الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَدَيْهِ حافده تاشفين بن أبي مَالك ووزيره يحيى بن حَازِم الْعلوِي وَجَاء هُوَ على ساقتهم وفر مَسْعُود بن كانون وجموعه أَمَام السُّلْطَان فانتهب معسكرهم وحللهم واستباح عرب الْحَارِث من سُفْيَان وَلحق مَسْعُود بجبل سكسيوة فاعتصم بِهِ وشايع عبد الْوَاحِد السكسيوي الْقَائِم بِهِ على خِلَافه ونازله السُّلْطَان يَعْقُوب بعساكره أَيَّامًا وسرح ابْنه الْأَمِير أَبَا زيان منديل إِلَى بِلَاد السوس لتمهيدها وتدويخ أقطارها فأوغل فِي ديارها وقفل إِلَى أَبِيه فِي آخر يَوْم من السّنة الْمَذْكُورَة
واتصل بالسلطان مَا تضَاعف على أهل الجزيرة من ضيق الْحصار وَشدَّة الْقِتَال وإعواز الأقوات وَأَنَّهُمْ ختنوا الأصاغر من أَوْلَادهم خشيَة عَلَيْهِم من معرة الْكفْر فأهمه ذَلِك
وَكَانَ أقسم أَن لَا يرتحل عَن ابْن كانون حَتَّى ينزل على حكمه أَو يهْلك دون ذَلِك فأعمل النّظر فِيمَا يكون بِهِ خلاص أهل الجزيرة فعقد لوَلِيّ عَهده ابْنه الْأَمِير يُوسُف وَكَانَ بمراكش عل الْغَزْو إِلَيْهَا وَكَانَ أهل الجزيرة كَمَا قُلْنَا قد أحَاط بهم الْعَدو برا وبحرا وانقطعت عَنْهُم الْموَاد وعميت عَلَيْهِم الأنباء إِلَّا مَا يَأْتِيهم بِهِ الْحمام من جبل طَارق وفني أَكْثَرهم بِالْقَتْلِ والجوع وسهر اللَّيْل على الأسوار وَشدَّة الْحصار حَتَّى أشرف بَقِيَّتهمْ على الْهَلَاك وَأَيِسُوا من الْحَيَاة فَحِينَئِذٍ جمعُوا صبيانهم وختنوهم كَمَا مر وبينما هم على ذَلِك قدم الْأَمِير يُوسُف بجيوشه إِلَى طنجة وَكَانَ قدومه فِي أَوَائِل صفر من سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة
وَكَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب لما بعث ابْنه الْأَمِير يُوسُف إِلَى طنجة قد كتب إِلَى الثغور بإعداد الأساطيل وعمارتها وتوجيهها إِلَيْهِ وَقسم الإعطاءات وحض النَّاس على النهوض فتوفرت همم الْمُسلمين على الْجِهَاد وَأَجَابُوا من كل نَاحيَة وأبلى الْفَقِيه أَبُو خَاتم العزفي صَاحب سبتة لما بلغه الْخطاب من السُّلْطَان فِي شَأْن الأساطيل الْبلَاء الْحسن وَقَامَ فِيهِ الْمقَام الْمَحْمُود فَهَيَّأَ
خَمْسَة وَأَرْبَعين أسطولا واستنفر كَافَّة أهل بَلَده من المحتلم إِلَى الشَّيْخ فَرَكبُوا الْبَحْر أَجْمَعُونَ وَلم يبْق بسبتة إِلَّا النِّسَاء والشيوخ وَالصبيان وَرَأى ابْن الْأَحْمَر مَا نزل بِأَهْل الجزيرة وإشراف الطاغية على أَخذهَا فندم على ممالاته إِيَّاه وَأعد أساطيل سواحله من الْمنْكب والمرية ومالقة فَكَانَت اثْنَي عشر أسطولا فبعثها مدَدا للْمُسلمين وَقدم من بادس وسلا وآنفى خَمْسَة عشر أسطولا فَنَهَضَ فِي الْوَقْت اثْنَان وَسَبْعُونَ أسطولا وَاجْتمعت كلهَا بمرفأ سبتة وَقد أخذت بطرفي الزقاق فِي أحفل زِيّ وأكمل استعداد ثمَّ تقدّمت إِلَى طنجة ليراها الْأَمِير يُوسُف فشاهدها وسر بهَا وَعقد لَهُم رايته مَعَ جمَاعَة من أبطال بني مرين رَغِبُوا فِي الْجِهَاد
ثمَّ أقلعت الأساطيل عَن طنجة ثامن ربيع الأول سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة وانتشرت قلوعهم فِي الْبَحْر فأجازوه وَبَاتُوا لَيْلَة المولد الْكَرِيم بمرفأ جبل الْفَتْح وصبحوا الْعَدو وأساطيله يَوْمئِذٍ تناهز أَرْبَعمِائَة فتظاهر الْمُسلمُونَ فِي دروعهم وأسبغوا من شكتهم وَأَخْلصُوا لله عزائمهم وتنادوا بِالْجنَّةِ وشعارها وَوعظ خطباؤهم وَذكر صلحاؤهم والتحم الْقِتَال وَنزل الصَّبْر فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى نضحوا الْعَدو بِالنَّبلِ ففسدت أفروطتهم واختل مَصَافهمْ وانكشفوا وتساقطوا فِي عباب الْبَحْر فاستلحمهم السَّيْف وغشيهم اليم وَاسْتولى الْمُسلمُونَ على أساطيلهم فملكوها وأسروا قائدها الملند فِي جمَاعَة من حَاشِيَته وَاسْتمرّ مثقفا بفاس حَتَّى فر بعد ذَلِك وسر الْمُسلمُونَ الَّذين بداخل الجزيرة بِفساد أفروطة الْعَدو وهلاكها
وَلما رأى عَسْكَر الطاغية الَّذِي فِي الْبر مَا أصَاب أهل الْبَحْر مِنْهُم من الْقَتْل والأسر داخلهم الرعب وخافوا من هجوم الْأَمِير يُوسُف عَلَيْهِم إِذْ كَانَ مُقيما بساحل طنجة مستعدا للعبور فقوضوا أبنيتهم وأفرجوا عَن الْبَلَد لحينهم وانتشر الْمُسلمُونَ وَالنِّسَاء وَالصبيان بِسَاحَة الْبَلَد كَأَنَّمَا نشرُوا من قبر وغلبت مُقَاتلَتهمْ كثيرا من عَسْكَر الْعَدو على مَتَاعهمْ فغنموا من الْحِنْطَة والإدام
والفواكه مَا مَلأ أسواق الْبَلَد أَيَّامًا حَتَّى وصلتها الْميرَة من النواحي
وَأَجَازَ الْأَمِير يُوسُف الْبَحْر من حِينه فاحتل بساحل الجزيرة وأرهب الْعَدو فِي كل نَاحيَة لكنه صده عَن الْغَزْو شَأْن الْفِتْنَة مَعَ ابْن الْأَحْمَر فَرَأى أَن يعْقد مَعَ الطاغية سلما ويصل يَده بِيَدِهِ لمنازلة غرناطة دَار ابْن الْأَحْمَر فَأَجَابَهُ الطاغية إِلَى ذَلِك رهبة من بأسه وموجدة على ابْن الْأَحْمَر فِي مدد أهل الجزيرة وَبعث أساقفته لعقد ذَلِك وإحكامه فأجازهم الْأَمِير يُوسُف إِلَى أَبِيه وَهُوَ بِنَاحِيَة مراكش فَغَضب لَهَا وَأنكر على ابْنه وزوى عَنهُ وَجه رِضَاهُ وَأقسم أَن لَا يرى أسقفا مِنْهُم إِلَّا أَن يرَاهُ بأرضه ورجعهم إِلَى طاغيتهم مخفقي السَّعْي كاسفي البال
ووصلت فِي هَذِه السّنة هَدِيَّة السُّلْطَان أبي زَكَرِيَّاء يحيى الواثق الحفصي مَعَ أبي الْعَبَّاس الغماري حَسْبَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ قبل هَذَا
ثمَّ إِن السُّلْطَان يَعْقُوب رحمه الله رَجَعَ إِلَى فاس وَبعث خطابه إِلَى الْآفَاق مستنفرا للْجِهَاد وَفصل عَنْهَا غرَّة رَجَب من سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة حَتَّى انْتهى إِلَى طنجة وعاين مَا اخْتَلَّ من أَحْوَال الْمُسلمين فِي تِلْكَ الفترة وَمَا جرت إِلَيْهِ فتْنَة ابْن الْأَحْمَر من اعتزاز الطاغية وَمَا حدثته نَفسه من التهام الجزيرة الأندلسية وَمن فِيهَا وَكَانَ قد أَمر أمره فِي هَذِه الْمدَّة وَظَاهره أَعدَاء ابْن الْأَحْمَر من بني اشقيلولة وَغَيرهم عَلَيْهِ حَتَّى حاصروا غرناطة ومرج أَمر الأندلس ونغلت أطرافها وأشفق السُّلْطَان يَعْقُوب رحمه الله على الْمُسلمين الَّذين بهَا وعَلى ابْن الْأَحْمَر مِمَّا ناله من خسف الطاغية فراسله فِي الْمُوَادَعَة واتفاق الْكَلِمَة على أَن ينزل لَهُ عَن مالقة الَّتِي خَادع عَنْهَا ابْن محلي كَمَا تقدم فَامْتنعَ ابْن الْأَحْمَر وأساء الرَّد فِي ذَلِك فَرجع السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى إِزَالَة الْعَوَائِق عَن شَأْنه فِي الْجِهَاد وَكَانَ من أعظمها فتْنَة يغمراسن واستيقن مَا دَار بَينه وَبَين ابْن الْأَحْمَر والطاغية ابْن أذفونش من الِاتِّصَال والإصفاق على تعويقه عَن الْغَزْو فَبعث إِلَى يغمراسن يسْأَله عَن الَّذِي بلغه عَنهُ وَيطْلب مِنْهُ تَجْدِيد الصُّلْح وَجمع الْكَلِمَة فلج فِي الْخلاف وكشف وَجه العناد وأعلن بِمَا
الْهَاشِمِي الْمَذْكُور وَعدد كَبِير من وُجُوه قومه وَتركُوا محلتهم بِمَا فِيهَا للبربر وَعظم أَمر هَذَا الدعي وشمخت أنوف قبيلته بِهِ وشرى ضلالهم وَلما قدم السُّلْطَان إِلَى مكناسة بعث من قبض عَلَيْهِ وَسَاقه إِلَيْهِ فَقتله وأراح النَّاس من وساوسه وَفِي هَذِه السّنة بعث السُّلْطَان وَلَده الْمولى عبد السَّلَام لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج لِأَنَّهُ لم يكن أدْرك الْحلم عَام حج مَعَ أَخِيه الْمولى عَليّ
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان برابرة زمور وَبني حكم فَلَمَّا أظلهم قدومه انشمروا إِلَى شعاب تافودايت وتحصنوا بهَا فاحتال عَلَيْهِم بِأَن قَامَ عَنْهُم وأوعز إِلَى آيت أدراسن وكروان أَن يرصدوهم مَتى برزوا إِلَى الفضاء فلينهبوهم فَلَمَّا توجه السُّلْطَان قَافِلًا إِلَى مراكش خرجت زمور من شعابها فَلم يرعهم إِلَّا آيت أدراسن وكروان قد أحاطوا بهم فانتهبوا حللهم وتوزعوا أَمْوَالهم وتركوهم عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس
ذهَاب السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى تافيلالت وتمهيده إِيَّاهَا وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ الشريف الْمولى حسن بن إِسْمَاعِيل عَم السُّلْطَان مُقيما بتافيلالت وَكَانَ آيت عطة وآيت يفلمان من برابرة الصَّحرَاء شيعَة لَهُ فَكَانَ إِذا حدث بَينه وَبَين أَشْرَاف سجلماسة حَادث استكثر بهم عَلَيْهِم وحاربهم وَرُبمَا قتل مِنْهُم وَكَانَ السُّلْطَان يبلغهُ بعض ذَلِك عَنهُ فيسوءه إِلَّا أَنه كَانَ يثقل عَلَيْهِ أَن ينَال عَمه مِنْهُ مَكْرُوه وَلِأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِمَا هُوَ أهم فاستمر الْحَال إِلَى أَن ترددت أَشْرَاف سجلماسة بالشكاية مِنْهُ فَلم يسع السُّلْطَان إِلَّا زَجره وَقطع عَادِية بربره عَن الْأَشْرَاف فعزم على الْمسير بِنَفسِهِ إِلَى سجلماسة وَكَانَ ابْنه الْمولى يزِيد يَوْمئِذٍ بالمغرب فَلم يرد السُّلْطَان أَن يتْركهُ خَلفه لِئَلَّا ينشأ عَنهُ ناشيء فتْنَة فاحتال فِي إبعاده بِأَن وَجهه إِلَى الْحجاز لقَضَاء فَرِيضَة الْحَج
فِي غير ركب بل أفرده عَنهُ وأصحبه أَمينا يصير عَلَيْهِ وأناسا قليلين يكونُونَ فِي خدمته دفعا لغائلته ثمَّ سَافر السُّلْطَان إِلَى سجلماسة برسم زِيَارَة تربة جده الْمولى عَليّ الشريف رضي الله عنه وحسم دَاء عَمه الْمولى حسن وشيعته وَلما شَارف السُّلْطَان تافيلالت قدم أَمَامه أَبَا الْقَاسِم الصياني لإِخْرَاج البربر من قصورهم فِي الْأمان وَإِن كَانَ عِنْدهم مَا يثقلهم من زرع أَو تمر يعطيهم ثمنه لينقطع بذلك عذرهمْ وَإِن أَقَامُوا حَتَّى أدركهم السُّلْطَان بهَا فَإِنَّمَا إثمهم على أنفسهم فامتثل البربر الْأَمر وَخَرجُوا إِلَى الصَّحرَاء وَلم يَأْتِ السُّلْطَان حَتَّى لم يبْق مِنْهُم أحد بِتِلْكَ الْقُصُور وأفرد الْمولى حسن وانكسرت شوكته ثمَّ بعث إِلَيْهِ أَبَا الْقَاسِم الصياني أَيْضا يعرض عَلَيْهِ السُّكْنَى بمكناسة وَينفذ لَهُ مَا يَكْفِيهِ من الظّهْر لحمل عِيَاله وأثقاله قَالَ الصياني فَذَهَبت إِلَيْهِ وباشرت أمره إِلَى أَن أجَاب وَمن الْغَد سرت بِهِ إِلَى مكناسة وَأَمرَنِي السُّلْطَان أَن أعْطِيه دَارا يسكنهَا ورتب لَهُ ثَلَاثمِائَة مِثْقَال لكل شهر ينفقها على نَفسه وَعِيَاله وَأَمرَنِي مَعَ ذَلِك إِذا فرغت من شَأْن عَمه الْمَذْكُور أَن أصحب معي أَوْلَاده الثَّلَاثَة الْمولى سُلَيْمَان وَالْمولى حسن وَالْمولى حُسَيْن وَأَن أصحب مَعَهم قدرا من المَال وعددا من المدافع والمهاريس والبنب وَطَائِفَة من الطبجية من علوج اللمان وألفا من عَسْكَر الثغور رِجَاله لجر تِلْكَ المدافع والمهاريس قَالَ فَقضيت الْغَرَض على مَا يَنْبَغِي وعدت إِلَيْهِ وَهُوَ بسجلماسة بِجَمِيعِ مَا أَمرنِي بِهِ فَبَلغنَا وَنحن أثْنَاء الطَّرِيق وَفَاة ولد السُّلْطَان وخليفته بفاس الْمولى عَليّ بن مُحَمَّد وَكَانَ من سادة العلويين ونجبائهم وَمن أهل الْمُرُوءَة والأوصاف المحمودة عقلا وعلما وأدبا وكرما وعلو همة
زَاد فِي الْبُسْتَان وَكَانَ مَجْلِسه مجمع الْفُضَلَاء والأدباء والنبلاء يتشبه بأخلاق الْمولى مُحَمَّد الْعَالم ابْن الْمولى إِسْمَاعِيل فِي كرمه وأدبه وَكَانَ لَهُ اعتناء كَبِير بنسخ كتب الْعلم الغريبة وَكتب الْأَدَب وَكَانَ كثيرا مَا يبْعَث بأشعاره
ومخاطباته لأهل عصره وأدباء وقته من الفاسيين والبكريين والقادريين كَمَا كَانَ الْمولى مُحَمَّد الْعَالم مشغوفا بأشعار أَوْلَاد السُّلْطَان صَلَاح الدّين بن أَيُّوب الْكرْدِي رحم الله الْجَمِيع
وَلما بلغ أَوْلَاد السُّلْطَان إِلَى أَطْرَاف سجلماسة قدمُوا الْأَعْلَام إِلَى السُّلْطَان وَاسْتَأْذَنُوا فِي التَّقَدُّم فَخرج رحمه الله لملاقاتهم وَأمر الْأَشْرَاف وَسَائِر أهل الْبَلَد أَن يخرجُوا للسلام عَلَيْهِم ويشاهدوا آلَة الْحَرْب الَّتِي لَيست ببلادهم فَخَرجُوا وَخرج السُّلْطَان فِي موكبه وَركبت العساكر خَلفه فِي أحسن زِيّ وأكمل تَرْتِيب فَكَانَ ذَلِك الْيَوْم من أَيَّام الزِّينَة وَلما قضى غَرَضه من سجلماسة وثقف أطرافها ورتب عربها وبربرها وحسم دَاء آيت عطة وآيت يفلمان ولى عَلَيْهِم الْقَائِد عَليّ بن حميدة الزراري من كبار قواده وأعيان دولته ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان إِلَى مراكش بعد أَن أَقَامَ بسجلماسة شهرا وَكَانَ سلوكه إِلَى مراكش على طَرِيق الفائجة
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكَانَ قد ردني إِلَى الغرب لآتيه بِجَيْش من أَوْلَاد عبيد الثغور أَلْقَاهُ بهم بمراكش ليزيدهم فِي جَيْشه ويقبضوا السِّلَاح وَالْكِسْوَة بهَا وَلما انْتهى السُّلْطَان فِي طَرِيقه إِلَى ثنية الكلاوي نزل عَلَيْهِ الثَّلج الْكَبِير فسد المسالك وَتَفَرَّقَتْ العساكر فِي كل وَجه وَحَال الثَّلج بَينهم وَبَين أخبيتهم ورحالهم وَبَات السُّلْطَان منتبذا نَاحيَة عَن مضاربه وقبابه معزولا عَن طَعَامه وَشَرَابه وَلم تلتق طَائِفَة من الْعَسْكَر مَعَ صاحبتها إِلَى أَن طلعت الشَّمْس فَرفع الله عَنْهُم الثَّلج وَأصْبح ذَلِك الْيَوْم عيد الْأَضْحَى فَخَطب السُّلْطَان النَّاس بِنَفسِهِ ودعا للسُّلْطَان عبد الحميد بن أَحْمد العثماني وَدخل مراكش سالما معافى وَسلم الله الْعَسْكَر من ذَلِك الثَّلج فَلم يهْلك مِنْهُ أحد وَالْحَمْد لله
الْجند وحصص الْقَبَائِل فِي أكمل شكة وَأحسن زِيّ وَلم يشهدها من الودايا سوى نفر يسير لأَنهم كَانُوا فِي زَاوِيَة الإهمال عِنْد السُّلْطَان ثمَّ عقد رحمه الله على هَذِه الْجنُود لوَلَده وخليفته سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَسَار حَتَّى نزل بوادي إيسلي من أَعمال وَجدّة وَكَانَ الْحَاج عبد الْقَادِر لَا زَالَ جائلا فِي تِلْكَ النَّاحِيَة وَمَعَهُ نَحْو خَمْسمِائَة فَارس مِمَّن كَانَ قد بَقِي مَعَه من أهل الْمغرب الْأَوْسَط لِأَن حَاله كَانَ قد أَخذ فِي التراجع والانحطاط وَلم تبْق لَهُ هُنَالك كَبِير فَائِدَة بل انْقَلب نَفعه ضَرَرا وحزمه خورا بِفساد نِيَّته واستفساده لجند السُّلْطَان ورعيته وَلما احتل الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد بإيسلي وعسكر بِهِ جَاءَهُ الْحَاج عبد الْقَادِر يسْتَأْذن عَلَيْهِ فِي الِاجْتِمَاع بِهِ فَأذن لَهُ وَاجْتمعَ بِهِ وَهُوَ على فرسه فدار بَينهمَا كَلَام كَانَ من جملَته أَن قَالَ الْحَاج عبد الْقَادِر إِن هَذِه الْفرش والأثاث والشارة الَّتِي جئْتُمْ بهَا حَتَّى وضعتموها بِبَاب جَيش الْعَدو لَيْسَ من الرَّأْي فِي شَيْء وَمهما نسيتم فَلَا تنسوا أَن لَا تلاقوا الْعَدو إِلَّا وَأَنْتُم متحملون منكمشون بِحَيْثُ لَا يبْقى لكم خباء مَضْرُوب على الأَرْض وَإِلَّا فَإِن الْعَدو مني رأى الأخبية مَضْرُوبَة لم ينْتَه دون الْوُصُول إِلَيْهَا وَلَو أفنى عَلَيْهَا عساكره وَبَين كَيفَ كَانَ هُوَ يقاتله وَكَانَ هَذَا الْكَلَام مِنْهُ صَوَابا إِلَّا أَنه لم ينجع فِي الْقَوْم لانفساد البواطن وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَرُبمَا انتهره بعض حَاشِيَة الْخَلِيفَة على التفصح بمحضره وَالْإِشَارَة عَلَيْهِ فَبل استيشاره فَرجع الْحَاج عبد الْقَادِر عوده على بدئه وانتبذ نَاحيَة فِي جَيْشه ولسان حَاله يَقُول لم آمُر بهَا وَلم تسؤني وَلما كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي وَقعت الْحَرْب صبيحتها جَاءَ رجلَانِ من أَعْرَاب تِلْكَ النَّاحِيَة وطلبوا الدُّخُول على الْحَاجِب وَهُوَ الْفَقِيه السَّيِّد الطّيب بن الْيَمَانِيّ الْمَدْعُو بِأبي عشْرين فدخلا عَلَيْهِ وَقَالا إِن الْعَدو عازم على أَن يصبحكم غَدا إِن شَاءَ الله فَاسْتَعدوا لَهُ وأعلموا الْأَمِير فَيُقَال إِن الْحَاجِب قَالَ إِن الْأَمِير الْآن نَائِم وَلست بِالَّذِي أوقظه ثمَّ جَاءَ عقب ذَلِك أَرْبَعَة أنَاس آخَرُونَ يعلمُونَ بِأَمْر الْعَدو فَكَانَ سبيلهم سَبِيل الْأَوَّلين وَلما طلع الْفجْر وَصلى الْخَلِيفَة الصُّبْح جَاءَ عشرَة من الْخَيل قيل من الْعَرَب وَقيل من حرس الْخَلِيفَة فأعلموا بمجيء الْعَدو وَأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ قد أَخذ
فِي الرحيل فَأمر الْخَلِيفَة رحمه الله النَّاس بالركوب والاستعداد وَأَن لَا يبْقى بالمحلة إِلَّا الرُّمَاة وَكَانُوا دون الْألف وَبعث إِلَى بني يزناسن بالركوب فَرَكبُوا فِي أُلُوف كَادَت تَسَاوِي جَيش الْخَلِيفَة وَصَارَت الْخَيل نَحْو الْعَدو مصطفة مد الْبَصَر وراياتها تخفق على هَيْئَة عَجِيبَة وترتيب بديع وَكَانَ الْخَلِيفَة سائرا فِي وَسطهمْ ناشرا المظلة على رَأسه رَاكِبًا على فرس أَبيض وَعَلِيهِ طيلسان أرجواني قد تميز بزيه وشارته وَلما تقَارب الجيشان جعلت الفرسان تبرز من الصُّفُوف كَأَنَّمَا تتعجل الْقِتَال فَأمر الْخَلِيفَة رحمه الله بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار وَالسير بسير النَّاس
ثمَّ لما التقى الْجَمْعَانِ وانتشبت الْحَرْب رصد الْعَدو الْخَلِيفَة وقصده بِالرَّمْي مَرَّات عديدة حَتَّى سَقَطت بنبة أَمَام حَامِل المظلة وجمح فرسه بِهِ وَكَاد يسْقط وَلما رأى الْخَلِيفَة ذَلِك غير زيه بِأَن أسقط المظلة ودعا بفرس كميت فَرَكبهُ وَلبس طيلسانا آخر فاختفى حِينَئِذٍ وَكَانَ الْمُسلمُونَ قد أَحْسنُوا دفاع الْعَدو وصدموه صدمة قَوِيَّة برقتْ لَهُم بهَا بارقة وَكَانَت خيلهم تنفر من صَوت المدافع وَلَكنهُمْ كَانُوا يقحمونها إقحاما وثبتوا فِي نحر الْعَدو مِقْدَار سَاعَة وَلما التفتوا إِلَى جِهَة الْخَلِيفَة وَلم يروه بِسَبَب تغير زيه خَشَعت نُفُوسهم وَقَالَ المرجفون إِن الْخَلِيفَة قد هلك فماج النَّاس بَعضهم فِي بعض وتسابق الشراردة إِلَى الْمحلة فعمدوا إِلَى الخباء الَّذِي فِيهِ المَال فانتهبوه وتقاتلوا عَلَيْهِ وتبعهم غَيرهم مِمَّن كَانَ الرعب قد ملك قلبه وَجعل النَّاس يَتَسَلَّلُونَ حَتَّى ظهر الفشل فِي الْجَيْش من كل جِهَة فَتقدم بعض الْحَاشِيَة إِلَى الْخَلِيفَة وَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا إِن النَّاس قد انْهَزمُوا وهم الْآن بالمحلة يقتل بَعضهم بَعْضًا ويسلب بَعضهم بَعْضًا فَقَالَ يَا سُبْحَانَ الله والتفت فَرَأى مَا هاله من أَمر النَّاس فَرجع عوده على بدئه وَانْهَزَمَ من كَانَ قد بَقِي مَعَه عَن آخِرهم وتبعهم الْعَدو يَرْمِي الكور والضوبلي من غير فَتْرَة وَثَبت الله بعض الطبجية بالمحلة وَلَكِن سَالَ الْوَادي فطم على الْقرى وَنفذ أَمر الله وَلم يهْزم الْمُسلمين إِلَّا الْمُسلمُونَ كَمَا رَأَيْت وَلما استولى الْعَدو على الْمحلة فر النهاب الَّذين كَانُوا
بهَا وَبقيت فِي يَده بِمَا فِيهَا وَكَانَت مُصِيبَة عَظِيمَة وفجيعة كَبِيرَة لم تفجع الدولة الشَّرِيفَة بِمِثْلِهَا وَكَانَ هَذَا الْحَادِث الْعَظِيم فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة من النَّهَار منتصف شعْبَان سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما رَجَعَ المنهزمة تفَرقُوا شذر مذر وَأهْلك النَّاس الْعَطش والجوع والتعب حَتَّى كَانَ نسَاء عرب آنكاد يستلبنهم كَيفَ شئن وانْتهى الْخَلِيفَة إِلَى تازا فَأَقَامَ بهَا أَرْبَعَة أَيَّام ريثما اجْتمع إِلَيْهِ الرُّمَاة وضعاف الْجَيْش ثمَّ قدم فاسا وَكَانَ السُّلْطَان رحمه الله قادما من مراكش إِلَى فاس فاتصل بِهِ خبر الْوَقْعَة وَهُوَ برباط الْفَتْح فَنَهَضَ إِلَى فاس مجدا واتصل بِهِ فِي أثْنَاء طَرِيقه خبر وقعتين اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وهما هجوم الفرنسيس على طنجة والصويرة ورميه إيَّاهُمَا بألوف من الكور والبنب وَوَقع بالصويرة حَادث عَظِيم بِسَبَب الغوغاء الَّذين بِالْبَلَدِ والشياظمة المجاورين لَهُم فَإِنَّهُم لما رَأَوْا الْعَدو دخل الجزيرة ظنُّوا أَنه سيدخل الْبَلَد فمدوا أَيْديهم للنهب وَكَانَ ذَلِك أَولا فِي الْيَهُود ثمَّ عَم غَيرهم وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لست أذكرهُ فَكَانَ هَذَا مِمَّا زَاد غيظ السُّلْطَان وكمده فَعمد إِلَى جمَاعَة من قواد الْجَيْش وَحلق لحاهم تأديبا لَهُم
وَذكر منويل هَذِه الْوَقْعَة فَزعم أَن عَسَاكِر الفرنسيس كَانَت يَوْمئِذٍ عشرَة آلَاف وَإنَّهُ كَانَ غَرَضه محاربة الَّذين كَانُوا يحاربونه على أَطْرَاف الْبِلَاد حَتَّى لقد أعْطى خطّ يَده للنجليز أَنه إِذا حَارب وَغلب لَا يتَمَلَّك من أَرض الْمغرب شَيْئا قَالَ فَلذَلِك لما وَقعت الْهَزِيمَة بعث بإثرها رسله يطْلب الصُّلْح مَعَ أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن لم يظْهر عَجزا وَلَا فل ذَلِك من غربه بل اسْتَأْنف الْجد وَشرع فِي جمع الْعدَد اه كَلَامه
ثمَّ إِن السُّلْطَان رحمه الله هادن الفرنسيس على يَد الْفَقِيه أبي سلهام بن عَليّ آزطوط عَامل طنجة والعرائش على شُرُوط ثَمَانِيَة من جُمْلَتهَا نفي الْحَاج عبد الْقَادِر من تِلْكَ الْبِلَاد لما فِي بَقَائِهِ هُنَالك من آثاره الْفِتْنَة بَين الدولتين بِلَا فَائِدَة ودعت الْمصلحَة الوقتية السُّلْطَان رحمه الله إِلَى أَن أسقط عَن جنس