الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَى الأندلس فَبعث إِلَيْهِ فسطاطا رائقا كَانَ صنع لَهُ بمراكش وَثَلَاثِينَ من البغال الفارهة ذكرانا وإناثا وَغير ذَلِك مِمَّا يباهي بِهِ مُلُوك الْمغرب
وَفِي سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة أهْدى إِلَيْهِ الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الْقوي التوجيني صَاحب جبل وانشريس أَرْبَعَة من الْجِيَاد انتقاها من خيل الْمغرب كَافَّة وَرَأى أَنَّهَا على قلَّة عَددهَا أحفل هَدِيَّة وَفِي نَفسه أثْنَاء هَذَا كُله من أَمر الْجِهَاد شغل شاغل يتخطى إِلَيْهِ سَائِر أَعماله حَسْبَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
الْجَوَاز الثَّانِي للسُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد
لما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزوته الأولى واستنزل الْخَوَارِج وثقف الثغور وهادى الْمُلُوك واختط الْمَدِينَة الْبَيْضَاء لنزوله كَمَا ذكرنَا خرج فاتح سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة إِلَى جِهَة مراكش لسد ثغورها وتثقيف أطرافها وتوغل فِي أَرض السوس وَبعث وزيره فتح الله السدراتي فِي العساكر فجاس خلالها ثمَّ انكفأ رَاجعا وَهُنَاكَ خَاطب السُّلْطَان يَعْقُوب رحمه الله قبائل الْمغرب كَافَّة بالنفير إِلَى الْجِهَاد فتثاقلوا عَلَيْهِ فَلم يزل يحرضهم وهم يسوفون إِلَى أَن دخلت سنة سِتّ وَسبعين بعْدهَا وَلما رأى تثاقل النَّاس عَلَيْهِ نَهَضَ إِلَى رِبَاط الْفَتْح وتلوم بِهِ أَيَّامًا فِي انْتِظَار الْغُزَاة فأبطؤوا عَلَيْهِ فخف فِي خاصته وَتقدم فِي حَاشِيَته حَتَّى انْتهى إِلَى قصر الْمجَاز وَقد تلاحق بِهِ النَّاس من كل جِهَة لما رَأَوْا من عزمه وتصميمه فَأجَاز بهم الْبَحْر واحتل بطريف آخر محرم من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ ارتحل إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ إِلَى رندة فوافاه بهَا الرئيسان أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي الْحسن عَليّ بن أشقيلولة صَاحب مالقة وَأَخُوهُ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أبي الْحسن برسم الْجِهَاد مَعَه
ثمَّ ارتحل السُّلْطَان من رندة فاتح ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة حَتَّى انْتهى إِلَى إشبيلية فعرس عَلَيْهَا يَوْم المولد النَّبَوِيّ وَكَانَ بهَا يَوْمئِذٍ ملك الجلالقة أَن أذفونش فَلم يجد بدا من الْخُرُوج إِلَيْهِ بعد أَن خام عَن اللِّقَاء أَولا فبرز فِي جموعه وصفهَا على ضفة الْوَادي الْكَبِير من نَاحيَة السُّلْطَان وَأظْهر من أبهة الْحَرْب مَا قدر عَلَيْهِ فَكَانَت جيوشه كلهَا فِي الدروع السوابغ وَالْبيض اللوامع
وَالسُّيُوف البواتر وَغير ذَلِك من آلَات الْحَرْب الَّتِي يكَاد شعاعها يدهش الْبَصَر وزحف إِلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب رحمه الله بعد أَن صلى رَكْعَتَيْنِ ودعا الله تَعَالَى وَوعظ النَّاس وَذكرهمْ فرتب مصافه وَجعل وَلَده الْأَمِير يُوسُف فِي الْمُقدمَة وزحف على التعبية فَاقْتَتلُوا مَلِيًّا ثمَّ انْهَزَمت الفرنج فتساقط بَعضهم فِي الْوَادي وَانْحَدَرَ آخَرُونَ مَعَ ضفته وتصاعد آخَرُونَ كَذَلِك واقتحم الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم وسط المَاء وقتلوهم فِي لجته حَتَّى صَار المَاء أَحْمَر وطفت جيفهم من الْغَد عَلَيْهِ فَكَانَ فيهم عِبْرَة لمن اعْتبر وَبَات السُّلْطَان والمسلمون تِلْكَ اللَّيْلَة على صهوات خيولهم يقتلُون وَيَأْسِرُونَ وأضرموا النيرَان بِسَاحَة إشبيلية حَتَّى صَار اللَّيْل نَهَارا وباتت الفرنج على الأسوار ينفخون فِي الْقُرُون ويحترسون طول ليلتهم
ثمَّ ارتحل السُّلْطَان من الْغَد إِلَى جبل الشّرف وَبث السَّرَايَا فِي نواحيه فَلم يزل يتقرى تِلْكَ الْجِهَات حَتَّى أباد عمرانها وطمس معالمها وَدخل حصن قطنيانة وحصن جليانة وحصن القليعة عنْوَة وأثخن فِي الْقَتْل والسبي ثمَّ ارتحل بالغنائم والأثقال إِلَى الجزيرة الخضراء فَدَخلَهَا فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الأول الْمَذْكُور فأراح بهَا وَقسم الْغَنَائِم فِي الْمُجَاهدين ثمَّ خرج غازيا مَدِينَة شريش منتصف ربيع الآخر فنازلها وأذاقها نكال الْحَرْب ووبال الْحصار وَقطع الزياتين وَالْأَعْنَاب وَسَائِر الْأَشْجَار وأباد خضراءها وَحرق ديارها وأثخن فِيهَا بِالْقَتْلِ والأسر وَكَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب يُبَاشر قطع الشّجر وَالثَّمَر بِيَدِهِ وسرح وَلَده الْأَمِير يُوسُف من مُعَسْكَره فِي سَرِيَّة للغارة على إشبيلية وحصون الْوَادي الْكَبِير فَبَالغ فِي النكاية واكتسح حصن روطة وشلوقة وغليانة والقناطر ثمَّ صبح إشبيلية فاكتسحها وانكفأ رَاجعا بالمغانم والسبي إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب فسر بمقدمه وقفلوا جَمِيعًا إِلَى الجزيرة الخضراء فأراح السُّلْطَان بهَا أَيَّامًا وَقسم فِي الْمُجَاهدين غنائمهم ثمَّ جمع أَشْيَاخ الْقَبَائِل وندبهم إِلَى غَزْو قرطبة وَقَالَ يَا معشر الْمُجَاهدين إِن إشبيلية وشريش وأحوازهما قد ضعفت وبادت وَلم يبْق لكم بهَا كَبِير نفع وَلَا نكاية وَإِن قرطبة وأعمالها بِلَاد حَصِينَة عامرة وَعَلَيْهَا اعْتِمَاد الفرنج وَمِنْهَا معاشهم ومادتهم فَإِن عزوتموها واستأصلتم خضراءها مثل مَا فَعلْتُمْ بإشبيلية وشريش كَانَ ذَلِك سَبَب ضعف النَّصْرَانِيَّة بِهَذَا الْقطر فَأَجَابُوا
بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فَدَعَا لَهُم وَفرق فيهم الْأَمْوَال وَالْخلْع وخاطب ابْن الْأَحْمَر يستنفره للْجِهَاد مَعَه وَقَالَ إِن خُرُوجك معي إِلَى قرطبة يكون لَك مهابة فِي قُلُوب الفرنج مَا عِشْت سوى مَا تستوجبه من الله تَعَالَى من الثَّوَاب فِي ذَلِك
ونهض السُّلْطَان إِلَى قرطبة فاتح جُمَادَى الأولى من سنة سِتّ وَسبعين الْمَذْكُورَة فوافاه ابْن الْأَحْمَر بِنَاحِيَة شدونه فَأكْرم موصله وشكر خفوفه إِلَى الْجِهَاد وَبِدَارِهِ إِلَيْهِ ونازلوا حصن بني بشير فدخلوه عنْوَة وَقتلت الْمُقَاتلَة وسبيت النِّسَاء ونفلت الْأَمْوَال وَهدم الْحصن حَتَّى لم يبْق لَهُ أثر ثمَّ بَث السُّلْطَان رحمه الله السَّرَايَا والغارات فِي البسائط فاكتسحها وامتلأت الْأَيْدِي وأثرى الْعَسْكَر وفاض عَلَيْهِم من الْغنم وَالْبَقر والمعز وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير والقمح وَالشعِير وَالزَّيْت وَالْعَسَل مَا لَا يُوصف ثمَّ سَارُوا يتقترون الْمنَازل والعمران فِي طريقهم حَتَّى احتلوا بِسَاحَة قرطبة فنازلوها وخفقت ألوية السُّلْطَان فِي نَوَاحِيهَا وزعقت طبوله فِي فضائها وَتقدم فِي أبطاله وحماته حَتَّى وقف على بَابهَا ثمَّ داربأسوارها ينظر كَيفَ الْحِيلَة فِي قتالها ووقف ابْن الاحمر بعساكر الأندلس أَمَام محلّة الْمُسلمين يحرسونها خوفًا من كرة الْعَدو وخنس الفرنج وَرَاء الأسوار وانبثت بعوث الْمُسلمين وسراياهم فِي نواحي قرطبة وقراها فنسفوا آثارها وخربوا عمرانها وترددوا على جهاتها ودخلوا حصن الزهراء بِالسَّيْفِ وَأقَام السُّلْطَان على قرطبة ثَلَاثًا ثمَّ ارتحل عَنْهَا إِلَى حصن بركونة فدخله عنْوَة ثمَّ أرجونة كَذَلِك ثمَّ قدم بعثا إِلَى مَدِينَة جيان فقاسمها حظها من الْخَسْف والدمار وخام الطاغية عَن اللِّقَاء وأيقن بخراب عمرانه وَإِتْلَاف بِلَاده فجنح إِلَى السّلم وخطبه من السُّلْطَان يَعْقُوب وَرغب فِيهِ إِلَيْهِ وَبعث الأقسة والرهبان للوساطة فِي ذَلِك فرفعهم السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى ابْن الْأَحْمَر وَجعل الْأَمر فِي ذَلِك إِلَيْهِ تكرمة لمشهده ووفاء بِحقِّهِ وَقَالَ لوفد الفرنج إِنَّمَا أَنا ضيف والضيف لَا يُصَالح على رب الْمنزل فَسَارُوا إِلَى ابْن الْأَحْمَر وَقَالُوا لَهُ إِن السُّلْطَان يَعْقُوب قد رد الْأَمر إِلَيْك وَنحن قد جئْنَاك لنعقد مَعَك صلحا مُؤَبَّدًا لَا يعقبه غدر وَلَا حَرْب وأقسموا لَهُ بصلبانهم إِن لم يرضه الفنش ليخلعنه لِأَنَّهُ لم ينصر الصَّلِيب وَلَا حمى الْحَوْزَة فأجابهم ابْن
الْأَحْمَر إِلَيْهِ بعد عرضه على أَمِير الْمُسلمين والتماس إِذْنه فِيهِ لما فِيهِ من الْمصلحَة وجنوح أهل الأندلس إِلَيْهِ مُنْذُ المدد الطَّوِيلَة فانعقد السّلم فِي آخر شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب من غزاته هَذِه وَجعل طَرِيقه على غرناطة احتفاء بالسلطان وَخرج لَهُ عَن الْغَنَائِم كلهَا فاحتوى عَلَيْهَا ابْن الْأَحْمَر وساقها إِلَى غرناطة وَقَالَ لَهُ السُّلْطَان يَعْقُوب يكون حَظّ بني مرين من هذَيْن الْغُزَاة الْأجر وَالثَّوَاب مثل مَا فعل يُوسُف بن تاشفين رحمه الله مَعَ أهل الأندلس يَوْم الزلاقة
وَلما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من هَذِه الْغَزْوَة اعتل الرئيس أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة ثمَّ هلك غرَّة جُمَادَى من السّنة الْمَذْكُورَة فلحق ابْنه مُحَمَّد بالسلطان يَعْقُوب آخر شهر رَمَضَان وَهُوَ متلوم بالجزيرة الخضراء منصرفة من الْغَزْو كَمَا ذَكرْنَاهُ فَنزل لَهُ عَن مالقة وَدعَاهُ إِلَى حوزها مِنْهُ وَقَالَ لَهُ إِن لم تحزها أعطيتهَا للفرنج وَلَا يتملكها ابْن الْأَحْمَر فحازها السُّلْطَان يَعْقُوب مِنْهُ وَعقد عَلَيْهَا لِابْنِهِ أبي زيان منديل بن يَعْقُوب فَسَار إِلَيْهَا وتملكها وَعز ذَلِك على ابْن الْأَحْمَر غَايَة لِأَنَّهُ لما بلغه وَفَاة أبي مُحَمَّد بن أشقيلولة سما أمله إِلَيْهَا وَأَن ابْن أُخْته وَهُوَ مُحَمَّد الْوَافِد على السُّلْطَان يَعْقُوب شيعَة لَهُ لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلا فَأَخْطَأَ ظَنّه وَخرج الْأَمر بِخِلَاف مَا كَانَ يرتقب وَلما قضى السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة الخضراء صَوْمه ونسكه خرج إِلَى مالقة فَدَخلَهَا سادس شَوَّال من السّنة ويرز إِلَيْهِ أَهلهَا فِي يَوْم مشهود واحتفلوا لَهُ احتفال أَيَّام الزِّينَة سُرُورًا بِمقدم السُّلْطَان واغتباطا بدخولهم فِي دَعوته وانخراطهم فِي سلك رَعيته وَأقَام فيهم إِلَى خَاتم سنته ثمَّ عقد عَلَيْهَا لعمر بن يحيى بن محلي من صنائع دولتهم وَأنزل مَعَه المسالح وَترك عِنْده زيان بن أبي عياد بن عبد الْحق فِي طَائِفَة لنظره من أبطال بني مرين واستوصاه بِمُحَمد بن اشقيلولة وارتحل إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ أجَاز مِنْهَا إِلَى الْمغرب فاتح سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة وَقد اهتزت الدُّنْيَا لمقدمه وامتلأت الْقُلُوب سُرُورًا بِمَا هيأه الله من نصر الْمُسلمين بالأندلس وعلو راية الْإِسْلَام على كل راية وعظمت بذلك كُله موجدة ابْن الْأَحْمَر ونشأت الْفِتْنَة كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
لَهُ إِلَّا إخوانه من أهل دكالة وَولى على السراغنة أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالصغير وعَلى أهل تادلا صَالح بن الرضي الورديغي وعَلى أَوْلَاد أبي رزك المزابي الْقَائِد صَاحب الطابع وعَلى أَوْلَاد أبي عَطِيَّة عمر بن أبي سلهام المزابي وَأمر مُحَمَّد بن أَحْمد أَن يقبض من إخوانه الَّذين كَانُوا عمالا على هَذِه الْقَبَائِل مَا احتجبوه من الْأَمْوَال أَيَّام ولايتهم واستصفى مِنْهُم مائَة وَخمسين ألفا
خُرُوج العبيد على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله ومبايعتهم لِابْنِهِ الْمولى يزِيد وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا كَانَت الْفِتْنَة الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ خُرُوج العبيد على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وبيعتهم لِابْنِهِ الْمولى يزِيد وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن السُّلْطَان كتب إِلَيْهِم وَهُوَ بمراكش يَأْمُرهُم أَن يعينوا مِنْهُم ألف كانون ينتقلون بأولادهم إِلَى طنجة يكونُونَ بهَا وَبعث إِلَيْهِم بِالْكتاب مَعَ الْقَائِد الشَّاهِد رَأس الْفِتْنَة وولاه على ذَلِك الْألف فَلَمَّا أَتَاهُم بِكِتَاب السُّلْطَان قَالَ لَهُم لَا يذهب معي إِلَّا الْأَعْيَان وَمن لَهُ دَار وَأَرْض وضيعة وَلَا يذهب معي إِلَّا أمثالي فَلَمَّا سمع اقتراحه أُولَئِكَ الأجلاف ركبُوا رَأْسهمْ فِي سَبِيل الْخلاف واستفزهم الشَّيْطَان حَتَّى صَرَّحُوا بخلع السُّلْطَان جَريا فِي ذَلِك على مَذْهَبهم الْقَدِيم والتفاتا إِلَى فعل سلفهم الذميم فَلَمَّا أنهى خبرهم إِلَى السُّلْطَان بعث إِلَيْهِم ابْنه الْمولى يزِيد وَكَانَ عِنْده بمراكش كي يستصلحهم بِهِ فازداد فسادهم وَعظم عنادهم
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ برباط الْفَتْح فَلَمَّا ذهبت إِلَى مراكش لقِيت الْمولى يزِيد بالسانية مَوضِع على نَحْو نصف يَوْم مِنْهَا قَالَ فَسَأَلَنِي عَن خبر العبيد فقصصته عَلَيْهِ فسره ذَلِك وجد فِي السّير ففهمت قَصده وَعرفت مَا يؤول إِلَيْهِ أمره فيهم وَزعم أَنه لما قدم على السُّلْطَان لامه فِي
بَعثه الْمولى يزِيد فاعترف بالْخَطَأ فِي ذَلِك وَلما وصل الْمولى يزِيد إِلَى مكناسة وَاجْتمعَ بالعبيد لم يقدموا شَيْئا على بيعَته وَالْخطْبَة بِهِ فَفتح بيُوت الْأَمْوَال وَأَعْطَاهُمْ حَتَّى رَضوا ثمَّ فتح مخازن السِّلَاح والبارود ففرقه فيهم ثمَّ دخل فِي بيعَته من كَانَ قَرِيبا من قبائل الْعَرَب والبربر غير الودايا وآيت أدراسن وجروان الَّذين هم شيعَة السُّلْطَان فَإِنَّهُم تعصبوا لَهُ
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَبعد ثَلَاث بَعَثَنِي السُّلْطَان إِلَى الودايا وأحلافهم بمكاتيب فَقدمت عَلَيْهِم بهَا وأقمت عِنْدهم إِلَى أَن زحف إِلَيْهِم الْمولى يزِيد فِي جَيش العبيد وهم بالأروى وَكَانَت آيت أدراسن وجروان قد دخلُوا مَعَ الودايا وظاهروهم على العبيد فَوَقَعت الْحَرْب بالمشتهى دَاخل القصبة فَانْهَزَمَ العبيد وسلطانهم وَقتل مِنْهُم نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وَأما الْجَرْحى فبلا عدد وانقلبوا مفلولين
واتصل الْخَبَر بالسلطان فَخرج من مراكش فِي الْجند وقبائل الْحَوْز يُرِيد مكناسة وَلما وصل إِلَّا سلا وَسمع الْمولى يزِيد بقدومه فر إِلَى ضريح الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن حمدوش ثمَّ إِلَى ضريح الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر رضي الله عنه بزرهون فَتقدم السُّلْطَان إِلَى زرهون وَلما دخل الضريح الشريف أَتَاهُ أَشْرَاف زرهون بِابْنِهِ الْمولى يزِيد فَعَفَا عَنهُ وسامحه واستصحبه مَعَه إِلَى مكناسة وَلما وَجه إِلَيْهَا خرج إِلَيْهِ نَحْو الْمِائَة من العبيد من ذَوي أسنانهم وَمَعَهُمْ الْأَشْرَاف والمرابطون وَالنِّسَاء وَالصبيان فَعَفَا عَنْهُم وسامحهم على شَرط الْخُرُوج من مكناسة فأذعنوا وَأقَام السُّلْطَان بمكناسة يدبر أَمرهم إِلَى أَن فرقهم على الثغور فَبعث مِنْهُم رحيين إِلَى طنجة ورحيين إِلَى العرائش ورحى إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَقصد بتفرقتهم دفع غائلتهم وتوهين عصبيتهم ثمَّ عمد إِلَى الَّذين كَانُوا برباط الْفَتْح ففرقهم أَيْضا فَبعث أَلفَيْنِ مِنْهُم إِلَى السوس وألفا إِلَى مراكش وَأبقى أَلفَيْنِ برباط الْفَتْح مَعَ عبيد مكناسة المغربين إِلَيْهَا واستراحت الدولة من شرهم استراحة مَا
ثمَّ إِن العبيد الَّذين بطنجة وَثبُوا على قائدهم الْقَائِد الشَّيْخ وعَلى قَائِد أهل الرِّيف مُحَمَّد بن عبد الْملك وَأَرَادُوا قَتلهمَا فهربا لآصيلا وَالسُّلْطَان يَوْمئِذٍ لَا زَالَ بمكناسة وَلما أنهى إِلَيْهِ خبرهم كتب إِلَى أعيانهم يتوعدهم فقبضوا على أَصْحَاب الفعلة وبعثوا بهم إِلَيْهِ وتبرؤوا مِنْهُم فَقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف فاستكانوا بعض الشَّيْء وَرجع القائدان إِلَى طنجة ثمَّ لما سَافر السُّلْطَان إِلَى مراكش أَخذ مَعَه عبيد مكناسة فَأنْزل أهل القصبة مِنْهُم بالمنصورية قرب وَادي النفيفيخ لأَنهم كَانُوا رَأس العصاة واستصحب البَاقِينَ إِلَى مراكش فأنزلهم بهَا بعد أَن عزل عَنْهُم قوادهم الَّذين حَضَرُوا فعلة الْمولى يزِيد وأبقاهم عاطلين مهملين وَولى عَلَيْهِم أُنَاسًا من غَيرهم
ذكر مَا سلكه السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فِي حق العبيد من التَّأْدِيب الْغَرِيب
ثمَّ إِن العبيد الَّذين بالثغور عاثوا بهَا وأضروا بِأَهْلِهَا فِي جناتهم وَأَمْوَالهمْ وأعراضهم فأنهى خبرهم إِلَى السُّلْطَان أَيْضا وَلما أعياه أَمرهم وَرَأى أَن تأديبهم بالتفرقة لم يفد فيهم انْتقل رحمه الله مَعَهم إِلَى مرتبَة أُخْرَى من التَّأْدِيب لم يسْبق إِلَيْهَا كَانَت ترياقا لقطع دائهم وَنَارًا لحسم عرق بلائهم وَذَلِكَ أَنه لما بلغه مَا هم عَلَيْهِ من الْجور والطغيان نَهَضَ من مراكش عَازِمًا على الْإِيقَاع بهم فَلَمَّا وصل إِلَى رِبَاط الْفَتْح كتب إِلَى أهل طنجة والعرائش مِنْهُم يَقُول إِنِّي قد رضيت عَنْكُم وبررت قسمي فِي نقلكم من مكناسة إِلَى الثغور والآن إِذا وصلتكم الْإِبِل وَالْبِغَال الَّتِي أبعثها إِلَيْكُم فلتحمل أهل طنجة بأولادهم ومتاعهم وليقدموا إِلَى دَار عَرَبِيّ من بِلَاد سُفْيَان فلينزلوا بهَا ثمَّ يبعثوا الْإِبِل وَالْبِغَال إِلَى أهل العرائش ليتحملوا بأولادهم ومتاعهم إِلَى دَار عَرَبِيّ كَذَلِك فَإِذا اجْتَمَعْتُمْ أَنْتُم وهم بهَا فَإِنِّي أبْعث إِلَيْكُم بغالي تتحملون عَلَيْهَا إِلَى مكناسة كلكُمْ فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم كتاب السُّلْطَان بذلك طاروا فَرحا وأحبوا الرُّجُوع إِلَى مكناسة
وَلما وَردت عَلَيْهِم الْإِبِل وَالْبِغَال ارتحلوا من طنجة وَفِي أثْنَاء ذَلِك
بعث إِلَيْهِم السُّلْطَان قائدهم سعيد بن العياشي الَّذِي خلعوه أَيَّام الْفِتْنَة وأوصاه أَن يُقيم بدار عَرَبِيّ حَتَّى يقدم عَلَيْهِ عبيد طنجة والعرائش فَانْتهى إِلَيْهَا ووافاه بهَا عبيد طنجة فنزلوا عَلَيْهِ بقضهم وقضيضهم ووصلت الْإِبِل وَالْبِغَال إِلَى أهل العرائش فجاؤوا حَتَّى نزلُوا مَعَ إخْوَانهمْ كَمَا رسم السُّلْطَان
ثمَّ إِن السُّلْطَان رحمه الله نَهَضَ من رِبَاط الْفَتْح حَتَّى وافى مشرع مسيعيدة من وَادي سبو ثمَّ انْتقل مِنْهُ إِلَى سوق الْأَرْبَعَاء من بِلَاد سُفْيَان ثمَّ تقدم إِلَى قبائل الغرب وَبني حسن أَن يَسِيرُوا إِلَى العبيد ويعسكروا عَلَيْهِم من جَمِيع الْجِهَات فامتثلوا وَلما استداروا حَولهمْ وَأَحَاطُوا بهم إحاطة بَيَاض الْعين بسوادها قدم السُّلْطَان ودعا رُؤَسَاء الْقَبَائِل فَحَضَرُوا عِنْده فَقَالَ لَهُم إِنِّي قد أَعطيتكُم هَؤُلَاءِ العبيد بأولادهم وخيلهم وسلاحهم وكل مَالهم فاقتسموهم الْآن وكل وَاحِد مِنْكُم يَأْخُذ عبدا وَأمة وأولادهما فَالْعَبْد يحرث وَالْأمة تطحن وَالْولد يرْعَى الْمَاشِيَة فحذوهم وتقلدوا سِلَاحهمْ واركبوا خيولهم وَالْبَسُوا كساهم بَارك الله لكم فيهم فَأنْتم عسكري وجندي دونهم فَلَمَّا سَمِعت قبائل الغرب وَبني حسن هَذَا الْكَلَام من السُّلْطَان وَثبُوا على العبيد من غير أَن تكون مِنْهُم وَقْفَة واقتسموهم فِي أسْرع من لحس الْكَلْب أَنفه وتوزعوهم شذر مذر وصيروهم عِبْرَة لمن اعْتبر
وقفل السُّلْطَان رَاجعا إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَلما دخله نفى العبيد الَّذين بهَا إِلَى مراكش فأنزلهم بهَا بعد أَن عزل عَنْهُم قوادهم وَولى مكانهم غَيرهم وَاسْتمرّ عبيد طنجة والعرائش موزعين فِي الْقَبَائِل أَربع سِنِين ثمَّ عَفا عَنْهُم واستردهم من الْقَبَائِل إِلَى الجندية وأركبهم وكساهم وسلحهم لكنه ميزهم وجعلهم قبائل فِي الْخَلْط وطليق مِنْهُم أنزلهم بقصر كتامة وسُفْيَان وَبَنُو مَالك أنزلهم بمسيعيدة وَبَنُو حسن أنزلهم بسيدي قَاسم والحياينة وَأهل الْجَبَل أنزلهم بتامدرت من أَعمال فاس وَأَقَامُوا هُنَالك عدَّة سِنِين يوجهون حصتهم فِي الْبعُوث ويعسكرون مَعَ السُّلْطَان مَتى احْتَاجَ إِلَيْهِم ثمَّ جمعهم رحمه الله بعد ذَلِك ونقلهم إِلَى مراكش وَأَقْبل عَلَيْهِم بالعطاء إِلَى أَن عَادوا أحسن مِمَّا
الْمَذْكُورَة وَفِي محرم فاتح سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْوَزير الشهير السَّيِّد الْمُخْتَار بن عبد الْملك الجامعي بمراكش واستوزر السُّلْطَان بعده الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الحاجي النكنافي مُدَّة يسيرَة ثمَّ أَخّرهُ ورد وزيره الأقدم أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس رحم الله الْجَمِيع وَفِي هَذِه السّنة كَانَ الوباء بالمغرب بالإسهال والقيء وغور الْعَينَيْنِ وبرودة الْأَطْرَاف
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورد سُؤال من عِنْد الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين إِلَى عُلَمَاء فاس يَقُول فِيهِ مَا نَصه
الْحَمد لله سادتنا الْأَعْلَام أَئِمَّة الْهدى ومصابيح الظلام فُقَهَاء الحضرة الإدريسية ومرمى المطالب ومحط الرّحال العيسية أطباء أدواء الدّين ومحقين حَقه ومبطلين باطله ومنتجين قضاياه المتخيلة عقيمة وباطلة جوابكم أبقاكم الله فِيمَا عظم بِهِ الْخطب وَاشْتَدَّ بِهِ الكرب بوطن الجزائر الَّذِي صَار لغربال الْكفَّار جزائر وَذَلِكَ أَن الْعَدو الْكَافِر يحاول ملك الْمُسلمين مَعَ استرقاقهم بِالسَّيْفِ وَتارَة بحيل سياسته وَمن الْمُسلمين من يداخلهم ويبايعهم ويجلب الْخَيل إِلَيْهِم وَلَا يَخْلُو من دلالتهم على عورات الْمُسلمين ويطالعهم وَمن أَحيَاء الْعَرَب المجاورين لَهُم من يفعل ذَلِك ويتمالؤون على الْجُحُود وَالْإِنْكَار فَإِذا طلبُوا بتعيينه جعجعوا وَالْحَال أَنهم يعلمُونَ مِنْهُم الْأَعْين والْآثَار فَمَا حكم الله فِي الْفَرِيقَيْنِ فِي أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فَهَل لَهُم من عِقَاب أم يتركون على حَالهم وَمَا الحكم فِيمَن يتَخَلَّف عَن المدافعة عَن الْحَرِيم وَالْأَوْلَاد إِذا استنفره نَائِب الإِمَام للدفاع والجلاد فَهَل يعاقبون وَكَيف عقابهم وَلَا يَتَأَتَّى بِغَيْر قِتَالهمْ وَهل تُؤْخَذ أَمْوَالهم وأسلابهم كَيفَ الْعَمَل فِيمَن يمْنَع الزَّكَاة أَو يمْنَع بَعْضهَا من التحقق بعمارة ذمَّته فِي الْحَال فَهَل يصدق مَعَ قلَّة الدّين فِي هَذَا الزَّمَان أم يكون للِاجْتِهَاد فِيهِ مجَال وَمن أَيْن يرْزق الْجَيْش المدافع عَن الْمُسلمين الساد ثغورهم عَن المغيرين وَلَا بَيت مَال وَمَا يجمع من الزَّكَاة لَا يَفِي بشبعهم فضلا
عَن كسوتهم وسلاحهم وخيلهم ومؤنتهم وزيهم فَهَل تتْرك فيستبيح الْكَافِر الوطن أم يكون مَا يلْزمهُم على جمَاعَة الْمُسلمين وَإِذا كَانَ فَهَل على الْعُمُوم أم على الْأَغْنِيَاء فَقَط وَلَا يُمكن اخْتِصَاص الْأَغْنِيَاء لجفوة الْأَعْرَاب وجهلهم وَهل يعد مَانع المعونة بَاغِيا أم لَا وَمَا حكم أَمْوَال الْبُغَاة وَهل القَوْل بِعَدَمِ ردهَا يجوز الْعَمَل بِهِ أم لَا أجِيبُوا عَمَّا ذكرنَا وَعَما يُنَاسب الْمقَام وَالْحَال مِمَّا لم يحضرنا داووا عللنا أبقاكم الله فقد ضَاقَ من هَذِه الْأُمُور الذرع وَكَاد الْقَائِم بِأَمْر الْمُسلمين لضيق الْأَسْبَاب أَن يتخلى عَن الْأَمر ويطرح ثوب الْإِمَارَة والدرع مَأْجُورِينَ وَالسَّلَام فِي تَاسِع عشر من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة صَدره عَن إِذن الْحَاج عبد الْقَادِر بن محيي الدّين لطف الله بِهِ
وَقد أجَاب عَن هَذَا السُّؤَال بِإِشَارَة السُّلْطَان الْفَقِيه الْعَلامَة أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد السَّلَام مديدش التسولي بِجَوَاب طَوِيل يشْتَمل على خمس كراريس وَزِيَادَة وَهُوَ مَوْجُود بأيدي النَّاس وَلأَجل مَا كَانَ يصل من هَذِه الْأُمُور من جَانب الْحَاج عبد الْقَادِر كَانَ السُّلْطَان رحمه الله يبْذل مجهوده فِي إمداده بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح وَالْمَال وَغير ذَلِك ثمَّ لم يكن إِلَّا مَا أَرَادَهُ الله
وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف بعد ظهر يَوْم السبت الْعشْرين من ربيع الأول مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة المتفنن الْمُحدث أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْحَاج الْمَكِّيّ السدراتي السلاوي وَدفن صَبِيحَة يَوْم الْأَحَد فِي الْجَبانَة الَّتِي قرب ضريح ولي الله تَعَالَى سَيِّدي الْحَاج أَحْمد بن عَاشر وَشهد جنَازَته خلق كثير وأمهم الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْهَاشِمِي طُوبَى وللفقيه أبي الْعَبَّاس الْمَذْكُور شرح حفيل على موطأ الإِمَام مَالك رضي الله عنه وَهُوَ مَوْجُود بأيدي النَّاس
وَفِي سنة أَربع وَخمسين بعْدهَا وَذَلِكَ صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي أَبُو عبد الله طُوبَى الْمَذْكُور آنِفا وَكَانَ رحمه الله من قُضَاة الْعدْل وَأهل الْعلم بالنوازل وَالْأَحْكَام مَحْمُود السِّيرَة ذَا سكينَة ووقار
وَفِي سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ فِي سَابِع جُمَادَى الأولى مِنْهَا كمل بِنَاء الْمنَار بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم من سلا وَكَانَ الْمنَار الَّذِي قبله قد أَصَابَته صَاعِقَة تداعت لَهَا أَرْكَانه فَأمر السُّلْطَان رحمه الله بنقضه وإعادته جَدِيدا فأعيد على هَيْئَة متقنة أحسن مِمَّا كَانَ وَأعظم وصير عَلَيْهِ بِوَاسِطَة أُمَنَاء مرسى العدوتين ثَلَاثَة آلَاف مِثْقَال وَأَرْبَعمِائَة مِثْقَال وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ مِثْقَالا وست أَوَاقٍ وَثلث الْأُوقِيَّة والريال الْكَبِير يَوْمئِذٍ من سعر سِتّ عشرَة أُوقِيَّة وَكَانَ جلّ الصائر من بَيت المَال وَأقله من مَال الْحَبْس وَكَانَ الَّذِي يتَوَلَّى النظارة يَوْمئِذٍ وَالْقِيَام على الْبناء عَامل سلا الأبر الْأَخير السَّيِّد الْحَاج أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْهَاشِمِي عواد
وَفِي سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الْمُحَقق البارع أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد السَّلَام التسولي الْمَدْعُو مديدش صَاحب الشَّرْح الْكَبِير على تحفة ابْن عَاصِم فِي الْأَحْكَام وَشرح الشَّامِل وحاشية الزقاقية وَغير ذَلِك من التآليف الحسان رحمه الله ونفعنا بِهِ
وَفِي منتصف سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَألف غزا السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رحمه الله قَبيلَة زمور الشلح وَكَانُوا قد تجاوزوا الْحَد فِي الْإِفْسَاد وإخافة الْعباد والبلاد فأوقع بهم وقْعَة شنعاء كسرت من حَدهمْ وفلت من غربهم وَكتب السُّلْطَان رحمه الله فِي ذَلِك إِلَى وَلَده وخليفته سَيِّدي مُحَمَّد كتابا من إنْشَاء وزيره أبي عبد الله بن إِدْرِيس يَقُول فِيهِ مَا نَصه ولدنَا الأرضى الأبر الأرشد سَيِّدي مُحَمَّد أصلحك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فقد كُنَّا أردنَا الْإِبْقَاء على قَبيلَة زمور رَحْمَة وإشفاقا وَحَملهمْ على الاسْتقَامَة بالإرهاب من الشدَّة فِي بعض الْأُمُور هِدَايَة وإرفاقا فَلم يرد الله بهم خيرا لفساد نيتهم وخبث طويتهم واتكالهم على حَولهمْ وقوتهم فَمَا رَأَوْا منا لينًا وسدادا إِلَّا ازدادوا شدَّة وَفَسَادًا وَلَا أظهرنَا لَهُم عظة وإرشادا إِلَّا أظهرُوا تطاولا وعنادا وَمَا أخرنا الْمحلة المنصورة عَن الرّكُوب إِلَيْهِم إبْقَاء وألفا إِلَّا ظنُّوا ذَلِك عَجزا وضعفا قد طمس الْإِعْجَاب مِنْهُم بصرا وسمعا وَلم يرَوا أَن الله قد أهلك من قبلهم من الْقُرُون من هُوَ أَشد مِنْهُم قُوَّة وَأكْثر جمعا
(إِذا أَنْت أكرمت الْكَرِيم ملكته
…
وَإِن أَنْت أكرمت اللَّئِيم تمردا)
(وَوضع الندا فِي مَوضِع السَّيْف بالعلى
…
مضربه كوضع السَّيْف فِي مَوضِع الندا)
فَلَمَّا رَأينَا لجاجهم فِي عمالهم وَعدم رجوعهم عَن هواهم وَأَنَّهُمْ لم يعتبروا بجلائهم عَن بِلَادهمْ وَلَا بِمَا أَصَابَهُم من الْفِتْنَة فِي أنفسهم وَأَوْلَادهمْ وَلم يراعوا مَا نهب من زرعهم الْقَائِم والحصيد وَلَا مَا استخرج من مخزونهم الْكثير العتيد رَأينَا قِتَالهمْ شرعا وجهادهم ذبا عَن الدّين ودفعا فاعتمدنا على حول الله وقوته وأمرنا بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِم فِي الْأَخْذ والتضييق وَالْمُبَالغَة فِي النهب وَالتَّحْرِيق وتركهم مَحْصُورين فِي أوعارهم ومقهورين فِي أوكارهم إِذْ رب مطاولة أبلغ من مصاولة فتوالت عَلَيْهِم الغارات وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِم النكبات لَا يَجدونَ إِلَى الرَّاحَة سَبِيلا أَيْنَمَا ثقفوا أخذُوا وَقتلُوا تقتيلا فَفِي كل يَوْم تثمر العوالي رُؤُوس رُؤَسَائِهِمْ وتتخطف أَيدي المنايا أهل بأسائهم وَكلما رادوهم إقداما وطلبا ازدادوا توغلا فِي الْجبَال وهربا حَتَّى نهكتهم الْحَرْب وضرستهم مُوالَاة الطعْن وَالضَّرْب وَضاع بالحصار الْكسْب وَالْمَال وَلحق الضَّرَر الْأَوْلَاد والعيال فَجعلُوا يرحلون لقبائل جوارهم طَالِبين لحلفهم وجوارهم وَبلغ الْبُؤْس فيهم غَايَته وَأظْهر الله فيهم آيَته وهم فِي خلال هَذَا كل حِين يتشفعون ويتذللون فِي قبُول تَوْبَتهمْ ويتضرعون وَنحن نظهر لَهُم التمنع والإباية لنبني أَمرهم على أساس الْجد ونجازيهم على مَا ارتكبوه من خلف الْوَعْد فَلَمَّا أنجزت القهرية فيهم وعدها وَبَلغت الْعقُوبَة فيهم حَدهَا قابلنا إساءتهم بِالْإِحْسَانِ وراعينا فيهم وَجه الْمَسَاكِين وَالنِّسَاء وَالصبيان فولينا عَلَيْهِم مِنْهُم ثَلَاثَة عُمَّال ووظفنا عَلَيْهِم خمسين ألف مِثْقَال وشرطنا عَلَيْهِم تَقْوِيم مِائَتَيْنِ من الحراك مثل قبائل الطَّاعَة والتزام الصّلاح والخدمة جهد الِاسْتِطَاعَة فَقَامُوا بذلك أحسن قيام وأعطوا المراهين فِي أَدَاء المَال بعد أَيَّام وَكَانَ أَخذهم بعد تَقْدِيم الْأَعْذَار وتكرير الْإِنْذَار وعفونا عَنْهُم عَفْو غلب واقتدار وَرب عِقَاب أنتج حسن طَاعَة وتوبة نصوح تداركت مَا سلف من التَّفْرِيط والإضاعة وَفِي النَّاس من لَا يصلح إِلَّا مَعَ التَّشْدِيد وَرَبك يخلق مَا يَشَاء وَيفْعل مَا يُرِيد