الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقع بَينه وَبَين أهل العدوة الأندلسية مسلمهم وكافرهم من الوصلة وَأَنه معتزم على وَطْء بِلَاد الْمغرب فصرف السُّلْطَان يَعْقُوب عزمه إِلَى غَزْو يغمراسن وقفل إِلَى فاس لثَلَاثَة أشهر من حُلُوله بطنجة فَدَخلَهَا آخر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَأعَاد الرُّسُل إِلَى يغمراسن لإِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ فِيمَا خاطبه بِهِ إِلَى مَتى يَا يغمراسن هَذَا النفور والتمادي فِي الْغرُور أما آن أَن تَنْشَرِح الصُّدُور وتنقضي هَذِه الشرور فِي كَلَام غير هَذَا فَصم يغمراسن عَن ذَلِك كُله وَلم يرفع بِهِ رَأْسا وَلما أيس السُّلْطَان يَعْقُوب من إقلاعه ورجوعه نَهَضَ إِلَيْهِ من فاس آخر سنة تسع وَسبعين وسِتمِائَة وَقدم ابْنه الْأَمِير يُوسُف فِي العساكر وَتَبعهُ فأدركه بتازا وَلما انْتهى إِلَى ملوية تلوم أَيَّامًا فِي انْتِظَار العساكر ثمَّ ارتحل حَتَّى نزل وَادي تافنا وصمد إِلَيْهِ يغمراسن بجموع زناتة وَالْعرب بحللهم ونجعهم وشائهم ونعمهم والتقت طوالع الْقَوْم أَولا فَكَانَت بَينهمَا حَرْب ثمَّ ركب على آثارهما العسكران والتحم الْقِتَال سَائِر النَّهَار وَكَانَ الزَّحْف بالموضع الْمَعْرُوف بالملعب من أحواز تلمسان ثمَّ انْكَشَفَ بَنو عبد الواد عِنْدَمَا أراح الْقَوْم وانتهب معسكرهم بِمَا فِيهِ من الكراع وَالسِّلَاح والفساطيط وَالْمَتَاع وَبَات عَسْكَر السُّلْطَان يَعْقُوب تِلْكَ اللَّيْلَة على متون جيادهم وَاتبعُوا من الْغَد آثَار عدوهم واكتسحت أَمْوَال الْعَرَب الناجعة الَّذين كَانُوا مَعَ يغمراسن وامتلأت أَيدي بني مرين من شائهم ونعمهم وتوغلوا فِي أَرض يغمراسن ووافاه هُنَالك مُحَمَّد بن عبد الْقوي أَمِير بني توجين لقِيه بِنَاحِيَة القصبات وعاثوا جَمِيعًا فِي بِلَاده تخريبا ونهبا ثمَّ أذن السُّلْطَان يَعْقُوب لبني توجين فِي اللحاق ببلادهم وَأخذ هُوَ بمخنق تلمسان محاصرا لَهَا حَتَّى يصل مُحَمَّد بن عبد الْقوي إِلَى مأمنه من جبل وانشريس خوفًا عَلَيْهِ من غائله يغمراسن واتباعه إِيَّاه ثمَّ أفرج عَنْهَا وقفل إِلَى الْمغرب فَدخل حَضْرَة فاس فِي رَمَضَان سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة ثمَّ نَهَضَ الى مراكش فَدَخلَهَا فاتح سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ بعْدهَا فَبنى بهَا بِامْرَأَة مَسْعُود بن كانون السفياني لِأَنَّهُ كَانَ قد هلك قبل هَذِه السّنة وسرح ابْنه الْأَمِير يُوسُف إِلَى السوس لتدويخ أقطاره ثمَّ وافاه وَهُوَ بمراكش صريخ الطاغية على مَا نذكرهُ الْآن
الْجَوَاز الثَّالِث للسُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس مغيثا للطاغية ومغتنما فرْصَة الْجِهَاد
لما كَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب رحمه الله بمراكش سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة قدم عَلَيْهِ كتاب طاغية الإضبنيول واسْمه هراندة مَعَ وَفد من بطارقته وزعماء دولته مستصرخا لَهُ على ابْنه سانجة الْخَارِج عَلَيْهِ فِي طَائِفَة من النَّصَارَى وَأَنَّهُمْ غلبوه على أمره زاعمين بِأَنَّهُ شاخ وَضعف عَن تدبيرهم وَلم يقدر على الْقيام بنصرتهم فاستنصره عَلَيْهِم وَدعَاهُ لحربهم وأمله لاسترجاع ملكه من يدهم فاغتنم السُّلْطَان يَعْقُوب هَذِه الفرصة فِي الْحَال وَجعل جَوَابه نفس النهوض والارتحال فَسَار مَعَهم لم يعرج على شَيْء حَتَّى أَتَى قصر الْمجَاز وَهُوَ قصر مصمودة فَعبر مِنْهُ واحتل لوقته بالجزيرة الخضراء فِي ربيع الثَّانِي من سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة وأوعز الى النَّاس بالنفير إِلَى الْجِهَاد وَاجْتمعت عَلَيْهِ مسالح الثغور بالأندلس وَسَار حَتَّى نزل صَخْرَة عباد وَهُنَاكَ قدم عَلَيْهِ الطاغية هراندة ذليلا لعزة الْإِسْلَام مؤملا صريخ السُّلْطَان فَأكْرم موصله وَأكْرم وفادته
وَذكر ابْن خلدون وَابْن الْخَطِيب وَغَيرهمَا من الْأَثْبَات أَن هَذَا الطاغية لما اجْتمع بالسلطان يَعْقُوب قبل يَده إعظاما لقدره وخضوعا لعزه فَدَعَا السُّلْطَان رحمه الله بِمَاء فَغسل يَده من تِلْكَ الْقبْلَة بِمحضر من كَانَ هُنَاكَ من جموع الْمُسلمين والفرنج ثمَّ التمس الطاغية من السُّلْطَان أَن يمده بِشَيْء من المَال ليستعين بِهِ على حربه ونفقاته فأسلفه السُّلْطَان مائَة ألف دِينَار من بَيت مَال الْمُسلمين رهنة الطاغية فِيهَا تاجه الْمَوْرُوث عَن سلفه قَالَ ابْن خلدون وَبَقِي هَذَا التَّاج بدار بني يَعْقُوب بن عبد الْحق فخرا لِلْأَعْقَابِ لهَذَا الْعَهْد قلت وَمَا أبعد حَال هَذَا الطاغية المهين من حَال عُطَارِد بن حَاجِب التَّمِيمِي الَّذِي لم يسلم قَوس أَبِيه على تطاول السنين والقصة مَشْهُورَة فَانْظُر مَا بَين الهمم الْعَرَبيَّة والعجمية من البون وَحَال الْفَرِيقَيْنِ فِي الابتذال والصون
ثمَّ إِن السُّلْطَان يَعْقُوب رحمه الله تقدم مَعَ الطاغية وَدخل دَار الْحَرْب غازيا حَتَّى نَازل قرطبة وَبهَا يَوْمئِذٍ سانجة ابْن الطاغية الْخَارِج عَلَيْهِ مَعَ طائفته
فقاتلها أَيَّامًا ثمَّ أفرج عَنْهَا وتنقل فِي جهاتها وَبعث سراياه إِلَى جيان فأفسدوا زروعها ثمَّ ارتحل إِلَى طليطلة فعاث فِي جهاتها وَخرب عمرانها حَتَّى انْتهى إِلَى حصن مجريط من أقْصَى الثغر فامتلأت أَيدي الْمُسلمين وضاق معسكرهم بالغنائم الَّتِي استاقوها فقفل السُّلْطَان من أجل ذَلِك إِلَى الجزيرة فاحتل بهَا فِي شعْبَان وَأقَام بهَا إِلَى آخر السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَت غَزْوَة لم يسمح الدَّهْر بِمِثْلِهَا وَفِي هَذِه السّنة توفّي يغمراسن بن زيان على مَا فِي القرطاس وَذكر ابْن خلدون أَنه لما حَضرته الْوَفَاة أوصى ابْنه عُثْمَان وَقَالَ لَهُ يَا بني إِن بني مرين بعد استفحال ملكهم واستيلائهم على حَضْرَة الْخلَافَة بمراكش لَا طَاقَة لنا بلقائهم فإياك أَن تحاربهم فَإِن مددهم موفور ومددك مَحْصُور وَلَا يغرنك أَنِّي كنت أحاربهم وَلَا أنكص عَن لقائهم لِأَنِّي كنت أخْشَى معرة الْجُبْن عَنْهُم بعد التمرس بهم والاجتراء عَلَيْهِم وَأَنت لَا يَضرك ذَلِك لِأَنَّك لم تحاربهم وَلم تتمرس بهم فَعَلَيْك بالتحصن ببلدك مَتى زحفوا إِلَيْك وحاول مَا اسْتَطَعْت الِاسْتِيلَاء على مَا جاورك من عمالات الْمُوَحِّدين أَصْحَاب تونس يستفحل بهَا ملكك وتكافئ حشد الْعَدو بحشدك قَالَ فَعمل ابْنه عُثْمَان على وَصيته وأوفد أَخَاهُ مُحَمَّد بن يغمراسن على السُّلْطَان يَعْقُوب وَهُوَ بالأندلس فِي جَوَازه الرَّابِع فعقد مَعَه السّلم على مَا أحب وانكفأ رَاجعا إِلَى أَخِيه فطابت نَفسه وتفرغ لافتتاح الْبِلَاد الشرقية
انْعِقَاد الصُّلْح بَين السُّلْطَان يَعْقُوب وَابْن الْأَحْمَر وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما اتَّصَلت يَد السُّلْطَان يَعْقُوب رحمه الله بيد الطاغية وَقَامَ مَعَه فِي ارتجاع ملكه خشِي ابْن الْأَحْمَر عاديته فجنح إِلَى مُوالَاة ابْنه سانجة الْخَارِج عَلَيْهِ وَوصل يَده بِيَدِهِ وأكد لَهُ العقد واضطرمت الأندلس نَارا وفتنة بِسَبَب هَذَا الْخلاف وَلما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزوته مَعَ الطاغية وَقد ظهر على ابْنه أجمع على منازلة مالقة الَّتِى استحوذ عَلَيْهَا ابْن الْأَحْمَر وخدع عَنْهَا ابْن محلي فَنَهَضَ السُّلْطَان إِلَيْهَا من الجزيرة الخضراء فاتح سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
خُرُوج السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى الصويرة بِقصد النزهة واغتنام الرَّاحَة وَمَا اتّفق لَهُ فِي ذَلِك
لما قدم السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمه الله من سجلماسة إِلَى مراكش أَقَامَ بهَا إِلَى أَن دخل فصل الرّبيع فاعتزم على الْخُرُوج إِلَى الصويرة وَالْوُقُوف عَلَيْهَا ومعاينة مبانيها ومعالمها إِذْ كَانَ لَهُ ولوع بِهَذِهِ الْمَدِينَة الَّتِي أَنْشَأَهَا واغتبط بهَا وَقصد أَيْضا زِيَارَة رجال رجراجة بالسَّاحل والتبرك بآثارهم وَكَانَت سفرته هَذِه سفرة فُرْجَة وجمام نفس واغتنام لَذَّة فأشخص مَعَه جمَاعَة من عُلَمَاء الْعَصْر وأئمته فَكَانَ يملي عَلَيْهِم الحَدِيث النَّبَوِيّ ويؤلفونه على مُقْتَضى إِشَارَته مِنْهُم الْفَقِيه الْعَلامَة المشارك أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الإِمَام سَيِّدي عبد الله الغربي الرباطي والفقيه الْعَلامَة الْمُحَقق أَبُو عبد الله مُحَمَّد المير السلاوي والفقيه الدراكة أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْكَامِل الرَّشِيدِيّ والفقيع الْعَلامَة أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن أَبُو خريص هَؤُلَاءِ أهل مَجْلِسه الَّذين كَانُوا يؤلفون لَهُ ويسردون ويخوضون فِيمَا يجمعه ويستخرجه من كتب الحَدِيث الَّتِي جلبها من الْمشرق كمسند الإِمَام أَحْمد ومسند أبي حنيفَة وَغَيرهمَا وَكَانَ مَعَه جمَاعَة وافرة من الْكتاب المعتبرين فِي الْإِنْشَاء والترسيل كالسيد الْمهْدي الحكاك المراكشي وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن الْكَامِل المراكشي وَالسَّيِّد أَحْمد بن عُثْمَان المكناسي وَالسَّيِّد أَحْمد الغزال الفاسي وَالسَّيِّد مُحَمَّد سكيرج الفاسي وَالسَّيِّد الطَّاهِر بناني الرباطي وَالسَّيِّد الطَّاهِر بن عبد السَّلَام السلاوي وَالسَّيِّد سعيد الشليح الْجُزُولِيّ وَالسَّيِّد إِبْرَاهِيم إقبيل السُّوسِي وَصَاحب الْبُسْتَان أبي الْقَاسِم الصياني وَغَيرهم
وَكَانَ خُرُوجه لهَذِهِ الفرجة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة وَألف فِي فصل الرّبيع فَضربت قبابة بِظَاهِر مراكش ثمَّ ضرب عَلَيْهَا السياج الْمُحِيط بهَا
الْمُسَمّى بأفراك وَفِي وسط تِلْكَ القباب الْقبَّة الْعُظْمَى الَّتِي أهداها إِلَيْهِ طاغية الفرنج وَكَانَت مبطنة بالديباج ومحاريبها من الموبر الْحر الْمُخْتَلف الألوان وسفائفها من الكالون والإبريز وأطنابها من الْحَرِير الصافي زَعَمُوا أَن مبلغ مَا صير عَلَيْهَا الطاغية نَحْو خَمْسَة وَعشْرين ألف دِينَار ومصداق ذَلِك أَن تفاحتها الَّتِي تكون فِي أَعلَى العامود وتسميها الْعَامَّة بالجمور كَانَت من الذَّهَب الْخَالِص وَزنهَا أَرْبَعَة أُلَّاف مِثْقَال ذَهَبا وَكَانَ السُّلْطَان رحمه الله قد أخرجهَا فِي هَذِه النّوبَة ابتهاجا بهَا وَخرج مَعَه الْخَاصَّة من القواد وَالْكتاب وَغَيرهم بفازاتهم الرفيعة ومضاربهم البديعة
ثمَّ توجه فِي ذَلِك الموكب العجيب يرتاد الْبِلَاد النزهة والأماكن الْبَهْجَة الَّتِي تروق الطّرف وتستغرق الْوَصْف وتبسط النَّفس وتجلب الْأنس فَأَقَامَ شَهْرَيْن كَامِلين يتقلب فِي تِلْكَ البسائط ويستوفي اللَّذَّات ويتقرى الْمعَاهد ويقتنص الطَّائِر والشارد إِلَى أَن وصل إِلَى ثغر الصويرة فَوقف عَلَيْهِ وَقضى غَرَضه مِنْهُ على الْوَجْه الْأَكْمَل وانقلب رَاجعا إِلَى حَضرته فاجتاز فِي طَرِيقه برباط شَاكر وَهُوَ من مزارات الْمغرب الْمَشْهُورَة وَكَانَ مجمعا للصالحين من قديم الزَّمَان وَوَقع فِي التشوف أَن شاكرا الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ هَذَا الرِّبَاط من أَصْحَاب عقبَة بن نَافِع الفِهري فاتح الْمغرب وَأَنه هُنَالك فَلَمَّا مر بِهِ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمه الله فِي سفرته هَذِه أَمر بتجديد مَسْجده وحفر أساسه وتشييده وَفِي قفوله طلع مَعَ وَادي نَفِيس إِلَى أَن بلغ مَدِينَة أغمات فزار ضريخ الشَّيْخ أبي عبد الله الهزميري وَغَيره من صلحائها وَنزل بمحلته تَحت الْقرْيَة وَلما اسْتَقر بِهِ الْمنزل جَاءَهُ جمَاعَة من أَهلهَا مَعَ قاضيهم بكبش جيد وآنية فِيهَا شَيْء من الشهد فَدخل القَاضِي على السُّلْطَان وَلما مثل أَمَامه أنسه السُّلْطَان بالْكلَام وَسَأَلَهُ عَن أشياخه فَأجَاب بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ فَقَالَ السُّلْطَان للحاجب ابْعَثْ بِالْقَاضِي إِلَى خباء القَاضِي أبي زيد
عبد الرَّحْمَن بن الْكَامِل وَهُوَ الَّذِي يتَوَجَّه قَاضِيا مَعَ الْمحلة إِلَى السوس إِن شَاءَ الله فأنزله عَلَيْهِ وادفع لَهُ هَذَا الْكَبْش وَهَذَا الْعَسَل فَسَار الْحَاجِب بِالْقَاضِي وبالكبش وَالْعَسَل إِلَى خباء قَاضِي الْعَسْكَر أبي زيد بن الْكَامِل وَأمره أَن يكرم القَاضِي ليلته وَمن الْغَد ارتحل السُّلْطَان قَافِلًا إِلَى مراكش فَلَمَّا تَعَالَى النَّهَار نزل على وَادي نَفِيس وَضرب لَهُ هُنَالك صيوان الراضة على شاطىء النَّهر ثمَّ استدعى القَاضِي أَبَا زيد وَسَائِر الْكتاب وَلما جَلَسُوا بَين يَدَيْهِ سَأَلَ القَاضِي على وَجه المداعبة وَقَالَ لَهُ بِمَ أجزت ضيفك على كبشه وعسله فتلعثم فِي الْجَواب وَعلم أَن السُّلْطَان قصد اختباره بذلك وَأَنه لم يصنع شَيْئا حَيْثُ أهمل أمره وَلما رأى رحمه الله خجلته قَالَ فلعلك لم تجزه فَلَو مدحته على كبشه وعسله لصادفت الْمَقْصُود وَخرجت من الْعهْدَة وَمَا بعثت إِلَيْكُم إِلَّا بِسَبَب هَذَا الْكَبْش وَالْعَسَل فَإِنِّي سهرت لَيْلَتي وَلم أنم وَذكرت مَا اتّفق للمنصور السَّعْدِيّ مَعَ كِتَابه فِي مثل هَذِه الْقَضِيَّة وَعلمت أَنه لم يبْق فِي وقتنا هَذَا كتاب وَلَا أدباء وَلَا أُمَرَاء وسأسمعكم مَا اتّفق للمنصور فِي زيارته هَذِه الْقرْيَة الأغماتية ثمَّ أَمر كَاتبه ابْن الْمُبَارك أَن يقْرَأ عَلَيْهِم مَا حَكَاهُ الفشتالي فِي مناهل الصَّفَا عَن خُرُوج الْمَنْصُور السَّعْدِيّ إِلَى أغمات بِقصد الزِّيَارَة والنزهة وَمَا اتّفق للْقَاضِي أبي مَالك عبد الْوَاحِد الْحميدِي مَعَ من أهْدى لَهُ الْكَبْش وَالْعَسَل من الشّعْر وَالَّذِي شايعه عَلَيْهِ جمَاعَة من كتاب الدولة وَقد ألممنا بِخَبَر هَذِه الخرجة للمنصور عِنْد ذكر أخباره حَسْبَمَا مر وَقد ذكر صَاحب النزهة أَبْيَات الْحميدِي وَمن قفا نهجه من الْكتاب فَلْتنْظرْ هُنَالك فَقَرَأَ الْكَاتِب الْمَذْكُور التَّرْجَمَة كلهَا على الْكتاب حَتَّى سمعوها وَعَابَ السُّلْطَان عَلَيْهِم تقصيرهم فِي قضيتهم الْمُوَافقَة لَهَا وَفِي ظَنِّي أَن السُّلْطَان رحمه الله أَمرهم بنسخ ذَلِك ومراجعته تحريكا لهمتهم وَالله أعلم
الدينمرك وجنس السويد مَا كَانَا يؤديانه إِلَى الدولة الْعلية كل سنة فَالْأول خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف ريال وَالثَّانِي عشرُون ألف ريال وَكَذَلِكَ أسقط عَن غَيرهم وظائف أخر والأمور كلهَا بيد الله {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} الْأَنْبِيَاء 23
وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف أخذت السِّكَّة فِي الِارْتفَاع وَكَانَ الريال الْكَبِير ذُو المدفع بست عشرَة أُوقِيَّة والريال الصَّغِير الإفرنك بِخمْس عشرَة أُوقِيَّة والبندقي بِثَلَاثِينَ أُوقِيَّة وَالدِّرْهَم الصَّغِير بِأَرْبَع موزونات وَالْكَبِير بست موزونات وَلما أخذت السِّكَّة فِي الِارْتفَاع أخذت الأسعار فِي الِارْتفَاع أَيْضا وحاول السُّلْطَان رحمه الله حصرها فَلم تَنْحَصِر وَعلة ذَلِك وَالله أعلم أَنه لما وَقع مَعَ الفرنسيس هَذَا الصُّلْح وَأسْقط السُّلْطَان عَن الْأَجْنَاس مَا كَانَت تُؤَدِّيه كثر خطارهم وتجارهم بمراسي الْمغرب وازدادت مخالطتهم وممازجتهم لأَهله وَكَثُرت تِجَارَتهمْ فِي السّلع الَّتِي كَانُوا ممنوعين مِنْهَا وَانْفَتح لَهُم بَاب كَانَ مسدودا عَلَيْهِم من قبل فَظهر أثر ذَلِك فِي السِّكَّة وَفِي السّلع أما السِّكَّة فَلِأَن سكتهم كَانَت هِيَ الْغَالِبَة وَهِي أَكثر روجانا من سكَّة الْمغرب فَلَا بُد أَن يكون الحكم والتأثير لَهَا والتجار يعتبرون فِيهَا من الفضول والأرباح الناشئة عَن تغاير القطرين مَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ غَيرهم من الْعَامَّة وتبعهم على ذَلِك تجار الْمُسلمين وَأما السّلع فَلِأَن تجار النصاري يغالون فِي أثمانها أَكثر من غَيرهم كَمَا هُوَ مشَاهد ثمَّ مَا دَامَت بِلَاد الفرنج مترقية فِي التمدن وَحسن التَّرْتِيب واتساع الْأَمْن وَالْعدْل إِلَّا وسككنا وأسعارنا دائمة الترقي فِي الغلاء على نِسْبَة كَثْرَة المخالطة واتساع مَادَّة البيع وَالشِّرَاء فَتَأَمّله وَالله الْمُوفق
وَفِي هَذِه السّنة ثار أهل رِبَاط الْفَتْح على عاملهم الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج مُحَمَّد السُّوسِي وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج الطَّاهِر الزُّبْدِيُّ من أهل الوجاهة بالرباط ومتبوع الْعقب فِيهَا وَكَانَ كثيرا مَا يُجَالس
الْعَامِل الْمَذْكُور ويدلي عِنْده بالصداقة والمودة فَيُقَال إِنَّه تشفع عِنْده فِي بعض أهل الْبَلَد فَرد شَفَاعَته فَغَضب الزُّبْدِيُّ وَعظم عَلَيْهِ ذَلِك وَكَانَ أهل الْبَلَد قد سئموا ملكة السُّوسِي ومرضوا فِي طَاعَته لأسباب تعدها الرّعية على الْعمَّال فجَاء الزُّبْدِيُّ إِلَى منزله وَجمع جمَاعَة من أَعْيَان الْبَلَد مِمَّن يعلم انحرافهم عَن الْعَامِل الْمَذْكُور وأطعمهم وأطلعهم على خبيئة صَدره فِي أَمر الْعَامِل فَوَجَدَهُمْ إِلَيْهِ سرَاعًا فتحالفوا وتعاهدوا على أَن لَا يبْقى مُتَوَلِّيًا عَلَيْهِم بِحَال ثمَّ مَشوا إِلَيْهِ وأنذروه وتقدموا إِلَيْهِ بِأَن يلْزم بَيته ثمَّ أجمع رَأْيهمْ على تَقْدِيم الزُّبْدِيُّ مَكَانَهُ فقدموه وَضبط أَمر الْبَلَد واتصل الْخَبَر بالسلطان رحمه الله وَهُوَ بفاس فَقَامَ وَقعد وَكتب إِلَيْهِم بالوعظ والتقريع فصموا عَن سَمَاعه وتمادوا على شَأْنهمْ ثمَّ بعث إِلَيْهِم الْقَائِد الطّيب الوديني البُخَارِيّ يتَوَلَّى عَلَيْهِم وَيقبض على أهل الْفساد مِنْهُم فأفحشوا عَلَيْهِ وطردوه من الْبَلَد مَعَ الْعشي فَعبر إِلَى سلا فِي مطر غزير وَرجع إِلَى السُّلْطَان فَأعلمهُ الْخَبَر فاحتال السُّلْطَان رحمه الله بِأَن بعث الْفَقِيه الْكَاتِب أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن الْمُخْتَار الجامعي فَقدم رِبَاط الْفَتْح وَجمع أعيانها وَخَيرهمْ فِيمَن يتَوَلَّى عَلَيْهِم فَاخْتَارُوا الزُّبْدِيُّ فولاه السُّلْطَان عَلَيْهِم وحمدوا سيرته وَبعد نَحْو سِتَّة أشهر قدم السُّلْطَان رِبَاط الْفَتْح وتريث بهَا مُدَّة حَتَّى نقر عَن رُؤُوس الْفِتْنَة فَقبض عَلَيْهِم وعَلى قائدهم الزُّبْدِيُّ وَبعث بهم إِلَى فاس فسجنوا بهَا ثمَّ سرحوا بعد حِين
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف نَهَضَ السُّلْطَان من فاس ونهض الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد من مراكش والتقيا بمشرع أبي الأعوان من دكالة وعيدا هُنَالك عيد المولد الْكَرِيم ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى مراكش وَانْحَدَرَ الْخَلِيفَة إِلَى فاس وَفِي هَذَا الْعِيد بعث أَبُو عبد الله أكنسوس إِلَى السُّلْطَان بالقصيدة
وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف تمّ بِنَاء البرج الْكَبِير بسلا الْمَعْرُوف بالصقالة الجديدة وَكَانَ السُّلْطَان رحمه الله شرع فِي بنائِهِ زمَان انْتِقَاض الصُّلْح مَعَ الفرنسيس وَتمّ فِي هَذِه الْمدَّة على أكمل الْأَحْوَال وأحسنها
بَقِيَّة أَخْبَار الْحَاج عبد الْقَادِر وانقراض أمره وَمَا آل إِلَيْهِ حَاله
قد قدمنَا مَا كَانَ من فَسَاد نِيَّة الْحَاج عبد الْقَادِر وَأَنه رام الاستبداد بل والتملك على الْمغرب فَلَمَّا كَانَت الْهَزِيمَة بإيسلي ازْدَادَ طمعه فَصَارَ يَدْعُو أهل النواحي إِلَى مبايعته وَالدُّخُول فِي طَاعَته وَكَاتب الْخَواص من أهل فاس والدولة وكاتبوه على مَا قيل ثمَّ احتال بِأَن بعث جمَاعَة وافرة من الحشم وَبني عَامر شيعته إِلَى السُّلْطَان قدمهم أَمَامه فِي صُورَة هراب مستجيرين بالسلطان فقبلهم السُّلْطَان وأنزلهم على نهر سبو ثمَّ تقدم الْحَاج عبد الْقَادِر حَتَّى وصل إِلَى الْقعدَة الْحَمْرَاء بَين التسول والبرانس وَكَانَ قَصده أَن يجْتَمع بشيعته ويصل يدهم بِيَدِهِ وَيتم لَهُ مَا أَرَادَ فَلَمَّا أطلع السُّلْطَان على دسيسته بعث إِلَى أُولَئِكَ الْجَمَاعَة عسكرا من الشراردة عَلَيْهِم الْقَائِد إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الأكحل فاجتاحوهم بعد جهد جهيد وقتال شَدِيد من ذَلِك أَنهم اعتصموا بِرَبْوَةٍ وَجعلُوا يُقَاتلُون على حريمهم وَكَانُوا رُمَاة لَا تسْقط لَهُم رصاصة فِي الأَرْض فَكَانُوا كلما تَوَجَّهت إِلَيْهِم طَائِفَة من الْجَيْش استأصلوها بالرصاص وَكَانُوا يجمعُونَ موتاهم وينصبونهم أشبارا يتترسون بِهِ ويقاتلون من خَلفه وَلما أعيا الْجَيْش أَمرهم حملُوا عَلَيْهِم حَملَة وَاحِدَة حَتَّى خالطوهم فِي معتصمهم وجالدوهم بِالسُّيُوفِ وطاعنوهم بِالرِّمَاحِ والتوافل وَانْقطع البارود فَكَانُوا يقتلُون أَبْنَاءَهُم ونساءهم بِأَيْدِيهِم فِرَارًا من السَّبي والعار ثمَّ جعلُوا يقتلُون أنفسهم حِين تحققوا أَنهم فِي قَبْضَة الأسار وَبعد هَذَا وَجه السُّلْطَان وَلَده سَيِّدي مُحَمَّدًا لحسم دائه فِي جَيش كثيف وَكَانَ رَئِيس الْجَيْش وكبيره بعد الْخَلِيفَة الْقَائِد مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الشَّرْقِي الْمَدْعُو أَبَا مُحَمَّد وَكَانَ لَهُ ذكر فِي الشجَاعَة والرأي وَلما وصل الْخَلِيفَة إِلَى سلوان بعث إِلَيْهِ الْحَاج عبد الْقَادِر جمَاعَة فيهم وزيره أَبُو عبد الله البوحميدي يتنصل مِمَّا رمي بِهِ وَأَنه لَا زَالَ على الطَّاعَة والخدمة للسُّلْطَان وَقدمُوا إِلَى الْخَلِيفَة هَدِيَّة ثمَّ وَقع الِاتِّفَاق على أَن يقدموا على السُّلْطَان رحمه الله فينهوا إِلَيْهِ الْأَمر وَالْعَمَل على مَا قَالَ