة احتفاء بالسلطان وَخرج لَهُ عَن الْغَنَائِم كلهَا فاحتوى عَلَيْهَا ابْن الْأَحْمَر وساقها إِلَى غرناطة وَقَالَ لَهُ السُّلْطَان يَعْقُوب يكون حَظّ بني مرين من هذَيْن الْغُزَاة الْأجر وَالثَّوَاب مثل مَا فعل يُوسُف بن تاشفين رحمه الله مَعَ أهل الأندلس يَوْم الزلاقة
وَلما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من هَذِه الْغَزْوَة اعتل الرئيس أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة ثمَّ هلك غرَّة جُمَادَى من السّنة الْمَذْكُورَة فلحق ابْنه مُحَمَّد بالسلطان يَعْقُوب آخر شهر رَمَضَان وَهُوَ متلوم بالجزيرة الخضراء منصرفة من الْغَزْو كَمَا ذَكرْنَاهُ فَنزل لَهُ عَن مالقة وَدعَاهُ إِلَى حوزها مِنْهُ وَقَالَ لَهُ إِن لم تحزها أعطيتهَا للفرنج وَلَا يتملكها ابْن الْأَحْمَر فحازها السُّلْطَان يَعْقُوب مِنْهُ وَعقد عَلَيْهَا لِابْنِهِ أبي زيان منديل بن يَعْقُوب فَسَار إِلَيْهَا وتملكها وَعز ذَلِك على ابْن الْأَحْمَر غَايَة لِأَنَّهُ لما بلغه وَفَاة أبي مُحَمَّد بن أشقيلولة سما أمله إِلَيْهَا وَأَن ابْن أُخْته وَهُوَ مُحَمَّد الْوَافِد على السُّلْطَان يَعْقُوب شيعَة لَهُ لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلا فَأَخْطَأَ ظَنّه وَخرج الْأَمر بِخِلَاف مَا كَانَ يرتقب وَلما قضى السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة الخضراء صَوْمه ونسكه خرج إِلَى مالقة فَدَخلَهَا سادس شَوَّال من السّنة ويرز إِلَيْهِ أَهلهَا فِي يَوْم مشهود واحتفلوا لَهُ احتفال أَيَّام الزِّينَة سُرُورًا بِمقدم السُّلْطَان واغتباطا بدخولهم فِي دَعوته وانخراطهم فِي سلك رَعيته وَأقَام فيهم إِلَى خَاتم سنته ثمَّ عقد عَلَيْهَا لعمر بن يحيى بن محلي من صنائع دولتهم وَأنزل مَعَه المسالح وَترك عِنْده زيان بن أبي عياد بن عبد الْحق فِي طَائِفَة لنظره من أبطال بني مرين واستوصاه بِمُحَمد بن اشقيلولة وارتحل إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ أجَاز مِنْهَا إِلَى الْمغرب فاتح سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة وَقد اهتزت الدُّنْيَا لمقدمه وامتلأت الْقُلُوب سُرُورًا بِمَا هيأه الله من نصر الْمُسلمين بالأندلس وعلو راية الْإِسْلَام على كل راية وعظمت بذلك كُله موجدة ابْن الْأَحْمَر ونشأت الْفِتْنَة كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
حُدُوث الْفِتْنَة بَين السُّلْطَان يَعْقُوب وَابْن الْأَحْمَر وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من حِصَار الجزيرة الخضراء وَغير ذَلِك
قد تقدم لنا أَن بَنو اشقيلولة كَانُوا أصهارا لِابْنِ الْأَحْمَر وانهم لما قدمُوا على السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة الخضراء فِي جَوَازه الأول صدرت من ابْن اشقيلولة كَلِمَات أحفظت ابْن الْأَحْمَر وغاظته فَذهب لأَجلهَا مغاضبا وانحرف عَن السُّلْطَان يَعْقُوب وَلم يشْهد مَعَه الْغَزْو وَلَا عرج على الْجِهَاد وَلما نصر الله السُّلْطَان يَعْقُوب على عدوه وَقتل العلج وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى ابْن الْأَحْمَر طيبه وَبَعثه إِلَى قومه انحرافا عَن السُّلْطَان وموالاة لِلْعَدو وَلما جَازَ السُّلْطَان يَعْقُوب الْجَوَاز الثَّانِي انقض عَنهُ ابْن الْأَحْمَر وَلم يلقه حَتَّى خاطبه السُّلْطَان واستنفره إِلَى الْجِهَاد فَلحقه بشدونة كَمَا مر وَلما صنع الله للسُّلْطَان مَا صنع من الظُّهُور والعز الَّذِي الَّذِي لَا كفاء لَهُ وَاسْتولى على مالقة من يَد ابْن اشقيلولة ارتاب ابْن الْأَحْمَر بمكانه وَظن بِهِ الظنون وتخوف مِنْهُ مَا كَانَ من يُوسُف بن تاشفين للمعتمد بن عباد وَغَيره من مُلُوك الطوائف فغص بمكانه وأظلم الجو بَينهمَا ودارت بَينهمَا مخاطبات شعرية على أَلْسِنَة الْكتاب فِي معنى العتاب وَلم تزل القوارص بَين السلطانين تجْرِي وعقارب السّعَايَة تدب وتسري وَخَوف ابْن الْأَحْمَر على ملكه يشْتَد وَيزِيد وأواصر الْأُخوة الإسلامية تتلاشى وتبيد إِلَى أَن استحكمت الْبغضَاء وضاق بَينهمَا رحب الفضاء فَفَزعَ ابْن الْأَحْمَر إِلَى مداخلة الطاغية فِي شَأْنه واتصال يَده بِيَدِهِ وحبله بحبله وَأَن يعود إِلَى منزله أَبِيه مَعَه من ولَايَته ليدافع بِهِ السُّلْطَان يَعْقُوب وَقَومه عَن أرضه ويأمن مَعَه من زَوَال سُلْطَانه فاغتنم الطاغية هَذِه الفرصة ونكث عهد السُّلْطَان يَعْقُوب وَنقض السّلم واعلن بِالْحَرْبِ وأغزا أساطيله الجزيرة الخضراء حَيْثُ كَانَت مسالح السُّلْطَان يَعْقُوب وَجُنُوده وأرست بالزقاق حَيْثُ فراض الْمجَاز وانقطعت عَسَاكِر السُّلْطَان وَرَاء الْبَحْر وَحَال الْعَدو بَينهم وَبَين إغاثته إيَّاهُم واتصلت يَد ابْن الْأَحْمَر بيد الطاغية واتفقا على منع السُّلْطَان يَعْقُوب من عبور
ثمَّ إِن العبيد الَّذين بطنجة وَثبُوا على قائدهم الْقَائِد الشَّيْخ وعَلى قَائِد أهل الرِّيف مُحَمَّد بن عبد الْملك وَأَرَادُوا قَتلهمَا فهربا لآصيلا وَالسُّلْطَان يَوْمئِذٍ لَا زَالَ بمكناسة وَلما أنهى إِلَيْهِ خبرهم كتب إِلَى أعيانهم يتوعدهم فقبضوا على أَصْحَاب الفعلة وبعثوا بهم إِلَيْهِ وتبرؤوا مِنْهُم فَقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف فاستكانوا بعض الشَّيْء وَرجع القائدان إِلَى طنجة ثمَّ لما سَافر السُّلْطَان إِلَى مراكش أَخذ مَعَه عبيد مكناسة فَأنْزل أهل القصبة مِنْهُم بالمنصورية قرب وَادي النفيفيخ لأَنهم كَانُوا رَأس العصاة واستصحب البَاقِينَ إِلَى مراكش فأنزلهم بهَا بعد أَن عزل عَنْهُم قوادهم الَّذين حَضَرُوا فعلة الْمولى يزِيد وأبقاهم عاطلين مهملين وَولى عَلَيْهِم أُنَاسًا من غَيرهم
ذكر مَا سلكه السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فِي حق العبيد من التَّأْدِيب الْغَرِيب
ثمَّ إِن العبيد الَّذين بالثغور عاثوا بهَا وأضروا بِأَهْلِهَا فِي جناتهم وَأَمْوَالهمْ وأعراضهم فأنهى خبرهم إِلَى السُّلْطَان أَيْضا وَلما أعياه أَمرهم وَرَأى أَن تأديبهم بالتفرقة لم يفد فيهم انْتقل رحمه الله مَعَهم إِلَى مرتبَة أُخْرَى من التَّأْدِيب لم يسْبق إِلَيْهَا كَانَت ترياقا لقطع دائهم وَنَارًا لحسم عرق بلائهم وَذَلِكَ أَنه لما بلغه مَا هم عَلَيْهِ من الْجور والطغيان نَهَضَ من مراكش عَازِمًا على الْإِيقَاع بهم فَلَمَّا وصل إِلَى رِبَاط الْفَتْح كتب إِلَى أهل طنجة والعرائش مِنْهُم يَقُول إِنِّي قد رضيت عَنْكُم وبررت قسمي فِي نقلكم من مكناسة إِلَى الثغور والآن إِذا وصلتكم الْإِبِل وَالْبِغَال الَّتِي أبعثها إِلَيْكُم فلتحمل أهل طنجة بأولادهم ومتاعهم وليقدموا إِلَى دَار عَرَبِيّ من بِلَاد سُفْيَان فلينزلوا بهَا ثمَّ يبعثوا الْإِبِل وَالْبِغَال إِلَى أهل العرائش ليتحملوا بأولادهم ومتاعهم إِلَى دَار عَرَبِيّ كَذَلِك فَإِذا اجْتَمَعْتُمْ أَنْتُم وهم بهَا فَإِنِّي أبْعث إِلَيْكُم بغالي تتحملون عَلَيْهَا إِلَى مكناسة كلكُمْ فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم كتاب السُّلْطَان بذلك طاروا فَرحا وأحبوا الرُّجُوع إِلَى مكناسة
وَلما وَردت عَلَيْهِم الْإِبِل وَالْبِغَال ارتحلوا من طنجة وَفِي أثْنَاء ذَلِك
بعث إِلَيْهِم السُّلْطَان قائدهم سعيد بن العياشي الَّذِي خلعوه أَيَّام الْفِتْنَة وأوصاه أَن يُقيم بدار عَرَبِيّ حَتَّى يقدم عَلَيْهِ عبيد طنجة والعرائش فَانْتهى إِلَيْهَا ووافاه بهَا عبيد طنجة فنزلوا عَلَيْهِ بقضهم وقضيضهم ووصلت الْإِبِل وَالْبِغَال إِلَى أهل العرائش فجاؤوا حَتَّى نزلُوا مَعَ إخْوَانهمْ كَمَا رسم السُّلْطَان
ثمَّ إِن السُّلْطَان رحمه الله نَهَضَ من رِبَاط الْفَتْح حَتَّى وافى مشرع مسيعيدة من وَادي سبو ثمَّ انْتقل مِنْهُ إِلَى سوق الْأَرْبَعَاء من بِلَاد سُفْيَان ثمَّ تقدم إِلَى قبائل الغرب وَبني حسن أَن يَسِيرُوا إِلَى العبيد ويعسكروا عَلَيْهِم من جَمِيع الْجِهَات فامتثلوا وَلما استداروا حَولهمْ وَأَحَاطُوا بهم إحاطة بَيَاض الْعين بسوادها قدم السُّلْطَان ودعا رُؤَسَاء الْقَبَائِل فَحَضَرُوا عِنْده فَقَالَ لَهُم إِنِّي قد أَعطيتكُم هَؤُلَاءِ العبيد بأولادهم وخيلهم وسلاحهم وكل مَالهم فاقتسموهم الْآن وكل وَاحِد مِنْكُم يَأْخُذ عبدا وَأمة وأولادهما فَالْعَبْد يحرث وَالْأمة تطحن وَالْولد يرْعَى الْمَاشِيَة فحذوهم وتقلدوا سِلَاحهمْ واركبوا خيولهم وَالْبَسُوا كساهم بَارك الله لكم فيهم فَأنْتم عسكري وجندي دونهم فَلَمَّا سَمِعت قبائل الغرب وَبني حسن هَذَا الْكَلَام من السُّلْطَان وَثبُوا على العبيد من غير أَن تكون مِنْهُم وَقْفَة واقتسموهم فِي أسْرع من لحس الْكَلْب أَنفه وتوزعوهم شذر مذر وصيروهم عِبْرَة لمن اعْتبر
وقفل السُّلْطَان رَاجعا إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَلما دخله نفى العبيد الَّذين بهَا إِلَى مراكش فأنزلهم بهَا بعد أَن عزل عَنْهُم قوادهم وَولى مكانهم غَيرهم وَاسْتمرّ عبيد طنجة والعرائش موزعين فِي الْقَبَائِل أَربع سِنِين ثمَّ عَفا عَنْهُم واستردهم من الْقَبَائِل إِلَى الجندية وأركبهم وكساهم وسلحهم لكنه ميزهم وجعلهم قبائل فِي الْخَلْط وطليق مِنْهُم أنزلهم بقصر كتامة وسُفْيَان وَبَنُو مَالك أنزلهم بمسيعيدة وَبَنُو حسن أنزلهم بسيدي قَاسم والحياينة وَأهل الْجَبَل أنزلهم بتامدرت من أَعمال فاس وَأَقَامُوا هُنَالك عدَّة سِنِين يوجهون حصتهم فِي الْبعُوث ويعسكرون مَعَ السُّلْطَان مَتى احْتَاجَ إِلَيْهِم ثمَّ جمعهم رحمه الله بعد ذَلِك ونقلهم إِلَى مراكش وَأَقْبل عَلَيْهِم بالعطاء إِلَى أَن عَادوا أحسن مِمَّا
كَانُوا حَالا ثمَّ بدا لَهُ فيهم فَبعث عبيد السوس إِلَى تارودانت وَعبيد حاحة والشبانات إِلَى الصويرة وَعبيد السراغنة وتادلا ودمنات إِلَى تيط الْفطر وَعبيد دكالة إِلَى آزمور وَعبيد الشاوية إِلَى آنفي وَعبيد زعير والدغماء إِلَى المنصورية وَعبيد بني حسن إِلَى المهدية وَأبقى مَعَه بمراكش عبيد سُفْيَان وَبني مَالك والخلط وطليق والمسخرين من أَصْحَاب الْعَبَّاس
وَكَانَ قيام هَؤُلَاءِ العبيد سَببا لافتراق الْكَلِمَة وانحلال نظام الْملك بالمغرب وسرى فسادهم فِي الْقَبَائِل كلهَا عربا وبربرا وَكثر الْهَرج وانحبس الْمَطَر وَوَقع الْقَحْط وعظمت المجاعة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك نَحوا من سبع سِنِين من سنة تسعين إِلَى سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة وَألف فَكَانَت هَذِه الْمدَّة كلهَا مجاعَة أكل النَّاس فِيهَا الْميتَة وَالْخِنْزِير والآدمي وفنى أَكْثَرهم جوعا وَالسُّلْطَان فِي ذَلِك كُله يكابد المشاق الْعِظَام وَيصير على الْجنُود الْأَمْوَال الثقال راتبا بعد راتب وَعَطَاء بعد عَطاء إِلَى أَن خلصوا من المجاعة وصلحت أَحْوَال الْجَمَاعَة وَكَانَ رحمه الله قد رتب الْخبز فِي كل مصر يفرق على ضُعَفَائِهِ فِي كل حومة وأسلف الْقَبَائِل الْأَمْوَال الطائلة يقتسمونها على ضعفائهم إِلَى أَن يؤدوها زمَان الخصب والرخاء
وَلما عَاشَ النَّاس وهموا بأدائها سامحهم بهَا وَقَالَ مَا أعطيتهَا بنية الاسترجاع وَإِنَّمَا ذكرت السّلف لِئَلَّا يستبد بهَا الْأَشْيَاخ والأعيان إِذا سمعُوا أَنَّهَا هبة فرحم الله تِلْكَ الهمة الشَّرِيفَة مَا كَانَ أَعْلَاهَا وَأَعْظَمهَا وأرأفها وأرحمها وَأسْقط رحمه الله فِي تِلْكَ الْمدَّة جَمِيع الْوَظَائِف والمغارم عَن قبائل الْمغرب إِلَى أَن عاشوا وتمولوا وَكَانَ يُعْطي التُّجَّار الْأَمْوَال ليجلبوا بهَا الأقوات من بر النَّصَارَى فَإِذا وصلت أَمرهم أَن يبيعوها بِثمنِهَا الَّذِي اشْتريت بِهِ رفقا بِالْمُسْلِمين وشفقة على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين
وَلما دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة وَألف مطر الغرب وعاش النَّاس وحرثوا وَأدْركَ الزَّرْع ورخصت الأسعار وازدهت الدُّنْيَا وَدرت الجبايات وَأخذ أَمِير الْمُؤمنِينَ رحمه الله فِي تمهيد الْمغرب ثَانِيَة واستئناف الْعَمَل وَالْجد وَالله غَالب على أمره
وَفِي سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ فِي سَابِع جُمَادَى الأولى مِنْهَا كمل بِنَاء الْمنَار بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم من سلا وَكَانَ الْمنَار الَّذِي قبله قد أَصَابَته صَاعِقَة تداعت لَهَا أَرْكَانه فَأمر السُّلْطَان رحمه الله بنقضه وإعادته جَدِيدا فأعيد على هَيْئَة متقنة أحسن مِمَّا كَانَ وَأعظم وصير عَلَيْهِ بِوَاسِطَة أُمَنَاء مرسى العدوتين ثَلَاثَة آلَاف مِثْقَال وَأَرْبَعمِائَة مِثْقَال وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ مِثْقَالا وست أَوَاقٍ وَثلث الْأُوقِيَّة والريال الْكَبِير يَوْمئِذٍ من سعر سِتّ عشرَة أُوقِيَّة وَكَانَ جلّ الصائر من بَيت المَال وَأقله من مَال الْحَبْس وَكَانَ الَّذِي يتَوَلَّى النظارة يَوْمئِذٍ وَالْقِيَام على الْبناء عَامل سلا الأبر الْأَخير السَّيِّد الْحَاج أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْهَاشِمِي عواد
وَفِي سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الْمُحَقق البارع أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد السَّلَام التسولي الْمَدْعُو مديدش صَاحب الشَّرْح الْكَبِير على تحفة ابْن عَاصِم فِي الْأَحْكَام وَشرح الشَّامِل وحاشية الزقاقية وَغير ذَلِك من التآليف الحسان رحمه الله ونفعنا بِهِ
وَفِي منتصف سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف غزا السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رحمه الله قَبيلَة زمور الشلح وَكَانُوا قد تجاوزوا الْحَد فِي الْإِفْسَاد وإخافة الْعباد والبلاد فأوقع بهم وقْعَة شنعاء كسرت من حَدهمْ وفلت من غربهم وَكتب السُّلْطَان رحمه الله فِي ذَلِك إِلَى وَلَده وخليفته سَيِّدي مُحَمَّد كتابا من إنْشَاء وزيره أبي عبد الله بن إِدْرِيس يَقُول فِيهِ مَا نَصه ولدنَا الأرضى الأبر الأرشد سَيِّدي مُحَمَّد أصلحك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فقد كُنَّا أردنَا الْإِبْقَاء على قَبيلَة زمور رَحْمَة وإشفاقا وَحَملهمْ على الاسْتقَامَة بالإرهاب من الشدَّة فِي بعض الْأُمُور هِدَايَة وإرفاقا فَلم يرد الله بهم خيرا لفساد نيتهم وخبث طويتهم واتكالهم على حَولهمْ وقوتهم فَمَا رَأَوْا منا لينًا وسدادا إِلَّا ازدادوا شدَّة وَفَسَادًا وَلَا أظهرنَا لَهُم عظة وإرشادا إِلَّا أظهرُوا تطاولا وعنادا وَمَا أخرنا الْمحلة المنصورة عَن الرّكُوب إِلَيْهِم إبْقَاء وألفا إِلَّا ظنُّوا ذَلِك عَجزا وضعفا قد طمس الْإِعْجَاب مِنْهُم بصرا وسمعا وَلم يرَوا أَن الله قد أهلك من قبلهم من الْقُرُون من هُوَ أَشد مِنْهُم قُوَّة وَأكْثر جمعا
(إِذا أَنْت أكرمت الْكَرِيم ملكته
…
وَإِن أَنْت أكرمت اللَّئِيم تمردا)
(وَوضع الندا فِي مَوضِع السَّيْف بالعلى
…
مضربه كوضع السَّيْف فِي مَوضِع الندا)
فَلَمَّا رَأينَا لجاجهم فِي عمالهم وَعدم رجوعهم عَن هواهم وَأَنَّهُمْ لم يعتبروا بجلائهم عَن بِلَادهمْ وَلَا بِمَا أَصَابَهُم من الْفِتْنَة فِي أنفسهم وَأَوْلَادهمْ وَلم يراعوا مَا نهب من زرعهم الْقَائِم والحصيد وَلَا مَا استخرج من مخزونهم الْكثير العتيد رَأينَا قِتَالهمْ شرعا وجهادهم ذبا عَن الدّين ودفعا فاعتمدنا على حول الله وقوته وأمرنا بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِم فِي الْأَخْذ والتضييق وَالْمُبَالغَة فِي النهب وَالتَّحْرِيق وتركهم مَحْصُورين فِي أوعارهم ومقهورين فِي أوكارهم إِذْ رب مطاولة أبلغ من مصاولة فتوالت عَلَيْهِم الغارات وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِم النكبات لَا يَجدونَ إِلَى الرَّاحَة سَبِيلا أَيْنَمَا ثقفوا أخذُوا وَقتلُوا تقتيلا فَفِي كل يَوْم تثمر العوالي رُؤُوس رُؤَسَائِهِمْ وتتخطف أَيدي المنايا أهل بأسائهم وَكلما رادوهم إقداما وطلبا ازدادوا توغلا فِي الْجبَال وهربا حَتَّى نهكتهم الْحَرْب وضرستهم مُوالَاة الطعْن وَالضَّرْب وَضاع بالحصار الْكسْب وَالْمَال وَلحق الضَّرَر الْأَوْلَاد والعيال فَجعلُوا يرحلون لقبائل جوارهم طَالِبين لحلفهم وجوارهم وَبلغ الْبُؤْس فيهم غَايَته وَأظْهر الله فيهم آيَته وهم فِي خلال هَذَا كل حِين يتشفعون ويتذللون فِي قبُول تَوْبَتهمْ ويتضرعون وَنحن نظهر لَهُم التمنع والإباية لنبني أَمرهم على أساس الْجد ونجازيهم على مَا ارتكبوه من خلف الْوَعْد فَلَمَّا أنجزت القهرية فيهم وعدها وَبَلغت الْعقُوبَة فيهم حَدهَا قابلنا إساءتهم بِالْإِحْسَانِ وراعينا فيهم وَجه الْمَسَاكِين وَالنِّسَاء وَالصبيان فولينا عَلَيْهِم مِنْهُم ثَلَاثَة عُمَّال ووظفنا عَلَيْهِم خمسين ألف مِثْقَال وشرطنا عَلَيْهِم تَقْوِيم مِائَتَيْنِ من الحراك مثل قبائل الطَّاعَة والتزام الصّلاح والخدمة جهد الِاسْتِطَاعَة فَقَامُوا بذلك أحسن قيام وأعطوا المراهين فِي أَدَاء المَال بعد أَيَّام وَكَانَ أَخذهم بعد تَقْدِيم الْأَعْذَار وتكرير الْإِنْذَار وعفونا عَنْهُم عَفْو غلب واقتدار وَرب عِقَاب أنتج حسن طَاعَة وتوبة نصوح تداركت مَا سلف من التَّفْرِيط والإضاعة وَفِي النَّاس من لَا يصلح إِلَّا مَعَ التَّشْدِيد وَرَبك يخلق مَا يَشَاء وَيفْعل مَا يُرِيد
(وَمَا عَن رضى مِنْهَا عَطِيَّة أسلمت
…
وَلكنهَا قد قادها للهدى الْقَهْر)
(أردنَا بهَا الْإِبْقَاء فازداد عجبها
…
وأدبها التَّشْدِيد والفتك والأسر)
وَلَو قيدوا النِّعْمَة بالشكر لأمنوا الزَّوَال {وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا فَلَا مرد لَهُ وَمَا لَهُم من دونه من وَال} الرَّعْد 11 وَالسَّلَام فِي فاتح رَجَب الْفَرد الْحَرَام عَام تِسْعَة وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف اه نَص الْكتاب الشريف
انْتِقَاض الْهُدْنَة مَعَ الفرنسيس وتمحيص الْمُسلمين بإيسلي قرب وَجدّة وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَت الْهُدْنَة معقودة بَين هَذِه الدولة الشَّرِيفَة وَبَين جنس الفرنسيس من لدن دولة السُّلْطَان الْأَعْظَم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمه الله وَلما حدث الشنآن بَين ترك الجزائر والفرنسيس وَاسْتولى الفرنسيس على ثغورهم جَاءَ أهل تلمسان إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رحمه الله راغبين فِي بيعَته وَالدُّخُول فِي طَاعَته فقبلهم بعد التَّوَقُّف والمشاورة كَمَا مر وَلما أعرى جَيش السُّلْطَان تلمسان وَاجْتمعَ أهل ذَلِك الْقطر على الْحَاج عبد الْقَادِر محيي الدّين تَحت كلمة السُّلْطَان بر بِهِ وَأحسن إِلَيْهِ وقاوم الفرنسيس بِتِلْكَ الْبِلَاد أَشد المقاومة إِلَّا أَن فَائِدَة حربه كَانَت تظهر فِي قتل النُّفُوس واستلاب الْأَمْوَال وَفَائِدَة حَرْب الفرنسيس كَانَت تظهر فِي انتقاص الأَرْض والاستيلاء عَلَيْهَا وشتان مَا بَينهمَا
وَلما كَانَت سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف تمّ اسْتِيلَاء الفرنسيس على جَمِيع بِلَاد الْمغرب الْأَوْسَط وَصَارَ الْحَاج عبد الْقَادِر يتنقل فِي أطرافها فَتَارَة بالصحراء وَتارَة ببني يزناسن وَتارَة بوجدة والريف وَغير ذَلِك وَرُبمَا استكثر فِي هَذِه التنقلات بِمن هُوَ من رعية السُّلْطَان أَو جنده فَمد الفرنسيس يَده إِلَى إيالة السُّلْطَان رحمه الله فشن الْغَارة على بني يزناسن وعَلى وَجدّة وأعمالها الْمرة بعد الْمرة ثمَّ اقتحم وَجدّة على حِين غَفلَة من أَهلهَا وانتهبها وَكثر عيثه