الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَخْبَار بني العزفي أَصْحَاب سبتة
قد تقدم لنا أَن الرئيس أَبَا سعيد فرج بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر صَاحب مالقة كَانَ قد غدر بِأَهْل سبتة وَقبض على رؤسائها من بني العزفي وغربهم إِلَى غرناطة سنة خمس وَسَبْعمائة فاستقروا هُنَالك فِي إيالة السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر الْمَعْرُوف بالمخلوع مُدَّة وَلما استولى السُّلْطَان أَبُو الرّبيع المريني على سبتة وَنفى بني الْأَحْمَر عَنْهَا استأذنه بَنو العزفي فِي الرُّجُوع إِلَى الْمغرب والقدوم عَلَيْهِ فَأذن لَهُم واستقروا بفاس وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى وَأَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْنا أبي طَالب عبد الله بن أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس احْمَد العزفي من سرواتهم وَأهل الْمُرُوءَة وَالدّين فيهم وَكَانُوا يغشون مجَالِس الْعلم بِمَسْجِد الْقرَوِيين من فاس لما كَانُوا عَلَيْهِ من انتحاله وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو سعيد أَيَّام ولَايَة بني أَبِيه من قبله يحضر مجْلِس الشَّيْخ الْفَقِيه أبي الْحسن الصَّغِير وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي طَالب يلازمه ويتودد إِلَيْهِ فاتصل بِهِ وَصَارَت لَهُ بذلك وَسِيلَة عِنْده فَلَمَّا أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد رعى لبني العزفي تِلْكَ الْوَسِيلَة فأنعم عَلَيْهِم وَعقد لأبي زَكَرِيَّاء مِنْهُم على سبتة وردهم إِلَى موطن سلفهم ومقر رياستهم فقدموها سنة عشر وَسَبْعمائة وَأَقَامُوا فِيهَا دَعْوَة السُّلْطَان أبي سعيد والتزموا طَاعَته
وَلما فوض السُّلْطَان أَبُو سعيد إِلَى ابْنه ابي عَليّ الْأَمر وَجعل لَهُ الإبرام والنقض عقد أَبُو عَليّ على سبتة لأبي زَكَرِيَّاء حيون بن أبي الْعَلَاء الْقرشِي وعزل أَبَا زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي طَالب مِنْهَا واستقدمه إِلَى فاس فَقَدمهَا هُوَ وَأَبوهُ أَبُو طَالب وَعَمه أَبُو حَاتِم واستقروا فِي جملَة السُّلْطَان وَهلك أَبُو طَالب بفاس أثْنَاء تِلْكَ الْمدَّة ثمَّ كَانَ من خُرُوج الْأَمِير أبي عَليّ على أَبِيه وانتقاضه عَلَيْهِ مَا قدمْنَاهُ فلحق أَبُو زَكَرِيَّاء بن أبي طَالب وَأَخُوهُ أَبُو زيد بالسلطان أبي
سعيد نازعين إِلَيْهِ ومفارقين لِابْنِهِ الثائر عَلَيْهِ واستمروا فِي جملَته إِلَى أَن مرض الْأَمِير أَبُو عَليّ وزحف أَبوهُ إِلَيْهِ وحاصره بفاس حَسْبَمَا مر فَحِينَئِذٍ عقد السُّلْطَان أَبُو سعيد لأبي زَكَرِيَّاء على سبتة ثَانِيًا وَبَعثه إِلَيْهَا ليقيم دَعوته فِي تِلْكَ الْجِهَات وَترك ابْنه مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء تَحت يَده رهنا على الطَّاعَة فاستقل أَبُو زَكَرِيَّاء بإمارتها وَأقَام دَعْوَة السُّلْطَان أبي سعيد بهَا واتصل ذَلِك مِنْهُ نَحْو سنتَيْن ثمَّ هلك عَمه أَبُو حَاتِم بسبتة سنة سِتّ عشرَة وَسَبْعمائة وانتقض أَبُو زَكَرِيَّاء بن أبي طَالب على السُّلْطَان أبي سعيد وَرجع إِلَى حَال سلفه من الاستبداد وَإِقَامَة الشورى بِالْبَلَدِ واستقدم من الأندلس عبد الْحق بن عُثْمَان الَّذِي كَانَ خرج على السُّلْطَان أبي الرّبيع مَعَ الْوَزير عبد الرَّحْمَن الوطاسي فَقدم عَلَيْهِ وَعقد لَهُ على الْحَرْب ليفرق بِهِ كلمة بني مرين بالمغرب ويوهن بأسهم فتخف عَلَيْهِ وطأتهم
واتصل ذَلِك كُله بالسلطان أبي سعيد فَقَامَ وَقعد وجهز إِلَى سبتة العساكر من بني مرين وَعقد على حربها للوزير إِبْرَاهِيم بن عِيسَى اليريناني فزحف إِلَيْهَا وحاصرها فَاعْتَذر إِلَيْهِ أَبُو زَكَرِيَّاء بِحَبْس ابْنه عَنهُ ومفارقته لَهُ وَأَنه إِذا رَجَعَ إِلَيْهِ ابْنه بذل الطَّاعَة وراجع الدعْوَة فَأعْلم الْوَزير السُّلْطَان بذلك فَبعث إِلَيْهِ بِالْوَلَدِ ليسلمه إِلَى أَبِيه بعد أَن يَقْتَضِي مِنْهُ مُوجبَات الطَّاعَة وأسبابها وَجَاء الْخَبَر إِلَى أبي زَكَرِيَّاء بِأَن ابْنه قد قدم وَأَنه كَائِن بفسطاط الْوَزير بساحل الْبَحْر بِحَيْثُ تتأتى الفرصة فِي أَخذه فَبعث أَبُو زَكَرِيَّاء إِلَى عبد الْحق بن عُثْمَان قَائِد الْحَرْب وأعلمه بمَكَان ابْنه فواطأه عبد الْحق على انْتِزَاعه مِنْهُم ثمَّ هجم لَيْلًا فِي جمَاعَة من حَاشِيَته على فسطاط الْوَزير فَاحْتمل الْوَلَد وَأصْبح بِهِ عِنْد أَبِيه وَسمع أهل عَسْكَر الْوَزير بالهيعة فَرَكبُوا وتبعوا الْأَثر فَلم يقفوا على خبر وتفقد الْوَزير الْوَلَد الَّذِي كَانَ عِنْده فَلم يجده واتهم الْجَيْش الْوَزير بِأَنَّهُ مالأ شيعَة أَبِيه على أَخذه وَإِلَّا فَلَا يقدم أحد هَذَا الْإِقْدَام بِدُونِ مداخلة من بعض الْجَيْش فتقبضوا على الْوَزير وَحَمَلُوهُ الى السُّلْطَان إبلاء فِي الطَّاعَة وابلاغا فِي الْعذر فَشكر لَهُم ذَلِك واطلق الْوَزير لعلمه ببراءته ونصحه
ثمَّ رغب أَبُو زَكَرِيَّاء بعْدهَا فِي رضَا السُّلْطَان وطاعته وولايته فَنَهَضَ
السُّلْطَان أَبُو سعيد رحمه الله سنة سِتّ عشرَة إِلَى طنجة لاختبار طَاعَة أبي زَكَرِيَّاء فَبَان لَهُ صدقه وَعقد لَهُ على سبتة وَاشْترط هُوَ على نَفسه حمل الجباية إِلَى السُّلْطَان وإسناء الْهَدِيَّة فِي كل سنة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن هلك أَبُو زَكَرِيَّاء سنة عشْرين وَسَبْعمائة وَقَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء إِلَى نظر ابْن عَمه مُحَمَّد بن عَليّ بن الْفَقِيه أبي الْقَاسِم شيخ قرابتهم وَكَانَ قَائِد الأساطيل بسبتة ولي النّظر فِيهَا بعد أَن نزع الْقَائِد يحيى الرنداحي إِلَى الأندلس وتغلب مُحَمَّد بن عَليّ هَذَا بسبتة وَاخْتلفت كلمة الغوغاء واضطرب الْأَمر على بني العزفي بهَا
فانتهز السُّلْطَان أَبُو سعيد الفرصة فِيهَا وَأجْمع النهوض إِلَيْهَا فَنَهَضَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة وَنزل عَلَيْهَا فبادر أهل سبتة بإيتاء طاعتهم وَعجز مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء عَن المناهضة وظنها مُحَمَّد بن عَليّ من نَفسه فتعرض لِلْأَمْرِ فِي أوغاد من لفيفها اجْتَمعُوا إِلَيْهِ فدافعهم الْمَلأ من أهل سبتة عَن ذَلِك وحملوهم على الطَّاعَة واقتادوا بني العزفي إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فانقادوا إِلَيْهِ واحتل السُّلْطَان بقصبة سبتة وثقف جهاتها ورم مِثْلَمَا واصلح خللها وَاسْتعْمل كبار رجالاته وخواص مَجْلِسه فِي أَعمالهَا فعقد لحاجبه عَامر بن فتح الله السدراتي على حاميتها وَعقد لأبي الْقَاسِم بن أبي مَدين العثماني على جبايتها وَالنَّظَر فِي مبانيها وَإِخْرَاج الْأَمْوَال للنفقات فِيهَا وأسنى جوائز الْمَلأ من مشيختها ووفر إقطاعاتهم وجراياتهم وأوعز بِبِنَاء الْبَلَد الْمُسَمّى أفراك على سبتة فشرعوا فِي بنائها سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة وانكفأ رَاجعا إِلَى حَضرته وَقد ذكر ابْن الْخَطِيب فِي كتاب الإكليل مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء هَذَا فَقَالَ فِيهِ مَا صورته فرع تأود من الرياسة فِي دوحة وَتردد بَين غدْوَة فِي الْمجد وروحة نَشأ والرياسة العزفية تعله وتنهله والدهر ييسر أمله الْأَقْصَى ويسهله حَتَّى اتسقت اسباب سعده وانتهت إِلَيْهِ رياسة سلفه من بعده فَأَلْقَت إِلَيْهِ رِحَالهَا وحطت ومتعته بقربها بعد مَا شطت ثمَّ كلح لَهُ الدَّهْر بعد مَا تَبَسم وَعَاد زعزعا نسيمه الَّذِي كَانَ تنسم وعاق هلاله عَن تمه مَا كَانَ من تغلب ابْن عَمه وَاسْتقر بِهَذِهِ الْبِلَاد نازح الدَّار بِحكم الأقدار وَإِن كَانَ نبيه المكانة
من غير قتال وَتركُوا أثقالهم بيد الْعَدو وَلم يجتمعوا إِلَّا على وَادي ملوية وَمن هُنَاكَ انفض الأحلاف إِلَى بِلَادهمْ ووقف باعقيل بالجيش وأحجم عَن الْقدوم خوفًا من السُّلْطَان فَبعث إِلَيْهِ من قبض عَلَيْهِ وَأَتَاهُ بِهِ فنكبه وعزله عَن فاس وَولى عَلَيْهَا وصيفه ابْن عبد الصَّادِق ثمَّ عَزله وَولى عَلَيْهَا مُحَمَّد واعزيز
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بالعساكر إِلَى تادلا يُرِيد بني مُوسَى وآيت أعتاب ورفالة وَبني عياط الذّبْح آووا بني مُوسَى فَبَثَّ السُّلْطَان عَلَيْهِم العساكر فنهبوا بني مُوسَى وَمن آواهم من رفالة وَبني عياط وأحرقوا مداشرهم وَقَطعُوا أَشْجَارهم وأبلغوا فِي النكاية إِلَى أَن أذعنوا إِلَى الطَّاعَة وجبوا زكواتهم وأعشارهم وعادوا منصورين وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة فتح على السُّلْطَان إقليم تيكرارين وتوات من أقْصَى الصَّحرَاء وجبى عَامله خراجهم وَعَاد سالما معافى وفيهَا حدثت الْحَرْب بَين السُّلْطَان مصطفى بن عبد الحميد العثماني وَبَين الموسكوب فَكتب العثماني إِلَى السُّلْطَان يطْلب مِنْهُ أَن يشد عضده بِأَن يُقيم قراصينه بِبَاب البوغاز من مرسى طنجة لِئَلَّا تدخل قراصين الموسكوب مِنْهُ وتعيث فِي الجزر الَّتِي هِيَ فِي ملكة العثماني كَمَا فعلت فِي دولة عَمه السُّلْطَان مصطفى بن أَحْمد فَأمر السُّلْطَان رحمه الله رُؤَسَاء قراصينه بالتهيىء وَالْمقَام هُنَالك فَفَعَلُوا وَلم يظْهر شَيْء حكى هَذَا الخبرصاحب الْبُسْتَان
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا عقد السُّلْطَان لوصيفه الْقَائِد أَحْمد بن مبارك صَاحب الطابع على جَيش كثيف وَضم إِلَيْهِ جمَاعَة من قواد الْجند والقبائل وَسَار حَتَّى نزل على حُدُود بِلَاد آيت ومالو وأحاطت العساكر السُّلْطَانِيَّة بهم من كل جِهَة وَكَانَ ذَلِك فِي فصل الشتَاء فمنعوهم من النُّزُول إِلَى الْبَسِيط للمرعى وجلب الْميرَة إِلَى أَن ضَاعَت مَوَاشِيهمْ وأذعنوا
لدفع مَا وظف عَلَيْهِم فدفعوا الْمَاشِيَة والكراع وخلى سبيلهم وفيهَا خرج السُّلْطَان من مكناسة لتفقد أَحْوَال الثغور البحرية وَكَانَ الْمُتَوَلِي على جمعهَا الْقَائِد الشهير أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن عَليّ أشعاش التطواني فَعَزله السُّلْطَان فِي هَذِه الْمرة وَولى عَلَيْهَا الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي البُخَارِيّ ثمَّ ولاه على قبائل الغرب وَالْجِبَال كلهَا وتتبع السُّلْطَان رحمه الله الثغور كلهَا وَأحسن إِلَى أَهلهَا
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان إِلَى تادلا يُرِيد عرب ورديغة وقبائل البربر الَّذين هُنَالك فأغارت عَسَاكِر السُّلْطَان عَلَيْهِم وَوَقعت بَينهم حَرْب فظيعة هلك فِيهَا عدد من الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ انتصرت العساكر السُّلْطَانِيَّة عَلَيْهِم فهزموهم ونهبوا أَمْوَالهم وألجؤوهم إِلَى الطَّاعَة فجاؤوا تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ أنفذ جَيْشًا كثيفا لآيت يسري بعد أَن قبض مِنْهُم على عدد مُعْتَبر فَشُنُّوا الْغَارة عَلَيْهِم وقاتلوهم فأذعنوا لإعطاء المَال وَلما بذلوه سرح لَهُم إخْوَانهمْ الْمَقْبُوض عَلَيْهِم وَعَاد السُّلْطَان مظفرا منصورا
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان بِلَاد الرِّيف فَنزل عين زورة وسرح الْكَتَائِب فِي قبائل الرِّيف فحاربوها وهزموها وَقتلُوا مقاتلتها وسلبوا ذراريها وحرقوا مداشرها وألجؤوهم إِلَى الطَّاعَة فقدموا على السُّلْطَان تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم على أَن يدفعوا مَا ترَتّب عَلَيْهِم ثمَّ عين السُّلْطَان الْأُمَنَاء الَّذين استوفوه مِنْهُم على التَّمام وَعَاد مظفرا منصورا وَفِي هَذِه السنين كلهَا كَانَت الرّعية فِي غَايَة الطُّمَأْنِينَة والعافية والأمن وَالْخصب والرخاء وَكَمَال السرُور والهناء حَتَّى كَانَت هَذِه الْمدَّة غرَّة فِي جبهة ذَلِك الْعَصْر ودمية فِي محراب ذَلِك الْقصر ثمَّ انعكست الْأَحْوَال وتراكمت الْأَهْوَال وعظمت الأوجال واتسع فِي الْفِتْنَة المجال وَتمّ على هَذَا السُّلْطَان الْجَلِيل الْعَالم النَّبِيل فِي آخر عمره مَا لم يتم على أحد من مُلُوك بني أَبِيه وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد
بَدْء هيجان فتْنَة البربر وَمَا نَشأ عَنْهَا من التفاقم الْأَكْبَر
لما دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف قَامَت الْفِتْنَة بَين قبائل البربر وَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا أَولا بَين آيت أدراسن وكروان وَبَين أعدائهم آيت ومالو أهل جبل فازاز ثمَّ لما انتشبوا الْحَرْب غدرت كروان بإخوانهم آيت أدراسن وانحازوا إِلَى آيت ومالو فانهزمت آيت أدراسن وَوضع آيت ومالو فيهم السَّيْف ونهبوا حلتهم بِمَا فِيهَا وتركوهم بالقاع مدقعين ولعصا الذل مهطعين وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا أَصْحَاب الْخَيل الَّذين نَجوا بنواصيها وَقدمُوا على السُّلْطَان شاكين بَاكِينَ فَقَامَ وَقعد لذَلِك لما أوجب الله عَلَيْهِ من النّظر لَهُم إِذْ هم رَعيته وشيعته وشيعة وَالِده من قبله فَجهز العساكر لنصرتهم وعادوا إِلَى حَرْب كروان فظاهرهم آيت ومالو عَلَيْهِم وهزموهم مرّة أُخْرَى ثمَّ بعد هَذَا اتّفقت البربر على حَرْب آيت أدراسن مناوأة للسُّلْطَان وبغضا فِي قائدهم مُحَمَّد واعزيز الَّذِي كَانَ يوليه عَلَيْهِم وبعثوا إِلَى دجالهم مهاوش الْمعد عِنْدهم لأمثالها وتحالفوا عِنْده على مَعْصِيّة السُّلْطَان وَطَاعَة الشَّيْطَان وعاثوا فِي الطرقات والرعايا واتسع الْخرق وَعظم الفتق فسارت إِلَيْهِم العساكر من بَاب السُّلْطَان حَتَّى نزلت بأحواز صفرو وَكَانَت لنظر الْقَائِد مُحَمَّد الصريدي الَّذِي يبغضه البربر كبغض مُحَمَّد واعزيز أَو أَكثر فكشفوا القناع فِي الْعِصْيَان وزحفوا إِلَى الْجَيْش وَهُوَ نَازل حول صفرو فأحاطوا بِهِ وانتهبوه ففر من أفلت مِنْهُ وتحصن الْبَاقِي بِمَدِينَة صفرو ونهبت الْقرى الْمُجَاورَة لَهَا وعاثوا فِي طرقات الصَّحرَاء فنهبوا من وجدوا بهَا مُقبلا أَو مُدبرا وأعضل الدَّاء وأعوز الدَّوَاء وَالسُّلْطَان مُقيم بمكناسة يعالج دائهم فَمَا نفع فِيهِ ترياق وشمخت أنوف البربر وَكلما بعث إِلَيْهِم جَيْشًا هزموه أَو سَرِيَّة انتهبوها قيل إِن منشأ ذَلِك كَانَ من أجل تمسك السُّلْطَان رحمه الله بِمُحَمد واعزيز وجبرهم على طَاعَته وَكَانُوا قد نفروا عَنهُ لسوء سيرته فيهم
لما كَانَت وقْعَة تطاوين ودهم النَّاس مَا دهمهم من أَمر الحمايات وَأكْثر من تعلق بهَا الْيَهُود لم يقتصروا على ذَلِك وراموا الْحُرِّيَّة تشبها بيهود مصر وَنَحْوهَا فَكَتَبُوا إِلَى يَهُودِيّ من كبار تجارهم باللوندرة اسْمه روشابيل وَكَانَ هَذَا الْيَهُودِيّ قَارون زَمَانه وَكَانَت لَهُ وجاهة كَبِيرَة فِي دولة النجليز لِأَنَّهَا كَانَت تحْتَاج إِلَيْهِ فيسلفها الْأَمْوَال الطائلة وَله فِي ذَلِك أَخْبَار مَشْهُورَة فَكتب يهود الْمغرب إِلَيْهِ أَو بَعضهم يَشكونَ إِلَيْهِ مَا هم فِيهِ من الذلة وَالصغَار وَيطْلبُونَ مِنْهُ الوساطة لَهُم عِنْد السُّلْطَان رحمه الله فِي الإنعام عَلَيْهِم بِالْحُرِّيَّةِ فعين هَذَا الْيَهُودِيّ صهرا لَهُ للوفادة على السُّلْطَان رحمه الله فِي هَذَا الْغَرَض وَفِي غَيره وأصحبه هَدَايَا نفيسة وَسَأَلَ من دولة النجليز أَن يشفعوا لَهُ عِنْد السُّلْطَان ويكتبوا لَهُ فِي قَضَاء غَرَضه فَفَعَلُوا وَقدم على السُّلْطَان بمراكش وَقدم هداياه وَسَأَلَ تَنْفِيذ مطلبه فتجافى السُّلْطَان رحمه الله عَن رده مخفقا وَأَعْطَاهُ ظهيرا فتمسك بِهِ الْيَهُودِيّ يتَضَمَّن صَرِيح الشَّرْع وَمَا أوجب الله لَهُم من حفظ الذِّمَّة وَعدم الظُّلم والعسف وَلم يعطهم فِيهِ حريَّة كحرية النَّصَارَى وَنَصّ الظهير الْمَذْكُور بالطابع الْكَبِير
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم نأمر من يقف على كتَابنَا هَذَا أسماه الله وأعز أمره وأطلع فِي سَمَاء الْمَعَالِي شمسه المنيرة وبدره من سَائِر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أَعمالنَا أَن يعاملوا الْيَهُود الَّذين بِسَائِر إيالتنا بِمَا أوجبه الله تَعَالَى من نصب ميزَان الْحق والتسوية بَينهم وَبَين غَيرهم فِي الْأَحْكَام حَتَّى لَا يلْحق أحدا مِنْهُم مِثْقَال ذرة من الظُّلم وَلَا يضام وَلَا ينالهم مَكْرُوه وَلَا اهتضام وَأَن لَا يتعدوا هم وَلَا غَيرهم على أحد مِنْهُم لَا فِي أنفسهم وَلَا فِي أَمْوَالهم وَأَن لَا يستعلموا أهل الْحَرْف مِنْهُم إِلَّا عَن طيب أنفسهم وعَلى شَرط توفيتهم بِمَا يستحقونه على عَمَلهم لِأَن الظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة وَنحن لَا نوافق عَلَيْهِ لَا فِي حَقهم وَلَا فِي حق غَيرهم وَلَا نرضاه لِأَن النَّاس كلهم عندنَا فِي الْحق سَوَاء وَمن ظلم أحدا مِنْهُم أَو تعدى عَلَيْهِ فَإنَّا نعاقبه بحول الله وَهَذَا الْأَمر الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وأوضحناه وبيناه كَانَ مقررا ومعروفا محررا لَكِن زِدْنَا هَذَا المسطور تقريرا وتأكيدا
ووعيدا فِي حق من يُرِيد ظلمهم وَتَشْديد ليزِيد الْيَهُود أمنا إِلَى أَمنهم وَمن يُرِيد التَّعَدِّي عَلَيْهِم خوفًا إِلَى خوفهم صدر بِهِ أمرنَا المعتز بِاللَّه فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من شعْبَان الْمُبَارك عَام ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما مكنهم السُّلْطَان من هَذَا الظهير أخذُوا مِنْهُ نسخا وفرقوها فِي جَمِيع يهود الْمغرب وَظهر مِنْهُم تطاول وطيش وَأَرَادُوا أَن يختصوا فِي الْأَحْكَام فِيمَا بَينهم لَا سِيمَا يهود المراسي فَإِنَّهُم تحالفوا وتعاهدوا على ذَلِك ثمَّ أبطل الله كيدهم وَخيَّب سَعْيهمْ على أَن السُّلْطَان رحمه الله لما أحس بطيش الْيَهُود عقب ذَلِك الظهير بِكِتَاب آخر بَين فِيهِ المُرَاد وَأَن ذَلِك الْإِيصَاء إِنَّمَا هُوَ فِي حق أهل الْمُرُوءَة وَالْمَسَاكِين مِنْهُم المشتغلين بِمَا يعنيهم وَأما صعاليكهم المعروفون بِالْفُجُورِ والتطاول على النَّاس والخوض فِيمَا لَا يَعْنِي فيعاملون بِمَا يستحقونه من الْأَدَب
وَاعْلَم أَن هَذِه الْحُرِّيَّة الَّتِي أحدثها الفرنج فِي هَذِه السنين هِيَ من وضع الزَّنَادِقَة قطعا لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِم إِسْقَاط حُقُوق الله وَحُقُوق الْوَالِدين وَحُقُوق الإنسانية رَأْسا أما إِسْقَاطهَا لحقوق الله فَإِن الله تَعَالَى أوجب على تَارِك الصَّلَاة وَالصَّوْم وعَلى شَارِب الْخمر وعَلى الزَّانِي طَائِعا حدودا مَعْلُومَة وَالْحريَّة تَقْتَضِي إِسْقَاط ذَلِك كَمَا لَا يخفى وَأما إِسْقَاطهَا لحقوق الْوَالِدين فلأنهم خذلهم الله يَقُولُونَ إِن الْوَلَد الْحَدث إِذا وصل إِلَى حد الْبلُوغ وَالْبِنْت الْبكر إِذا بلغت سنّ الْعشْرين مثلا يفْعَلَانِ بأنفسهما مَا شاءا وَلَا كَلَام للْوَالِدين فضلا عَن الْأَقَارِب فضلا عَن الْحَاكِم وَنحن نعلم أَن الْأَب يسخطه مَا يرى من وَلَده أَو بنته من الْأُمُور الَّتِي تهتك الْمُرُوءَة وتزري بِالْعرضِ سِيمَا إِذا كَانَ من ذَوي البيوتات فارتكاب ذَلِك على عينه مَعَ مَنعه من الْكَلَام فِيهِ مُوجب للعقوق ومسقط لحقه من البرور وَأما إِسْقَاطهَا لحقوق الإنسانية فَإِن الله تَعَالَى لما خلق الْإِنْسَان كرمه وشرفه بِالْعقلِ الَّذِي يعقله عَن الْوُقُوع فِي الرذائل ويبعثه على الاتصاف بالفضائل وَبِذَلِك تميز عَمَّا عداهُ من الْحَيَوَان وَضَابِط الْحُرِّيَّة عِنْدهم لَا يُوجب مُرَاعَاة هَذِه الْأُمُور بل يُبِيح للْإنْسَان أَن يتعاطى مَا ينفر عَنهُ الطَّبْع وتأباه الغريزة الإنسانية من التظاهر بالفحش والزنى وَغير ذَلِك إِن شَاءَ لِأَنَّهُ مَالك أَمر نَفسه فَلَا يلْزم أَن يتَقَيَّد بِقَيْد وَلَا فرق بَينه وَبَين الْبَهِيمَة
الْمُرْسلَة إِلَّا فِي شَيْء وَاحِد هُوَ إِعْطَاء الْحق لإِنْسَان آخر مثله فَلَا يجوز لَهُ أَن يَظْلمه وَمَا عدا ذَلِك فَلَا سَبِيل لأحد على إِلْزَامه إِيَّاه وَهَذَا وَاضح الْبطلَان لِأَن الله تَعَالَى حَكِيم وَمَا ميز الْإِنْسَان بِالْعقلِ إِلَّا ليحمله هَذِه التكاليف الشَّرْعِيَّة من معرفَة خالقه وبارئه والخضوع لَهُ لتَكون لَهُ بهَا الْمنزلَة عِنْد الله فِي العقبى {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَاوَات وَالْأَرْض} الْأَحْزَاب 72 الْآيَة
وَاعْلَم أَن الْحُرِّيَّة الشَّرْعِيَّة هِيَ الَّتِي ذكرهَا الله فِي كِتَابه وَبَينهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وحررها الْفُقَهَاء رضي الله عنهم فِي بَاب الْحجر من كتبهمْ فراجع ذَلِك وتفهمه ترشد وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
وَفِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كمل بِنَاء الدَّار الفيحاء الَّتِي أَنْشَأَهَا السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله بآجدال من ظَاهر رِبَاط الْفَتْح بجوار ضريح جده سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَهِي دَار كَبِيرَة حَسَنَة الْبناء وَاسِعَة المقاعد والفناء يُقَال إِنَّهَا من أَخَوَات بديع الْمَنْصُور وَلما كمل بناؤها أَمر السُّلْطَان رحمه الله أَن يخْتم فِيهَا فُقَهَاء رِبَاط الْفَتْح صَحِيح البُخَارِيّ أَولا وفقهاء سلا ثَانِيًا فدخلناها فِي جُمْلَتهمْ وتقصينا منازلها ومقاعدها فَرَأَيْنَا مَا مَلأ أبصارنا حسنا وإتقانا وَعَجِيب صَنْعَة
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف حدثت فتْنَة بفاس وَذَلِكَ أَن النَّاس كَانُوا فِي صَلَاة الْجُمُعَة بِمَسْجِد الْقرَوِيين خَامِس ربيع الأول وَكَانَ فيهم التَّاجِر الأمجد أَبُو عبد الله حبيب بن هَاشم بن جلون الفاسي فَلَمَّا سجد مَعَ النَّاس شدخ بعض اللُّصُوص رَأسه بِحجر كَبِير من أَحْجَار التَّيَمُّم الَّتِي تكون بِالْمَسْجِدِ ثمَّ انحنى عَلَيْهِ بخنجر كَانَ بِيَدِهِ فَقطع بِهِ صفاق بَطْنه وساوره التَّاجِر الْمَذْكُور وَمَا بالعير من قماص وَلما وَقعت الضجة قطع النَّاس صلَاتهم وَخَرجُوا فارين من الْمَسْجِد وَتركُوا ثِيَابهمْ ونعالهم ومصاحفهم وَغير ذَلِك فَقَائِل يَقُول إِن الإِمَام الْمهْدي قد خرج وَآخر يَقُول إِن النَّاس يذبح بَعضهم بَعْضًا فِي الْجَامِع واهتزت الْمَدِينَة ثمَّ تراجع النَّاس بعد حِين وَأما اللص فَإِنَّهُ خرج شاهرا سلاحه حَتَّى وصل إِلَى بَاب الْمَسْجِد فكثره النَّاس وقبضوا عَلَيْهِ وانتزعوا السِّلَاح من يَده وكشفوه فَإِذا بِهِ قد أدَار حِبَالًا كَثِيرَة من تَحت الثِّيَاب