الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتعاهدوا على المدافعة عَنهُ وَبَايَعُوهُ على الْمَوْت وَجَاء أَبُو عنان على أَثَره حَتَّى احتل بمراكش وَأنزل عساكره على جبل هنتانة ورتب المسالح لحصاره وحربه وَطَالَ عَلَيْهِ ثواؤه حَتَّى طلب السُّلْطَان من ابْنه الْإِبْقَاء عَلَيْهِ وَأَن يبْعَث إِلَيْهِ حَاجِبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي عمر فَحَضَرَ عِنْده وَأحسن الْعذر عَن الْأَمِير أبي عنان وَالْتمس لَهُ الرِّضَا مِنْهُ فَرضِي عَنهُ وَكتب لَهُ بِولَايَة عَهده وأوعز إِلَيْهِ بِأَن يبْعَث لَهُ مَالا وكسى فسرح الْحَاجِب ابْن أبي عمر بإخراجها من الْمُودع بدار ملكهم واعتل السُّلْطَان خلال ذَلِك فمرضه أولياؤه وخاصته وافتصد لإِخْرَاج الدَّم ثمَّ بَاشر المَاء للطَّهَارَة فورم مَحل الفصادة وَمَات رحمه الله فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَسَبْعمائة هَكَذَا عِنْد ابْن خلدون وَابْن الْخَطِيب وَغَيرهمَا وَالَّذِي رَأَيْته مَكْتُوبًا بالنقش على رخامة قَبره بشالة أَن وَفَاته كَانَت لَيْلَة الثُّلَاثَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَبعث أَوْلِيَاء السُّلْطَان بالْخبر إِلَى ابْنه وَهُوَ بمعسكره من ساحة مراكش ورفعوه على أَعْوَاد نعشه إِلَيْهِ فَتَلقاهُ حافيا حاسرا وَقبل أعواده وَبكى واسترجع ورضني عَن أوليائه وخاصته وأنزلهم بِالْمحل الَّذِي رضوه من دولته ثمَّ دفن أَبَاهُ بمراكش قبلي جَامع الْمَنْصُور من القصبة بالموضع الَّذِي بِهِ الْيَوْم قُبُور الْمُلُوك الْأَشْرَاف السعديين ثمَّ لما نَهَضَ أَبُو عنان إِلَى فاس احْتمل شلو أَبِيه مَعَه حَتَّى دَفنه بشالة مَقْبرَة سلفهم وَلَا زَالَ ضريحه قَائِم الْعين والأثر إِلَى الْآن رَحمَه الله تَعَالَى
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رحمه الله أسمر طَوِيل الْقَامَة عَظِيم الهيكل معتدل اللِّحْيَة حسن الْوَجْه وَكَانَ عَفا مائلا إِلَى التَّقْوَى مُولَعا بالطيب لم يشرب الْخمر قطّ لَا فِي صغره وَلَا فِي كبره محبا للصالحين عدلا فِي رَعيته
يحب الْفَخر ويعنى بِهِ وَقَالَ بعض المشارقة فِي حَقه مَا صورته ملك أَضَاء الْمغرب بأنوار هلاله وَجَرت إِلَى الْمشرق أنواء نواله وَطَابَتْ نسماته واشتهرت عزماته كَانَ حسن الْكِتَابَة كثير الْإِنَابَة ذَا بلاغة وبراعة وشهامة وشجاعة اه وَبنى رحمه الله عدَّة مدارس مِنْهَا الْمدرسَة الْعُظْمَى بمراكش قبلي جَامع ابْن يُوسُف قَالَ الْعَلامَة اليفرني فِي النزهة إِن الَّذِي بناها هُوَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن الْمَذْكُور قلت وَمن وقف على هَذِه الْمدرسَة وَتَأمل تنجيدها وتنميقها قدر هَذَا السُّلْطَان وَعلم عظم أهميته ومحبته للْعلم وَأَهله وَمِنْهَا الْمدرسَة الْعُظْمَى بطالعه سلا قبلي الْمَسْجِد الْأَعْظَم مِنْهَا بناها رحمه الله على هَيْئَة بديعة وصنعة رفيعة وأودع جوانبها من أَنْوَاع النقش وضروب التخريم مَا يحير الْبَصَر ويدهش الْفِكر ووقف عَلَيْهَا عدَّة أوقاف رصع أسماءها بالنقش والأصباغ على رخامة عَظِيمَة ثمَّ نصب الرخامة بِالْحَائِطِ الجوفي مِنْهَا كل ذَلِك مُحَافظَة على تِلْكَ الْأَوْقَاف أَن تغير وَأما الْمَسْجِد الْأَعْظَم ومدرسته الجوفية فهما من بِنَاء يَعْقُوب الْمَنْصُور الموحدي حَسْبَمَا تقدم ذَلِك فِي أخباره وَعِنْدِي أَن السُّور الْمَحْمُول عَلَيْهِ المَاء الدَّاخِل إِلَى سلا الْمَعْرُوف عِنْدهم بسور الأقواس من بِنَاء السُّلْطَان أبي الْحسن رحمه الله ولي فِي ذَلِك مُسْتَند غَرِيب وَهُوَ أَنِّي كنت ذَات يَوْم أفاوض بعض القناقنة بسلا مِمَّن كَانَ يُبَاشر أَمر الْمِيَاه بهَا وَيصْلح مَا احْتَاجَ إِلَى الْإِصْلَاح مِنْهَا فَقلت كالمستفهم لنَفْسي من غير قصد تَوْجِيه الْخطاب إِلَيْهِ يَا ترى من الَّذِي بنى سور المَاء الدَّاخِل إِلَى الْبَلَد فَقَالَ على البديهة الَّذِي بنى الْمدرسَة هُوَ الَّذِي بنى سور المَاء فَقلت لَهُ وَكنت متشوفا يَوْمئِذٍ لتحقيق ذَلِك وَمَا علمك بِهَذَا فَقَالَ إِن بيلة الْمدرسَة بنيت يَوْم بنيت الْمدرسَة بِدَلِيل الزليج المرصوف حولهَا بِالْعَمَلِ الْكَبِير الْمَوْجُود نَظِيره فِي سَائِر حيطان الْمدرسَة وسواريها وَهَذِه البيلة لم تَتَغَيَّر عَن حَالهَا إِلَى أَن باشرت إصلاحها فِي هَذِه الْأَيَّام فحفرت عَن قنواتها وتتبعت مَادَّة المَاء الْوَاصِل إِلَيْهَا فَإِذا عمل تِلْكَ القوادس وصنعة بنائها حَتَّى الكلس المفرغ عَلَيْهَا الْجَامِع بَينهَا مماثل لعمل قنوات مَبْنِيَّة بالسور الْمَذْكُور دَاخِلَة فِيهِ بِحَيْثُ بنى عَلَيْهَا يَوْم تأسيسه من غير
فَوق بَين هَذِه وَتلك فِي جَمِيع عملهما وَلَيْسَ بِشَيْء من القنوات الْحَادِثَة بعدهمَا يشبههما فَعلمت أَن الَّذِي بناهما وَاحِد فَأَعْجَبَنِي كَلَامه وباحثته فِي ذَلِك فصمم على معتقده وحاولت تشكيكه بِكُل وَجه فَلم يتشكك فَظهر لي صدق دَلِيله وَغلب على ظَنِّي مَا جزم بِهِ وَعند الله علم حَقِيقَة الْأَمر
وَاعْلَم أَن هَذَا السُّور من المباني العادية والهياكل الْعَظِيمَة الَّتِي تدل على فخامة الدولة وَكَمَال قوتها مثل مَا يُقَال عَن حنايا قرطاجنة وَنَحْوهَا وَهَذَا السُّور مسوق من عُيُون الْبركَة خَارج مَدِينَة سلا على أَمْيَال كَثِيرَة ممتدا من الْقبْلَة إِلَى الْجوف على أضخم بِنَاء وأحكمه مَوْزُون سطحه بالميزان الهندسي ليَأْتِي جَرَيَان المَاء فَوْقه على اسْتِوَاء وَلذَلِك ينخفض إِلَى الأَرْض مَتى ارْتَفَعت ويعلو عَنْهَا إِذا انخفضت وَيجْرِي على مَتنه من المَاء مِقْدَار النَّهر الصَّغِير فِي سَاقيه قد اتَّخذت لَهُ وَلما شَارف الْبَلَد عظم ارتفاعه جدا لأجل انخفاض الأَرْض عَنهُ وَكلما مر فِي سيره بطرِيق مسلوك فتحت لَهُ فِيهِ أقواس فَسُمي لذَلِك سور الأقواس وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ شَاهد لبانية بضخامة الدولة وَعظم الهمة
وللسلطان أبي الْحسن رحمه الله بفاس ومكناسة وَغَيرهمَا من بِلَاد الْمغرب آثَار كَثِيرَة فَمن آثاره بفاس بيلة الرخام الْأَبْيَض المجلوبة من المرية زنتها مائَة قِنْطَار وَثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ قِنْطَارًا سيقت من المرية الى مُوسَى العرائش ثمَّ طلعت فِي وَادي قصر كتامة ثمَّ حملت على عجل الْخشب تجرها الْقَبَائِل إِلَى منزل أَوْلَاد مَحْبُوب الَّذين على ضفة وَادي سبو فوسقت فِيهِ إِلَى أَن وصلت إِلَى ملتقاه مَعَ وَادي فاس ثمَّ حملت على عجل الْخشب أَيْضا يجرها النَّاس إِلَى أَن وصلت إِلَى مدرسة الصهريج الَّتِي بعدوة الأندلس ثمَّ نقلت مِنْهَا بعد ذَلِك بأعوام إِلَى مدرسة الرخام الَّتِي أَمر رحمه الله ببنائها جَوف جَامع الْقرَوِيين الْمَعْرُوفَة الْيَوْم بمدرسة مِصْبَاح ومصباح هَذَا هُوَ أَبُو الضياء مِصْبَاح بن عبد الله الياصلوتي الْفَقِيه الْمَشْهُور وَإِنَّمَا نسبت إِلَيْهِ لِأَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن لما بناها كَانَ أَبُو الضياء أول من تصدى للدرس بهَا فنسبت إِلَيْهِ وَقد تقدم لنا خبر الْمدرسَة الَّتِي بناها غربي جَامع الأندلس أَيَّام أَبِيه وَأنْفق عَلَيْهَا أَكثر من مائَة ألف دِينَار وَمن آثاره بمكناسة الزَّيْتُون الزاويتان القدمى والجديدة وَكَانَ بنى القدمى
فِي زمَان أَبِيه والجديدة حِين ولي الْخلَافَة وَله فِي هَذِه الْمَدِينَة عدَّة آثَار سوى الزاويتين من القناطر والسقايات وَغَيرهَا وَمن أجل ذَلِك الْمدرسَة الجديدة بهَا وَكَانَ قدم للنَّظَر على بنائها قاضيه على الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة وَلما تمّ بناؤها جَاءَ إِلَيْهَا من فاس ليقف عَلَيْهَا وَيرى عَملهَا وصنعتها فَقعدَ على كرْسِي من كراسي الْوضُوء حول صهريجها وَجِيء بالرسوم المتضمنة للتنفيذات اللَّازِمَة فِيهَا فغرقها من الصهريج قبل أَن يطالع مَا فِيهَا وَأنْشد
(لَا بَأْس بالغالي إِذا قيل حسن
…
لَيْسَ لما قرت بِهِ الْعين ثمن)
وَكَانَ لَهُ معرفَة بالشعر فَمن شعره قَوْله
(أرضي الله فِي سر وجهر
…
وأحمي الْعرض عَن دنس ارتياب)
(وَأعْطِي الوفر من مَالِي اخْتِيَارا
…
وأضرب بِالسَّيْفِ طلي الرّقاب)
وأخباره كَثِيرَة وَمن أَرَادَ الْوُقُوف على تفاصيلها فَعَلَيهِ بِكِتَاب الْخَطِيب بن مَرْزُوق الَّذِي أَلفه فِي دولته وَسيرَته وَسَماهُ الْمسند الصَّحِيح الْحسن من أَحَادِيث السُّلْطَان أبي الْحسن وَلما ذكر الْوَزير ابْن الْخَطِيب فِي كِتَابه رقم الْحلَل هَذَا السُّلْطَان وَصفه بقوله
(الْملك الْمَعْدُود من خير سلف
…
ومجموع القَوْل إِذا القَوْل اخْتلف)
(الدّين والعفاف وَالْجَلالَة
…
والعز وَالْقُدْرَة والجزالة)
(وَالْعلم والحلم وَفضل الدّين
…
وصفوه الصفوة من مرين)
(ممهد الْملك ومسدي المنن
…
وَوَاحِد الدَّهْر وفخر الزَّمن)
(باني المباني النخبة الشَّرِيفَة
…
بِمُقْتَضى همته المنيفة)
(وتارك الْمدَارِس الظريفة
…
شاهدة بِأَنَّهُ الْخَلِيفَة)
(وقاطع الدَّهْر بِغَيْر لَهو
…
فِي مجْلِس مُعظم أَو بهو)
(أما لتدريس وَعلم يدرس
…
أَو لبلاد من عَدو تحرس)
(أَو لأياد فِي عباد ثغرس
…
أَو لثواب ورضا يلْتَمس)
(أَو نسخ قُرْآن وَعرض حزب
…
أَو عدَّة معدة لِحَرْب)
وَمن أَعْيَان وزرائه عَامر بن فتح الله السدراتي وَعبد الله بن إِبْرَاهِيم
الفودودي وَمن أَعْيَان كِتَابه أَبُو مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ وَأَبُو مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي مَدين العثماني وَأَبُو الْحسن عَليّ بن القبايلي التينمللي رحم الله الْجَمِيع بمنه
ولنذكر مَا كَانَ من الْأَحْدَاث فِي هَذِه الْمدَّة
فَفِي سنة سَبْعمِائة أسس السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق تلمسان الجديدة الْمُسَمَّاة بالمنصورة حَسْبَمَا تقدم الْخَبَر عَنْهَا مُسْتَوفى
وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة كَانَ الْقَحْط بالمغرب فَاسْتَسْقَى النَّاس وَخرج السُّلْطَان أَبُو سعيد مَاشِيا على قَدَمَيْهِ لإِقَامَة سنة الاسْتِسْقَاء وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُور وَتَقَدَّمت أَمَامه الصلحاء وَالْفُقَهَاء والقراء يدعونَ الله تَعَالَى وَقدم بَين يَدي نَجوَاهُ صدقَات وَفرق أَمْوَالًا وَفِي يَوْم السبت بعده خرج فِي جنده إِلَى قبر الشَّيْخ أبي يَعْقُوب الْأَشْقَر بجبل الكندرتين فَدَعَا هُنَالك ورحم الله تَعَالَى عباده وغاث أرضه وبلاده
وَفِي سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الْحق الزرويلي الْمَعْرُوف بالصغير بِضَم الصَّاد وَفتح الْغَيْن وَكسر الْيَاء الْمُشَدّدَة قَالَ ابْن الْخَطِيب فِي الْإِحَاطَة وَكَانَ ربعَة آدم اللَّوْن خَفِيف العارضين يلبس أحسن زِيّ ويدرس بِجَامِع الأجدع من فاس يقْعد على كرْسِي عَال ليسمع الْقَرِيب والبعيد على انخفاض كَانَ فِي صَوته وَكَانَ حسن الإقراء وقورا صبورا ثبتا وَكَانَ أحد الأقطاب الَّذين تَدور عَلَيْهِم الْفتيا بالمغرب فَيحسن
التوقيع عَلَيْهَا على طَرِيق الِاخْتِصَار وَترك فضول القَوْل ولاه السُّلْطَان أَبُو الرّبيع الْقَضَاء بفاس وَشد عضده فَجرى فِي الْعدْل على صِرَاط مُسْتَقِيم
وَفِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الْأَزْدِيّ المراكشي الْمَعْرُوف بِابْن الْبناء الإِمَام الْمَشْهُور فِي علم التعاليم والهيئة والنجوم والأزياج وَغير ذَلِك وَكَانَ رحمه الله عز وجل مَعْرُوفا بِاتِّبَاع السّنة موسوما بِطَهَارَة الِاعْتِقَاد منعوتا بالصلاح وَكَانَ انتفاعه بِصُحْبَة الشَّيْخ أبي زيد الهزميري رضي الله عنه
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَسَبْعمائة فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا هبت ريح شَدِيدَة بفاس ومكناسة وأحوازهما وَاسْتمرّ هبوبها يَوْمَيْنِ وليلتين فعاقت عَن الْأَسْفَار وهدمت الدّور وقلعت الْأَشْجَار
وَفِي سنة ثَلَاث وَعشْرين بعْدهَا فِي الْمحرم مِنْهَا جرت الْعين الموالية للمشرق من عُيُون صنهاجة بأحواز فاس بِدَم عبيط من وَقت الْعَصْر إِلَى نصف اللَّيْل ثمَّ عَادَتْ إِلَى حَالهَا وفيهَا كَانَ الْمَطَر الْعَظِيم والثلج الْكثير بالمغرب وَعدم الفحم والحطب حَتَّى بيع الفحم بفاس بِدِرْهَمَيْنِ للرطل وَفِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا احْتَرَقَ سوق العطارين الْكُبْرَى بفاس فجدده السُّلْطَان أَبُو سعيد من بَاب مدرسة العطارين إِلَى رَأس عقبَة الجزارين وَعقد عَلَيْهِ هُنَالك بَابا ضخما وأفرده للعطارين دون غَيرهم
وَفِي سنة أَربع وَعشْرين وَسَبْعمائة كَانَت المجاعة بالمغرب وَارْتَفَعت الأسعار فِي جَمِيع الْبِلَاد فَبلغ الْمَدّ من الْقَمْح بفاس خَمْسَة عشر درهما والصحفة مِنْهُ تسعين دِينَارا وغلا الإدام وعدمت الْخضر بأسرها وكسى السُّلْطَان أَبُو سعيد وَأطْعم فِي هَذِه المسغبة شَيْئا كثيرا ودام ذَلِك إِلَى قرب منتصف السّنة بعْدهَا وفيهَا فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر رَمَضَان مِنْهَا نَشأ خَارج فاس من جِهَة جوفيها سَحَاب عَظِيم وظلمة شَدِيدَة ورياح عَاصِفَة أعقب ذَلِك برد كثير عَظِيم الجرم تزن الْوَاحِدَة مِنْهُ ربع رَطْل وَأَقل وَأكْثر وَنزل فِي خلاله مطر وابل جَاءَت مِنْهُ السُّيُول طامية حملت النَّاس وَالدَّوَاب وأهلكت جَمِيع مَا بجبل زالغ من الكروم وَالزَّيْتُون وَسَائِر الشّجر
وَفِي سنة خمس وَعشْرين بعْدهَا لَيْلَة الْجُمُعَة السَّادِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى مِنْهَا دخل السَّيْل الْعَظِيم مَدِينَة فاس وَكَاد يَأْتِي عَلَيْهَا بِحَيْثُ هدم الدّور والمساجد والأسواق وَأهْلك آلافا من الْخلق حَتَّى خيف على الْبَلَد التّلف
وَفِي سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة انْتهى تَارِيخ ابْن أبي زرع الْمُسَمّى بالأنيس الْمغرب القرطاس فِي أَخْبَار مُلُوك الْمغرب وتاريخ مَدِينَة فاس وَمِمَّا هُوَ الْغَايَة فِي بَاب الأغراب مَا ذكره ابْن خلدون قَالَ حضر أشياخنا بِمَجْلِس السُّلْطَان أبي الْحسن وَقد رفع إِلَيْهِ امْرَأَتَانِ من أهل الجزيرة الخضراء ورندة حبستا أَنفسهمَا عَن الْأكل جملَة مُنْذُ سِنِين وشاع أَمرهمَا وَوَقع اختبارهما فصح شَأْنهمَا واتصل على ذَلِك حَالهمَا إِلَى أَن ماتتا وذكرهما أَيْضا الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمقري فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالمحاضرات قَالَ وَردت على تلمسان فِي الْعشْرَة الْخَامِسَة من الْمِائَة الثَّامِنَة امْرَأَة من رندة لَا تَأْكُل وَلَا تشرب وَلَا تبول وَلَا تتغوط وتحيض فَلَمَّا اشْتهر هَذَا من أمرهَا أنكرهُ الْفَقِيه أَبُو مُوسَى ابْن الإِمَام وتلى كَانَا يأكلان الطَّعَام فَأخذ النَّاس يبثون ثِقَات نِسَائِهِم ودهاتهن إِلَيْهَا فكشفوا عَنْهَا بِكُل وَجه يمكنهن فَلم يَقِفن على غير مَا ذكر وسئلت هَل تشتهين الطَّعَام فَقَالَت هَل تشتهون التِّبْن بَين يَدي الدَّوَابّ وسئلت هَل يَأْتِيهَا شَيْء فَأخْبرت أَنَّهَا صَامت ذَات يَوْم فأدركها الْجُوع والعطش فنامت فَأَتَاهَا آتٍ فِي النّوم بِطَعَام وشراب فَأكلت وشربت فَلَمَّا أفاقت وجدت نَفسهَا قد استغنت فَهِيَ على تِلْكَ الْحَال تُؤْتى فِي الْمَنَام بِالطَّعَامِ وَالشرَاب إِلَى الْآن وَلَقَد جعلهَا السُّلْطَان فِي مَوضِع بقصره وحفظها بالعدول وَمن يكْشف عَمَّا عَسى تَجِيء أمهَا بهَا إِذا أَتَت إِلَيْهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلم يُوقف لَهَا على أَمر قَالَ بيد أَنِّي أردْت أَن يُزَاد فِي عدد الْعُدُول وَيضم إِلَيْهِم الْأَطِبَّاء وَمن يَخُوض فِي المعقولات من عُلَمَاء الْملَل الْمُسلمين وَغَيرهم ويوكل من نسَاء الْفرق من يُبَالغ فِي كشف من يدْخل إِلَيْهَا وَلَا يتْرك أحدا يَخْلُو بهَا وَبِالْجُمْلَةِ يُبَالغ فِي ذَلِك ويستدام رعيها عَلَيْهِ سنة لاحْتِمَال أَن يغلب عَلَيْهَا طبع فتستغني فِي فصل دون فصل ثمَّ يكْتب هَذَا فِي الْعُقُود ويشاع أمره فِي الْعَالم وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يهدم حكم الطبيعة الَّذِي
رحمهمَا الله لَكِن حكى ابْن الْأَثِير أَن سُلَيْمَان لما حَضرته الْوَفَاة عزم أَن يعْهَد لِابْنِ لَهُ صَغِير فوعظه رَجَاء بن حَيْوَة فَرجع عَن ذَلِك وشاوره فِي ابْنه دَاوُد وَكَانَ غازيا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَقَالَ لَهُ رَجَاء لَا تَدْرِي أَحَي هُوَ أم ميت فَحِينَئِذٍ رَجَعَ إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز رضي الله عنه وَأما الْمَعْهُود إِلَيْهِ فَإِن فِي الْعَهْد إِلَيْهِ دون الْأَبْنَاء وَالإِخْوَة شَاهدا عدلا على كَمَال فَضله وإحرازه لخلال الْخَيْر وتبريزه فِيهَا على من عداهُ من بني أَبِيه وعشيرته ولعمري أَن ذَلِك لكذلك فَإِن الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رحمه الله قد اشتهرت ديانته وأمانته عِنْد القاصي والدان حَتَّى صَار لَا يخْتَلف فِي عَدَالَته اثْنَان
تمّ الْجُزْء الثَّامِن ويليه الْجُزْء التَّاسِع وأوله الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام
(لَا زلت فِي نعم تدوم ونصرة
…
وسعادة لَا زلت أَنْت الأكبرا)
(لَا زلت فِي حلل الْعِنَايَة رافلا
…
لَا زلت فِي ملك كَبِير أبهرا)
وَاعْلَم أَن الأمداح فِي جناب هَذَا الْملك الْجَلِيل الشريف الْأَصِيل كَثِيرَة والقصائد المفصحة عَن علو قدره وشموخ مجده وفخره شهيرة خطيرة لَا سِيمَا لِأَصْحَابِنَا السلاويين مِمَّن ذَكرْنَاهُ مِنْهُم وَمِمَّنْ لم نذكرهُ وَلَوْلَا خوف الإطالة لأثبتنا من ذَلِك مَا يزرى بالحبر ويفصح بالذكرى والعبر وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة وَالله يَجْزِي كلا بنيته وخلوص طويته
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا تَجَدَّدَتْ الشُّرُوط بَين السُّلْطَان أعزه الله وَبَين أَجنَاس الفرنج فِي سَبِيل تَأْكِيد المهادنة وجلب نفع التِّجَارَة وَكَانَ من جُمْلَتهَا أَن النَّصَارَى وَأهل حمايتهم يلزمون بغرامة الْوَظَائِف المخزنية الْمرتبَة على الْأَبْوَاب كَسَائِر رعية السُّلْطَان وَقدر ذَلِك الوظيف سِتَّة بلايين لكل حمل وَفِي هَذِه الْمدَّة الَّتِي هِيَ أواسط السّنة الْمَذْكُورَة أَخذ السُّلْطَان أعزه الله فِي التأهب للحركة والنهوض من مكناسة الزَّيْتُون قَاصِدا حَضْرَة مراكش الْحَمْرَاء فاحتلها فِي آخر السّنة الْمَذْكُورَة وَعِيد بهَا عيد الْأَضْحَى
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا تحرّك السُّلْطَان أعزه الله لغزو بِلَاد السوس الْأَقْصَى فَأخذ فِي التأهب والاستعداد لذَلِك وَأمر قبائل دكالة وتامسنا بِحمْل الْقَمْح وَالشعِير والتبن إِلَى مرسى الجديدة ومرسى الدَّار الْبَيْضَاء ليحمل مِنْهُمَا فِي المراكب إِلَى سَاحل السوس الْأَقْصَى بِقصد إرفاق الْجَيْش وإعانته وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن جنس الإصبنيول كَانَ متشوفا لتملك بعض المراسي السوسية مُنْذُ انْعِقَاد الْهُدْنَة مَعَه عقب حَرْب تطاوين وَكَثِيرًا مَا كَانَت مراكبه الحربية والتجارية تَتَرَدَّد إِلَى تِلْكَ النواحي فيستهوي أَهلهَا بِأَسْبَاب التِّجَارَة ونيل الأرباح فَرُبمَا سكنوا إِلَيْهِ وَرُبمَا نفروا مِنْهُ وَتكلم السُّلْطَان أعزه الله مَعَ كبرائهم فِي ذَلِك فاحتجوا بِأَن صلح تطاوين كَانَ منعقدا على فتح بعض المراسي السوسية وَأَنَّهُمْ الْآن قد عزموا على الْأَخْذ بشرطهم
الْمَذْكُور وَإِلَّا أفْضى الْحَال إِلَى مَا لَا يَلِيق فَرَأى السُّلْطَان أعزه الله أَن من الْوَاجِب أَن ينْهض إِلَى تِلْكَ الْبِلَاد ليباشر أمرهَا بِنَفسِهِ لَا سِيمَا وَكَانَ أَهلهَا قد بعد عَهدهم بإجراء الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة فِيمَا بَينهم على مقتضياتها فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة فَانْتهى مِنْهَا إِلَى قرب وَادي نول ومهد أقطارها وَولى على أَهلهَا الْقُضَاة والعمال وَاتخذ هُنَاكَ مرسى للوسق والوضع تسمى آساكا وَكتب فِي ذَلِك كتابا لولاة الْمغرب يَقُول فِيهِ بعد الِافْتِتَاح أما بعد فَإنَّا لما نهضنا من مراكش بحول الله وقوته وسطوته الباهرة وصولته وجيوش الله المظفرة موفورة وَجُنُوده سُبْحَانَهُ مقطورة وأعلامها منشورة منصورة نهضة مُعْتَمد على مَوْلَاهُ متقلد لما قذف فِي قلبه فأبداه متمسك بعروته الوثقى الَّتِي من استمسك بهَا بلغ مناه وانتهينا بمعونة الله لمبدأ هَذِه الأقطار السوسية وامتطينا صهوتها وَهِي ذلولا فِي ربوع الْيمن ساعيه وبنود الله خافقة على مفارق الظفر وبذرى الْمجد سامية تواردت على حضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه الْوُفُود متناسقة متتابعة وانتظمت فِي سلك السّمع وَالطَّاعَة والخدمة الجامعة فتسارعوا إِلَى مَا إِلَيْهِ دعوا وتلقوه تلقي الظمآن فنهلوا وكرعوا وأوقدوا لوفود كبرائهم وأعيانهم وأشياخهم مصباحا واستضاؤوا بضياء نور الله غدوا ورواحا ومدوا أَعْنَاق الإذعان وبسطوا أَيدي المسالمة والإبقاء عَلَيْهِم والامتنان بعد مَا كَانَت قد بلغت مِنْهُم الْقُلُوب الْحَنَاجِر وارتعدت فرائصهم من هَيْبَة الله ثمَّ اطْمَأَن الْبر وشرق الْفَاجِر وانتهبت أجفان المراسم المخزنية الَّتِي عفت بعد نومتها فَانْظُر إِلَى أثر رَحْمَة الله كَيفَ يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا وصرفنا إِلَيْهِم عنان التَّرْتِيب بعد أَن وطأنا لَهُم كنف الترحيب فبوأنا من توسمنا فِيهِ الْأَهْلِيَّة للتولية على إخوانه مهادا وقلدناه أَمرهم جمعا وفرادى وضربنا للْكُلّ فِيهَا على مُقْتَضى السياسة بمعونة الله بِسَهْم مُصِيب وأرعيناه من مربع خدمتنا الشَّرِيفَة المرعى الخصيب حَتَّى وَقع التَّمَكُّن من أزمتهم وأجلسنا خاصتهم وعمالهم على أسرتهم فاتصلت بهم المخزنية اتِّصَال الْأَرْوَاح بالأجساد واستنارت هَذِه الأرجاء بِنور الله اسْتِنَارَة عَمت الْحَاضِر والباد فأدوا من الطّرف والهدايا مَا فِيهِ غنية لمن ركب متن المزايا
مَعَ كَون الْبِلَاد لم تنْكح بالمخزن مُدَّة من السنين تنيف على عدد السِّتين وَلَو لم ننل من هَذ الْفتُوح الباهرة بِفضل الله إِلَّا عشرا لَكَانَ فِي جنب من قدم عَهده بالمخزنية كثرا ولكان مَا عودنا سُبْحَانَهُ إِلَّا الْجَمِيل إِذْ هُوَ الْمُتَصَرف الْغَنِيّ القاهر الْقوي الْكَفِيل وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل ثمَّ ولينا عَلَيْهِم من الْقُضَاة من فيهم الْكِفَايَة لإِقَامَة شرائع الدّين وَلم نأل جهدا فِي انتخابهم من أمثل المقلدين علما بِأَن الشَّرْع عَلَيْهِ المبنى وَبِه يعمر المغنى ويغزر الْحس وَالْمعْنَى ثمَّ تطارح شرفاؤهم ومرابطوهم على أَعلَى جنابنا بإقرارهم على عوائدهم وإبقائهم على أعرافهم ومحاتدهم الَّتِي عِنْدهم عَلَيْهَا ظهائر أسلافنا المقدسين أَئِمَّة الْمُسلمين وأمراء الْمُؤمنِينَ وَكَذَا ظهائر من غبر من الْمُلُوك الْمُتَقَدِّمين رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فانتهجنا نهجهم وسمكنا بحول الله أوجهم وساعدناهم فأقررنا وجددنا لكل ظهيره وأجريناه على مَا أسس لَهُ من الْمجد وجعلناه نجيه وسميره وَحَيْثُ كَانَ الْقَصْد الأهم من هَذِه الوجهة الْمُبَارَكَة هُوَ حماية ذمار هَؤُلَاءِ الْمُسلمين والدفاع عَن بِلَادهمْ ورقابهم وَأَمْوَالهمْ مِمَّا طمحت إِلَيْهِ نفوس المؤملين وَكَانَ ملاك ذَلِك هُوَ فتح المرسى بوادي نول بِمحل يُسمى آساكا بِأَرْض قبيلتي تكنة وآيت باعمران إِذْ بِفَتْحِهَا يَسْتَقِيم أَمر الدفاع ويسهل على أهل ذَلِك الْمحل البيع والابتياع يَقِينا بِأَن سد أَبْوَاب الضَّرَر من الْأَمر المحتوم وإرشاد الضال فِي الشَّرْع من الْمُقَرّر الْمَعْلُوم تسابق القبيلتان المذكورتان اللَّتَان تلقيتا جنابنا العالي حِين عبرنا وَادي والغاس وقصدنا بجيوش الله بِلَادهمْ قصد طَبِيب آس فتلقوا رِكَابنَا السعيد بِمحل يعرف بآمصاو قرب مرسى تسمى باكلو إِذْ هُوَ الطّرف الموَالِي لآيت باعمران الْمُسَمّى بالسَّاحل وَإِلَيْهِ شدت هَذِه المراحل وَبَين آمصاو وَمحل المرسى الَّذِي أُرِيد فَتحه مرحلتان وبثلاث عشرَة سَاعَة ميقاتية مقدرتان فَأتوا بشرفائهم وفقهائهم ومرابطيهم وأعيانهم وأشياخهم المالكين لقيادهم فقوبلوا بِمَا قوبل بِهِ أمثالهم وناسب أَن يَتَّصِف بِهِ حَالهم ثمَّ ولينا عَلَيْهِم عدَّة من الْعمَّال جعلناهم بحول الله عدَّة فِي تِلْكَ الْأَعْمَال وَحِينَئِذٍ وَقع الْكَلَام مَعَهم فِي شَأْن المرسى فامتثلوا مَا أمرناهم بِهِ من فتحهَا امْتِثَال
من أضحى يتقلب فِي رضَا الله وَرَسُوله وَأمسى ثمَّ وجهنا مَعَهم سَرِيَّة من أَعْيَان الْجَيْش مُعْتَبرَة وَمَعَهُمْ من الْفُقَهَاء والمهندسين من يعْتد بهم فِي رسم تِلْكَ المرسى وتخطيطها على نهج الْقَوَاعِد المقررة والأعمال المحررة اقْتضى الْمقَام وَالْحَال تسبيقها رفقا بعباد الله واعتبارا بِأَن الله سُبْحَانَهُ قد قضى الْغَرَض ووهبه وأسداه وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله قل إِن الْفضل بيد الله وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله ثمَّ أَقَمْنَا فِي الْمحل الْمَذْكُور لانتظارهم فِي تشييد منارهم فَإِن انقلبوا بِالْمَقْصُودِ فَالْحَمْد لله الَّذِي بنعمته تتمّ الصَّالِحَات وَإِن لم يشفوا الغليل شددنا بحول الله لذَلِك المرسى عَزمَات الرحيل وقطعنا تِلْكَ المفازات هَذَا وَقد نصبنا قائدا من قواد جيشنا السعيد مُخْتَارًا من ذَوي الرَّأْي السديد وأقمناه بقصبة تيزنيت مَحل المخزن فِي الْقَدِيم بِقصد أَن يكون إِعَانَة لسَائِر عُمَّال الْقطر السُّوسِي من وَادي والغاس إِلَى مُنْتَهى وَادي نول وكليميم يتفاوضون مَعَه فِيمَا عَسى أَن يعرض لَهُم من الْمُهِمَّات وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ المخزن بَعيدا عَن هَذِه الشرفات بعد مَا عرفناهم بِأَنا أقمناه مشرفا للتفاوض مَعَه وبصيرة على مَا قصدنا من فتح ذَلِك المرسى إيثارا للنعمى ودفعا للبؤسى فَفَرِحُوا بذلك فَرح الظمآن الْوَارِد والضال الْوَاجِد وَوَقع الْإِشْهَاد عَلَيْهِم بِكُل مَا فصلناه وأبرم عقده مَعَهم على نَحْو مَا رسمناه فَكَانَ ذَلِك تَمام الْعَمَل الَّذِي قصدناه والمورد الَّذِي أردناه وانتحيناه وَالله تَعَالَى يخلص فِي ذَاته الْعَمَل وَيجْعَل هَذِه الوجهة الْمُبَارَكَة بفضله ومنته من الْجِهَاد المتقبل إِنَّه جواد كريم متفضل غَنِي حَلِيم وَالسَّلَام فِي متم شعْبَان عَام تِسْعَة وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف انْتهى كتاب السُّلْطَان أيده الله
وَفِي أَوَاخِر صفر سنة اثْنَتَيْنِ وثلاثمائة وَألف قَامَ نواب الإصبنيول من مراسي الْمغرب الْأَقْصَى بعد أَن أَقَامُوا بهَا نيفا وَعشْرين سنة لِاسْتِيفَاء مَا وَقع الصُّلْح عَلَيْهِ فِي حَرْب تطاوين وَكَانَ جملَة المَال الْمصَالح عَلَيْهِ عشْرين مليونا من الريال الْكَبِير وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله قد دفع مِنْهُ عشرَة ملايين مُعجلَة وَالْعشرَة الْبَاقِيَة هِيَ الَّتِي استوفاها الإصبنيول فِي الْمدَّة الْمَذْكُورَة أَقَامَ أمناءه مَعَ أُمَنَاء السُّلْطَان بمراسي الْمغرب
فَكَانَ كل فريق يَسْتَوْفِي نصف الدَّاخِل حَتَّى تمّ الْعَمَل وَفِي صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الشَّيْخ الْمنور الذاكر الخاشع أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْهَاشِمِي الطَّالِبِيُّ من صلحاء أهل سلا وَكَانَت وَفَاته فَجْأَة تعشى تِلْكَ اللَّيْلَة عشَاء خَفِيفا على عَادَته وَصلى الْعشَاء وتلا أوراده مُنْفَردا فِي بَيته كَمَا كَانَ يفعل ثمَّ أصبح مَيتا من غير أَن يحضرهُ أحد وَكَانَ قد ناهز الثَّمَانِينَ وشاخ وابيضت لحيته وَرَأسه وَحضر جنَازَته الجم الْغَفِير من أهل العدوتين سلا والرباط وازدحموا على نعشه وتناوبوه تبركا بِهِ وَصلى عَلَيْهِ بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم من سلا عقب صَلَاة الظّهْر وَدفن بِالْبَيْتِ القبلي من دَاره وَتردد الطّلبَة إِلَى قَبره مُدَّة لقِرَاءَة الْقُرْآن والبردة وَغَيرهَا من الأمداح وَعظم مصاب النَّاس بِمَوْتِهِ وَكَيف لَا وَقد كَانَ مِصْبَاح العدوتين بل وَغَيرهمَا فِي زَمَانه مَعَ مَا اكرمه الله تَعَالَى بِهِ من التَّوَاضُع وَحسن الْخلق ولين الْجَانِب مَعَ النَّاس بِحَيْثُ لم يعْهَد ذَلِك وَلم يرو إِلَّا عَن السّلف الصَّالح وَمن سلك سبيلهم من أمثالهم رضي الله عنهم وَكَانَ مَجْلِسه مجْلِس علم وحياء وَوعظ وَذكر للأولياء وَالصَّالِحِينَ وسيرهم وأخبارهم لَا يسمع فِي مَجْلِسه لَغْو وَلَا خوض فِي دنيا إِنَّمَا هُوَ سرد الْأَحَادِيث وأخبار الصَّالِحين وَنَحْو ذَلِك محافظا على الصَّلَوَات وَقيام اللَّيْل والأذكار وبذل الْمَعْرُوف وَالْأَمر بِهِ مَا أمكن وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ فِي سيرته وأخلاقه على مُقْتَضى السّنة النَّبَوِيَّة وآثار السّلف الصَّالح رضي الله عنهم ونفعنا بمحبتهم ومحبة أمثالهم آمين وَبعد غرُوب الشَّمْس من لَيْلَة الْجُمُعَة فاتح ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة البارع أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْمدنِي كنون عَالم فاس وَالْمغْرب وَصلى عَلَيْهِ عقب صَلَاة الْجُمُعَة بِجَامِع الأندلس من فاس حرسها الله وَدفن بالموضع الْمَعْرُوف بالقباب وَكَانَ رحمه الله فَقِيها عَالما متضلعا قولا بِالْحَقِّ صادعا بِهِ لَا يهاب فِي ذَلِك كَبِيرا وَلَا صَغِيرا وَلَقَد امتحن فِي ذَلِك من قبل السُّلْطَان فَلم يفل ذَلِك من غربه وَلم يوه من صرامته وَلَا حَده وَله عدَّة تآليف من أحْسنهَا اخْتِصَار حَاشِيَة الرهوني على مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل جدد الله عَلَيْهِ الرحمات آمين
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وثلاثمائة وَألف فَفِي لَيْلَة الْعشْرين من صفر مِنْهَا وَقع فِي النُّجُوم تناثر كَبِير وَرمي شَدِيد تشريقا وتغريبا وَغير ذَلِك على خلاف الْمُعْتَاد حَتَّى لقد أذكرت قَول بشار بن برد الْأَعْمَى فِي وصف الْحَرْب
(كَأَن مثار النَّقْع فَوق رؤوسنا
…
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه)
ودام ذَلِك من وَقت الْغُرُوب إِلَى نصف اللَّيْل وَفِي هَذِه الْأَيَّام كَانَت بَين جيوش الرجل الْمَنْصُور الْقَائِم بِبِلَاد الْحَبَشَة والنوبة المتسمي بالمهدي وَبَين جَيش النجليز حروب عَظِيمَة بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا وَكَانَ للمهدي الْمَذْكُور على النجليز غَايَة النَّصْر والظهور وَلَوْلَا أَن التَّعَرُّض لخبره لَيْسَ من مَوْضُوع الْكتاب لشرحت ذَلِك فَإِن أمره عَجِيب جدا وَفِي أواسط ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة ورد أَمر السُّلْطَان أيده الله بتسريح مَا كَانَ موظفا على أَبْوَاب المدن والقرى مِمَّا كَانَت تُؤَدِّيه الْعَامَّة على أحمال السّلع والتجارات من المكوس وَكتب فِي ذَلِك إِلَى عَامل سلا وقته بِمَا نَصه بعد الِافْتِتَاح والطابع الْمُشْتَمل على اسْم السُّلْطَان أيده الله خديمنا الأرضى الْحَاج مُحَمَّد بن سعيد السلاوي وفقك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله وَبعد فقد شرح الله صدرنا لرفع الْعَطاء فِي سَائِر الْأَبْوَاب بالمدن والمراسي عَن كل مَا يمر بِهِ عَلَيْهَا دَاخِلا وخارجا وأصدرنا أمرنَا الشريف لأمين المستفادات بثغر سلا المحروس بِاللَّه كَغَيْرِهِ بإنهاض المشترين لأبوابه الجالسين للقبض بهَا والمتصرفين فِي شؤونها لحَال سبيلهم وإعمال الْحساب مَعَ مشتريها الْمَذْكُورين على مَا تصرفوا فِيهِ إِلَى يَوْم الإنهاض وتوجيه الْقَائِمَة بذلك لحضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه وَغير الْأَبْوَاب من الْأَمَاكِن الْمُعْطى فِيهَا وَعَلَيْهَا تبقى على حَالهَا حَتَّى نَنْظُر فِي أمرهَا بحول الله وأعلمناك لتَكون على بَال وَالسَّلَام فِي ثَانِي ربيع الأول عَام ثَلَاثَة وثلاثمائة وَألف وَلما ورد هَذَا الْكتاب فَرح النَّاس بِهِ ودعوا للسُّلْطَان بالنصر والتأييد من خَالص نياتهم نطلب الله تَعَالَى أَن يتمم نعْمَته على الْمُسلمين بتسريح مَا بَقِي موظفا من مبيعات الْأَسْوَاق ويريح النَّاس من شؤمه فَإِنَّهُ لَا شَيْء أشأم من هَذِه المكوس على الدول نسْأَل الله الْعَافِيَة وَفِي عَاشر جُمَادَى الثَّانِيَة من
السّنة الْمَذْكُورَة خرج السُّلْطَان مولَايَ الْحسن أيده الله من حَضْرَة مراكش غازيا بِلَاد السوس الْأَقْصَى وَمَا وَرَاءَهَا من عرب معقل وَسَائِر قبائل الصَّحرَاء لما بلغه من اضْطِرَاب الرعايا بِتِلْكَ الْبِلَاد وخروجهم على ولاتهم وَأَن بعض تجار النجليز قد تسور على مرسى بِتِلْكَ السواحل يُسمى طرفاية وَوصل يَده فِي البيع وَالشِّرَاء بِبَعْض الْقَبَائِل الَّذين هُنَاكَ وَأَرَادَ أَن يَبْنِي بِالْمحل الْمَذْكُور فَنَهَضَ السُّلْطَان أيده الله لحسم مَادَّة هَذَا الْفساد وَلما توَسط بِلَاد السوس وَأصْلح أحوالها وثقف أطرافها كتب كتابا إِلَى وُلَاة الْمغرب يَقُول فِيهِ بعد الِافْتِتَاح مَا نَصه وَبعد فَإنَّا بحول الله الْقوي الْمعِين الفاتح لما اغلق كَمَا يَشَاء فِي الْحِين أَو بعد حِين الْمُؤَيد بعنايته عَبده فِي كل مصدر ومورد وتحريك وتسكين كتبنَا إِلَيْكُم هَذَا يَوْم حلولنا وسط خدامنا قبائل آيت باعمران بحبوحة مجامع قبائل السوس الْأَقْصَى ومناخ الْأَعْيَان نعلمكم بِمَا وَاجَهنَا الْمولى سُبْحَانَهُ فِي هَذِه الْحَرَكَة الْمُبَارَكَة من تعاقب المنن والأيادي وابتسام ثغر الزَّمَان بِمَا أملناه من الْعلي المنان فِي هَذَا النادي لِتَعْلَمُوا أَن الله على كل شَيْء قدير وَبِيَدِهِ مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْوَلِيّ والنصير والسميع والبصير فَكَانَ من أَمر هَذِه الْقَبَائِل السوسية والقساملة الساحلية أَن تلقوا رِكَابنَا السعيد أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا ناشرين أَعْلَام الْفَرح تجاه جيوش الله المظفرة سري وإدلاجا حاشدين جموعهم مصحوبة بأعيانهم وَمن يعْتد بِهِ من فقهائهم وشرفائهم ومرابطيهم من غير أَن يكون جمعهم خداجا مستنتجين للفوز بخاطرنا الشريف مُقَدمَات الِامْتِثَال والسمع وَالطَّاعَة لله وَلِرَسُولِهِ استنتاجا مقدمين بَين يديهم هداياهم متترسين بأبنائهم وإخوانهم وسراياهم مادين أَعْنَاق الِامْتِثَال عاضين بالنواجذ على الْخدمَة وَصَالح الْأَعْمَال فَأتوا بمؤنتهم على قدر الِاسْتِطَاعَة ومهدوا لسلوك الْجَيْش السعيد مَا صَعب من طرقهم حَتَّى صَارَت مسلوكة مشاعة وَنحن فِي كل ذَلِك نعاملهم بالبرور ونبسط الْبشر إِلَيْهِم ونقابلهم بِمَا ارتسم فيهم من السرُور وَهَا نَحن بحول الله جادون فِي الخلوص إِلَى الْمَقْصد الَّذِي لأَجله نقلنا هَذِه الخطوات واستعملنا