الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عتاق الْخَيل المقربات بسروج الذَّهَب وَالْفِضَّة ولجمها خَالِصا ومغشى ومموها وَخَمْسمِائة حمل من مَتَاع الْمغرب وماعونه وأسلحته وَمن نسج الصُّوف الْمُحكم ثيابًا وأكسية وبرانس وعمائم وإزرا معلمة وَغير معلمة وَمن نسج الْحَرِير الْفَائِق الْمعلم بِالذَّهَب ملونا وَغير ملون وساذجا ومنمقا وَمن الدرق المجلوبة من بِلَاد الصَّحرَاء المحكمة الدبغ المنسوبة إِلَى الملط وَمن خرثي الْمغرب وَمَا عونة مَا تستطرف صناعته بالمشرق حَتَّى لقد كَانَ فِيهَا مَكِيل من حَصى الْجَوْهَر والياقوت واعتزمت حظية من حظايا أَبِيه على الْحَج فِي ذَلِك الركب فَأذن لَهَا واستبلغ فِي تكرمتها واستوصى بهَا وفده وسلطان مصر فِي كِتَابه وفصلوا من تلمسان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة ووصلوا إِلَى مصر فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وأدوا رسالتهم إِلَى الْملك النَّاصِر وَقدمُوا هديتهم إِلَيْهِ فقبلها وَحسن موقعها لَدَيْهِ وَكَانَ يَوْم وفادتهم عَلَيْهِ بِمصْر يَوْمًا مشهودا تحدث النَّاس بِهِ دهرا ولقاهم سُلْطَان مصر فِي طريقهم أَنْوَاع الْبر والكرامة حَتَّى قضوا فرضهم وَوَضَعُوا الْمُصحف الْكَرِيم حَيْثُ أَمرهم صَاحبه وأسنى الْملك النَّاصِر هَدِيَّة السُّلْطَان من الفساطيط المشرقية الغريبة الشكل والصنعة بالمغرب وَمن ثِيَاب الْإسْكَنْدَريَّة البديعة النسج المرقومة بِالذَّهَب ورجعهم بهَا إِلَى مرسلهم وَقد استبلغ فِي تكرمتهم وصلتهم وَبَقِي حَدِيث هَذِه الْهَدِيَّة مَذْكُورا بَين النَّاس لهَذَا الْعَهْد اه كَلَام ابْن خلدون بِبَعْض إِيضَاح
وَقد ذكر الإِمَام الْخَطِيب أَبُو عبد الله بن مَرْزُوق فِي كِتَابه الْمسند الصَّحِيح الْحسن من أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن هَذِه الْهَدِيَّة وَفصل مِنْهَا بعض مَا أجمله إِبْنِ خلدون فَقَالَ أرسل السُّلْطَان أَبُو الْحسن للناصر بن قلاوون صَاحب الديار المصرية من أَحْجَار الْيَاقُوت الْعَظِيم الْقدر وَالثمن ثَمَانمِائَة وَخَمْسَة وَعشْرين وَمن الزمرد مائَة وَثَمَانِية وَعشْرين وَمن الزبرجد مائَة وَثَمَانِية وَعشْرين وَمن الْجَوْهَر النفيس الملوكي ثَلَاثمِائَة وَأَرْبَعَة وَسِتِّينَ وَأرْسل حللا كَثِيرَة مِنْهَا مذهبَة ثَلَاثَة عشر وَمن الأنان عشْرين مذهبَة وَمن الخلادي سِتَّة وَأَرْبَعين وَمن القنوع سِتَّة وَعشْرين مذهبَة وَمن المحرارت المختمة ثَمَانمِائَة وَمن الرصان عشْرين شقة وَمن الأكسية المحررة أَرْبَعَة وَعشْرين وَمن
البرانس المحررة ثَمَانِيَة عشر وَمن المشقفات مائَة وَخمسين وَمن أحارم الصُّوف المحررة عشْرين وَمن شقق الملف الرفيع سِتَّة عشر وَمن الفضالي المنوعة والفرش والمخاد المنبوق وَالْحلَل ثَمَانمِائَة وَمن أوجه اللحف المذهبة عشْرين وحائطين حلَّة وحنابل مائَة واثني عشر كلهَا حَرِير وفرش جلد مخروز بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَمن السيوف المحلات بِالذَّهَب المنظم بالجوهر عشرَة والسروج عشرَة بركب الذَّهَب كَذَلِك ومهاميز الذَّهَب وَثَلَاثَة ركب فضَّة وَسِتَّة مزججة ومذهبة ومضمتان من ذهب مِمَّا يَلِيق بالملوك وشاشية حَدِيد بِذَهَب مكلل بالجوهر وَمن لزمات الْفضة عشرَة وسروج مخروزة بِالْفِضَّةِ عشرَة وَعشر عَلَامَات مغشاة مذهبَة وَعشر رايات مذهبَة وَعشر براقع مذهبَة وَعشر أَمْثِلَة مرقومة وَثَلَاثُونَ جلدا شرك وَأَرْبَعَة آلَاف درقة لمط مِنْهَا مِائَتَان بنهود الذَّهَب وَثَمَانمِائَة بنهود الْفضة وخباء قبَّة كَبِيرَة من مائَة بنيقة لَهَا أَرْبَعَة أَبْوَاب وقبة أُخْرَى مضربة من سِتّ وَثَلَاثِينَ بنيقة مبطنة بحلة مذهبية وَهِي من حَرِير أَبيض ومرابطها حَرِير ملون وعمودها عاج وآبنوس وأكبارها من فضَّة مذهبَة وَمن البزات الْأَحْرَار المنتقات أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ وَمن عتاق الْخَيل العراب ثَلَاثمِائَة وخمسا وَثَلَاثِينَ وَمن البغال الذُّكُور وَالْإِنَاث مائَة وَعشْرين وَمن الْجمال سَبْعمِائة وتوجهت مَعَ هَذِه الْهَدِيَّة أُمَم برسم الْحَج مَعَ الربعة المكرمة يَعْنِي ربعَة الْمُصحف الْكَرِيم وَأعْطى السُّلْطَان الْحرَّة أم أُخْته أم ولد أَبِيه مَرْيَم ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة ذَهَبا ولقاضي الركب ثَلَاثمِائَة وَكِسْوَة ولقائد الركب أَرْبَعمِائَة وكساوى مُتعَدِّدَة وبغلات وَلِلرَّسُولِ الْمعِين للهدية ألفا ولشيخ الركب أَحْمد بن يُوسُف بن أبي مُحَمَّد صَالح خَمْسمِائَة ولجماعة الضُّعَفَاء من الْحجَّاج سِتّمائَة وبرسم الْعَطاء للْعَرَب ثَلَاثَة آلَاف وَثَمَانمِائَة ولشراء الرباع سِتَّة عشر ألفا وَخَمْسمِائة ذَهَبا اه وَذكر فِي الْكتاب الْمَذْكُور أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن أهْدى هَدَايَا غير هَذِه لكثير من الْمُلُوك مِنْهَا لصَاحب الأندلس صلَة وَصدقَة وهدية فِي مَرَّات وَمِنْهَا لملوك النَّصَارَى بعد هداياهم وَمِنْهَا لسلاطين السودَان كصاحب مَالِي وَمِنْهَا لصَاحب إفريقية وَمِنْهَا لصَاحب تلمسان اه وَقَالَ الْعَلامَة المقريزي مؤرخ مصر فِي كتاب السلوك مَا نَصه
وَفِي ثَانِي وَعشْرين من رَمَضَان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة قدمت الْحرَّة من عِنْد السُّلْطَان أبي الْحسن عَليّ بن عُثْمَان بن يَعْقُوب المريني صَاحب فاس تُرِيدُ الْحَج وَمَعَهَا هَدِيَّة جليلة إِلَى الْغَايَة نزل لحملها من الأسطول السلطاني ثَلَاثُونَ قطارا من بغال النَّقْل سوى الْجمال وَكَانَ من جُمْلَتهَا أَرْبَعمِائَة فرس مِنْهَا مائَة حجرَة وَمِائَة فَحل وَمِائَتَا بغل وجميعها بسروج ولجم مسقطة بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَبَعضهَا سُرُوجهَا وركبها ذهب وَكَذَلِكَ لجمها وعدتها اثْنَان وَأَرْبَعُونَ رَأْسا مِنْهَا سرجان من ذهب مرصع بجوهر وفيهَا اثْنَان وَثَلَاثُونَ بازا وفيهَا سيف قرَابه ذهب مرصع وحياصة ذهب مرصع وفيهَا مائَة كسَاء وَغير ذَلِك من القماش العالي وَكَانَ قد خرج المهمندار إِلَى لقائهم وأنزلهم بالقرافة قريب مَسْجِد الْفَتْح وهم جمع كثير جدا وَكَانَ يَوْم طُلُوع الْهَدِيَّة من الْأَيَّام الْمَذْكُورَة فَفرق السُّلْطَان الْهَدِيَّة على الْأُمَرَاء بأسرهم على قدر مَرَاتِبهمْ حَتَّى نفدت كلهَا سوى الْجَوْهَر واللؤلؤ فَإِنَّهُ اخْتصَّ بِهِ فقدرت قيمَة هَذِه الْهَدِيَّة بِمَا يزِيد على مائَة ألف دِينَار ثمَّ نقلت الْحرَّة إِلَى الميدان بِمن مَعهَا ورتب لَهَا من الْغنم والدجاج وَالسكر والجلواء والفاكهة فِي كل يَوْم بكرَة وَعَشِيَّة مَا عمهم وَفضل عَنْهُم فَكَانَ مرتبهم كل يَوْم عدَّة ثَلَاثِينَ رَأْسا من الْغنم وَنصف أردب أرزا وقنطارا حب رمان وَربع قِنْطَار سكرا وثمان فانوسيات شمعا وتوابل الطَّعَام وَحمل إِلَيْهَا برسم النَّفَقَة مبلغ خَمْسَة وَسبعين ألف دِرْهَم وَأُجْرَة حمل أثقالهم مبلغ سِتِّينَ ألف دِرْهَم ثمَّ خلع على جَمِيع من قدم مَعَ الْحرَّة فَكَانَت عدَّة الْخلْع مِائَتَيْنِ وَعشْرين خلعة على قدر طبقاتهم حَتَّى خلع على الرِّجَال الَّذين قادوا الْخُيُول وَحمل إِلَى الْحرَّة من الْكسْوَة مَا يجل قدره وَقيل لَهَا أَن تملي مَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَلَا يعوزها شَيْء وَإِنَّمَا تُرِيدُ عناية السُّلْطَان إكرامها وإكرام من مَعهَا حَيْثُ كَانُوا فَتقدم السُّلْطَان إِلَى النشو وَإِلَى الْأَمِير أَحْمد إِن بغى بتجهيزها اللَّائِق بهَا فقاما بذلك واستخدما لَهَا السقائين والضوئية وهيأ كل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ فِي سفرها من أَصْنَاف الحلاوات وَالسكر والدقيق والبجماط وطلبا الْحمالَة لحمل جهازها وأزودتها وَندب السُّلْطَان للسَّفر مَعهَا جمال الدّين مُتَوَلِّي الجيزة وَأمره أَن يرحل بهَا فِي مركب لَهَا
بمفردها قُدَّام الْمحمل ويمتثل كلما تَأمر بِهِ وَكتب لأميري مَكَّة وَالْمَدينَة بخدمتها أتم خدمَة اه وَفِيه بعض مُخَالفَة لما وَصفه ابْن مَرْزُوق فِي الْهَدِيَّة والخطب سهل
ثمَّ انتسخ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رحمه الله نُسْخَة أُخْرَى من الْمُصحف الْكَرِيم على القانون الأول ووقفها على الْقُرَّاء بِالْمَدِينَةِ وَبعث بهَا من تخيره لذَلِك الْعَهْد من أهل دولته سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة وَفعل مثل ذَلِك بحرم بَيت الْمُقَدّس قَالَ الْعَلامَة أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي نفح الطّيب كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن المريني قد كتب ثَلَاثَة مصاحف شريفة بِخَطِّهِ وأرسلها إِلَى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة الَّتِي تشد إِلَيْهَا الرّحال ووقف عَلَيْهَا أوقافا جليلة كتب سُلْطَان مصر وَالشَّام توقيعه بمسامحتها من إنْشَاء الأديب الشهير جمال الدّين بن نباتة الْمصْرِيّ وَنَصّ مَا يتَعَلَّق بِهِ الْغَرَض مِنْهُ هُنَا قَوْله
وَهُوَ الَّذِي مد يَمِينه بِالسَّيْفِ والقلم فَكتب فِي أَصْحَابهَا وسطر الختمات الشَّرِيفَة فأيد الله حزبه بِمَا سطره من أحزابها واتصلت مَلَائِكَة النَّصْر بلوائه تَغْدُو وَتَروح وَكَثُرت فتوحه لأملياء الغرب فَقَالَت أوقاف الشرق لَا بُد للْفُقَرَاء من فتوح ثمَّ وصلت ختمات شريفة كتبهَا بقلمه الْمجِيد المجدي وَخط سطورها بالعربي وطالما خطّ فِي صُفُوف الْأَعْدَاء بالهندي ورتب عَلَيْهَا أوقافا تجْرِي أَقْلَام الْحساب فِي إِطْلَاقهَا وَطَلقهَا وَحبس أملاكا شامية تحدث بنعم الْأَمْلَاك الَّتِي سرت من مغرب الأَرْض إِلَى مشرقها وَالله تَعَالَى يمتع من وقف هَذِه الختمات بِمَا سطر لَهُ فِي أكْرم الصحائف وينفع الْجَالِس من وُلَاة الْأُمُور فِي تقريرها ويتقبل من الْوَاقِف اه قَالَ الْمقري وَقد رَأَيْت أحد الْمَصَاحِف الْمَذْكُورَة وَهُوَ الَّذِي بِبَيْت الْمُقَدّس وربعته فِي غَايَة الصَّنْعَة اه وَالله تَعَالَى أعلم
واتصلت الْولَايَة بَين السُّلْطَان أبي الْحسن وَبَين الْملك النَّاصِر إِلَى أَن هلك سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَولي أَمر مصر من بعده ابْنه أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن قلاوون فخاطبه السُّلْطَان أَبُو الْحسن أَيْضا على مَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله
نكبة الْأَمِير أبي عبد الرَّحْمَن يَعْقُوب ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن وفرار وزيره زيان بن عمر الوطاسي وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رحمه الله عِنْدَمَا نَهَضَ إِلَى تلمسان أَولا وَثَانِيا ينْتَظر قدوم صهره السُّلْطَان أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي عَلَيْهِ لما كَانَ انْعَقَد بَينه وَبَين أَبِيه أبي سعيد رحمه الله من الِاجْتِمَاع على تلمسان والتعاون على حصارها وَلما فتح أَبُو الْحسن تلمسان فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم كَانَ وَزِير الحفصيين الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بن تافرجين شَاهدا لذَلِك الْفَتْح قدم رَسُولا من عِنْد مخدومه السُّلْطَان أبي بكر الْمَذْكُور فَأسر إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن بِأَن مخدومه قادم عَلَيْهِ للقائه وتهنئته بالظفر بعدوه فتشوف السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَيْهَا لما كَانَ يحب الْفَخر ويعنى بِهِ وارتحل عَن تلمسان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وعسكر بمتيجة منتظرا لوفادة صهره عَلَيْهِ فتكاسل الحفصي عَن الْقدوم بِسَبَب تثبيط مُحَمَّد بن الْحَكِيم من رجال دولته إِيَّاه عَن ذَلِك وَقَالَ لَهُ إِن لِقَاء سلطانين لَا يتَّفق إِلَّا فِي يَوْم على أَحدهمَا فكره الحفصي ذَلِك وتقاعد عَنهُ وَطَالَ مقَام السُّلْطَان أبي الْحسن فِي انْتِظَاره ثمَّ طرقه بفسطاطه مرض ألزمهُ الْفراش حَتَّى تحدث أهل الْعَسْكَر بمهلكه
وَكَانَ ابناه الأميران أَبُو عبد الرَّحْمَن وَأَبُو مَالك متناغيين فِي ولَايَة عهد مُنْذُ أَيَّام جدهما أبي سعيد وَكَانَ أَبوهُمَا قد جعل لَهما لأوّل دولته ألقاب الْإِمَارَة وَأَحْوَالهَا من اتِّخَاذ الوزراء وَالْكتاب وَوضع الْعَلامَة وَتَدْوِين الدَّوَاوِين وَإِثْبَات الْعَطاء واستلحاق الفرسان وانفراد كل بعسكره على حِدة وَجعل لَهما مَعَ ذَلِك الْجُلُوس بمقعد فَصله مناوبة لتنفيذ الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة فَكَانَا لذَلِك رديفين لَهُ فِي سُلْطَانه وَلما اشْتَدَّ وجع السُّلْطَان فِي هَذِه الْمرة تمشت سماسرة الْفِتَن بَينهمَا وتحزب أهل الْعَسْكَر لَهما حزبين وشوشوا بواطنهما فَبَثَّ كل وَاحِد مِنْهُمَا المَال وَحمل على المقربات وَصَارَ الْجَيْش شيعًا وهم الْأَمِير أَبُو عبد الرَّحْمَن بالتوثب على الْأَمر قبل أَن يتَبَيَّن حَال السُّلْطَان بإغراء
وزرائه وبطانته بذلك وتفطن خَاصَّة السُّلْطَان لما وَقع فأخبروه الْخَبَر وحضوه على الْخُرُوج إِلَى النَّاس قبل أَن يَتَفَاقَم الْأَمر ويتسع الْخرق فبرز السُّلْطَان إِلَى فسطاط جُلُوسه وتسامع أهل المعسكر بِهِ فازدحموا إِلَى بساطة وتقبيل يَده وتقبض على أهل الظنة من الْجَيْش فأودعهم السجْن وَسخط على الأميرين وَأمر برحيل من كَانَ مَعَهُمَا من الْجند فردهم إِلَى مُعَسْكَره ثمَّ رَجَعَ إِلَى فسطاطه وطفئت نَار الْفِتْنَة وَسكن سعي المفسدين وانتبذ النَّاس عَن الأميرين الْمَذْكُورين فبقيا أوحش من وتد بقاع فَاشْتَدَّ جزع الْأَمِير أبي عبد الرَّحْمَن وَركب من فسطاطه وخاض اللَّيْل فَأصْبح بحلة أَوْلَاد على أُمَرَاء بني زغبة من هِلَال الموطنين بِأَرْض حَمْزَة فتقبض عَلَيْهِ أَمِيرهمْ مُوسَى بن أبي الْفضل ورده إِلَى أَبِيه فاعتقله بوجدة ورتب الْعُيُون لحراسته وَلحق وزيره زيان بن عمر الوطاسي بالموحدين أَصْحَاب تونس فأجاروه وَرَضي السُّلْطَان صَبِيحَة فرار أبي عبد الرَّحْمَن عَن أَخِيه أبي مَالك وَعقد لَهُ على ثغور عمله بالأندلس وَصَرفه إِلَيْهَا وانكفأ رَاجعا إِلَى تلمسان وَالله أعلم
ثورة ابْن هيدور الجزار وَمَا كَانَ من أمره
لما تقبض السُّلْطَان أَبُو الْحسن على ابْنه عبد الرَّحْمَن وأودعه السجْن تفرق خدمه وحشمه فِي الْجِهَات وَكَانَ مِنْهُم رجل جزار مُرَتّب فِي مطبخه يعرف بِابْن هيدور وَكَانَ لَهُ شبه فِي الصُّورَة بِأبي عبد الرَّحْمَن فلحق ببني عَامر بن زغبة وَكَانُوا لذَلِك الْعَهْد منحرفين عَن طَاعَة السُّلْطَان أبي الْحسن لاختصاصه عريف بن يحيى أَمِير بني سُوَيْد أعدائهم فَلَمَّا لحق بهم ابْن هيدور هَذَا انتسب لَهُم إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن وَأَنه ابْنه أَبُو عبد الرَّحْمَن فَشبه لَهُم وَبَايَعُوهُ وأجلبوا بِهِ على نواحي لمدية فبرز إِلَيْهِم قائدها فهزموه ثمَّ جمع لَهُم ونزمار بن عريف بن يحيى فَهَزَمَهُمْ وافترق جمعهم ونبذوا للجزار عَهده فلحق ببني يزناتن من زواوة فَنزل على شيختهم شمسي من بني
عبد الصَّمد مِنْهُم وَكَانَت هَذِه الْمَرْأَة قد ملكتهم وغلبت عَلَيْهِم بقومها ورجالها وَكَانَ لَهَا بنُون عشرَة فاستفحل أمرهَا بهم وَلما نزل عَلَيْهَا الجزار الْمَذْكُور وانتسب لَهَا إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن قَامَت بأَمْره وشمرت عزائمها لإجارته وحملت قَومهَا على طَاعَته وشاع فِي النَّاس خَبره فَمن مُصدق وَمن مكذب وسرب السُّلْطَان أَبُو الْحسن الْأَمْوَال فِي قَومهَا وبنيها على إِسْلَامه إِلَيْهِ فَأَبت ثمَّ نمى إِلَيْهَا الْخَبَر بكذبه وتمويهه فنبذت إِلَيْهِ عَهده وَخرج عَنْهَا إِلَى بِلَاد الْعَرَب فلحق بالذواودة أُمَرَاء ريَاح من بني هِلَال وَنزل على سيدهم يَعْقُوب بن عَليّ وانتسب لَهُ فِي مصل ذَلِك فأجاروه إِن صدق نسبه وأوعز السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى صهره أبي بكر الحفصي فِي شَأْن الجزار فَبعث الحفصي إِلَى يَعْقُوب بن عَليّ فِي ذَلِك فأشخصه إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن مَعَ بعض حَاشِيَته فلحق بِهِ بمكانه بسبتة يُرِيد الْجِهَاد فامتحنه وقطعه من خلاف وانحسم داؤه وَبَقِي الْمغرب تَحت جراية من الدولة إِلَى أَن هلك فِي بعض السنين وَأما الْأَمِير أَبُو عبد الرَّحْمَن فَإِنَّهُ لما سجن بوجدة بَقِي هُنَالك إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فَوَثَبَ ذَات يَوْم بالسجان فَقتله واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن فأنفذ حَاجِبه عَلان بن مُحَمَّد فَقضى عَلَيْهِ رحم الله الْجَمِيع
أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن فِي الْجِهَاد وَمَا كَانَ من وقْعَة طريف الَّتِي محص الله فِيهَا الْمُسلمين وَغير ذَلِك
لما فرغ السُّلْطَان أَبُو الْحسن من شَأْن عدوه وعلت على الْأَيْدِي يَده وَانْفَسَحَ نطاق ملكه دَعَتْهُ همته إِلَى الْجِهَاد وَكَانَ كلفا بِهِ فأوعز إِلَى ابْنه الْأَمِير أبي مَالك أَمِير الثغور الأندلسية سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة بِالدُّخُولِ إِلَى دَار الْحَرْب وجهز إِلَيْهِ العساكر من حَضرته وأنفذ إِلَيْهِ الوزراء فشخص أَبُو مَالك غازيا وتوغل فِي بِلَاد النَّصْرَانِيَّة واكتسحها وَخرج بِالسَّبْيِ والغنائم إِلَى أدنى صدر من أَرضهم وأناخ بهَا فاتصل بِهِ الْخَبَر أَن النَّصَارَى قد جمعُوا لَهُ وَأَنَّهُمْ
أغذو السّير فِي اتِّبَاعه فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْمَلأ بِالْخرُوجِ من أَرضهم وعبور الْوَادي الَّذِي كَانَ تخما بَين أَرض الْمُسلمين وَدَار الْحَرْب ويتحيز إِلَى مدن الْمُسلمين فَيمْتَنع بهَا فلج فِي إبايته وصمم على التَّعْرِيس وَكَانَ قرما ثبتا إِلَّا أَنه غير بَصِير بِالْحَرْبِ لصِغَر سنه فصحبتهم عَسَاكِر النَّصْرَانِيَّة فِي مضاجعهم قبل أَن يركبُوا وخالطوهم فِي بياتهم وأدركوا الْأَمِير أَبَا مَالك بِالْأَرْضِ قبل أَن يَسْتَوِي على فرسه فجدلوه واستلحموا الْكثير من قومه واحتووا على المعسكر بِمَا فِيهِ من أَمْوَال الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ وَرَجَعُوا على اعقابهم واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن فتفجع لهلاك ابْنه واسترحم لَهُ واحتسب عِنْد الله أجره ثمَّ أنفذ وزراءه إِلَى سواحل الْمغرب لتجهيز الأساطيل وَفتح ديوَان الْعَطاء وَعرض الْجنُود وأزاح عللهم واستنفر أهل الْمغرب كَافَّة ثمَّ ارتحل إِلَى سبتة ليباشر أَحْوَال الْجِهَاد وتسامعت بِهِ أُمَم النَّصْرَانِيَّة فَاسْتَعدوا للدفاع وَأخرج الطاغية أسطوله إِلَى الزقاق ليمنع السُّلْطَان من الْإِجَازَة واستحث السُّلْطَان أساطيل الْمُسلمين من مراسي الْمغرب وَبعث إِلَى أصهاره الحفصيين بتجهيز أسطولهم إِلَيْهِ فعقدوا عَلَيْهِ لزيد بن فَرِحُونَ قَائِد أسطول بجاية ووافى سبتة فِي سِتَّة عشر أسطولا من أساطيل إفريقية كَانَ فِيهَا من طرابلس وَقَابِس وجربة وتونس وبونة وبجاية وتوافت أساطيل المغربين بمرسى سبتة تناهز الْمِائَة وَعقد السُّلْطَان عَلَيْهَا لمُحَمد بن عَليّ العزفي الَّذِي كَانَ صَاحب سبتة يَوْم فتحهَا أَيَّام السُّلْطَان أبي سعيد وَأمره بمناجزة أسطول النَّصَارَى بالزقاق وَقد تَكَامل عديدهم وعدتهم فاستلأموا وتظاهروا فِي السِّلَاح وزحفوا إِلَى أسطول النَّصَارَى وتواقفوا مَلِيًّا ثمَّ قربوا الأساطيل بَعْضهَا من بعض وقرنوها للمصاف فَلم يمض إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى هبت ريح النَّصْر وأظفر الله الْمُسلمين
بعدوهم وخالطوهم فِي أساطيلهم واستلحموهم هبرا بِالسُّيُوفِ وطعنا بِالرِّمَاحِ وألقوا أشلاءهم فِي اليم وَقتلُوا قائدهم الملند وَاسْتَاقُوا أساطيلهم مجنوبة إِلَى مرسى سبتة فبرز النَّاس لمشاهدتها وطيف بِكَثِير من رؤوسهم فِي جَوَانِب الْبَلَد ونظمت أصفاد الأسرى بدار الْإِنْشَاء وَعظم الْفَتْح وَجلسَ السُّلْطَان للتهنئة وَأنْشد الشُّعَرَاء بَين يَدَيْهِ وَكَانَ ذَلِك يَوْم السبت سادس شَوَّال سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة فَكَانَ من أعز أَيَّام الْإِسْلَام ثمَّ شرع السُّلْطَان أَبُو الْحسن فِي إجَازَة العساكر من المتطوعة والمرتزقة وانتظمت الأساطيل سلسلة وَاحِدَة من العدوة إِلَى العدوة وَلما تكاملت العساكر بالعبور وَكَانَت نَحْو سِتِّينَ ألفا أجازهو فِي أسطوله مَعَ خاصته وحشمه آخر سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة وَنزل بِسَاحَة طريف وأناخ عَلَيْهَا ثَالِث محرم من السّنة بعْدهَا وَشرع فِي منازلتها ووافاه سُلْطَان الأندلس أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر فِي عَسْكَر الأندلس من غزَاة بني مرين وحامية الثغور ورجالة البدو فعسكروا حذاء مُعَسْكَره وَأَحَاطُوا بطريف نطاقا وَاحِدًا وأنزلوا بهَا أَنْوَاع الْقِتَال ونصبوا عَلَيْهَا الْآلَات وجهز الطاغية أسطولا آخر اعْترض بِهِ الزقاق لقطع الْمرَافِق عَن المعسكر وَطَالَ مقَام الْمُسلمين بمكانهم حول طريف ففنيت أَزْوَادهم وَقلت العلوفات فوهن الظّهْر واختلت أَحْوَالهم ثمَّ احتشد الطاغية أُمَم النَّصْرَانِيَّة وَظَاهره البرتقال صَاحب أشبونة وَغرب الأندلس وزحفوا إِلَى الْمُسلمين لسِتَّة أشهر من نزولهم على طريف وَلما قرب الطاغية من معسكر الْمُسلمين سرب إِلَى طريف جَيْشًا من النَّصَارَى أكمنه بهَا إِلَى وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ فَدَخَلُوهَا لَيْلًا على حِين غَفلَة من العسس الَّذين أرصدوا لَهُم وأحسوا بهم آخر اللَّيْل فثاروا بهم من مراصدهم وأدركوا أَعْقَابهم قبل دُخُول الْبَلَد فَقتلُوا مِنْهُم عددا وَقد نجا أَكْثَرهم فلبسوا على السُّلْطَان أَنه لم يدْخل الْبَلَد سواهُم حذرا من سطوته ثمَّ زحف الطاغية من الْغَد فِي جموعه إِلَى الْمُسلمين وعبأ السُّلْطَان مواكبه صُفُوفا وتزاحفوا وَلما نشبت الْحَرْب برز الْجَيْش الكمين من الْبَلَد وَهُوَ الَّذِي
دخل لَيْلًا وخالفوا الْمُسلمين إِلَى معسكرهم وعمدوا إِلَى فسطاط السُّلْطَان فدافعهم عَنهُ الناشبة الَّذين كَانُوا على حراسته فاستلحموهم لقلتهم ثمَّ دافعهم النِّسَاء عَن أنفسهم فقتلوهن كَذَلِك وخلصوا إِلَى حظايا السُّلْطَان مِنْهُنَّ عَائِشَة بنت عَمه أبي بكر بن يَعْقُوب بن عبد الْحق وَفَاطِمَة بنت السُّلْطَان أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي وَغَيرهمَا من حظاياه فقتلوهن واستلبوهن ومثلوا بِهن وانتهبوا سَائِر الْفسْطَاط وأضرموا المعسكر نَارا ثمَّ أحس الْمُسلمُونَ بِمَا وَرَاءَهُمْ فِي معسكرهم فاختل مَصَافهمْ وَارْتَدوا على أَعْقَابهم بعد أَن كَانَ تاشفين ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن صمم فِي طَائِفَة من قومه وحاشيته حَتَّى خالطهم فِي صفوفهم فأحاطوا بِهِ وتقبضوا عَلَيْهِ وَعظم الْمُصَاب بأسره وَكَانَ الْخطب على الْإِسْلَام قَلما فجع بِمثلِهِ وَذَلِكَ ضحوة يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَولى السُّلْطَان أَبُو الْحسن متحيزا إِلَى فِئَة الْمُسلمين وَاسْتشْهدَ كثير من الْغُزَاة وَتقدم الطاغية حَتَّى انْتهى إِلَى فسطاط السُّلْطَان من الْمحلة فَأنْكر قتل النِّسَاء والولدان وَكَانَ ذَلِك مُنْتَهى أَثَره ثمَّ انكفأ رَاجعا إِلَى بِلَاده وَلحق ابْن الْأَحْمَر بغرناطة وخلص السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ مِنْهَا إِلَى جبل الْفَتْح ثمَّ ركب الأسطول إِلَى سبتة فِي لَيْلَة غده ومحص الله الْمُسلمين وأجزل ثوابهم
اسْتِيلَاء الْعَدو على الجزيرة الخضراء
لما رَجَعَ الطاغية من طريف استأسد على الْمُسلمين بالأندلس وطمع فِي التهامهم وَجمع عَسَاكِر النَّصْرَانِيَّة ونازل أَولا قلعة بني سعيد ثغر غرناطة وعَلى مرحلة مِنْهَا وَجمع الْآلَات وَالْأَيْدِي على حصارها وَأخذ بمخنقها فَأَصَابَهُمْ الْجهد من الْعَطش فنزلوا على حِكْمَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وأدال الله الطّيب مِنْهَا بالخبيث وَانْصَرف الطاغية إِلَى بِلَاده وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن لما أجَاز إِلَى سبتة أَخذ نَفسه بِالْعودِ إِلَى الْجِهَاد لرجع الكرة فَأرْسل فِي الْمَدَائِن حاشرين وَأخرج قواده إِلَى سواحل الْمغرب لتجهيز الأساطيل فتكامل
لَهُ مِنْهَا عدد مُعْتَبر ثمَّ ارتحل إِلَى سبتة لمشارفة ثغور الأندلس وَقدم عساكره إِلَيْهَا مَعَ وزيره عَسْكَر بن تاحضريت وَعقد على الجزيرة الخضراء لمُحَمد بن الْعَبَّاس بن تاحضريت من قرَابَة الْوَزير وَبعث إِلَيْهَا مدَدا من الْعَسْكَر مَعَ مُوسَى بن إِبْرَاهِيم اليريناني من المرشحين للوزارة نِيَابَة وَبلغ الطاغية خَبره فَجهز أسطوله وأجراه إِلَى بَحر الزقاق لمدافعته وتلاقت الأساطيل ومحص الله الْمُسلمين وَاسْتشْهدَ مِنْهُم أعداد وتغلب اسطول الطاغية على بَحر الزقاق فملكه دون الْمُسلمين وَأَقْبل الطاغية من إشبيلية فِي عَسَاكِر النَّصْرَانِيَّة حَتَّى أَنَاخَ بهَا على الجزيرة الخضراء مرفأ أساطيل الْمُسلمين وفرضة الْمجَاز وَرَجا أَن ينظمها فِي مَمْلَكَته مَعَ جارتها طريف وَحشر الفعلة والصناع للآلات وَجمع الْأَيْدِي عَلَيْهَا وطاولها الْحصار وَاتخذ أهل المعسكر بُيُوتًا من الْخشب للمطاولة وَجَاء السطلان أبوالحجاج بن الْأَحْمَر بعساكر الأندلس فَنزل قبالة الطاغية بِظَاهِر جبل الْفَتْح فِي سَبِيل الممانعة وَأقَام السُّلْطَان أَبُو الْحسن بمكانه من سبتة يسرب إِلَى أهل الجزيرة المدد من الفرسان وَالْمَال والقوت فِي أَوْقَات الْغَفْلَة من أساطيل الْعَدو تَحت جنَاح اللَّيْل وَأُصِيب كثير من الْمُسلمين فِي ذَلِك وَلم يغن على أهل الجزيرة ذَلِك المدد شَيْئا وَاشْتَدَّ عَلَيْهِم الْحصار وأصابهم الْجهد وَأَجَازَ السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن يفاوضه فِي شَأْن السّلم مَعَ الطاغية بعد أَن أذن الطاغية لَهُ فِي الْإِجَازَة مكرا بهَا وأصدر لَهُ بعض الأساطيل فِي طَرِيقه فَصَدَّقَهُمْ الْمُسلمُونَ الْقِتَال وخلصوا إِلَى السَّاحِل بعد غص الرِّيق وَضَاقَتْ أَحْوَال أهل الجزيرة وَمن كَانَ بهَا من عَسْكَر السُّلْطَان فسألوا الطاغية الْأمان على أَن ينزلُوا لَهُ عَن الْبَلَد فبذله لَهُم وَخَرجُوا فوفى لَهُم وأجازوا إِلَى الْمغرب سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فأنزلهم السُّلْطَان ببلاده على خير نزل ولقاهم من المبرة والكرامة مَا عوضهم بِمَا فاتهم وخلع عَلَيْهِم وَحَملهمْ ووصلهم بِمَا تحدث النَّاس بِهِ وتقبض على وزيره عَسْكَر بن تاحضريت عُقُوبَة لَهُ على تَقْصِيره فِي المدافعة مَعَ تمكنه مِنْهَا وانكفأ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَاجعا إِلَى حَضرته موقنا بِظُهُور أَمر الله وإنجاز وعده وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ
بَقِيَّة أَخْبَار بني أبي الْعَلَاء
قد تقدم لنا أَن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء كَانَ يَلِي مشيخة الْغُزَاة بالأندلس وَأَنه اسْتشْهد سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَقَامَ بأَمْره ابْنه أَبُو ثَابت فاستحوذ بعصبيته وَقَومه على بني الْأَحْمَر فَقتلُوا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل مِنْهُم مرجعه من فتح جبل الْفَتْح ونصبوا لِلْأَمْرِ أَخَاهُ يُوسُف بن إِسْمَاعِيل حَسْبَمَا تقدم الإلماع بذلك ثمَّ إِن السُّلْطَان أَبَا الْحجَّاج هَذَا بَقِي بَين جَنْبَيْهِ دَاء دخيل من بني أبي الْعَلَاء الَّذين فتكوا بأَخيه فَلم يزل يسْعَى فِي أَمرهم حَتَّى قبض عَلَيْهِم وأودعهم المطبق ثمَّ غربهم إِلَى تونس فنزلوا على السُّلْطَان أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّا الحفصي واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن فَكتب إِلَيْهِ باعتقالهم فَفعل ثمَّ بدا لَهُ فَبعث إِلَيْهِ مَعَ عريف الوزعة بِبَابِهِ مَيْمُون بن بكرون فِي إشخاصهم إِلَى حَضرته فتوقف الحفصي عَن ذَلِك وأبى من إخفار ذمتهم فَأَشَارَ عَلَيْهِ وزيره أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين ببعثهم إِلَيْهِ وَأَنه لَا يُرِيد بهم إِلَّا الْخَيْر فبعثهم وَبعث كِتَابه بالشفاعة فيهم فقدموا على السُّلْطَان أبي الْحسن مرجعه من الْجِهَاد سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فَتَلقاهُمْ بِالْبرِّ والكرامة إِكْرَاما لشفيعهم وأنزلهم بمعسكره وَحَملهمْ على الْخُيُول المسومة بالمراكب الثَّقِيلَة وَضرب لَهُم الفساطيط وأسنى لَهُم الْخلْع والجوائز وَفرض لَهُم فِي أَعلَى رتب الْعَطاء وصاروا فِي جملَته وَلما احتل بسبتة لمشارفة أَحْوَال الجزيرة الخضراء سعى عِنْده فيهم بِأَن كثيرا من المفسدين يداخلونهم فِي الْخُرُوج والتوثب على الْأَمر فتقبض عَلَيْهِم وأودعهم السجْن بمكناسة الزَّيْتُون واستمروا هُنَالك إِلَى أَن قَامَ أَبُو عنان فَأَطْلَقَهُمْ واستعان بهم على أمره حَسْبَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
مراسلة السُّلْطَان أبي الْحسن لصَاحب مصر أبي الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن قلاوون
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن راسل الْملك النَّاصِر صَاحب مصر وهاداه بِمَا عظم وقعه عِنْد الْخَاصَّة والعامة واتصلت الْولَايَة بَينه وَبَين الْملك النَّاصِر إِلَى أَن هلك سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَولي الْأَمر من بعده ابْنه أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل فخاطبه السُّلْطَان أَبُو الْحسن أَيْضا وأتحفه وَعَزاهُ عَن أَبِيه وأوفد عَلَيْهِ كَاتبه وَصَاحب ديوَان الْخراج أَبَا الْفضل بن أبي عبد لله بن أبي مَدين وَفِي صحبته الْحرَّة أُخْت السُّلْطَان أبي الْحسن فَقضى من وفادته مَا حمل وأصحبه السُّلْطَان أَبُو الْحسن كتابا إِلَى الْملك الصَّالح أبي الْفِدَاء وَكَانَ وُصُوله إِلَى مصر منتصف شعْبَان سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة
وَنَصّ الْكتاب بعد الْبَسْمَلَة وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عليه وسلم من عِنْد أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله رب الْعَالمين الْمَنْصُور بِفضل الله المتَوَكل عَلَيْهِ الْمُعْتَمد فِي جَمِيع أُمُوره لَدَيْهِ سُلْطَان البرين حامي العدوتين مُؤثر المرابطة والمثاغرة موازر حزب الْإِسْلَام حق الموازرة نَاصِر الْإِسْلَام مظَاهر دين الْملك العلام ابْن أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين فَخر السلاطين حامي حوزة الدّين ملك البرين إِمَام العدوتين ممهد الْبِلَاد مبدد شَمل الأعاد مجند الْجنُود الْمَنْصُور الرَّايَات والبنود محط الرّحال مبلغ الآمال أبي سعيد ابْن أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين حَسَنَة الْأَيَّام حسام الْإِسْلَام أبي الْأَمْلَاك مشجي أهل العناد والإشراك مَانع الْبِلَاد رَافع علم الْجِهَاد مدوخ أقطار الْكفَّار مصرخ من ناداه للانتصار الْقَائِم لله بإعلاء دين الْحق أبي يُوسُف يَعْقُوب بن عبد الْحق أخْلص الله لوجهه جهاده وَيسر فِي قهر عداة الدّين مُرَاده إِلَى مَحل ولدنَا الَّذِي طلع فِي أفق الْعلَا بَدْرًا تما وصدع بأنواع الفخار فَجلى ظلاما وظلما وَجمع شَمل المملكة الناصرية فأعلى مِنْهَا علما وأحيى رسما حَائِط الْحَرَمَيْنِ الْقَائِم بِحِفْظ الْقبْلَتَيْنِ باسط الْأمان قَابض كف
الْعدوان الجزيل النوال الْكَفِيل تأمينه بحياطة النُّفُوس وَالْأَمْوَال قطب الْمجد وسماكه حسب الْحَمد وملاكه السُّلْطَان الْجَلِيل الرفيع الْأَصِيل الحافل الْعَادِل الْفَاضِل الْكَامِل الشهير الخطير الأضخم الأفخم المعان المؤزر الْمُؤَيد المظفر الْملك الصَّالح أبي الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن مَحل أخينا الشهير علاؤة المستطير فِي الْآفَاق ثَنَاؤُهُ زين الْأَيَّام والليال كَمَال عين إناس الْمجد وإنسان عين الْكَمَال وَارِث الدول النافث بِصَحِيح رَأْيه فِي عُقُود أهل الْملَل والنحل حامي الْقبْلَتَيْنِ بعدله وحسامه النامي فِي حفظ الْحَرَمَيْنِ أجر اضطلاعه بذلك وقيامه هازم أحزاب المعاندين وجيوشها هَادِم الْكَنَائِس وَالْبيع فَهِيَ خاوية على عروشها السُّلْطَان الْأَجَل الْهمام الأحفل الأفخم الأضخم الْفَاضِل الْعَادِل الشهير الْكَبِير الرفيع الخطير الْمُجَاهِد المرابط المقسط عدله فِي الجائر والقاسط الْمُؤَيد المظفر الْمُنعم الْمُقَدّس المطهر زين السلاطين نَاصِر الدُّنْيَا وَالدّين أبي الْمَعَالِي مُحَمَّد بن الْملك الأرضى الْهمام الأمضى وَالِد السلاطين الأخيار عَاقد لِوَاء النَّصْر فِي قهر الأرمن والفرنج والتتار محيي رسوم الْجِهَاد معلي كلمة الْإِسْلَام فِي الْبِلَاد جمال الْأَيَّام ثمال الْأَعْلَام فاتح الأقاليم صَالح مُلُوك عصره المتقادم الإِمَام الْمُؤَيد الْمَنْصُور المسدد قسيم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيمَا تقلد الْملك الْمَنْصُور سيف الدُّنْيَا وَالدّين قلاوون مكن الله لَهُ تَمْكِين أوليائه ونمى دولته الَّتِي أطلعها لَهُ السعد شمسا فِي سمائه وَأحسن إيزاعه للشكر أَن جعله وَارِث آبَائِهِ سَلام كريم يفاوح زهر الربى مسراه وينافح نسيم الصِّبَا مجْرَاه يَصْحَبهُ رضوَان يَدُوم مَا دَامَت تقل الْفلك حركاته ويتولاه روح وَرَيْحَان تحييه بِهِ رَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد حمد الله مَالك الْملك جَاعل الْعَاقِبَة للتقوى صدعا بِالْيَقِينِ ودفعا للشَّكّ وخاذل من أسر النِّفَاق فِي النَّجْوَى فاصر على الدخن والإفك وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد رَسُوله الَّذِي محى بأنوار الْهدى ظلم الشّرك وَنبيه الَّذِي ختم بِهِ الْأَنْبِيَاء وَهُوَ وَاسِطَة ذَلِك السلك ودعا بِهِ حجَّة الْحق فمادت بالكفرة مَحْمُولَة الأفلاك وَمَاجَتْ بهم حاملة الْفلك وَالرِّضَا عَن آله وَصَحبه الَّذين سلكوا سَبِيل هداه فسلك فِي قُلُوبهم أجمل السلك وملكوا أعنه هواهم فلزموا من محجة الصَّوَاب أنجح السلك وَصَابِرُوا فِي جِهَاد
الْأَعْدَاء فَزَاد خلوصهم مَعَ الِابْتِلَاء وَالذَّهَب يزِيد خلوصا على السبك وَالدُّعَاء لأولياء الْإِسْلَام وحماته الْأَعْلَام بنصر لمضائه فِي العدي أعظم الفتك وَيسر بِقَضَائِهِ دَرك آمال الظُّهُور وأحفل بذلك الدَّرك فَكَتَبْنَاهُ إِلَيْكُم كتب الله لكم رسوخ الْقدَم وسبوغ النعم من حضرتنا مَدِينَة فاس المحروسة وصنع الله سُبْحَانَهُ يعرف مَذَاهِب الألطاف ويكيف مواهب تلهج الْأَلْسِنَة فِي الْقُصُور عَن شكرها بالاعتراف وَيصرف من أمره الْعَظِيم وقضائه المتلقى بِالتَّسْلِيمِ مَا يتكون بَين النُّون وَالْكَاف ومكانكم العتيد سُلْطَانه وسلطانكم الْمجِيد مَكَانَهُ وولاؤكم الصَّحِيح برهانه وعلاؤكم الفسيح فِي مجَال الْجلَال ميدانه وَإِلَى هَذَا زَاد الله سلطانكم تمكينا وَأفَاد مقامكم تحصينا وتحسينا وسلك بكم من سنَن من خلفتموه سَبِيلا مُبينًا فَلَا خَفَاء بِمَا كَانَت عقدته أَيدي التَّقْوَى ومهدته الرسائل الَّتِي على الصفاء تطوى بَيْننَا وَبَين والدكم نعم الله روحه وقدسه وبقربه مَعَ الْأَبْرَار فِي عليين أنسه من مؤاخاة أحكمت مِنْهَا العهود تالية الْكتب والفاتحة وَحفظ عَلَيْهَا مُحكم الْإِخْلَاص معوذاتها الْمحبَّة وَالنِّيَّة الصَّالِحَة فانعقدت على التَّقْوَى والرضوان واعتضدت بتعارف الْأَرْوَاح عِنْد تنازح الْأَبدَان حَتَّى استحكمت وصلَة الْوَلَاء والتأمت كلحمة النّسَب لحْمَة الإخاء فَمَا كَانَ إِلَّا وشيكا من الزَّمَان وَلَا عجب قصر زمن الوصلة أَن يشكوه الخلان ورد وَارِد أورد رنق المشارب وحقق قَول وَمن يسْأَل الركْبَان عَن كل غَائِب أنبأ باستثارة الله تَعَالَى بِنَفسِهِ الزكية وإكنان درته السّنيَّة وانقلابه إِلَى مَا أعد لَهُ من الْمنَازل الرضوانية بجليل مَا وقر لفقده فِي الصُّدُور وعظيم مَا تأثرت لَهُ النُّفُوس لوُقُوع ذَلِك الْمَقْدُور حنانا لِلْإِسْلَامِ بِتِلْكَ الأقطار وإشفاقا من أَن يعتور قاصدي بَيت الله الْحَرَام من جراء الْفِتَن عَارض الْإِضْرَار ومساهمة فِي مصاب الْملك الْكَرِيم وَالْوَصِيّ الْحَمِيم ثمَّ عميت الْأَخْبَار وطويت طي السّجل الْآثَار فَلم نر مخبرا صدقا وَلَا معلما بِمن اسْتَقر لَهُ ذَلِكُم الْملك حَقًا وَفِي أثْنَاء ذَلِك حفزنا للحركة عَن حضرتنا استصراخ أهل الأندلس وسلطانها وتواتر الْأَخْبَار بِأَن النَّصَارَى أَجمعُوا على خراب أوطانها وَنحن أثْنَاء ذَلِك الشَّأْن نستخبر الوراد من تلكم الْبلدَانِ عَمَّا أجلى عَنهُ ليل الْفِتَن بتلكم الأوطان فَبعد لأي
وقعنا مِنْهَا على الْخَبِير وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير وتعرفنا أَن الْملك اسْتَقر مِنْكُم فِي نصابه وتداركه الله تَعَالَى مِنْكُم بفاتح الْخَيْر من أبوابه فأطفأ بكم نَار الْفِتْنَة وأخمدها مِنْهُ أدواء النِّفَاق مَا أعل الْبِلَاد وأفسدها فَقَامَ سَبِيل الْحَج سابلا وَعبر طَرِيقه لمن جَاءَ قَاصِدا وقافلا وَلما احتفت بِهَذَا الْخَبَر الْقَرَائِن وتواتر بِنَقْل الْحَاضِر المعاين أثار حفظ الإعتقاد البواعث والود الصَّحِيح تجره حَقًا الموارث فأصدرنا لكم هَذِه المخاطبة المتفننة الأطوار الجامعة بَين الْخَبَر والإستخبار الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار وَمثل ذَلِك الْملك رضوَان الله عَلَيْهِ من تجل المصائب لفقدانه وَتحل عرى الإصطبار بِمَوْتِهِ ولات حِين أَوَانه وَلَكِن الصَّبْر اجمل مَا ارتداه ذُو عقل حُصَيْن وَالْأَجْر أولى مَا اقتناه ذُو دين متين ومثلكم من لَا يخف وقاره وَلَا يشف عَن ظُهُور الْجزع الْحَادِث اصطباره وَمن خلفتموه فَمَا مَاتَ ذكره وَمن قُمْتُم بأَمْره فَمَا زَالَ بل زَاد فخره وَقد طَالَتْ وَالْحَمْد لله العيشه الراضية بالحقب وطاب بَين مبداه ومحتضره هَنِيئًا بِمَا من الْأجر اكْتسب وَصَارَ حميدا إِلَى خير مُنْقَلب ووفد من كرم الله على أفضل مَا منح موقنا ووهب فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدسة وحماية زوار بَيته مقيلة أَو معرسة وَنحن بعد بسط هَذِه التَّعْزِيَة نهنيكم بِمَا خولكم الله أجمل التهنية وَفِي ذَات الله الْإِيرَاد والإصدار وَفِي مرضاته سُبْحَانَهُ الْإِضْمَار والإظهار فَاسْتَقْبلُوا دولة ألْقى الْعِزّ عَلَيْهَا رواقه وَعقد الظُّهُور عَلَيْهَا نطاقه وَأَعْطَاهُ أَمَان الزَّمَان عقده وميثاقه وَنحن على مَا عاهدنا عَلَيْهِ الْملك النَّاصِر رضوَان الله عَلَيْهِ من عهود موثقة وموالاة مُحَققَة وثناء كمائمه عَن أذكى من الزهر غب الْقطر مفتقه وَلم يغب عَنْكُم مَا كَانَ من بعثنَا المصحفين الأكرمين اللَّذين خطتهما منا الْيَمين وآوت بهما الرَّغْبَة من الْحَرَمَيْنِ الشريفين إِلَى قَرَار مكين وَإنَّهُ كَانَ لوالدكم الْملك النَّاصِر تولاة الله برضونه وَأوردهُ موارد إحسانه فِي ذَلِكُم من الْفِعْل الْجَمِيل والصنع الْجَلِيل مَا ناسب مَكَانَهُ الرفيع وشاكل فَضله من الْبر الَّذِي لَا يضيع حَتَّى طبق فعله الْآفَاق ذكرا وطوق أَعْنَاق الوراد والقصاد برا وَكَانَ من أجمل مَا بِهِ تحفى وأتحف وَأعظم مَا بعرفه إِلَى الْملك العلام فِي ذَلِك تعرف إِذْنه
للمتوجهين إِذا ذَاك فِي شِرَاء رباع توقف على المصحفين ورسم المراسم الْمُبَارَكَة بتحرير ذَلِك الْوَقْف مَعَ اخْتِلَاف الجديدين فجرت أَحْوَال الْقُرَّاء فِيهَا بذلك الْخراج السمتفاد ريثما يصلهم من خراج مَا وقفناه عَلَيْهِم بِهَذِهِ الْبِلَاد على مَا رسمه رَحْمَة الله عَلَيْهِ من عناية بِهِ مُتَّصِلَة واحترام فِي تِلْكَ الْأَوْقَاف فوائدها بِهِ متوفرة متحصلة وَقد أمرنَا مؤدي هَذَا لَكمَا لكم وموفده على جلالكم كاتبنا الْأَسْنَى الْفَقِيه الْأَجَل الأحظى الْأَكْمَل أَبَا الْمجد ابْن كاتبنا الشَّيْخ الْفَقِيه الْأَجَل الْحَاج الأتقى الأرضى الْأَفْضَل الأحظى الْأَكْمَل المرحوم أبي عبد الله بن أبي مَدين حفظ الله عَلَيْهِ رتبته وَيسر فِي قصد الْبَيْت الْحَرَام بغيته بِأَن يتفقد أَحْوَال تِلْكَ الْأَوْقَاف ويتعرف تصرف النَّاظر عَلَيْهَا وَمَا فعله من سداد وإسراف وَأَن يتَخَيَّر لَهَا من يرتضي لذَلِك ويحمد تصرفه فِيمَا هُنَالك وخاطبنا سلطانكم فِي هَذَا الشَّأْن جَريا على الود الثَّابِت الْأَركان وإعلاما بِمَا لوالدكم رَحمَه الله تَعَالَى فِي ذَلِك من الْأَفْعَال الحسان وكما لكم يَقْتَضِي تخليد ذَلِكُم الْبر الْجَمِيل وتجديد علم ذَلِك الْملك الْجَلِيل وتشييد مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الشِّرَاء الْأَصِيل وَالْأَجْر الجزيل والتقدم بِالْإِذْنِ السلطاني فِي إِعَانَة هَذَا الْوَافِد بِهَذَا الْكتاب على مَا يتوخاه فِي ذَلِك الشَّأْن من طرق الصَّوَاب وثناؤنا عَلَيْكُم الثَّنَاء الَّذِي يفاوح زهر الرِّبَا ويطارح نغم حمام الأيك مطربا وبحسب المصافاة وَمُقْتَضى الْمُوَالَاة نشرح لكم المتزايدات بِهَذِهِ الْجِهَات وننبئكم بِمُوجب إبطاء إِنْفَاذ هَذَا الْخطاب على ذَلِكُم الجناب وَذَلِكَ أَنه لما وصلنا من الأندلس الصَّرِيخ ونادى منا للْجِهَاد عزما لمثل ندائه يصيخ أَنبأَنَا أَن الْكفَّار قد جمعُوا أحزابهم من كل صوب وَفرض عَلَيْهِم باباهم اللعين التناصر من كل أَوب وَأَن تقصد طوائفهم الْبِلَاد الأندلسية بإيجافها وتنقص بالمنازلة أرْضهَا من أطرافها ليمحو كلمة الْإِسْلَام مِنْهَا ويقلصوا ظلّ الْإِيمَان عَنْهَا فقدمنا من يشْتَغل بالأساطيل من القواد وسرنا على اثرهم إِلَى سبتة مُنْتَهى الغرب الْأَقْصَى وَبَاب الْجِهَاد فَمَا وصلناها إِلَّا وَقد أَخذه الْعَدو الكفور وسدت أجفان الطواغيت على التعاون مجَاز العبور وَأتوا من أجفانهم بِمَا لَا يُحْصى عددا وأرصدوها بمجمع الْبَحْرين حَيْثُ الْمجَاز إِلَى دفع العدا وتقلصوا عَن
الانبساط فِي الْبِلَاد واجتمعوا إِلَى الجزيرة الخضراء أَعَادَهَا الله بِكُل من جَمَعُوهُ من الأعاد لَكنا مَعَ انسداد تِلْكَ السَّبِيل وَعدم أُمُور نستعين بهَا فِي ذَلِكُم الْعَمَل الْجَلِيل حاولنا إمداد تلكم الْبِلَاد بِحَسب الْجهد وأصرخناهم بِمَا أمكن من الْجند وجهزنا أجفانا مختلسين فرْصَة الْإِجَازَة تَتَرَدَّد على خطر بِمن جهز للْجِهَاد جهازه وأمرنا لصَاحب الأندلس من المَال بِمَا يُجهز بِهِ حركته لمداناة محلّة حزب الضلال وأجرينا لَهُ ولجيشه الْعَطاء الجزل مشاهرة وأرضخنا لَهُم من النوال مَا نرجو بِهِ ثَوَاب الْآخِرَة وَجعلت أجفاننا تَتَرَدَّد فِي مينا السواحل وتلج أَبْوَاب الْخَوْف العاجل لإحراز الْأَمْن الآجل مشحونة بِالْعدَدِ الموفورة والأبطال الْمَشْهُورَة وَالْخَيْل المسومة والأقوات المقومة فَمن نَاجٍ حَارب دونه الْأَجَل وشهيد مضى لما عِنْد الله عز وجل وَمَا زَالَت الأجفان تَتَرَدَّد على ذَلِك الْخطر حَتَّى تلف مِنْهَا سبع وَسِتُّونَ قِطْعَة غزوية أجرهَا عِنْد الله يدّخر ثمَّ لم نقنع بِهَذَا الْعَمَل فِي الْإِمْدَاد فَبَعَثنَا أحد أَوْلَادنَا أسعدهم الله مساهمة بِهِ لأهل تِلْكَ الْبِلَاد فلقي من هول الْبَحْر وارتجاجه وإلحاح الْعَدو ولجاجه مَا بِهِ الْأَمْثَال تضرب وبمثله يتحدث ويستغرب وَلما خلص لتِلْك العدوة بِمن أبقته الشدائد نزل بِإِزَاءِ الْكَافِر الجاحد حَتَّى كَانَ مِنْهُ بفرسخين أَو أدنى وَقد ضرب بِعَطَن يصابح الْعَدو ويماسيه بِحَرب بهَا يمنى وَقد كَانَ من مددنا بالجزيرة جَيش شريت شرارته وقويت فِي الْحَرْب إدارته يبلون الْبلَاء الأصدق وَلَا يبالون بالعدو وهم مِنْهُ كَالشَّامَةِ الْبَيْضَاء فِي الْبَعِير الأورق إِلَّا أَن المطاولة بحصارها فِي الْبَحْر مُدَّة ثَلَاثَة أَعْوَام وَنصف ومنازلتها فِي الْبر نَحْو عَاميْنِ معقودا عَلَيْهَا الصَّفّ بالصف أدّى إِلَى فنَاء الأقوات فِي الْبَلَد حَتَّى لم يبْق لأهليه قوت شهر مَعَ انْقِطَاع المدد وَبِه من الْخلق مَا يربى على عشرَة آلَاف دون الْحرم وَالْولد فَكتب إِلَيْنَا سُلْطَان الأندلس يرغب فِي الْأذن لَهُ فِي عقد الصُّلْح وَوَقع الِاتِّفَاق على أَنه لاستخلاص الْمُسلمين من وُجُوه النجع فأذنا لَهُ فِيهِ الْإِذْن الْعَام إِذْ فِي إصراخه وإصراخ من بقطره من الْمُسلمين توخينا ذَلِك المرام هُنَالك دَعَا النَّصَارَى إِلَى السّلم فاستجابوا وَقد كَانُوا علمُوا فنَاء الْقُوت وَمَا استرابوا فتم الصُّلْح إِلَى عشر سِنِين وَخرج من بهَا من فرسَان
وَرِجَال وَأهل وبنين وَلَا رزئوا مَالا وَلَا عدَّة وَلَا لقوا فِي خُرُوجهمْ غير النزوح عَن أول أَرض مس الْجلد ترابها شدَّة ووصلوا إِلَيْنَا فأجزلنا لَهُم الْعَطاء وأسليناهم عَمَّا جرى بالحباء فَمن خيل تزيد على الْألف عتاقها وخلع تربى على عشرَة آلَاف أطواقها وأموال عَمت الْغَنِيّ وَالْفَقِير ورعاية شملت الْجَمِيع بالعيش النَّضِير كف الله ضرّ الطواغيت عَمَّا عَداهَا وَمَا انقلبوا بِغَيْر مَدَرَة عَفا رسمها وصم صداها وَقد كَانَ من لطف الله حِين قضى بِأخذ هَذَا الثغر أَن قدر لنا فتح جبل طَارق من أَيدي الْكفْر وَهُوَ المطل على هَذِه المدرة والفرصة مِنْهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى متيسرة حَتَّى يفرق عقد الْكفَّار ويفرج بِهَذِهِ الْجِهَة مِنْهُم مجاورو هَذِه الأقطار فلولا إجلابهم من كل جَانب وكونهم سدوا مَسْلَك العبور بِمَا لجميعهم من الأجفان والمراكب لما بالينا بأصفاقهم ولحللنا بعون الله عقد اتِّفَاقهم وَلَكِن للموانع أَحْكَام وَلَا راد لما جرت بِهِ الأقلام وَقد أمرنَا لذَلِك الثغر بمزيد المدد وتخيرنا لَهُ ولسائر تِلْكَ الْبِلَاد الْعدَد وَالْعدَد وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السّفر ونرتبط الْجِيَاد وننتخب الْعدَد لوقت الظُّهُور المنتظر ونكون على أهبة الْجِهَاد وعَلى مرقبة الفرصة عِنْد تمكنها فِي الأعاد وَعند عودنا من تِلْكَ المحاولة نيسر الركب الْحِجَازِي موجها إِلَى هُنَاكُم رواحله فأصدرنا إِلَيْكُم هَذَا الْخطاب إصدار الود الْخَالِص وَالْحب اللّبَاب وَعِنْدنَا لكم مَا عِنْد أحنى الْآبَاء واعتقادنا فِيكُم فِي ذَات الله لَا يخْشَى جديده من الْبلَاء ومالكم من غَرَض بِهَذِهِ الأنحاء موفي قَصده على أكمل الْأَهْوَاء موَالِي تتميمه على أجمل الأراء والبلاد باتحاد الود متحدة والقلوب وَالْأَيْدِي على مَا فِيهِ مرضاة الله عز وجل منعقدة جعل الله ذَلِكُم خَالِصا لرب الْعباد مدخورا ليَوْم التناد مسطورا فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة يَوْم الْمعَاد بمنه وفضله هُوَ سُبْحَانَهُ يصل إِلَيْكُم سَعْدا تتفاخر بِهِ سعود الْكَوَاكِب وتتضافر على الانقياد لَهُ صُدُور المواكب وتتقاصر عَن نيل مجده متطاولات المناكب وَالسَّلَام الأتم يخصكم كثيرا أثيرا وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَكتب فِي يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين لشهر صفر الْمُبَارك من عَام خَمْسَة وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَصُورَة الْعَلامَة وَكتب فِي التَّارِيخ المؤرخ
قَالَ ابْن خلدون فَقضى أَبُو الْفضل بن أبي عبد الله بن ابي مَدين من وفادته مَا حمل وَكَانَ شَأْنه عجبا فِي إِظْهَار أبهة سُلْطَانه والإنفاق على الْمُسْتَضْعَفِينَ من إلحاج فِي طَرِيقه وإتحاف رجال الدولة التركية بِذَات يَده وَالتَّعَفُّف عَمَّا فِي أَيْديهم رحمه الله وَقَالَ الْعَلامَة المقريزي وَفِي منتصف شعْبَان من سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة قدمت الْحرَّة أُخْت صَاحب الْمغرب فِي جمَاعَة كَثِيرَة وعَلى يَدهَا كتاب السُّلْطَان أبي الْحسن يتَضَمَّن السَّلَام وَأَن يَدْعُو لَهُ الخطباء فِي يَوْم الْجُمُعَة ومشايخ الصّلاح وَأهل الْخَيْر بالنصر على عدوهم وَيكْتب إِلَى أهل الْحَرَمَيْنِ بذلك اه وَلَعَلَّ هَذَا الْكتاب آخر غير الَّذِي سردناه يتَضَمَّن مَا ذكره وَالله أعلم
ونشخة الْجَواب عَن الْكتاب الَّذِي سردناه من إنْشَاء خَلِيل الصَّفَدِي شَارِح لآمية الْعَجم بعد الْبَسْمَلَة فِي قطع النّصْف بقلم الثُّلُث عبد الله ووليه صُورَة الْعَلامَة وَلَده إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد السُّلْطَان الْملك الصَّالح السَّيِّد الْعَالم الْعَادِل الْمُؤَيد الْمُجَاهِد المرابط المظفر الْمَنْصُور عماد الدُّنْيَا وَالدّين سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين محيي الْعدْل فِي الْعَالمين منصف المظلومين من الظَّالِمين وَارِث الْملك ملك الْعَرَب والعجم وَالتّرْك فاتح الأقطار واهب الممالك والأمصار إسكندر الزَّمَان مملك أَصْحَاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان ظلّ الله فِي أرضه الْقَائِم بسنته وفرضه مَالك الْبَحْرين خَادِم الْحَرَمَيْنِ الشريفين سيد الْمُلُوك والسلاطين جَامع كلمة الْمُوَحِّدين ولي أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن السُّلْطَان الشَّهِيد السعيد الْملك النَّاصِر نَاصِر الدُّنْيَا وَالدّين أبي الْفَتْح مُحَمَّد بن السُّلْطَان الشَّهِيد السعيد الْملك الْمَنْصُور سيف الدُّنْيَا وَالدّين قلاوون خلد الله تَعَالَى سُلْطَانه وَجعل الْمَلَائِكَة أنصاره واعوانه يخص الْمقَام العالي الْملك الْأَجَل الْكَبِير الْمُجَاهِد الْمُؤَيد المرابط المثاغر الْمُعظم المكرم المظفر المعمر الأسعد الأصعد الأوحد الأمجد السّني السّري الْمَنْصُور أَبَا الْحسن عَليّ بن أَمِير الْمُسلمين أبي سعيد عُثْمَان بن أَمِير الْمُسلمين أبي يُوسُف يَعْقُوب بن عبد الْحق أمده الله بالظفر وَقرن عزمه بالتأييد فِي الآصال وَالْبكْر سَلام وشت البروق وشائعه وادخرت الْكَوَاكِب ودائعه
واستوعب الزَّمَان ماضيه ومستقبله ومضارعه وثناء اتخذ النفحات المسكية طلائعه وَنبهَ بالتغريد فِي الرَّوْض سواجعه وجلى فِي كأسه من الشَّفق المحمر مدامه وَمن النُّجُوم فواقعه أما بعد حمد الله على نعم أدَّت لنا الْأَمَانَة فِي عود سلطنة والدنا الموروثة وأجلستنا على سَرِير مملكة زرابيها بَين النُّجُوم مبثوثة وأحسنت بِنَا الْخلف عَن سلف عهدوه فِي الْأَعْنَاق غير منكورة وَلَا منكوثة وَصلَاته على سيدنَا مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله وعَلى آله وَصَحبه الَّذين بلغ بجهادهم فِي الْكَفَرَة غَايَة أمله وسؤله صَلَاة تحط بالرضوان سيولها وتجر بالغفران ذيولها مَا تراسل أَصْحَاب وتواصل أحباب فيوضح للْعلم الْكَرِيم وُرُود كتابكُمْ الْعَظِيم وخطابكم الْفَائِق على الدّرّ النظيم تفاخر الخمائل سطوره ويصبغ خد الْورْد بالخجل منثوره ويحكي الرياض اليانعة فالألفات غصونه والهمزات عَلَيْهَا طيوره ويخلع على الْآفَاق حلل الْأَيَّام والليالي فالطرس صباحه والنقس ديجوره لَفظه يطرب وَمَعْنَاهُ يعرب فيغرب وبلاغته تدل على أَنه آيَة لِأَن شمس بَيَانهَا طلعت من الْمغرب فاتخذنا سطوره ريحانا ورجعنا أَلْفَاظه ألحانا ورجعنا إِلَى الْجد فشبهنا ألفاته بظلال الرماح وورقه بصقال الصفاح وحروفه المفرقه بأفواه الْجراح وسطوره المنتظمة بالفرسان المزدحمة يَوْم الكفاح وانتهينا إِلَى مَا أودعتموه من اللَّفْظ المسجوع وَالْمعْنَى الَّذِي يطرب طَائِره المسموع والبلاغة الَّتِي فَضَح التطبع بَيَانهَا المطبوع فَأَما العزاء بأخيكم الْوَالِد قدس الله روحه وَسَقَى عَهده وَأحسن لسلفه خلفا بعده فلنا برَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة وَلَوْلَا الوثوق بِأَنَّهُ فِي عدَّة الشُّهَدَاء مَا رام الْقلب قراره وَلَا الطّرف وَسنة عَاشَ سعيدا يملك الأَرْض وَمَات شَهِيدا. 000 يفوز بِالْجنَّةِ يَوْم الْعرض قد خلد الله ذكره يسير مسير الشَّمْس فِي الْآفَاق وَيُوقف عِنْد نضارة حدائقه الأحداق وورثنا مِنْهُ حسن الآخاء لكم وَالْوَفَاء بعهود مَوَدَّة تشبه فِي اللطف شمائلكم وَأما الهناء بوراثة ملكه والإنخراط مَعَ الْمُلُوك فِي سلكه فقد شكرنا لكم منحى هَذِه المنحة وقابلناها بثناء يعطر النسيم فِي كل نفحه ووقفنا عَلَيْهَا حمدا جعل الود علينا إِيرَاده وعَلى أنفاس سرحة الرَّوْض شَرحه وتحققنا بِهِ حسن ودكم الْجَمِيل وكريم إخائكم الَّذِي لَا يميد طود رسوخه وَلَا يمِيل
وَأما مَا ذكرتموه من أَمر المصحفين الكريمين الشريفين الَّذين وقفتموهما على الْحَرَمَيْنِ المنيفين وَإِنَّكُمْ جهزتم كاتبكم الْفَقِيه الْأَجَل الْأَسْنَى الأسمى أَبَا الْمجد ابْن كاتبكم أبي عبد الله بن أبي مَدين أعزه الله لتفقد أحوالهما وَالنَّظَر فِي أَمر أوقافهما فقد وصل الْمَذْكُور بِمن مَعَه فِي حرز السَّلامَة وَأَكْرمنَا نزلهم وسهلنا بالترحيب سبلهم وجمعنا على بذل الْإِحْسَان إِلَيْهِم شملهم وَحضر الْمَذْكُور بَين أَيْدِينَا وقربناه وَسَمعنَا كَلَامه وخاطبناه وأمرنا فِي أَمر المصحفين الشريفين بِمَا أشرتم ورسمنا لنوابنا فِي توخي أوقافهما بِمَا ذكرْتُمْ وَهَذَا الْوَقْف المبرور جَار على أحسن عَادَة ألفها وَأثبت قَاعِدَة عرفهَا مرعي الجوانب محمي الْمنَازل وَالْمُضَارب آمن إِزَالَة رسمه أَو إذالة حكمه بدره أبدا فِي مطالع تمه وزهرة دَائِما يرقص فِي كمه لَا يزْدَاد إِلَّا تخليدا وَلَا إِطْلَاق ثُبُوته إِلَّا تقييدا وَلَا عنق اجْتِهَاده إِلَّا تقليدا جَريا على قَاعِدَة أوقاف ممالكنا وَعَادَة تصرفاتنا فِي مسالكنا وَله مزِيد الرِّعَايَة وإفادة الحماية ووفادة الْعِنَايَة وَأما مَا وصفتموه من أَمر الجزيرة الخضراء وَمَا لاقاه أَهلهَا ومني بِهِ من الْكفَّار حزنها وسهلها فَإِنَّهُ شقّ علينا سَمَاعه الَّذِي أنكى أهل الْإِيمَان وَعدد بِهِ نوب الزَّمَان كل قلب بأنامل الخفقان وطالما فزتم بالظفر ورزقتم النَّصْر على عَدوكُمْ فجر ذيل الْهَزِيمَة وفر وَلَكِن الْحَرْب سِجَال وكل زمَان لدوائره دولة ولرجائه رجال وَلَو أمكنت المساعدة لطارت بِنَا إِلَيْكُم عقبان الْجِيَاد المسومة وسالت على عَدوكُمْ أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقومة وكحلنا عين النُّجُوم بمراود الرماح وَجَعَلنَا ليل العجاج ممزقا ببروق الصفاح واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات وفرجنا مضايق الْحَرْب بتوالي الكرات وعطفنا عَلَيْهِم الأعنة وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة وفلقنا الصخرات بالصرخات وأسلنا العبرات بالرعبات وَلَكِن أَيْن الْغَايَة من هَذَا المدى المتطاول وَأَيْنَ الثريا من يَد المتناول وَمَا لنا غير إمدادكم بِجُنُود الدُّعَاء الَّذِي نرفعه نَحن ورعايانا والتوجه الصَّادِق الَّذِي تعرفه مَلَائِكَة الْقبُول من سجايانا أما مَا فقدتموه من
الأجفان الَّتِي طرقها طيف الْإِتْلَاف وَأم حرم فنائها الفناء وَطَاف بِهِ بعد الألطاف فقد روع هَذَا الْخَبَر قلب الْإِسْلَام وَنَوع لَهُ الْحزن على اخْتِلَاف الإصباح والإظلام وَهَذِه الدَّار لَا يَخْلُو صفوها من كدر الْقدر وطالما انامت بالأمن أول اللَّيْل وخاطبت بالخطب فِي السحر وَلَكِن فِي بقائكم مَا يسلي عَن خطب العطب وَمَعَ سَلامَة نفسكم الْكَرِيمَة فَالْأَمْر هَين لِأَن الدّرّ يفدى بِالذَّهَب وَأما مَا رَأَيْتُمُوهُ من الصُّلْح فَرَأى عقده مبارك وَأمر مَا فِيهِ فارط عزم وَإِن كَانَ فيتدارك وَالْأَمر يَجِيء كَمَا يحب لَا كَمَا نحب والحروب يزورها نصرها تَارَة ويغب مَعَ الْيَوْم غَدا وَقد يرد الله الردى وَيُعِيد الظفر بالعدا وَأما عودكم إِلَى فاس المحروسة طلبا لإراحة من عنْدكُمْ من الْجنُود وتجهيزا لمن يصل من عنْدكُمْ إِلَى الْحجاز الشريف من الْوُفُود فَهَذَا أَمر ضَرُورِيّ التَّدْبِير سروري التثمير لِأَن النُّفُوس تمل وثير المهاد فَكيف مُلَازمَة صهوات الْجِيَاد وتسأم من مجالسة الشّرْب فَكيف بممارسة الْحَرْب وَتعرض عَن دوَام اللَّذَّة فَكيف بِمُبَاشَرَة المنايا الفذة وَهَذَا جبل طَارق الَّذِي فتح الله بِهِ عَلَيْكُم وسَاق هدي هديته إِلَيْكُم لَعَلَّه يكون سَببا إِلَى ارتجاع مَا شرد وحسما لهَذَا الطاغية الَّذِي مرد وردا لهَذَا النَّازِل الَّذِي كدرر ورد الصَّبْر لما ورد فعادة الألطاف بكم مَعْرُوفَة وعزماتكم إِلَى جِهَات الْجِهَاد مصروفة وَقد تفاءلنا لكم من هَذَا الْجَبَل بِأَنَّهُ طَارق خير من الرَّحْمَن يطْرق وجبل يعْصم من سهم يمر من قسي الْكفَّار ويمرق وَأما مَا منحتموه من الْخَيل الْعتاق والملابس الَّتِي تطلع بدور الْوُجُوه من مَشَارِق الأطواق وَالْأَمْوَال الَّتِي زكتْ عِنْد الله تَعَالَى ونمت على الْإِنْفَاق فعلى الله عز وجل خلفهَا وَلكم فِي منَازِل الدُّنْيَا وَالْآخِرَة سرفها وشرفها وإليكم تساق هَدَايَا أثنيتها وتحفكم تحفها وَإِذا وصل وفدكم الْحَاج وأنار لَهُ بِوَجْه إقبالنا عَلَيْهِم ليلهم الداج وَكَانُوا مقيمين تَحت ظلّ إكرامنا وشمول إسعافنا لَهُم وإنعامنا يتخولون تحفا أَنْتُم سَببهَا ويتناولون طرفا فِي كؤوس الاعتناء بهم ينضد حببها وَإِذا كَانَ أَوَان الرحيل إِلَى الْحَج فسحنا لَهُم الطَّرِيق وسهلنا لَهُم الرفيق وبلغناهم بحول الله تَعَالَى مُنَاهُمْ من منى وسألهم مِمَّن إِذا
زاروا حجراته الشَّرِيفَة حازوا الشَّرِيفَة حازوا الرَّاحَة من العناء وفازوا بالغنى وَإِذا عَادوا عاملناهم بِكُل جميل ينسبهم مشقة ذَلِك الدَّرْب ويخيل إِلَيْهِم أَن لَا مَسَافَة لمسافر بَين الشرق والغرب وغمرناهم بِالْإِحْسَانِ فِي الْعود إِلَيْكُم وأمرناهم بِمَا ينهونه شفاها لديكم وعناية الله تَعَالَى تحوط ذاتكم وتوفر لأخذ الثار حماتكم وتخصكم بتأييد تَنْزِلُونَ روضه الأنضر وتجنون بِهِ ثَمَر النَّصْر اليانع من ورق الْحَدِيد الْأَخْضَر وتتحفكم بِسَعْد لَا يبْلى قشيبه وَعز لَا يمحو شبابه مشيبة وتحيته الْمُبَارَكَة تغاديكم وترواحكم وتفاوحكم أنفاسها الْمُعْتَبرَة وتنافحكم بمنه وَكَرمه فِي سادس رَمَضَان سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة
قَالَ ابْن خلدون ثمَّ شرع السُّلْطَان أَبُو الْحسن بعد استيلائه على إفريقية كَمَا نذكرهُ فِي كتب نُسْخَة أُخْرَى من الْمُصحف الْكَرِيم ليوقفها بِبَيْت الْمُقَدّس فَلم يقدر إِتْمَامهَا وَهلك قبل فَرَاغه من نسخهَا اه وَهُوَ يَقْتَضِي أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور ماا كتب سوى مصحفين اثْنَيْنِ وَيُؤَيِّدهُ ظَاهر الْكِتَابَيْنِ المسرودين آنِفا مَعَ أَنه تقدم النَّقْل عَن الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس الْمقري أَنه وقف على النُّسْخَة الْمَوْقُوفَة بِبَيْت الْمُقَدّس وَالله تَعَالَى أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر
هَدِيَّة السُّلْطَان أبي الْحسن إِلَى ملك مَالِي من السودَان المجاورين للمغرب
اعْلَم أَن أَرض السودَان الْمُجَاورَة للمغرب تشْتَمل على ممالك مِنْهَا مملكة غانة وَمِنْهَا مملكة مَالِي وَمِنْهَا مملكة كاغو وَمِنْهَا مملكة برنو وَغير ذَلِك وَكَانَ ملك مَالِي وَهُوَ السُّلْطَان منسى مُوسَى بن أبي بكر من أعظم مُلُوك السودَان فِي عصره وَلما استولى السُّلْطَان أَبُو الْحسن على الْمغرب الْأَوْسَط وَغلب بني زيان على ملكهم عظم قدره وَطَالَ ذكره وشاعت أخباره فِي الْآفَاق فسما هَذَا السُّلْطَان وَهُوَ منسى مُوسَى إِلَى مُخَاطبَة السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ مجاورا لمملكة الْمغرب على نَحْو مائَة مرحلة فِي القفر فأوفد
عَلَيْهِ جمَاعَة من أهل مَمْلَكَته مَعَ ترجمان من الملثمين المجاورين لبلادهم من صنهاجة فوفدوا على السُّلْطَان أبي الْحسن فِي سَبِيل التهنئة بالظفر فَأكْرم وفادتهم وَأحسن مثواهم ومنقلبهم وَنزع إِلَى مذْهبه فِي الْفَخر فانتخب طرفا من مَتَاع الْمغرب وماعونه وشيئا من ذخيرة دَاره وأسنى الْهَدِيَّة وَعين رجَالًا من أهل دولته كَانَ فيهم كَاتب الدِّيوَان أَبُو طَالب بن مُحَمَّد بن أبي مَدين ومولاه عنبر الْخصي فأوفدهم بهَا على ملك مَالِي منسى سُلَيْمَان لمهلك أَخِيه مُوسَى قبل مرجع وفده وأوعز إِلَى أَعْرَاب الفلاة من بني معقل بالسير مَعَهم ذَاهِبين وجاءين فشمر لذَلِك عَليّ بن غَانِم أَمِير أَوْلَاد جرار من معقل وصحبهم فِي طريقهم امتثالا لأمر لسلطان وتوغل ذَلِك الركب فِي القفر إِلَى بلد مَالِي بعد الْجهد وَطول الشقة فَأحْسن منسى سُلَيْمَان مبرتهم وَأعظم موصلهم وَأكْرم وفادتهم ومنقلبهم وعادوا إِلَى مرسلهم فِي وَفد من كبار مَالِي يعظمون السُّلْطَان أَبَا الْحسن ويوجبون حَقه ويؤدون طَاعَته ويذكرون من خضوع مرسلهم وقيامه بِحَق السُّلْطَان أبي الْحسن واعتماله فِي مرضاته مَا استوصاهم بِهِ
وَاعْلَم أَن منسى مُوسَى الَّذِي ذَكرْنَاهُ كَانَ من كبار الْمُلُوك كَمَا قُلْنَا وَهُوَ الَّذِي صَحبه أَبُو إِسْحَاق الساحلي الْمَعْرُوف بالطويجي من شعراء الأندلس كَانَ قد لقِيه فِي لموسم بِعَرَفَة فحلى بِعَيْنِه وحظيت مَنْزِلَته عِنْده فصحبه إِلَى بِلَاده وَأقَام عِنْده مصحوبا بِالْبرِّ والكرامة وَبنى للسُّلْطَان الْمَذْكُور قبَّة رائعة فازدادت حظوته عِنْده قَالَ ابْن خلدون أطرف أَبُو إِسْحَاق الطويجن السُّلْطَان منسى مُوسَى بِبِنَاء قبَّة مربعة الشكل استفرغ فِيهَا إجادته وَكَانَ صناع الْيَدَيْنِ وأضفى عَلَيْهَا من الكلس ووالى عَلَيْهَا بالأصباغ المشبعة فَجَاءَت من أتقن المباني وَوَقعت من السُّلْطَان منسى مُوسَى موقع الاستغراب لفقدان صَنْعَة الْبناء بأرضهم وَوَصله بِاثْنَيْ عشر ألفا من مَثَاقِيل التبر مثوبة عَلَيْهَا اه وَكَانَت وَفَاة أبي إِسْحَاق بتنبتكوا يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة
مصاهرة السُّلْطَان أبي الْحسن ثَانِيًا مَعَ السُّلْطَان أبي بكر الحفصي رحمهمَا الله
قد تقدم لنا مَا كَانَ من وقْعَة طريف وَإنَّهُ هلك فِيهَا حرم السُّلْطَان أبي الْحسن من جملتهن فَاطِمَة بنت السُّلْطَان أبي بكر الحفصي فَلَمَّا فقدها أَبُو الْحسن بَقِي فِي نَفسه مِنْهَا حنين إِلَى مَا شغفته بِهِ من خلالها ولذادة الْعَيْش فِي عشرتها فسما لَهُ من الإعتياض عَنْهَا بِبَعْض أخواتها فأوفد فِي خطبتها وليه عريف بن يحيى أَمِير عرب سُوَيْد من بني زغبة الهلاليين وَكَاتب الجباية والعسكر بدولته أَبَا الْفضل بن مُحَمَّد بن أبي مَدين وفقيه الْفَتْوَى بمجلسه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان السطي ومولاه عنبر الْخصي فوفدوا على السُّلْطَان أبي بكر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فأنزلهم منزل الْبر والكرامة ثمَّ دس إِلَيْهِ حَاجِبه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن تافراجين غَرَض وفادتهم وَأَنَّهُمْ قدمُوا خاطبن بعض كرائمه لسلطانهم فَأبى من ذَلِك صونا لحرمه عَن جَوْلَة الأقطار وتحكم الرِّجَال مثل مَا وَقع فِي ابْنَته الأولى فَلم يزل حَاجِبه الْمَذْكُور يخْفض عَلَيْهِ الشَّأْن ويعظم عَلَيْهِ حق السُّلْطَان أبي الْحسن فِي رد خطبَته مَعَ مَا بَينهمَا من الصهر السَّابِق والمخالصة الْقَدِيمَة والعهود المتأكدة إِلَى أَن أجَاب وأسعف من الصهر السَّابِق والمخالصة الْقَدِيمَة والعهود المتأكدة إِلَى أَن أجَاب وأسعف وَجعل ذَلِك للحاجب الْمَذْكُور فانعقد الصهر بَين السلطانين على ابْنَته عزونه شَقِيقَة ابْنه أبي الْعَبَّاس الْفضل بن أبي بكر صَاحب بونة وَأخذ الْحَاجِب فِي شوار الْعرس وتأنق فِيهِ واحتفل واستكثر وَطَالَ مقَام الرُّسُل بتونس إِلَى أ، اسْتكْمل الجهاز فارتحلوا مِنْهَا فِي ربيع سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وأوعز السُّلْطَان أَبُو بكر إِلَى ابْنه الْفضل شَقِيق الْعَرُوس الْمَذْكُورَة أَن يزفها على السُّلْطَان أبي الْحسن قيَاما بِحقِّهِ وَبعث من بَابه جمَاعَة من مشيخة الْمُوَحِّدين فوفدوا جَمِيعًا على السُّلْطَان أبي الْحسن واتصل بهم الْخَبَر فِي طريقهم بوفاة السُّلْطَان أبي بكر فَجْأَة لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَانِي رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة فعزاهم السُّلْطَان أَبُو الْحسن عَنهُ عِنْد مَا وصلوا إِلَيْهِ واستبلغ فِي إكرامهم وأجمل موعد
أَخِيهَا الْفضل بسلطانه ومظاهرته على تراث أَبِيه فاطمأنت بِهِ الدَّار عِنْد السُّلْطَان أبي الْحسن إِلَى أَن سَار فِي جملَته وَتَحْت لوائه إِلَى إفريقية كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
غَزْو السُّلْطَان أبي الْحسن إفريقية واستيلاؤه على تونس وأعمالها
كَانَ السُّلْطَان أَبُو بكر الحفصي رحمه الله قد عهد بِالْأَمر بعده لِابْنِهِ أبي الْعَبَّاس أَحْمد وَكَانَ أوفد على السُّلْطَان أبي الْحسن حَاجِبه ابا الْقَاسِم بن عتو فِي غَرَض لَهُ وأصحبه كتاب الْعَهْد إِلَى السُّلْطَان الْمَذْكُور ليُوَافق عَلَيْهِ فَوقف عَلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو الْحسن وَكتب على حشايته بِخَطِّهِ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ رحمه الله وَأحكم العقد فِي ذَلِك وَلما مَاتَ السُّلْطَان أَبُو بكر كَانَ ولي الْعَهْد غَائِبا عَن الحضرة فَبَايع أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين لِابْنِهِ عمر
ذكر الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الوانشريسي فِي أقضية المعيار عَن الشَّيْخ ابْن عَرَفَة أَن سُلْطَان إفريقية أَبَا بكر الحفصي كتب الْعَهْد لوَلَده أَحْمد فَلَمَّا توفّي السُّلْطَان الْمَذْكُور أحضر أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين قاضيي تونس قَاضِي الْجَمَاعَة أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد السَّلَام وقاضي الأنكحه أَبَا عبد الله الآجمي وَأَمرهمَا أَن يبايعا ولد الخليفه عمر فَقَالَا كَيفَ نُبَايِعهُ وَنحن شَهِدنَا بيعَة أَخِيه أَحْمد والتزمناها وَكَانَ الْحَاجِب ابْن تافراجين نبيلا فَلَمَّا دخلا أحضر الْحَاجِب الْمَذْكُور أهل العقد والحل وَأمرهمْ أَن يباييعوا عمر فَبَايعُوهُ فَلَمَّا خرج القاضيان وجدا الْبيعَة قد حصلت وَكَانَ فِي انْتِظَار أَحْمد الْمَشْهُود لَهُ بالعهد وَهُوَ غَائِب بقفصة خوف الْفِتْنَة فَبَايع القاضيان وَكَانَ ابْن عَرَفَة يستصوب فعل الْحَاجِب وَامْتِنَاع القاضيين أَولا وبيعتهما ثَانِيًا ثمَّ قدم ولي الْعَهْد وَوَقع بَينه وَبَين أَخِيه قتال وَجَرت خطوب كَانَ فِي آخرهَا قتل ولي الْعَهْد وَقتل وليه أبي الهول بن حَمْزَة أَمِير الكعوب من عرب سليم فِي آخَرين مِنْهُم وَقطع عمر
أَيْضا أَخَوَيْهِ عبد الْعَزِيز وخالدا من خلاف فهلكا وَكَانَ الْحَاجِب أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين قد حس بِالشَّرِّ من جِهَة عمر المتغلب وتوقع النكبة من جَانِبه فتسلل إِلَى قصره وَأخذ مَا خف من ذخيرته وَلحق بالسلطان أبي الْحسن وقص عَلَيْهِ الْخَبَر وأغراه بتملك إفريقية وَأوجب عَلَيْهِ النّظر للْمُسلمين فِيهَا وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن يتَمَنَّى ذَلِك لَوْلَا مَكَان صهره أبي بكر فَأَقَامَ بتحين لَهَا الْأَوْقَات ويترقب لَهَا الفرص حَتَّى كَانَت هَذِه وَإِنَّمَا تنجع الْمقَالة فِي الْمَرْء إِذا صادقت هوى فِي القؤاد فأظهر أَبَوا لحسن الإمتعاض لما فعله عمر بأَخيه ولي الْعَهْد من مَنعه من حَقه أَولا ثمَّ غراقة دَمه ثَانِيًا لَا سِيمَا وَقد كَانَ أعْطى خطّ يَده بالموافقة على الْعَهْد الْمَذْكُور فأجمع الْحَرَكَة إِلَى إفريقية وَلحق بِهِ خَالِد بن حَمْزَة بن عمر أَخُو أبي الهول الْمَقْتُول مَعَ ولي الْعَهْد فاستعداه على عدوه فَفتح السُّلْطَان أبوة الْحسن ديوَان الطعاء ونادى فِي النَّاس بِالْمَسِيرِ إِلَى إفريقية وأزاح عللهم وعسكر بِظَاهِر تلمسان ثمَّ نَهَضَ فِي صفر من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة يجر الدُّنْيَا بِمَا حملت بعد أَن عقد لِابْنِهِ الْأَمِير أبي عنان على الْمغرب الْأَوْسَط وعهد إِلَيْهِ بِالنّظرِ فِي أُمُوره كَافَّة وَجعل إِلَيْهِ جبايته وقدمت عَلَيْهِ فِي طَرِيقه أَعْرَاب إفريقية وولاة قابس وبلاد الجريد وأطاعته طرابلس والزاب وبجاية وصاحبها يَوْمئِذٍ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء بن أبي بكر وَلما وصل قسنطينة خرج غليه أَبنَاء الْأَمِير أبي عبد الله بن أبي بكر وَلما وصل إِلَى قسنطينة خرج إِلَيْهِ أَبنَاء الْأُمِّي أبي عبد الله بن أبي بكر فَبَايعُوهُ فَأقبل عَلَيْهِم وصرفهم إِلَى الْمغرب وأنزلهم بوحدة وأقطعهم جبايتها وَأنزل بقسنطينة خلفاءه وعماله وَقد كَانَ صرف أَبَا عبد الله صَاحب بجاية إِلَى ندرومة فأنزله بهَا وأقطعه الْكِفَايَة من جبايتها ثمَّ وَفد عَلَيْهِ بَنو حَمْزَة بن عمر أُمَرَاء الكعوب من سليم فأخبروه بإجفال عمر المتغلب بتونس مَعَ ظاعنة أَوْلَاد مهلهل واستحثوه فِي اعتراضهم قبل لحاقهم بالقفر فسرح مَعَهم العساكر فِي طلبه لنظر حمو بن يحيى العسكري
وتلوم السُّلْطَان أَبُو الْحسن بقسنطينة وَعرض جيوشه بسطح الجعاب مِنْهَا ثمَّ ارتحل على أَثَرهم وأغذ حمو بن يحيى السّير مَعَ ناجعة أَوْلَاد أبي اللَّيْل فَلَحقُوا بعمر صَاحب تونس بِأَرْض الحامة من نَاحيَة قابس فدافعوا عَن
أنفسهم بعض الشَّيْء ثمَّ انْهَزمُوا وكبا بعمر جَوَاده فِي نافقاء بعض اليرابيع وانجلى الْغُبَار عَنهُ وَعَن مَوْلَاهُ ظافر راجلين فتقبض عَلَيْهِمَا وأوثقهما قَائِد الْعَسْكَر بِيَدِهِ حَتَّى إِذا جن اللَّيْل ذبحهما خوفًا من أَن تفتكهما الْعَرَب من يَده وَبعث برأسيهما إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن فوصلا إِلَيْهِ بباجية وخلص الفل من تِلْكَ الْوَقْعَة إِلَى قابس فتقبض عبد الْملك بن مكي صَاحبهَا على رجالات من أهل الدولة كَانَ فيهم أَبُو الْقَاسِم بن عتو من مشيخة الْمُوَحِّدين وصخر بن مُوسَى من رجالات سدويكش وَغَيرهمَا من أَعْيَان الدولة فَبعث بهم ابْن مكي إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن ممقرنين فِي الأصفاد فَأَما ابْن عتو وصخر بن مُوسَى وَعلي بن مَنْصُور فقطعهم من خلاق لفتيا الْفُقَهَاء بجرابتهم واعتقل الْبَاقِي
وسرح السُّلْطَان عساكره إِلَى تونس وَعقد عَلَيْهِم لصهره على ابْنَته يحيى بن سُلَيْمَان من بني عَسْكَر فاحتلوا بتونس ثمَّ جَاءَ السُّلْطَان على أَثَرهم فَنزل بظاهرها يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن من جُمَادَى الْآخِرَة من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وتلقاه وَفد تونس وشيوخها من أهل الْفتيا وأرباب الشورى فآتوه طاعتهم وانقلبوا مسرورين بولايته مغتبطين بملكته وَكَانَت تونس يَوْمئِذٍ مشحونة بالأعلام الأكابر مِنْهُم ابْن عبد السَّلَام وَابْن عَرَفَة وَابْن عبد الرفيع وَابْن رَاشد القفصي وَابْن هَارُون وأعلام آخَرُونَ ثمَّ عبا السُّلْطَان أَبُو الْحسن يَوْم السبت مواكبه لدُخُول الحضرة فَصف جُنُوده سماطين من مُعَسْكَره بسيجوم إِلَى بَاب الْبَلَد نَحْو أَرْبَعَة أَمْيَال وَركبت بَنو مرين من مراكزهم من جموعهم وَتَحْت راياتهم وَركب السُّلْطَان من فسطاطه وَعَن يَمِينه وليه عريف بن يحييى كَبِير سُوَيْد ويليه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن تافراجين وَعَن يسَاره الْأَمِير أ [وَعبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء وَهُوَ أَخُو السُّلْطَان أبي بكر ويليه الْأَمِير أَبُو عبد الله ابْن أَخِيه خَالِد كَانَا معتقلين بقسنطينة فأطلقهما السُّلْطَان أَبُو الْحسن وصحببوه إِلَى تونس فَكَانُوا طراز ذَلِك الموكب فِيمَن لَا يُحْصى من أعياص بني مرين وكبرائهم وهدرت طبوله وخفقت راياته وَكَانَت يَوْمئِذٍ نَحْو الْمِائَة وَجَاء السُّلْطَان والمواكب تَجْتَمِع عَلَيْهِ صفاصفا إِلَى أَن وصل إِلَى الْبَلَد
وَقد ماجت الأَرْض بالجيوش قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ يَوْمًا لم ير مثله فِيمَا عَقَلْنَاهُ قلت كَانَ سنّ أبن خلدون يَوْمئِذٍ سِتّ عشرَة سنة لِأَنَّهُ ولد غرَّة رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة
وَكَانَ قدم فِي جملَة السُّلْطَان أبي الْحسن جمَاعَة كَبِيرَة من أَعْلَام الْمغرب كَانَ يلْزمهُم شُهُود مَجْلِسه ويتجمل بمكانهم نيه ثمَّ دخل الْقصر الخلافي وخلع على أبي مُحَمَّد بن تافراجين وَقرب إِلَيْهِ فرسا بسرجه ولجامه وَطعم النَّاس بَين يَدَيْهِ وانتشروا إِلَى مَنَازِلهمْ ثمَّ دخل السُّلْطَان أَبُو الْحسن مَعَ ابْن تافراجين إِلَى حجر الْقصر ومساكن الْخُلَفَاء فَطَافَ عَلَيْهَا وَدخل مِنْهَا الى الرياض الْمُتَّصِلَة بهَا المدعوة بِرَأْس الطابية فَطَافَ على تِلْكَ الْبَسَاتِين وسرح نظره فِيهَا وَاعْتبر بِحَالِهَا ثمَّ أفْضى مِنْهَا إِلَى مُعَسْكَره وَأنزل يحيى بن سُلَيْمَان بقصبة تونس فِي عَسْكَر لحمايتها ثمَّ ارتحل من الْغَد إِلَى القيروان فجال فِي نَوَاحِيهَا ووقف على اثار الْأَوَّلين ومصانع الأقدمين والطلول الماثلة لصنهاجة والعبيديين وَالْتمس الْبركَة فِي زِيَارَة الْقُبُور الَّتِي نذْكر للصحابة وَالسَّلَف من التَّابِعين والأولياء فِي ساحتها ثمَّ سَار إِلَى سوسة ثمَّ إِلَى المهدية ووقف على سَاحل الْبَحْر مِنْهَا وَتَطوف فِي معالمها وَنظر فِي عَاقِبَة الَّذين كَانُوا من قبله أَشد قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض وَاعْتبر باحوالهم وَمر فِي طَرِيقه بقصر الأجم ورباط المنستير وانكفأ رَاجعا إِلَى تونس فاحتل بهَا غرَّة رَمَضَان من السّنة وَنزل المسالح على ثغور إفريقية وأقطع بني مرين الْبِلَاد والضواحي وأمضى إقطاعات الْعَرَب الَّتِي كَانَت لَهُم من قبل الحفصيين وَاسْتعْمل على الْجِهَات وخفتت الْأَصْوَات وسكنت الدهماء وانقبضت أَيدي أهل الْفساد وانقرض أَمر الحفصيين فِي هَذِه الْمدَّة إِلَّا أَنه عقد على بونة لصهره الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي بكر إِكْرَاما لصهره ووفادته عَلَيْهِ واتصلت ممالك السُّلْطَان أبي الْحسن مَا بَين مسراته إِلَى السوس الْأَقْصَى من هَذِه العدوة وَإِلَى رندة من عدوة الأندلس وَدخل الْمغرب بأسره فِي طَاعَته وحذر مُلُوك مصر وَالشَّام مَا شاع من بسطته وانفساخ دولته ونفوذ كَلمته وَالْملك لله يؤتيه من يَشَاء من عبَادَة وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَقد كَانَ الشُّعَرَاء رفعوا إِلَيْهِ قصائد فِي سَبِيل التهنئة بِالْفَتْح وَكَانَ سَابق
الحلبة يَوْمئِذٍ أَبُو الْقَاسِم الرحوي فِي قصيدة يَقُول فِي مطْلعهَا
(أجابك شَرق إِذْ دَعَوْت ومغرب
…
فمكة هشت للقاء وَيشْرب) وَهِي طَوِيلَة تخطيناها اختصارا وَالله تَعَالَى ولي التَّوْفِيق بمنه
انْتِقَاض عرب سليم بإفريقية على السُّلْطَان أبي الْحسن وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
قد تقدم لنا عِنْد الْكَلَام على الْعَرَب الداخلين إِلَى الْمغرب أَن جمهورهم كَانَ من بني جشم بن مُعَاوِيَة بن بكر وَبني هِلَال بن عَامر بن صعصعه وَبني سليم بن مَنْصُور وَإِن الَّذين بقوا مِنْهُم بإفريقية هم بَنو سليم وَبَعض هِلَال وَكَانَ لَهُم استطالة على الدول واعتزاز عَلَيْهَا فَكَانَ مُلُوك الحفصيين يتألفونهم بالولايات والإقطاعات وَنَحْو ذَلِك وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن المريني حَاله مَعَ عرب الْمغرب الْأَقْصَى غير حَال الحفصين مَعَ عرب إفريقية وملكته لأهل باديته غير ملكتهم لأهل باديتهم فَلَمَّا ورد إفريقية وَاسْتولى عَلَيْهَا رَأْي من اعتزاز الْعَرَب بهَا على الدولة وَكَثْرَة إقطاعاتهم من الضواحي والأمصار مَا تجَاوز الْحَد الْمُعْتَاد عِنْده فَأنْكر ذَلِك وَضرب على أَيْديهم وعوضهم عَنهُ بأعطيات فَرضهَا لَهُم فِي الدِّيوَان من جملَة الْجند واستكثر جبايتهم فنقصهم الْكثير مِنْهَا ثمَّ شكا إِلَيْهِ الرّعية من أُولَئِكَ الْعَرَب وَمَا ينالونهم بِهِ من الظلامات وَضرب الإتاوة الَّتِي يسمونها الخفارة فَقبض أَيْديهم عَن ذَلِك كُله وَتقدم إِلَى الرعايا بمنعهم مِنْهَا فارتابت الْعَرَب لذَلِك وفسدت ضمائرهم وثقلت وَطْأَة الدولة المرينية عَلَيْهِم فتربصوا بهَا وتحزبوا لَهَا وتعاوت ذئابهم فِي بواديهم فَاجْتمعُوا وأغاروا على قياطين بني مرين ومسالحهم فِي ثغور إفريقية حَتَّى أَنهم أَغَارُوا على ضواحي تونس فَاسْتَاقُوا الظّهْر الَّذِي كَانَ فِي مرعاها وَالسُّلْطَان يَوْمئِذٍ بهَا فَعظم عَلَيْهِ ذَلِك وحقد على كبرائهم وأظلم الجو بَينه وَبينهمْ ثمَّ وَفد عَلَيْهِ أَيَّام الْفطر من رجالاتهم خَالِد بن حَمْزَة أَمِير بني كَعْب وَأَخُوهُ أَحْمد وَخَلِيفَة بن عبد الله من بني مِسْكين وَابْن عَمه خَليفَة بن
أبي زيد أَوْلَاد الْقوس فأنزلهم السُّلْطَان أَبُو الْحسن وأجمل لقاءهم مغضبا عَمَّا صدر من غوغاتهم ثمَّ رفع إِلَيْهِ عبد الْوَاحِد بن اللحياني من أَوْلَاد الْمُلُوك الحفصيين أَنهم بعثوا إِلَيْهِ مَعَ بعض حَاشِيَته يطْلبُونَ مِنْهُ الْخُرُوج مَعَهم لينصبوه لِلْأَمْرِ بإفريقية وَأَنه خشِي على نَفسه بادرة السُّلْطَان فتبرأ إِلَيْهِ من ذَلِك فَقَامَتْ قِيَامَة السُّلْطَان أبي الْحسن عِنْد سَمَاعه ذَلِك فأحضرهم وأحضر الحفصي مَعَهم وَقَررهُ بِمَا دَار بَينه وَبينهمْ فَبُهِتُوا وأنكروا فوبخهم وَأمر بهم فسحبوا إِلَى السجْن ثمَّ فتح ديوَان الْعَطاء وَعرض الْجند لغزوهم وعسكر بسيجوم من ظَاهر تونس وَذَلِكَ بعد قَضَاء نسك الْفطر من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة
واتصل الْخَبَر بأولاد أبي اللَّيْل وَأَوْلَاد الْقوس باعتقال وفدهم وَجمع السُّلْطَان لغزوهم فضاقت عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ وَانْطَلَقُوا فِي إحيائهم يحزبون الْأَحْزَاب ويستشيرون الثوار وعطفوا على أعدائهم من أَوْلَاد مهلهل فوصلوهم بعد القطيعة وَكَانُوا بعد مقتل سلطانهم عمر بن أبي بكر قد لَحِقُوا بالقفر خوفًا من أبي الْحسن لأَنهم كَانُوا شيعَة لعمر الْمَذْكُور فَلَمَّا وَقع بَين أبي الْحسن وَبَين أَوْلَاد أبي اللَّيْل مَا وَقع ركب قُتَيْبَة بن حَمْزَة إِلَيْهِم وَمَعَهُ أمه وَنسَاء أَوْلَادهَا فتطارحوا عَلَيْهِم وَرَغبُوا إِلَيْهِم فِي الإجتماع مَعَهم على الْخُرُوج على السُّلْطَان ومنابذته فَكَانَ أَوْلَاد مهلهل إِلَيْهَا مُسْرِعين فارتحلوا مَعَهم وتوافت أَحيَاء سليم من بني كَعْب وَبني حَكِيم بتوزر من بِلَاد الجريد فتذامروا وتصافوا وأهدروا الدِّمَاء بَينهم وتبايعوا على الْمَوْت وصاروا نفسا وَاحِدَة على تبَاين أغراضهم وَفَسَاد ذَات بَينهم والتمسوا من أعياص الْملك من ينصبونه لِلْأَمْرِ فدلهم بعض سماسرة الْفِتَن على رجل من ببني عبد الْمُؤمن وَهُوَ أَحْمد بن عُثْمَان بن أبي دبوس آخر مُلُوك بني عبد الْمُؤمن وَكَانَ يحترف بالخياطة فِي توزر بعد مَا طوحت بِهِ الطوائح فَانْطَلقُوا إِلَيْهِ وجاؤوا بِهِ ونصبوه لِلْأَمْرِ وجمعوا لَهُ شَيْئا من الفساطيط وَالْخَيْل والآلات وَالْكِسْوَة وَأَقَامُوا لَهُ رسم السُّلْطَان وعسكروا عَلَيْهِ بقياطينهم وحللهم وتحالفوا على نَصره
وَلما قضى السُّلْطَان ابو الْحسن نسك عيد الْأَضْحَى من السّنة الْمَذْكُورَة
ارتحل من ساحة تونس يُرِيد الْعَرَب فوافاهم بالموضع الْمَعْرُوف بالتينة بَين بسيط تونس وبسيط القيروان فأجفلوا أَمَامه فأتبعهم وألح عَلَيْهِم إِلَى أَن وصلوا إِلَى القيروان فَلَمَّا رَأَوْا أَن لَا ملْجأ لَهُم مِنْهُ عزموا على الثَّبَات لَهُ وتحالفوا على الإستماتة وَكَانَ عَسْكَر السُّلْطَان أبي الْحسن يَوْمئِذٍ مشحونا بأعدائه من بني عبد الواد المغلوبين على ملكهم ومغراوة وَبني توجين وَغَيرهم فدسوا إِلَى الْعَرَب أثْنَاء هَذِه المناوشة بِأَن يناجزوا السُّلْطَان غَدا حَتَّى يتميزوا إِلَيْهِم ويجروا عَلَيْهِ الْهَزِيمَة فأجابوهم إِلَى ذَلِك وصبحوا معسكر السُّلْطَان من الْغَد فَركب إِلَيْهِم فِي التعبية وَلما تقابلوا تحيز إِلَيْهِم الْكثير مِمَّن كَانَ مَعَه واختل مصافه فَانْهَزَمَ هزيمَة شنعاء وبادر الى القيروان فَدَخلَهَا فِيمَن مَعَه من الفل مستجيرا بهَا ودافع عَنهُ أَهلهَا وتسابقت الْعَرَب إِلَى مُعَسْكَره فانتهبوه بِمَا فِيهِ من الْمضَارب وَالْعدَد والآلات ودخلوا فسطاط السُّلْطَان فاستولوا على ذخيرته وَالْكثير من حرمه وَأَحَاطُوا بالقيروان وزحفت إِلَيْهَا حللهم فدارت بهَا سياجا وَاحِدًا وتعاوت ذئابهم بأطراف الْبِقَاع وأجلب ناعق الْفِتْنَة مِنْهُم بِكُل قاع واضطرمت إفريقية نَارا وَكَانَت الْهَزِيمَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع محرم من سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَبلغ الْخَبَر إِلَى تونس وَكَانَ السُّلْطَان قد خلف بهَا عِنْد رحيله الْكثير من أبنائه وَحرمه ووجوه قومه وأمناء بَيت مَاله وَبَعض الْحَاشِيَة من جنده فَتَحَصَّنُوا بالقصبة وأحاط بهم الغوغاء كي يستنزلوهم عَنْهَا فامتنعوا عَلَيْهِم وَكَانُوا بهَا أملك مِنْهُم وَكَانَ الْأَمِير أَبُو سَالم إِبْرَاهِيم بن السُّلْطَان أبي الْحسن قد جَاءَ من الْمغرب فِي هَذَا التَّارِيخ فوافاه الْخَبَر قرب القيروان فانفض مُعَسْكَره وَرجع إِلَى تونس فَكَانَ مَعَهم فِي القصبة ثمَّ نزع أَبُو مُحَمَّد بن تافراجين عَن السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ محصورا مَعَه بالقيروان وَكَانَ قد سئم صحبته ومل خدمته لِأَنَّهُ كَانَ أَيَّام حجابته للسُّلْطَان الحفصي مستبدا عَلَيْهِ مفوضا إِلَيْهِ فِي جَمِيع أُمُوره فَلَمَّا استوزره السُّلْطَان أَبُو الْحسن لم يجره على تِلْكَ الْعَادة لِأَنَّهُ كَانَ قَائِما على أُمُوره بِنَفسِهِ وَلَيْسَ التَّفْوِيض للوزراء من شَأْنه وَكَانَ ابْن تافراجين يظنّ أَنه سيوكل إِلَيْهِ أَمر إفريقية وَينصب مَعَه لملكها الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي بكر شَقِيق زَوجته وَرُبمَا زَعَمُوا أَنه عاهده على ذَلِك
فَكَانَ فِي قلبه من الدولة المرينية مرض وَكَانَ الْعَرَب أَيَّام عزمهم على الْخُرُوج يفاوضونه بِذَات صُدُورهمْ فَلَمَّا حصلوا على البغية من الظُّهُور على السُّلْطَان وحصاره بالقيروان احْتَالُوا فِي أَمر ابْن تافراجين فبعثوا إِلَى السُّلْطَان يطْلبُونَ مِنْهُ بَعثه إِلَيْهِم ليفاوضوه فِي الرُّجُوع إِلَى الطَّاعَة والانخراط فِي سلك الْجَمَاعَة فَأذن لَهُ فَخرج إِلَيْهِم وَوصل يَده بيدهم وَلم يرجع الى السُّلْطَان أبي الْحسن فقلدوه حجابة سلطانهم ابْن أبي دبوس ثمَّ سرحوه إِلَى حِصَار من بالقصبة من بني مرين وطمعوا فِي الإستيلاء عَلَيْهَا وفض ختامها فَسَار ابْن تافراجين إِلَيْهَا وانضم إِلَيْهِ أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين فِي زعانف من الغوغاء وَأَحَاطُوا بالقصبة ثمَّ لحق بهم ابْن أبي دبوس فعاودوها الْقِتَال ونصبوا عَلَيْهَا المجانيق فامتنعت عَلَيْهِم وَلم يغنوا شَيْئا وَابْن تافرجين فِي أثْنَاء ذَلِك يحاول الْفِرَار بِنَفسِهِ لاضطراب الْأُمُور واختلال الرسوم إِلَى أَن بلغه خلوص السُّلْطَان أبي الْحسن من القيروان إِلَى سوسة
وَكَانَ من خَبره أَن الْعَرَب بعد حصارهم إِيَّاه بالقيروان اخْتلفت كلمتهم لَدَيْهِ وَكَانَ قد دخل أَوْلَاد مهلهل فِي الإفراج عَنهُ وَاشْترط لَهُم على ذَلِك أَمْوَالًا وَنذر بَنو أبي اللَّيْل بذلك فاضربت كلمتهم وَدخل عَلَيْهِ قُتَيْبَة بن حَمْزَة مِنْهُم بمكانه من القيروان زعيما بِالطَّاعَةِ فتقبله وَأطلق أَخَوَيْهِ خَالِدا وَأحمد وَمَعَ ذَلِك فَلم يطمئن إِلَيْهِم ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ مُحَمَّد بن طَالب من أَوْلَاد مهلهل وَخَلِيفَة بن أبي زيد وَأَبُو الهول بن يَعْقُوب من أَوْلَاد الْقوس وَعَاهَدُوهُ على الإفراج عَنهُ وَالْقِيَام مَعَه حَتَّى يصل إِلَى مأمنه فَخرج مَعَهم لَيْلًا على التعبية وذؤبان الْعَرَب تطَأ أذياله وضباعها تنوشه إِلَى أَن اسْتَقر بسوسة وَأمن على نَفسه وَقد أَتَى النهب على جلّ مَا كَانَ مَعَه وَلما سمع ابْن تافراجين وَهُوَ محاصر للقصبة بوصول السُّلْطَان إِلَى سوسة تسلل من أَصْحَابه وَركب الْبَحْر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَأَصْبحُوا وَقد فقدوه فاضطرب أَمرهم وارتاب سلطانهم ابْن أبي دبوس لما علم بِخَبَرِهِ فانفض جمعهم عَن القصبة وأفرجوا عَنْهَا وَخرج بَنو مرين فملكوا الْبَلَد وخربوا منَازِل الْحَاشِيَة بهَا ثمَّ ركب السُّلْطَان أَبُو الْحسن من سوسة الْبَحْر فاحتل بتونس فِي ربيع الآخر سنة تسع وَأَرْبَعين
وَسَبْعمائة فَاجْتمع شَمله واستتب أمره وَكتب إِلَى صَاحب مصر فِي التقبض على ابْن تافراجين فأجاره بعض الْأُمَرَاء وَانْصَرف لقَضَاء فَرِيضَة الْحَج واعتمل السُّلْطَان أَبُو الْحسن فِي إصْلَاح أسوار تونس وإدارة الخَنْدَق عَلَيْهَا وَأقَام لَهَا من الصيانة والحصانة رسما دفع بِهِ فِي نحر عدوه وَبَقِي لَهُ ذكره من بعده ثمَّ أجلب الْعَرَب وسلطانهم ابْن أبي دبوس على تونس ونازلوا أَبَا الْحسن بهَا واستبلغوا فِي حصاره وخلصت ولَايَة أَوْلَاد مهلهل للسُّلْطَان فعول عَلَيْهِم ثمَّ رَاجع بَنو حَمْزَة بصائرهم وصاروا إِلَى مهادنته فعقد لَهُم السّلم وَدخل عَلَيْهِ عمر بن حَمْزَة وافدا فحبسه حَتَّى قبض إخوانه على أَمِيرهمْ ابْن أبي دبوس وقادوه إِلَيْهِ استبلاغا فِي الطَّاعَة وإمحاضا للولاية فَتقبل فئتهم وأودع ابْن أبي دبوس السجْن وَعقد الصهر بَينه وَبَين عمر بن حَمْزَة فزوج ابْنه عمر بِابْنِهِ أبي الْفضل وَاخْتلفت أَحْوَال هَؤُلَاءِ الْعَرَب على السُّلْطَان أبي الْحسن فِي الطَّاعَة تَارَة والانحراف أُخْرَى مُدَّة إِقَامَته بتونس إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ وَالله غَالب على أمره
انْتِقَاض الْأَطْرَاف وثورة أبي عنان ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن واستيلاؤه على الْمغرب
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان أَبَا بكر الحفصي رحمه الله لما زوج ابْنَته من السُّلْطَان أبي الْحسن بعث مَعَهُمَا فِي زفافها شقيقها أَبَا الْعَبَّاس الْفضل بن أبي بكر وَأَن خبر وَفَاة وَالِده أدْركهُ وَهُوَ بِالطَّرِيقِ وَلما وصل إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن عزاهُ عَن مصاب أَبِيه ووعده بالمظاهرة على ملكه فَبَقيَ عِنْده بتلمسان إِلَى أَن نَهَضَ فِي صحبته إِلَى إفريقية فَلَمَّا غلب السُّلْطَان أَبُو الْحسن على بجاية وقسنطينة وارتحل إِلَى تونس عقد لَهُ على بونة الَّتِي كَانَ يَلِي عَملهَا أَيَّام أَبِيه فَانْقَطع أمله وَفَسَد ضَمِيره وطوى على البث حَتَّى إِذا كَانَت نكبة القيروان سما إِلَى التوثب على ملك سلفه وَكَانَ أهل قسنطينة وبجاية قد سئموا ملكة بني مرين وبرموا بولايتهم لمخالفتهم بعض العوائد الَّتِي كَانَت لَهُم مَعَ الْمُلُوك
الحفصيين وَلِأَن الصبغة الحفصية كَانَت قد رسخت فِي نُفُوسهم جيلا بعد جيل فصعب عَلَيْهِم نَزعهَا
(نقل فُؤَادك حَيْثُ شِئْت من الْهوى
…
مَا الْحبّ إِلَّا للحبيب الأول)
(كم منزل فِي الأَرْض يألفه الْفَتى
…
وحنينه أبدا لأوّل منزل)
فأشرأبوا إِلَى الثورة على المرينيين لما سمعُوا بنكبة القيروان وَاتفقَ أَن قدم قسنطينة ركب من أهل الْمغرب قَاصِدين إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ فيهم عُمَّال الجباية قدمُوا بجبايتهم عِنْد راس الْحول كَمَا جرت بِهِ عَادَتهم فِي ذَلِك وَمَعَهُمْ ابْن صَغِير للسُّلْطَان اسْمه عبد الله وَفِيهِمْ وَفد من رُؤَسَاء الفرنج بَعثهمْ طاغيتهم بِقصد التهنئة بِفَتْح إفريقية وَمَعَهُمْ تاشفين ابْن السُّلْطَان الَّذِي أسر يَوْم طريف أطلقهُ الطاغية بعد أَن أَصَابَهُ خبال فِي عقله وَأرْسل مَعَه بهدية نفيسة وَفِيهِمْ وَفد من أهل مَالِي بَعثهمْ السُّلْطَان منسا سُلَيْمَان بِقصد التهنئة أَيْضا فتوافت هَؤُلَاءِ الْوُفُود بقسنطينة وَقد طم عباب الْفِتْنَة على إفريقية فَأَرَادَ غوغاؤها وانتهاب مَا مَعَهم ثمَّ تخلصوا مِنْهُم فِي خبر طَوِيل
وَفِي أثْنَاء ذَلِك ثار الْفضل بن السُّلْطَان أبي بكر صَاحب بونة فراسله أهل قسنطينة فِي الْقدوم عَلَيْهِم وَالْقِيَام بأمرهم فَقَدمهَا وَجَرت خطوب واتصل بِأَهْل بجاية مَا فعله أهل قسنطينة فتبعوهم على رَأْيهمْ من الانتقاض ووثبوا على من كَانَ عِنْدهم من حامية بني مرين فاستلبوهم وأخرجوهم عُرَاة واستدعوا الْفضل بن أبي بكر من قسنطينة فبادر إِلَيْهِم وَاسْتولى على بجاية واستتب أمره بهَا وَأعَاد ألقاب الْخلَافَة وبينما هُوَ يحدث نَفسه بغزو تونس ثار عَلَيْهِ أَبنَاء أَخِيه أبي عبد الله بن أبي بكر فانتزعوا مِنْهُ بجاية وردوه إِلَى عمله الأول وانتقض على السُّلْطَان أبي الْحسن أَيْضا سَائِر زناتة من بني عبد الواد ومغراوة وَبني توجين وَبَايع بَنو عبد الواد لعُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان وَسَارُوا إِلَى تلمسان فاستجدوا بهَا ملك سلفهم فِي أَخْبَار طَوِيلَة
وَجَرت هَذِه الخطوب وَالسُّلْطَان أَبُو الْحسن مُقيم بتونس تغاديه الْعَرَب
بِالْقِتَالِ وترواحه وتعوج عَلَيْهِ تَارَة وتستقيم أُخْرَى وَطَالَ مقَامه بهَا وعميت أنباؤه على أهل الْمغرب وَحدث فِي الْخلق الوباء الْعَظِيم الَّذِي عَم الْمشرق وَالْمغْرب فَأَرْجَفَ بِمَوْتِهِ واضطربت الْأَحْوَال بالمغارب الثَّلَاثَة الْأَدْنَى والأوسط والأقصى واتصل ذَلِك بالأمير أبي عنان وَهُوَ يَوْمئِذٍ بتلمسان كَانَ أَبوهُ قد ولاه عَلَيْهَا عِنْد ذَهَابه إِلَى إفريقية حَسْبَمَا مر فَلَمَّا أرجف بمهلك أَبِيه وتساقط إِلَيْهِ الفل من عسكره عُرَاة زرافات ووحدانا تطاول إِلَى الاستئثار بِملك أَبِيه دون سَائِر إخْوَته وَكَانَ مرشحا عِنْده لذَلِك لمزيد فَضله عَلَيْهِ فِي غير وصف وَاتفقَ أَن كَانَ عِنْده رجل من بني عبد الواد اسْمه عُثْمَان بن يحيى بن مُحَمَّد بن جرار وَكَانَ ينْسب إِلَى علم الْحدثَان وَلما سَافر السُّلْطَان إِلَى إفريقية كَانَ هَذَا الرجل أول المرجفين بِهِ وَأَنه لَا يرجع من سفرته وَأَن الْأَمر صائر إِلَى أبي عنان ونجع ذَلِك فِي أبي عنان لموافقته هَوَاهُ فَاشْتَمَلَ على ابْن جرار وخلطه بِنَفسِهِ فَلَمَّا ورد الْخَبَر بنكبة السُّلْطَان وانحصاره أَولا بالقيروان ثمَّ بتونس لم يستزب أَبُو عنان فِي صدق ابْن جرار وَأَنه على بَصِيرَة من أمره فتحفز للوثبة وصمم على الثورة ثمَّ أكد عزمه على ذَلِك مَا اتَّصل بِهِ من خبر ابْن أَخِيه مَنْصُور بن أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن أبي الْحسن بفاس الْجَدِيد وَأَنه ثار بهَا وَفتح ديوَان الْعَطاء واستلحق واستركب ورام التغلب على الْمغرب واحتياز الْأَمر لنَفسِهِ دون غَيره وروى فِي ذَلِك بِأَنَّهُ إِنَّمَا عزم على الذّهاب إِلَى إفريقية لاستنفاذ السُّلْطَان من هوة الْحصار يسر من ذَلِك حسوا فِي ارتغاء وتفطن لشأنه الْحسن بن سُلَيْمَان بن يزريكن عَامل القصبة بفاس وَصَاحب الشرطة بالضواحي فاستأذنه فِي اللحاق بالسلطان فَأذن لَهُ رَاحَة مِنْهُ فلحق بِأبي عنان على حِين أمضى عزيمته على التوثب فَأخْرج مَا كَانَ بقصر السُّلْطَان بالمنصورة من المَال والذخيرة وجاهر بِالدُّعَاءِ لنَفسِهِ وَجلسَ لِلْبيعَةِ بِمَجْلِس السُّلْطَان من قصره فِي ربيع الثَّانِي من سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فَبَايعهُ الْمَلأ وَقَرَأَ كتاب بيعتهم على الأشهاد ثمَّ بَايعه الْعَامَّة وانفض الْمجْلس وَقد استتب سُلْطَانه ورست قَوَاعِد ملكه وَركب فِي التعبية والآلة حَتَّى نزل بقبة الملعب وَطعم النَّاس وانتشروا وَعقد على وزارته لِلْحسنِ بن سُلَيْمَان بن
يرزيكن القادم عَلَيْهِ ثمَّ لفارس بن مَيْمُون بن وردار وَجعله رديفا لَهُ وَرفع مَكَان ابْن جرار عَلَيْهِم كلهم واختص لمناجاته كَاتبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي عَمْرو ثمَّ فتح الدِّيوَان وَجعل يستركب كل من تساقط إِلَيْهِ من قبل أَبِيه ويخلع عَلَيْهِم وارتحل إِلَى الْمغرب وَعقد على تلمسان لِابْنِ جرار وأنزله بِالْقصرِ الْقَدِيم مِنْهَا فاستمر بهَا واستبد إِلَى أَن قدم عَلَيْهِ بَنو عبد الواد مُجْتَمعين على سلطانهم عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن فَقَتَلُوهُ غرقا فِي خبر طَوِيل وَلما انْتهى الْأَمِير أَبُو عنان إِلَى وَادي الزَّيْتُون وشى إِلَيْهِ بالوزير الْحسن بن سُلَيْمَان وَأَنه عازم على الفتك بِهِ بتازا تقربا إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن ووفاء بِطَاعَتِهِ وَأَنه قد دَاخل فِي ذَلِك حافده مَنْصُور بن أبي مَالك الثائر بفاس وأطلعه هَذَا الواشي على كتاب الْوَزير فِي ذَلِك فَلَمَّا قَرَأَهُ تقبض عَلَيْهِ ثمَّ قَتله خنقا فِي مسَاء ذَلِك الْيَوْم وأغذ السّير إِلَى الْمغرب
وانْتهى الْخَبَر إِلَى مَنْصُور صَاحب فاس فزحف للقائه والتقى الْجَمْعَانِ بوادي أبي الأجراف من نَاحيَة تازا فاختل مصَاف مَنْصُور وانهزمت جموعه وَلحق بفاس الْجَدِيد فتحصن بهَا وَتَبعهُ أَبُو عنان فَأَنَاخَ عَلَيْهِ خَارِجهَا وَقد تسايل النَّاس على طبقاتهم إِلَيْهِ وآتوه طاعتهم وَكَانَ قد سلك مَعَ الرّعية والجند من الْبَذْل والاستيلاف طَرِيقا لم يسْبق إِلَيْهِ وَكَانَت منازلته لفاس الْجَدِيد فِي ربيع الآخر من السّنة الْمَذْكُورَة فَأخذ بمخنقها وَأجْمع الْأَيْدِي والفعلة على الْآلَات لحصارها ثمَّ أرسل إِلَى مكناسة بِإِطْلَاق أَوْلَاد أبي الْعَلَاء المعتقلين بالقصبة مِنْهَا فأطلقوا وَلَحِقُوا بِهِ وحاصروا مَعَه فاس الْجَدِيد وضيقوا عَلَيْهَا إِلَى أَن ضَاقَتْ أَحْوَال أَهلهَا وَاخْتلفت أهواؤهم وَنزع إِلَى أبي عنان أهل الشَّوْكَة مِنْهُم ثمَّ إِن إِدْرِيس بن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء احتال فِي فتح الْبَلَد بِأَن أظهر النُّزُوع عَن أبي عنان إِلَى مَنْصُور المحصور فَدخل الْبَلَد وَتمكن مِنْهُ وثار بِهِ فِيمَن مَعَه من حَاشِيَته واقتحمه الْأَمِير أَبُو عنان عَلَيْهِم وَنزل مَنْصُور على حكمه فاعتقله إِلَى أَن قَتله بمحبسه وَاسْتولى على ذَلِك الْملك وتسابقت إِلَيْهِ وُفُود الْأَمْصَار للتهنئة بالبيعة وَتمسك أهل سبتة بِطَاعَة السُّلْطَان
أبي الْحسن ثمَّ رجعُوا عَن ذَلِك وثاروا على عاملهم عبد الله بن عَليّ بن سعيد من طبقَة الوزراء فقبضوا عَلَيْهِ وقادوه إِلَى أبي عنان مبايعين لَهُ متقربين بِهِ إِلَيْهِ وَتَوَلَّى كبر ذَلِك فيهم زعيمهم الشريف أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن رَافع الصّقليّ من آل الْحُسَيْن السبط رضي الله عنه كَانَ سلفه قد انتقلوا من صقلية إِلَى سبتة فاستوطنوها ثمَّ استوطنوا بعْدهَا حَضْرَة فاس واستوسق للأمير أبي عنان ملك الْمغرب وَاجْتمعَ إِلَيْهِ قومه من بني مرين إِلَّا من أَقَامَ مَعَ أَبِيه بتونس وَفَاء بِحقِّهِ وحص جنَاح أَبِيه عَن الكرة على بني كَعْب النَّاكِثِينَ لعهده الناكبين عَن طَاعَته فَأَقَامَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رحمه الله بتونس يَرْجُو الْأَيَّام ويأمل الكرة والأطراف تنْتَقض والخوارج تتجدد وَقَنطَ من كَانَ مَعَه من حَاشِيَته وسئموا الْمقَام بِأَرْض لَيست لَهُم بدار مقَام فحسنوا لَهُ النهوض إِلَى الْمغرب فأسعفهم وعزم على الرحلة كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله وَفِي هَذِه الْمدَّة كتب إِلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن الْأَحْمَر كتابا من إنْشَاء وزيره لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب يسائله عَن أَحْوَاله ويعزيه عَن مصابه ويتأسف لَهُ وَنَصّ الْكتاب الْمقَام الَّذِي أقمار أسعده فِي انتظام واتساق وجياد عزه الى الْغَايَة القصوى ذَات استباق والقلوب على حبه ذَات اتِّفَاق وعناية الله تَعَالَى عَلَيْهِ مديدة الرواق وأياديه الجمة فِي الْأَعْنَاق ألزم من الأطواق وَأَحَادِيث مجده سمر النوادي وَحَدِيث الرفاق مقَام مَحل أَبينَا الَّذِي شَأْن قُلُوبنَا الاهتمام بِشَأْنِهِ وَأعظم مطلوبنا من الله تَعَالَى سَعَادَة سُلْطَانه السُّلْطَان الكذا ابْن السُّلْطَان الكذا إِبْنِ السُّلْطَان الكذا أبقاه الله تَعَالَى والصنائع الإلهية تحط بِبَابِهِ والألطاف الْخفية تعرس فِي جنابه والنصر الْعَزِيز يحف بركابه وَأَسْبَاب التَّوْفِيق مُتَّصِلَة بأسبابه والقلوب الشجية لفراقه مسرورة باقترابه مُعظم سُلْطَانه الَّذِي لَهُ الْحُقُوق المحتومة والفواضل الْمَشْهُورَة الْمَعْلُومَة والمكارم المسطورة المرسومة والمفاخر المنسوقة الْمَنْظُومَة الدَّاعِي إِلَى الله تَعَالَى فِي وقاية ذَاته المعصومة وحفظها على هَذِه الْأمة المرحومة الْأَمِير عبد الله يُوسُف بن أَمِير الْمُسلمين أبي الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن فرج بن نصر سَلام كريم طيب عميم
كَمَا سطعت فِي غياهب الشدَّة أنوار الْفرج وهبت نواسم ألطاف الله عاطة الأرج يخص مقامكم الْأَعْلَى وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد حمد اله جالي الظُّلم بعد اعتكارها ومقيل الْأَيَّام من عثارها ومزين سَمَاء الْملك بشموسها المحتجبة وأقمارها ومريح الْقُلُوب من وَحْشَة أفكارها ومنشئ سَحَاب الرَّحْمَة على هَذِه الْأمة بعد افتقارها وَشدَّة اضطرابها ومتداكها باللطف الْكَفِيل بتمهيد أوطانها وتيسير أوطارها وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد رَسُوله صفوة النُّبُوَّة ومختارها ولباب مجدها السَّامِي ونجارها نَبِي الْمَلَاحِم وخائض تيارها وَمذهب رسوم الْفِتَن ومطفئ نارها الَّذِي لم ترعه الشدائد باضطراب بحارها حَتَّى بلغت كلمة الله مَا شَاءَت من سطوع أنوارها ووضوح أثارها وَالرِّضَا عَن آله وَأَصْحَابه الَّذين تمسكوا بعهده على إجلاء الْحَوَادِث وإمرارها وَبَاعُوا نُفُوسهم فِي إعلاء دَعوته الحنيفية وإظهارها وَالدُّعَاء لمقامكم الْأَعْلَى باتصال السَّعَادَة واستمرارها وانسحاب الْعِنَايَة الإلهية وإسدال أستارها حَتَّى تقف الْأَيَّام بباكم موقف اعتذارها وَتعرض على مثابتكم ذنوبها راغبة فِي اغتفارها فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم كتب الله تَعَالَى لكم أوفى مَا كتب لصالحي الْمُلُوك من مواهب السَّعَادَة وعرفكم عوارف الآلاء فِي إصدار أَمركُم الرفيع وإيراده وأجرى الْفلك الدوار بِحكم مُرَاده وَجعل لكم الْعَاقِبَة الْحسنى كَمَا وعد بِهِ فِي مُحكم كِتَابه الْمُبين للصالحين من عباده من حَمْرَاء غرناطة حرسها الله تَعَالَى وَلَيْسَ بِفضل الله الَّذِي عَلَيْهِ فِي الشدائد الِاعْتِمَاد وَإِلَى كنف فَضله الِاسْتِنَاد ثمَّ ببركة جاه نَبينَا الَّذِي وضح بهدايته سَبِيل الرشاد إِلَّا الصَّنَائِع الَّتِي تشام بوراق اللطف من خلالها وتخبر سيماها بِطُلُوع السُّعُود واستقبالها وتدل مخايل يمنها على حسن مآلها لله الْحَمد على نعمه الَّتِي نرغب فِي كمالها ونستدر عذب زلالها وَعِنْدنَا من الاستبشار باتساق أَمركُم وانتظامه وَالسُّرُور بسعادة أَيَّامه وَالدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى فِي إِظْهَاره وإتمامه مَا لَا تفي الْعبارَة بأحكامه وَلَا تتعاطى حصر أَحْكَامه وَإِلَى هَذَا أيد الله تَعَالَى أَمركُم وعلاه وصان سلطانكم وتولاه فقد علم
الْحَاضِر وَالْغَائِب وخلص الخلوص الَّذِي لَا تغيره الشوائب مَا عندنَا من الْحبّ الَّذِي وضحت مِنْهُ الْمذَاهب وَإنَّهُ لما اتَّصل بِنَا مَا جرت بِهِ الْأَحْكَام من الْأُمُور الَّتِي صَحِبت مقامكم فِيهَا الْعِنَايَة من الله والعصمة وَجعل على الْعباد والبلاد الْوِقَايَة وَالنعْمَة لَا يسْتَقرّ بقلوبنا الْقَرار وَلَا تتأتى بأوطاننا الأوطار تشوفا لما تتيحه لكم الأقدار ويبرزه من سعادتكم اللَّيْل وَالنَّهَار ورجاؤنا فِي اسْتِئْنَاف سعادتكم يشْتَد على الْأَوْقَات وَيُقَوِّي علما بِأَن الْعَاقِبَة للتقوى وَفِي هَذِه الْأَيَّام عميت الأنباء وتكالبت فِي الْبر وَالْبَحْر الْأَعْدَاء وَاخْتلفت الْفُصُول والأهواء وعاقت الْوَارِد الأنواء وعَلى ذَلِك من فضل الله الرَّجَاء وَلَو كُنَّا نجد للاتصال بكم سَببا أَو نلقي لإعانتكم مذهبا لما شغلنا الْبعد الَّذِي بَيْننَا اعْترض والعدو بساحتنا فِي هَذِه الْأَيَّام ربض وَكَانَ خديمكم الَّذِي رفع من الْوَفَاء راية خافقة واقتنى مِنْهُ فِي سوق الكساد بضَاعَة نافقة الشَّيْخ الْأَجَل الأوفى الأود الأخلص الأصفى على أَبُو مُحَمَّد بن آجانا سنى الله مأموله وبلغه من سَعَادَة أَمركُم سؤله وَقد ورد على بابنا وتحيز إِلَى اللحاق بجانبنا ليتيسر لَهُ من جهتنا الْقدوم ويتأتى لَهُ بإعانتنا الْغَرَض المروم فَبَيْنَمَا نَحن نَنْظُر فِي تتميم غَرَضه وإعانته على الْوَفَاء الَّذِي قَامَ بمفترضه إِذا اتَّصل بِنَا خبر قرقورتين من الأجفان الَّتِي استعنتم بهَا على الْحَرَكَة والعزمة المقترنة بِالْبركَةِ حطت إِحْدَاهمَا بمرسى الْمنْكب وَالْأُخْرَى بمرسى المرية فِي كنف الْعِنَايَة الإلهية فتلقينا من الواصلين فِيهَا الأنباء المحققة بعد التباسها وَالْأَخْبَار الَّتِي يُغني نَصهَا عَن قياسها وتعرفنا مَا كَانَ من عزمكم على السّفر وحركتكم المقرونة بِالْيمن وَالظفر وَإِنَّكُمْ استخرتم الله تَعَالَى فِي اللحاق بالأوطان الَّتِي يُؤمن قدومكم خائفها ويؤلف طوائفها ويسكن راجفها وَيصْلح أحوالها وَيذْهب أهوالها وَإِنَّكُمْ سبقتم حركتها بِعشْرَة أَيَّام مستظهرين بالعزم المبرور والسعد الموفور واليمن الرَّائِق السفور والأسطول الْمَنْصُور فَلَا تسألوا عَن انبعاث الآمال بعد سكونها ونهوض طيور الرَّجَاء من وَكَونهَا واستبشار الْأمة المحمدية مِنْكُم بقرة عيونها وَتحقّق ظنونها وارتياح الْبِلَاد إِلَى دعوتكم الَّتِي ألبستها ملابس الْعدْل وَالْإِحْسَان وقلدتها
قلائد السّير الحسان وَمَا مِنْهَا إِلَّا من باح بِمَا يخفيه من وجده وجهر بشكر الله تَعَالَى وحمده وابتهل إِلَيْهِ فِي تيسير غَرَض مقامكم الشهير وتتميم قَصده واستئناس نور سعده وَكم مطل الِانْتِظَار بديون آمالها والمطاولة من اعتلالها وَأما نَحن فَلَا تسألوا عَمَّن استشعر دنو حَبِيبه بعد طول مغيبه إِنَّمَا هُوَ صدر رَاجعه فُؤَاده وطرف أَلفه رقاده وفكر ساعده مُرَاده فَلَمَّا بلغنَا هَذَا الْخَبَر بادرنا إِلَى إنجاز مَا بذلنا لخديمكم الْمَذْكُور من الْوَعْد واغتنمنا مِيقَات هَذَا السعد ليصل سَببه بأسبابكم ويسرع لحاقه بجنابكم فَعنده خدم نرجو أَن ييسر الله تَعَالَى بحوله أَسبَابهَا وَيفتح بنيتكم الصَّالِحَة أَبْوَابهَا وَقد شَاهد من امتعاضنا لذَلِك الْمقَام الَّذِي ندين لَهُ بالتشيع الْكَرِيم الوداد ونصل لَهُ على بعد المزار ونزوح الأقطار سَبَب الِاعْتِدَاد مَا يُغني عَن الْقَلَم والمداد وَقد القينا إِلَيْهِ من ذَلِك كُله مَا يلقيه إِلَى مقامكم الرفيع الْعِمَاد وكتبنا إِلَى من بالسواحل من ولاتنا نحد لَهُم مَا يكون عَلَيْهِ عَمَلهم فِي بر من يرد عَلَيْهِم من جِهَة أبوتكم الكرمية ذَات الْحُقُوق الْعَظِيمَة والأيادي الحديثة والقديمة وهم يعْملُونَ فِي ذَلِك بِحَسب المُرَاد وعَلى شاكلة جميل الِاعْتِقَاد وَيعلم الله تَعَالَى أننا لَو لم تعق الْعَوَائِق الْكَبِيرَة والموانع الْكَثِيرَة والأعداء الَّذين غصت بهم فِي الْوَقْت هَذِه الجزيرة مَا قدمنَا عملا على اللحاق لكم والاتصال بسببكم حَتَّى نوفي لأبوتكم الْكَرِيمَة حَقّهَا ونوضح من المسرة طرقها لَكِن الْأَعْذَار وَاضِحَة وضوح الْمثل السائر وَإِلَى الله تَعَالَى نبتهل فِي أَن يُوضح لكم من التَّيْسِير طَرِيقا وَيجْعَل لكم السعد مصباحا ورفيقا وَلَا يعدمكم عناية مِنْهُ وتوفيقا وَيتم سرورنا عَن قريب بتعريف أنبائكم السارة وسعودكم الدارة فَذَلِك مِنْهُ سُبْحَانَهُ غَايَة آمالنا وَفِيه أَعمال ضراعتنا وابتهالنا هَذَا مَا عندنَا بادرنا لإعلامكم بِهِ أسْرع البدار وَالله تَعَالَى يوفد علينا أكْرم الْأَخْبَار بسعادة ملككم السَّامِي الْمِقْدَار وييسر مَا لَهُ من الأوطار ويصل سعدكم ويحرس مجدكم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته اه
ركُوب السُّلْطَان أبي الْحسن الْبَحْر من تونس إِلَى الْمغرب وَمَا جرى عَلَيْهِ من المحن فِي ذَلِك
كَانَ الْأَمِير أَبُو الْعَبَّاس الْفضل أَبُو السُّلْطَان أبي بكر الحفصي بعد أَن لحق بِعَمَلِهِ الْقَدِيم من بونة قد وَفد عَلَيْهِ مشيخة الْعَرَب من اولاد أبي اللَّيْل وأغروه بِملك إفريقية والنهوض إِلَى تونس ومحاصرة السُّلْطَان أبي الْحسن بهَا فأجابهم إِلَى ذَلِك ونهض إِلَيْهَا بعد عيد الْفطر سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فحاصرها مُدَّة ثمَّ انفض عَنْهَا ثمَّ عاود حصارها ثمَّ انفض عَنْهَا وَدخل الْفقر مَعَ أَوْلَاد أبي اللَّيْل إِلَى أَن بَايعه أهل بِلَاد الجريد بِإِشَارَة أبي الْقَاسِم بن عتو الْمَقْطُوع وَدخل فِي طَاعَته توزر وقفصة ونفطة والحامة وَقَابِس وجربة وانْتهى الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن باستيلاء الْفضل على هَذِه الْأَمْصَار واستفحال أمره بهَا وَأَنه ناهض إِلَى تونس فأهمه شَأْنه وخشي على الْأَمر وَكَانَت بطانته توسوس إِلَيْهِ بالرحلة إِلَى الْمغرب لاسترجاع نعمتهم باسترجاع ملكه مَعَ مَا أَصَابَهُم بتونس من الغلاء وَالْمَوْت الذريع فاجابهم إِلَى ذَلِك وشحن أساطيله بالأقوات وأزاح علل الْمُسَافِرين وَلما قضى نسك عيد الْفطر من سنة خمسين وَسَبْعمائة ركب الْبَحْر فِي فصل الشتَاء وهيجان الْبَحْر وكلب الْبرد بعد أَن عقد لِابْنِهِ أبي الْفضل على تونس ثِقَة بِمَا بَينه وَبَين عمر بن حَمْزَة من الْمُصَاهَرَة وتفاديا بمكانه من معرة الغوغاء وثورتهم بِهِ وَكَانَت مُدَّة محاصرة السُّلْطَان أبي الْحسن بتونس سنة وَنصفا واتصل خبر رحيله بِالْفَضْلِ بن أبي بكر وَهُوَ بِبِلَاد الجريد فأغذ السّير إِلَى تونس وَنزل بهَا على أبي الْفضل المريني وَمن كَانَ مَعَه من حَاشِيَته وَأهل دولته ثمَّ اقتحمها واتصلت يَده بيد أهد الْبَلَد ثمَّ أحاطوا بالقصبة يَوْم منى حَتَّى استنزلوا أَبَا الْفضل على الْأمان فَخرج إِلَى دَار أصهاره من بني حَمْزَة فَبَقيَ عِنْدهم حَتَّى أنفذوا مَعَه من أوصله إِلَى أَبِيه فلحق بِهِ بثغر الجزائر
وَأما السُّلْطَان أَبُو الْحسن وجيشه الرَّاكِب الْبَحْر مَعَه فَإِنَّهُم لما لججوا احتاجوا إِلَى المَاء فَدَخَلُوا مرسى بجاية لخمس لَيَال من إقلاعهم عَن تونس فَمَنعهُمْ صَاحب بجاية الحفصي من الْوُرُود وأوعز إِلَى سَائِر سواحله بمنعهم
فزحفوا إِلَى السَّاحِل وقاتلوا من صدهم عَن المَاء إِلَى أَن غلبوهم واستقوا وأقلعوا ثمَّ عصفت بهم الرّيح فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وجاءهم الموج من كل مَكَان وتكسرت الأجفان وغرق الْكثير من بطانة السُّلْطَان وَعَامة النَّاس وَقذف الموج بالسلطان فَأَلْقَاهُ على حجر قرب السَّاحِل من بِلَاد زواوة عاري الْجَسَد مباشرا للْمَوْت وَقد هلك من كَانَ مَعَه من الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء وَالْكتاب والأشراف والخاصة وَهُوَ يُشَاهد مصَارِعهمْ واختطاف الموج لَهُم من فَوق الصخور الَّتِي تعلقوا بهَا فَمَكَثُوا ليلتهم على ذَلِك وصبحهم جفن من بقيه الأساطيل كَانَ قد سلم من ذَلِك العاصف فبادر أهل الجفن إِلَيْهِ حِين رَأَوْهُ فاحتملوه وَقد تصايح بِهِ البربر من الْجبَال وتواثبوا إِلَيْهِ حِين وضح النَّهَار وأبصروه فَتَدَاركهُ الله بِهَذَا الجفن فاحتملوه وقذفوا بِهِ فِي مَدِينَة الجزائر
وَفِي نفح الطّيب أَن أساطيل السُّلْطَان أبي الْحسن كَانَت نَحْو الستمائة فغرقت كلهَا وَنَجَا هُوَ على لوح وَهلك من كَانَ مَعَه من أَعْلَام الْمغرب وهم نَحْو أَرْبَعمِائَة عَالم مِنْهُم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان السطي شَارِح الحوفي وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الصّباغ المكناسي الَّذِي أمْلى فِي مجْلِس درسه بمكناسة على حَدِيث يَا ابا عُمَيْر مَا فعل النغير أَرْبَعمِائَة فَائِدَة والأستاذ الزواوي أَبُو الْعَبَّاس وَغير وَاحِد وَكَانَ غرق الأسطول على سَاحل تدلس وَذكر الشَّيْخ أَبُو عبد الله الأبي فِي شرح مُسلم كَلَامه على أَحَادِيث الْعين مَا مَعْنَاهُ أَن رجلا كَانَ بِتِلْكَ الديار مَعْرُوفا بِإِصَابَة الْعين فَسَأَلَ مِنْهُ بعض الموتورين للسُّلْطَان أبي الْحسن أَن يُصِيب أساطيله بِالْعينِ وَكَانَت كَثِيرَة نَحْو الستمائة فَنظر إِلَيْهَا الرجل العائن فَكَانَ غرقها بقدرة الله الَّذِي يفعل مَا يَشَاء ونجى السُّلْطَان بِنَفسِهِ وَجَرت عَلَيْهِ محن اه
وَلما احتل بالجزائر وَقد تمسك أَهلهَا بِطَاعَتِهِ استنشق ريح الْحَيَاة ولأم الصدع وَأقَام الرَّسْم وخلع على من وصل إِلَيْهِ من قل الأساطيل واستلحق واستركب وَلحق بِهِ ابْنه النَّاصِر من بسكرة والتف عَلَيْهِ بعض الْعَرَب من أحواز الجزائر ووفد عَلَيْهِ أولياؤه من عرب سُوَيْد فَنَهَضَ إِلَى جِهَة تلمسان وَقد استولى عَلَيْهَا بَنو زيان وسلطانهم عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن فبرز إِلَيْهِ أَبُو ثَابت
أَخُو عُثْمَان الْمَذْكُور وَلما التقى الْجَمْعَانِ اخْتَلَّ مصَاف السُّلْطَان أبي الْحسن واستبيح مُعَسْكَره وانتبهت فساطيطه وَقتل ابْنه النَّاصِر وَظهر يَوْمئِذٍ من بسالته وَصدق دفاعه وَشدَّة حملاته حَتَّى أَنه أركب ظعائنه وخلص محاميا عَنْهَا وَاحْتمل وَلَده جريحا فَتوفي بِالطَّرِيقِ فواراه فِي التُّرَاب وأخفى قَبره ثمَّ خلص إِلَى الصَّحرَاء مَعَ وليه ونزمار بن عريف بن يحيى السويدي وَلحق بحلل قومه قبْلَة جبل وانشريس وَأجْمع أمره على قصد الْمغرب موطن قومه ومنبت عزه وَدَار ملكه فارتحل مَعَه وليه ونزمار بالناجعة من قومه وَخَرجُوا إِلَى جبل رَاشد ثمَّ قطعُوا المفاوز إِلَى سجلماسة فِي القفر فَلَمَّا أطلوا عَلَيْهَا وعاين أَهلهَا السُّلْطَان تهافتوا عَلَيْهِ تهافت الْفراش على ضوء السراج حَتَّى خرج إِلَيْهِ العذارى من ستورهن ميلًا إِلَيْهِ ورغبة فِي ولَايَته وفر الْعَامِل بسجلماسة إِلَى منجاته
وَكَانَ الْأَمِير أَبُو عنان لما بلغه الْخَبَر بِقصد أَبِيه سجلماسة نَهَضَ إِلَيْهِ فِي قومه وجموعه بعد أَن أزاح عللهم وأفاض عطاءه فيهم وَكَانَت بَنو مرين نافرة عَن السُّلْطَان أبي الْحسن حاذرة من عُقُوبَته لجنايتهم بالتخاذل فِي المواقف والفرار عَنهُ فِي الشدائد وَلما كَانَ يبعد بهم فِي الْأَسْفَار ويتجشم بهم المهالك والأخطار فَكَانُوا لذَلِك مُجْمِعِينَ على منابذته ومخلصين فِي طَاعَة ابْنه وَلما اتَّصل خبر قدومهم بالسلطان أبي الْحسن علم من حَاله أَنه لَا يُطيق دفاعهم وَكَانَ ونزمار قد أجفل عَنهُ فِي قومه سُوَيْد لِأَن أَبَاهُ عريف بن يحيى كَانَ قد نزع إِلَى أبي عنان قبل قدوم السُّلْطَان من تونس فَأكْرم مَحَله وَرفع مَنْزِلَته فَكتب إِلَى ابْنه ونزمار ينهاه عَن ولَايَة السُّلْطَان أبي الْحسن ومظاهرته لَهُ وَأقسم لَهُ لَئِن لم يُفَارق السُّلْطَان ليوقعن بِابْنِهِ عنتر وَكَانَ مَعَه فِي جملَة الْأَمِير أبي عنان فآثر ونزمار رضَا أَبِيه وَعلم أَن غناءه عَن السُّلْطَان فِي وَطن الْمغرب قَلِيل فأجفل عَنهُ وَلحق بسكرة فَكَانَ بهَا إِلَى أَن رَجَعَ إِلَى أبي عنان بعد هَذَا وَلما قرب أَبُو عنان من سجلماسة أجفل السُّلْطَان عَنْهَا إِلَى نَاحيَة مراكش وَدخل أَبُو عنان سجلماسة فثقف أطرافها وسد فروجها وَعقد عَلَيْهَا ليحتاتن بن عمر بن عبد الْمُؤمن كَبِير بني ونكاسن وبلغه أَن أَبَاهُ قد سَار إِلَى مراكش فاعتزم على اتِّبَاعه إِلَيْهَا فَلم تطاوعه بَنو مرين فَرجع بهم إِلَى فاس إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ
اسْتِيلَاء السُّلْطَان أبي الْحسن على مراكش ثمَّ انهزامه عَنْهَا إِلَى هنتاته أهل جبل درن ووفاته هُنَاكَ
لما أجفل السُّلْطَان أَبُو الْحسن عَن سجلماسة سنة إِحْدَى وَخمسين وَسَبْعمائة قصد مراكش وَركب إِلَيْهَا الأوعار من جبال المصامدة وَلما شارفها تسارع إِلَيْهِ أهل جهاتها بِالطَّاعَةِ من كل أَوب ونسلوا إِلَيْهِ من كل حدب وفر عَامل مراكش إِلَى أبي عنان وَنزع إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن صَاحب ديوَان الجباية أَبُو الْمجد بن مُحَمَّد بن أبي مَدين بِمَا كَانَ فِي الخزانة من مَال الجباية فاختصه واستكتبه وَجعل إِلَيْهِ علامته واستركب واستلحق وجبى الْأَمْوَال وَبث الْعَطاء وَدخل فِي طَاعَته قبائل الْعَرَب من جشم وَسَائِر المصامدة وثاب لَهُ بمراكش ملك رجى مَعَه أَن يستولي على سُلْطَانه ويرتجع فارط أمره
وَكَانَ أَبُو عنان لما رَجَعَ إِلَى فاس عَسْكَر بساحتها وَشرع فِي الْعَطاء وإزاحة الْعِلَل ثمَّ ارتحل فِي جموع بني مرين إِلَى مراكش وبرز السُّلْطَان أَبُو الْحسن للقائه وانْتهى كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ إِلَى وَادي أم الرّبيع وتربص كل وَاحِد بِصَاحِبِهِ عبور الْوَادي فعبره أَبُو الْحسن وَكَانَ اللِّقَاء بتامد غوست فِي آخر صفر من سنة إِحْدَى وَخمسين وَسَبْعمائة فاختل مصَاف السُّلْطَان وَانْهَزَمَ عسكره وَلحق بِهِ أبطال بني مرين ثمَّ راجعوا عَنهُ حَيَاء وهيبة وكبى بِهِ فرسه يَوْمئِذٍ فِي مفره فَسقط إِلَى الأَرْض والفرسان تحوم حوله فاعترضهم دونه أَبُو دِينَار سُلَيْمَان بن عَليّ بن أَحْمد أَمِير الذواودة من عرب ريَاح ورديف أَخِيه يَعْقُوب كَانَ هَاجر مَعَ السُّلْطَان من الجزائر وَلم يزل فِي جملَته إِلَى هَذَا الْيَوْم فدافع عَنهُ حَتَّى ركب وَسَار من وَرَائه ردا لَهُ وَأسر حَاجِبه علال بن مُحَمَّد فأودعه أَبُو عنان السجْن ثمَّ امتن عَلَيْهِ بعد وَفَاة أَبِيه
وخلص السُّلْطَان أَبُو الْحسن رحمه الله إِلَى جبل هنتانة من جبال درن وَمَعَهُ كَبِيرهمْ عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن عَليّ الهنتاني فَنزل عَلَيْهِ وَأَجَارَهُ وَاجْتمعَ إِلَيْهِ الْمَلأ من قومه هنتانة وَمن انضاف إِلَيْهِم من المصامدة وَتَآمَرُوا
وتعاهدوا على المدافعة عَنهُ وَبَايَعُوهُ على الْمَوْت وَجَاء أَبُو عنان على أَثَره حَتَّى احتل بمراكش وَأنزل عساكره على جبل هنتانة ورتب المسالح لحصاره وحربه وَطَالَ عَلَيْهِ ثواؤه حَتَّى طلب السُّلْطَان من ابْنه الْإِبْقَاء عَلَيْهِ وَأَن يبْعَث إِلَيْهِ حَاجِبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي عمر فَحَضَرَ عِنْده وَأحسن الْعذر عَن الْأَمِير أبي عنان وَالْتمس لَهُ الرِّضَا مِنْهُ فَرضِي عَنهُ وَكتب لَهُ بِولَايَة عَهده وأوعز إِلَيْهِ بِأَن يبْعَث لَهُ مَالا وكسى فسرح الْحَاجِب ابْن أبي عمر بإخراجها من الْمُودع بدار ملكهم واعتل السُّلْطَان خلال ذَلِك فمرضه أولياؤه وخاصته وافتصد لإِخْرَاج الدَّم ثمَّ بَاشر المَاء للطَّهَارَة فورم مَحل الفصادة وَمَات رحمه الله فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَسَبْعمائة هَكَذَا عِنْد ابْن خلدون وَابْن الْخَطِيب وَغَيرهمَا وَالَّذِي رَأَيْته مَكْتُوبًا بالنقش على رخامة قَبره بشالة أَن وَفَاته كَانَت لَيْلَة الثُّلَاثَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَبعث أَوْلِيَاء السُّلْطَان بالْخبر إِلَى ابْنه وَهُوَ بمعسكره من ساحة مراكش ورفعوه على أَعْوَاد نعشه إِلَيْهِ فَتَلقاهُ حافيا حاسرا وَقبل أعواده وَبكى واسترجع ورضني عَن أوليائه وخاصته وأنزلهم بِالْمحل الَّذِي رضوه من دولته ثمَّ دفن أَبَاهُ بمراكش قبلي جَامع الْمَنْصُور من القصبة بالموضع الَّذِي بِهِ الْيَوْم قُبُور الْمُلُوك الْأَشْرَاف السعديين ثمَّ لما نَهَضَ أَبُو عنان إِلَى فاس احْتمل شلو أَبِيه مَعَه حَتَّى دَفنه بشالة مَقْبرَة سلفهم وَلَا زَالَ ضريحه قَائِم الْعين والأثر إِلَى الْآن رَحمَه الله تَعَالَى
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رحمه الله أسمر طَوِيل الْقَامَة عَظِيم الهيكل معتدل اللِّحْيَة حسن الْوَجْه وَكَانَ عَفا مائلا إِلَى التَّقْوَى مُولَعا بالطيب لم يشرب الْخمر قطّ لَا فِي صغره وَلَا فِي كبره محبا للصالحين عدلا فِي رَعيته
يحب الْفَخر ويعنى بِهِ وَقَالَ بعض المشارقة فِي حَقه مَا صورته ملك أَضَاء الْمغرب بأنوار هلاله وَجَرت إِلَى الْمشرق أنواء نواله وَطَابَتْ نسماته واشتهرت عزماته كَانَ حسن الْكِتَابَة كثير الْإِنَابَة ذَا بلاغة وبراعة وشهامة وشجاعة اه وَبنى رحمه الله عدَّة مدارس مِنْهَا الْمدرسَة الْعُظْمَى بمراكش قبلي جَامع ابْن يُوسُف قَالَ الْعَلامَة اليفرني فِي النزهة إِن الَّذِي بناها هُوَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن الْمَذْكُور قلت وَمن وقف على هَذِه الْمدرسَة وَتَأمل تنجيدها وتنميقها قدر هَذَا السُّلْطَان وَعلم عظم أهميته ومحبته للْعلم وَأَهله وَمِنْهَا الْمدرسَة الْعُظْمَى بطالعه سلا قبلي الْمَسْجِد الْأَعْظَم مِنْهَا بناها رحمه الله على هَيْئَة بديعة وصنعة رفيعة وأودع جوانبها من أَنْوَاع النقش وضروب التخريم مَا يحير الْبَصَر ويدهش الْفِكر ووقف عَلَيْهَا عدَّة أوقاف رصع أسماءها بالنقش والأصباغ على رخامة عَظِيمَة ثمَّ نصب الرخامة بِالْحَائِطِ الجوفي مِنْهَا كل ذَلِك مُحَافظَة على تِلْكَ الْأَوْقَاف أَن تغير وَأما الْمَسْجِد الْأَعْظَم ومدرسته الجوفية فهما من بِنَاء يَعْقُوب الْمَنْصُور الموحدي حَسْبَمَا تقدم ذَلِك فِي أخباره وَعِنْدِي أَن السُّور الْمَحْمُول عَلَيْهِ المَاء الدَّاخِل إِلَى سلا الْمَعْرُوف عِنْدهم بسور الأقواس من بِنَاء السُّلْطَان أبي الْحسن رحمه الله ولي فِي ذَلِك مُسْتَند غَرِيب وَهُوَ أَنِّي كنت ذَات يَوْم أفاوض بعض القناقنة بسلا مِمَّن كَانَ يُبَاشر أَمر الْمِيَاه بهَا وَيصْلح مَا احْتَاجَ إِلَى الْإِصْلَاح مِنْهَا فَقلت كالمستفهم لنَفْسي من غير قصد تَوْجِيه الْخطاب إِلَيْهِ يَا ترى من الَّذِي بنى سور المَاء الدَّاخِل إِلَى الْبَلَد فَقَالَ على البديهة الَّذِي بنى الْمدرسَة هُوَ الَّذِي بنى سور المَاء فَقلت لَهُ وَكنت متشوفا يَوْمئِذٍ لتحقيق ذَلِك وَمَا علمك بِهَذَا فَقَالَ إِن بيلة الْمدرسَة بنيت يَوْم بنيت الْمدرسَة بِدَلِيل الزليج المرصوف حولهَا بِالْعَمَلِ الْكَبِير الْمَوْجُود نَظِيره فِي سَائِر حيطان الْمدرسَة وسواريها وَهَذِه البيلة لم تَتَغَيَّر عَن حَالهَا إِلَى أَن باشرت إصلاحها فِي هَذِه الْأَيَّام فحفرت عَن قنواتها وتتبعت مَادَّة المَاء الْوَاصِل إِلَيْهَا فَإِذا عمل تِلْكَ القوادس وصنعة بنائها حَتَّى الكلس المفرغ عَلَيْهَا الْجَامِع بَينهَا مماثل لعمل قنوات مَبْنِيَّة بالسور الْمَذْكُور دَاخِلَة فِيهِ بِحَيْثُ بنى عَلَيْهَا يَوْم تأسيسه من غير
فَوق بَين هَذِه وَتلك فِي جَمِيع عملهما وَلَيْسَ بِشَيْء من القنوات الْحَادِثَة بعدهمَا يشبههما فَعلمت أَن الَّذِي بناهما وَاحِد فَأَعْجَبَنِي كَلَامه وباحثته فِي ذَلِك فصمم على معتقده وحاولت تشكيكه بِكُل وَجه فَلم يتشكك فَظهر لي صدق دَلِيله وَغلب على ظَنِّي مَا جزم بِهِ وَعند الله علم حَقِيقَة الْأَمر
وَاعْلَم أَن هَذَا السُّور من المباني العادية والهياكل الْعَظِيمَة الَّتِي تدل على فخامة الدولة وَكَمَال قوتها مثل مَا يُقَال عَن حنايا قرطاجنة وَنَحْوهَا وَهَذَا السُّور مسوق من عُيُون الْبركَة خَارج مَدِينَة سلا على أَمْيَال كَثِيرَة ممتدا من الْقبْلَة إِلَى الْجوف على أضخم بِنَاء وأحكمه مَوْزُون سطحه بالميزان الهندسي ليَأْتِي جَرَيَان المَاء فَوْقه على اسْتِوَاء وَلذَلِك ينخفض إِلَى الأَرْض مَتى ارْتَفَعت ويعلو عَنْهَا إِذا انخفضت وَيجْرِي على مَتنه من المَاء مِقْدَار النَّهر الصَّغِير فِي سَاقيه قد اتَّخذت لَهُ وَلما شَارف الْبَلَد عظم ارتفاعه جدا لأجل انخفاض الأَرْض عَنهُ وَكلما مر فِي سيره بطرِيق مسلوك فتحت لَهُ فِيهِ أقواس فَسُمي لذَلِك سور الأقواس وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ شَاهد لبانية بضخامة الدولة وَعظم الهمة
وللسلطان أبي الْحسن رحمه الله بفاس ومكناسة وَغَيرهمَا من بِلَاد الْمغرب آثَار كَثِيرَة فَمن آثاره بفاس بيلة الرخام الْأَبْيَض المجلوبة من المرية زنتها مائَة قِنْطَار وَثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ قِنْطَارًا سيقت من المرية الى مُوسَى العرائش ثمَّ طلعت فِي وَادي قصر كتامة ثمَّ حملت على عجل الْخشب تجرها الْقَبَائِل إِلَى منزل أَوْلَاد مَحْبُوب الَّذين على ضفة وَادي سبو فوسقت فِيهِ إِلَى أَن وصلت إِلَى ملتقاه مَعَ وَادي فاس ثمَّ حملت على عجل الْخشب أَيْضا يجرها النَّاس إِلَى أَن وصلت إِلَى مدرسة الصهريج الَّتِي بعدوة الأندلس ثمَّ نقلت مِنْهَا بعد ذَلِك بأعوام إِلَى مدرسة الرخام الَّتِي أَمر رحمه الله ببنائها جَوف جَامع الْقرَوِيين الْمَعْرُوفَة الْيَوْم بمدرسة مِصْبَاح ومصباح هَذَا هُوَ أَبُو الضياء مِصْبَاح بن عبد الله الياصلوتي الْفَقِيه الْمَشْهُور وَإِنَّمَا نسبت إِلَيْهِ لِأَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن لما بناها كَانَ أَبُو الضياء أول من تصدى للدرس بهَا فنسبت إِلَيْهِ وَقد تقدم لنا خبر الْمدرسَة الَّتِي بناها غربي جَامع الأندلس أَيَّام أَبِيه وَأنْفق عَلَيْهَا أَكثر من مائَة ألف دِينَار وَمن آثاره بمكناسة الزَّيْتُون الزاويتان القدمى والجديدة وَكَانَ بنى القدمى
فِي زمَان أَبِيه والجديدة حِين ولي الْخلَافَة وَله فِي هَذِه الْمَدِينَة عدَّة آثَار سوى الزاويتين من القناطر والسقايات وَغَيرهَا وَمن أجل ذَلِك الْمدرسَة الجديدة بهَا وَكَانَ قدم للنَّظَر على بنائها قاضيه على الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة وَلما تمّ بناؤها جَاءَ إِلَيْهَا من فاس ليقف عَلَيْهَا وَيرى عَملهَا وصنعتها فَقعدَ على كرْسِي من كراسي الْوضُوء حول صهريجها وَجِيء بالرسوم المتضمنة للتنفيذات اللَّازِمَة فِيهَا فغرقها من الصهريج قبل أَن يطالع مَا فِيهَا وَأنْشد
(لَا بَأْس بالغالي إِذا قيل حسن
…
لَيْسَ لما قرت بِهِ الْعين ثمن)
وَكَانَ لَهُ معرفَة بالشعر فَمن شعره قَوْله
(أرضي الله فِي سر وجهر
…
وأحمي الْعرض عَن دنس ارتياب)
(وَأعْطِي الوفر من مَالِي اخْتِيَارا
…
وأضرب بِالسَّيْفِ طلي الرّقاب)
وأخباره كَثِيرَة وَمن أَرَادَ الْوُقُوف على تفاصيلها فَعَلَيهِ بِكِتَاب الْخَطِيب بن مَرْزُوق الَّذِي أَلفه فِي دولته وَسيرَته وَسَماهُ الْمسند الصَّحِيح الْحسن من أَحَادِيث السُّلْطَان أبي الْحسن وَلما ذكر الْوَزير ابْن الْخَطِيب فِي كِتَابه رقم الْحلَل هَذَا السُّلْطَان وَصفه بقوله
(الْملك الْمَعْدُود من خير سلف
…
ومجموع القَوْل إِذا القَوْل اخْتلف)
(الدّين والعفاف وَالْجَلالَة
…
والعز وَالْقُدْرَة والجزالة)
(وَالْعلم والحلم وَفضل الدّين
…
وصفوه الصفوة من مرين)
(ممهد الْملك ومسدي المنن
…
وَوَاحِد الدَّهْر وفخر الزَّمن)
(باني المباني النخبة الشَّرِيفَة
…
بِمُقْتَضى همته المنيفة)
(وتارك الْمدَارِس الظريفة
…
شاهدة بِأَنَّهُ الْخَلِيفَة)
(وقاطع الدَّهْر بِغَيْر لَهو
…
فِي مجْلِس مُعظم أَو بهو)
(أما لتدريس وَعلم يدرس
…
أَو لبلاد من عَدو تحرس)
(أَو لأياد فِي عباد ثغرس
…
أَو لثواب ورضا يلْتَمس)
(أَو نسخ قُرْآن وَعرض حزب
…
أَو عدَّة معدة لِحَرْب)
وَمن أَعْيَان وزرائه عَامر بن فتح الله السدراتي وَعبد الله بن إِبْرَاهِيم
الفودودي وَمن أَعْيَان كِتَابه أَبُو مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ وَأَبُو مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي مَدين العثماني وَأَبُو الْحسن عَليّ بن القبايلي التينمللي رحم الله الْجَمِيع بمنه
ولنذكر مَا كَانَ من الْأَحْدَاث فِي هَذِه الْمدَّة
فَفِي سنة سَبْعمِائة أسس السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق تلمسان الجديدة الْمُسَمَّاة بالمنصورة حَسْبَمَا تقدم الْخَبَر عَنْهَا مُسْتَوفى
وَفِي سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة كَانَ الْقَحْط بالمغرب فَاسْتَسْقَى النَّاس وَخرج السُّلْطَان أَبُو سعيد مَاشِيا على قَدَمَيْهِ لإِقَامَة سنة الاسْتِسْقَاء وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُور وَتَقَدَّمت أَمَامه الصلحاء وَالْفُقَهَاء والقراء يدعونَ الله تَعَالَى وَقدم بَين يَدي نَجوَاهُ صدقَات وَفرق أَمْوَالًا وَفِي يَوْم السبت بعده خرج فِي جنده إِلَى قبر الشَّيْخ أبي يَعْقُوب الْأَشْقَر بجبل الكندرتين فَدَعَا هُنَالك ورحم الله تَعَالَى عباده وغاث أرضه وبلاده
وَفِي سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الْحق الزرويلي الْمَعْرُوف بالصغير بِضَم الصَّاد وَفتح الْغَيْن وَكسر الْيَاء الْمُشَدّدَة قَالَ ابْن الْخَطِيب فِي الْإِحَاطَة وَكَانَ ربعَة آدم اللَّوْن خَفِيف العارضين يلبس أحسن زِيّ ويدرس بِجَامِع الأجدع من فاس يقْعد على كرْسِي عَال ليسمع الْقَرِيب والبعيد على انخفاض كَانَ فِي صَوته وَكَانَ حسن الإقراء وقورا صبورا ثبتا وَكَانَ أحد الأقطاب الَّذين تَدور عَلَيْهِم الْفتيا بالمغرب فَيحسن
التوقيع عَلَيْهَا على طَرِيق الِاخْتِصَار وَترك فضول القَوْل ولاه السُّلْطَان أَبُو الرّبيع الْقَضَاء بفاس وَشد عضده فَجرى فِي الْعدْل على صِرَاط مُسْتَقِيم
وَفِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الْأَزْدِيّ المراكشي الْمَعْرُوف بِابْن الْبناء الإِمَام الْمَشْهُور فِي علم التعاليم والهيئة والنجوم والأزياج وَغير ذَلِك وَكَانَ رحمه الله عز وجل مَعْرُوفا بِاتِّبَاع السّنة موسوما بِطَهَارَة الِاعْتِقَاد منعوتا بالصلاح وَكَانَ انتفاعه بِصُحْبَة الشَّيْخ أبي زيد الهزميري رضي الله عنه
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَسَبْعمائة فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا هبت ريح شَدِيدَة بفاس ومكناسة وأحوازهما وَاسْتمرّ هبوبها يَوْمَيْنِ وليلتين فعاقت عَن الْأَسْفَار وهدمت الدّور وقلعت الْأَشْجَار
وَفِي سنة ثَلَاث وَعشْرين بعْدهَا فِي الْمحرم مِنْهَا جرت الْعين الموالية للمشرق من عُيُون صنهاجة بأحواز فاس بِدَم عبيط من وَقت الْعَصْر إِلَى نصف اللَّيْل ثمَّ عَادَتْ إِلَى حَالهَا وفيهَا كَانَ الْمَطَر الْعَظِيم والثلج الْكثير بالمغرب وَعدم الفحم والحطب حَتَّى بيع الفحم بفاس بِدِرْهَمَيْنِ للرطل وَفِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا احْتَرَقَ سوق العطارين الْكُبْرَى بفاس فجدده السُّلْطَان أَبُو سعيد من بَاب مدرسة العطارين إِلَى رَأس عقبَة الجزارين وَعقد عَلَيْهِ هُنَالك بَابا ضخما وأفرده للعطارين دون غَيرهم
وَفِي سنة أَربع وَعشْرين وَسَبْعمائة كَانَت المجاعة بالمغرب وَارْتَفَعت الأسعار فِي جَمِيع الْبِلَاد فَبلغ الْمَدّ من الْقَمْح بفاس خَمْسَة عشر درهما والصحفة مِنْهُ تسعين دِينَارا وغلا الإدام وعدمت الْخضر بأسرها وكسى السُّلْطَان أَبُو سعيد وَأطْعم فِي هَذِه المسغبة شَيْئا كثيرا ودام ذَلِك إِلَى قرب منتصف السّنة بعْدهَا وفيهَا فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر رَمَضَان مِنْهَا نَشأ خَارج فاس من جِهَة جوفيها سَحَاب عَظِيم وظلمة شَدِيدَة ورياح عَاصِفَة أعقب ذَلِك برد كثير عَظِيم الجرم تزن الْوَاحِدَة مِنْهُ ربع رَطْل وَأَقل وَأكْثر وَنزل فِي خلاله مطر وابل جَاءَت مِنْهُ السُّيُول طامية حملت النَّاس وَالدَّوَاب وأهلكت جَمِيع مَا بجبل زالغ من الكروم وَالزَّيْتُون وَسَائِر الشّجر
وَفِي سنة خمس وَعشْرين بعْدهَا لَيْلَة الْجُمُعَة السَّادِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى مِنْهَا دخل السَّيْل الْعَظِيم مَدِينَة فاس وَكَاد يَأْتِي عَلَيْهَا بِحَيْثُ هدم الدّور والمساجد والأسواق وَأهْلك آلافا من الْخلق حَتَّى خيف على الْبَلَد التّلف
وَفِي سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة انْتهى تَارِيخ ابْن أبي زرع الْمُسَمّى بالأنيس الْمغرب القرطاس فِي أَخْبَار مُلُوك الْمغرب وتاريخ مَدِينَة فاس وَمِمَّا هُوَ الْغَايَة فِي بَاب الأغراب مَا ذكره ابْن خلدون قَالَ حضر أشياخنا بِمَجْلِس السُّلْطَان أبي الْحسن وَقد رفع إِلَيْهِ امْرَأَتَانِ من أهل الجزيرة الخضراء ورندة حبستا أَنفسهمَا عَن الْأكل جملَة مُنْذُ سِنِين وشاع أَمرهمَا وَوَقع اختبارهما فصح شَأْنهمَا واتصل على ذَلِك حَالهمَا إِلَى أَن ماتتا وذكرهما أَيْضا الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمقري فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالمحاضرات قَالَ وَردت على تلمسان فِي الْعشْرَة الْخَامِسَة من الْمِائَة الثَّامِنَة امْرَأَة من رندة لَا تَأْكُل وَلَا تشرب وَلَا تبول وَلَا تتغوط وتحيض فَلَمَّا اشْتهر هَذَا من أمرهَا أنكرهُ الْفَقِيه أَبُو مُوسَى ابْن الإِمَام وتلى كَانَا يأكلان الطَّعَام فَأخذ النَّاس يبثون ثِقَات نِسَائِهِم ودهاتهن إِلَيْهَا فكشفوا عَنْهَا بِكُل وَجه يمكنهن فَلم يَقِفن على غير مَا ذكر وسئلت هَل تشتهين الطَّعَام فَقَالَت هَل تشتهون التِّبْن بَين يَدي الدَّوَابّ وسئلت هَل يَأْتِيهَا شَيْء فَأخْبرت أَنَّهَا صَامت ذَات يَوْم فأدركها الْجُوع والعطش فنامت فَأَتَاهَا آتٍ فِي النّوم بِطَعَام وشراب فَأكلت وشربت فَلَمَّا أفاقت وجدت نَفسهَا قد استغنت فَهِيَ على تِلْكَ الْحَال تُؤْتى فِي الْمَنَام بِالطَّعَامِ وَالشرَاب إِلَى الْآن وَلَقَد جعلهَا السُّلْطَان فِي مَوضِع بقصره وحفظها بالعدول وَمن يكْشف عَمَّا عَسى تَجِيء أمهَا بهَا إِذا أَتَت إِلَيْهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلم يُوقف لَهَا على أَمر قَالَ بيد أَنِّي أردْت أَن يُزَاد فِي عدد الْعُدُول وَيضم إِلَيْهِم الْأَطِبَّاء وَمن يَخُوض فِي المعقولات من عُلَمَاء الْملَل الْمُسلمين وَغَيرهم ويوكل من نسَاء الْفرق من يُبَالغ فِي كشف من يدْخل إِلَيْهَا وَلَا يتْرك أحدا يَخْلُو بهَا وَبِالْجُمْلَةِ يُبَالغ فِي ذَلِك ويستدام رعيها عَلَيْهِ سنة لاحْتِمَال أَن يغلب عَلَيْهَا طبع فتستغني فِي فصل دون فصل ثمَّ يكْتب هَذَا فِي الْعُقُود ويشاع أمره فِي الْعَالم وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يهدم حكم الطبيعة الَّذِي
هُوَ أضرّ الْأَحْكَام على الشَّرِيعَة وَيبين كَيْفيَّة غذَاء أهل الْجنَّة وَأَن الْحيض لَيْسَ من فضلات الْغذَاء وَيبْطل التَّأْثِير والتولد وَيُوجب ان الاقترانات بالعادات لَا باللزوم وَعند الْأَسْبَاب لَا بهَا إِلَى غير ذَلِك إِلَّا إِنِّي لما أَشرت بِهَذَا انقسم من أَشرت عَلَيْهِ بتبليغه إِلَى من لم يفهم مَا قلت وَمن لم يرفع بِهِ رَأْسا لإيثار الدُّنْيَا على الدّين فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
قَالَ الْمقري وَقد ذكر أَن امْرَأَة أُخْرَى كَانَت مَعهَا على تِلْكَ الْحَالة وحَدثني غير وَاحِد من الثِّقَات مِمَّن أدْرك عَائِشَة الجزرية أَنَّهَا كَانَت كَذَلِك وَإِن عَائِشَة بنت أبي بكر يَعْنِي زَوْجَة السُّلْطَان أبي الْحسن الَّتِي استشهدت فِي طريف اختبرتها أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَيْضا وَكم من آيَة أضيعت وَحجَّة نسيت مِمَّا لم يعرف مثله قبل الْمِائَة الثَّامِنَة وَكَذَلِكَ الوباء الْعَام الْقَرِيب فروطه يُوشك أَن يطول أمره فينسى ذكره ويكذب الْمُحدث بِهِ اذا انْقَضى عصره وَكم فِيهِ من أَدِلَّة على أصُول الْملَّة اه كَلَام الشَّيْخ أبي عبد الله الْمقري رحمه الله وَيَعْنِي بالوباء الْقَرِيب فروطه وباء منتصف الْمِائَة الثَّامِنَة أَيَّام كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن بتونس فَإِنَّهُ كَانَ وباء عَظِيما لم يعْهَد مثله قد عَم أقطار الأَرْض وتحيف الْعمرَان جملَة حَتَّى كَاد يَأْتِي على الخليقة أجمع والأمور كلهَا بيد الله لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان المتَوَكل على الله أبي عنان فَارس بن أبي الْحسن رحمه الله
كَانَ هَذَا السُّلْطَان محبوبا فِي قومه وعشيرته أثيرا عِنْد وَالِده متميزا بذلك عَن سَائِر اخوته لفضله وَعَمله وصيانته وعفافه واستظهار الْقُرْآن الْكَرِيم وَغير ذَلِك من الْأَوْصَاف الْحَسَنَة أمه أم ولد رُومِية اسْمهَا شمس الضُّحَى وقبرها بشالة مَعْرُوف إِلَى الْآن رَأَيْت مَكْتُوبًا عَلَيْهِ بالنقش أَنَّهَا توفيت لَيْلَة السبت رَابِع رَجَب الْفَرد سنة خمسين وَسَبْعمائة ودفنت إِثْر صَلَاة الْجُمُعَة فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور وَحضر لدفنها أَعْيَان الْمشرق
وَالْمغْرب اه وَكَانَ مولد السُّلْطَان أبي عنان بفاس الْجَدِيد فِي الثَّانِي عشر من ربيع الأول سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة وبويع فِي حَيَاة وَالِده يَوْم ثار عَلَيْهِ بتلمسان حَسْبَمَا فدمنا الْخَبَر عَنهُ وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء منسلخ ربيع الأول سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَلما هلك وَالِده أَبُو الْحسن بجبل هنتانة وانقضى شَأْن الْحصار ارتحل السُّلْطَان أَبُو عنان إِلَى فاس وَنقل شلو أَبِيه إِلَى شالة فدفنه بهَا وأغذ السّير إِلَى فاس وَقد استتب أمره وخلا لَهُ الجو فاحتل بدار ملكه وَأجْمع أمره على غَزْو بني عبد الواد لارتجاع مَا بِأَيْدِيهِم من الْملك الَّذِي تطاولوا إِلَيْهِ وَلما دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة نَادَى بالعطاء وأزاح الْعِلَل وعسكر بِسَاحَة الْبَلَد الْجَدِيد وَعرض جَيْشه ثمَّ نَهَضَ يُرِيد تلمسان
واتصل خَبره بسلطانها أبي سعيد عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن الزياني فَجمع لَهُ قومه وَمن شايعهم من زناتة وَالْعرب ثمَّ نَهَضَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ أَخُوهُ ووزيره أَبُو ثَابت فَكَانَ اللِّقَاء ببسيط أَن كَاد آخر ربيع الثَّانِي من السّنة المكذورة وَأجْمع بَنو عبد الواد على صدمة المرينيين وَقت القائلة وَعند ضرب الْأَبْنِيَة وسقاء الركاب وافتراق أهل المعسكر فِي حاجاتهم فحملوا عَلَيْهِم وأعجلوهم عَن تَرْتِيب المصاف وَركب السُّلْطَان أَبُو عنان لتلافي الْأَمر وخاض بَحر الْقِتَال وَقد أظلم الجو بالغبار حَتَّى إِذا خلص إِلَيْهِم وخالطم فِي صفوفهم ولوا الأدبار وَاتبع بَنو مرين آثَارهم فاستولوا على معسكرهم واستباحوهم قتلا وسبيا وصفدوهم أسرى وَلم يزَالُوا فِي اتباعهم إِلَى اللَّيْل وتقبضوا على سلطانهم أبي سيعد فساقوه إِلَى السُّلْطَان أبي عنان فاعتقله وَتقدم على التعبية إِلَى تلمسان فَدَخلَهَا فِي ربيع الْمَذْكُور واستوت فِي ملكهَا قدمه وأحضر أَبَا سعيد فوبخه وَأرَاهُ أَعماله حسرات عَلَيْهِ ثمَّ أحضر الْفُقَهَاء وأرباب الْفتيا
فافتوا بحرابته وَقَتله فَأمْضى حكم الله فِيهِ فذبح فيمحبسه لتاسعة من أعتقاله
وفر أَخُوهُ الزعيم أَبُو ثَابت إِلَى قاصية الشرق بعد أَن احْتمل مَعَه حرمه وَحرم أَخِيه ومتخلفهم واحتل بوادي شلف من بِلَاد مغرواة فَعَسْكَرَ هُنَالك وَاجْتمعَ عَلَيْهِ أَو شَاب من زناتة وَحدث نَفسه باللقاء ووعدها بِالصبرِ والثبات واتصل خَبره بالسلطان أبي عنان فسرح إِلَيْهِ وزيره فَارس بن مَيْمُون فِي عَسَاكِر بني مرين والجند فأغذ السّير إِلَيْهِم ثمَّ ارتحل السُّلْطَان أَبُو عنان من تلمسان على أَثَره وَلما ترَاءى الْجَمْعَانِ تَصَادقا الحملة وخاض النَّهر بَعضهم إِلَى بعض ثمَّ صدق بَنو مرين الحملة فاجتازوا النَّهر وانكشفت بَنو عبد الواد وَاتبع بنومرين آثَارهم فاستلحموهم ثَانِيَة واستباحوا معسركهم وَاسْتَاقُوا نِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ ودوابهم وَكتب الْوَزير بالتفح إِلَى السُّلْطَان أبي عنان وفر أَبُو ثَابت إِلَى قاصية الشرق فِي نفر من عشيرته وَبني أَبِيه فاعترضتهم قبائل زواوة فانتهبوا أسلابهم وأرجلوهم عَن خيولهم ومروا على وجوهم حُفَاة عُرَاة لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا وَكتب الْوَزير إِلَى أُمَرَاء الثغور فِي شَأْن أبي ثَابت وَأَصْحَابه فأذكوا الْعُيُون عَلَيْهِم وقعدوا لَهُم بالمراصد حَتَّى عثر عَلَيْهِم بعض الحشم فقبضوا على أبي ثَابت وَابْن أَخِيه أبي زيان بن أبي سعيد الْمَقْتُول ووزيرهم يحيى بن دَاوُد فرفعوهم إِلَى أَمِير بجاية أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء بن أبي بكر الحفصي وَكَانَ خَالِصَة للسُّلْطَان أبي عنان مُنْذُ أَيَّام وَالِده فاعتقلهم عِنْده حَتَّى وَفد بهم عَلَيْهِ بالمدية فَأكْرم السُّلْطَان أَبُو عنان وفادته وَركب للقائه لما تراءيا نزل الحفصي عَن فرسه إعظاما للسُّلْطَان فَنزل السُّلْطَان مُكَافَأَة لَهُ ولقاه مبرة وكرامة وأودع أَبَا ثَابت السجْن وتوافت إِلَيْهِ وُفُود الذواودة بمكانه من لمدية فَأكْرم وفادتهم وأسنى عطاياهم من الْخلْع والحملان وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وانقلبوا خير مُنْقَلب ووافته بمكانه ذَلِك بيعَة ابْن مزني عَامل بسكرة والزاب مَعَ وفدهم فأكرمهم ووصلهم وَفرغ السُّلْطَان أَبُو عنان من شَأْن الْمغرب الْأَوْسَط وَبث عماله فِي نواحيه وثقف أَطْرَافه وسمى إِلَى تملك إفريقية على مَا نذكرهُ إنْشَاء الله
تملك السُّلْطَان أبي عنان بجاية وتولية عمر بن عَليّ الوطاسي عَلَيْهَا
لما وَفد أَبُو عبد الله الحفصي على السُّلْطَان أبي عنان بلمدية فِي شعْبَان من سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة وَبَالغ فِي إكرامه ناجاه بِذَات صَدره وشكا إِلَيْهِ مَا يلقاه من رَعيته من الِامْتِنَاع من الجباية وَالسَّعْي فِي الْفساد وَمَا يتبع ذَلِك من شقَاق الحامية واستبداد البطانة وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان متشوفا لمثلهَا فَأَشَارَ عَلَيْهِ بالنزول عَنْهَا وَأَن يعوضه عَنْهَا مَا شَاءَ من بِلَاده فسارع إِلَى قبُول ذَلِك ودس إِلَيْهِ السُّلْطَان مَعَ حَاجِبه مُحَمَّد بن أبي عَمْرو أَن يشْهد بذلك على رُؤُوس الْمَلأ فَفعل وعوضه عَنْهَا مكناسة الزَّيْتُون ونقم بطانة الحفصي عَلَيْهِ وَنزع بَعضهم عَنهُ إِلَى إفريقية وَأمره السُّلْطَان أَبُو عنان أَن يكْتب بِخَطِّهِ إِلَى عَامله على بجاية بالنزول عَنْهَا وتمكين عُمَّال السُّلْطَان مِنْهَا فَفعل وَعقد أَبُو عنان عَلَيْهَا لعمر بن عَليّ الوطاسي من بني الْوَزير الَّذين قدمنَا خبر ثورتهم بحصن تازوطا أَيَّام يُوسُف بن يَعْقُوب وَلما قضى السُّلْطَان أَبُو عنان حَاجته من الْمغرب الْأَوْسَط وَاسْتولى على بجاية ثغر إفريقية انكفأ رَاجعا إِلَى تلمسان لشهود عيد الْفطر بهَا ودخلها فِي يَوْم مشهود حمل أَبَا ثَابت الزياني ووزيره يحيى بن دَاوُد على جملين وَدخل بهما تلمسان يخطوان بهما فِي ذَلِك المحفل بَين السماطين فَكَانَا عِبْرَة لمن حضر ثمَّ جنبا من الْغَد إِلَى مصارعهما فقتلا قعصا بِالرِّمَاحِ وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور
ثورة أهل بجاية ومقتل عمر بن الوطاسي بهَا
لما قدم عمر بن عَليّ الوطاسي بجاية وَاسْتقر بهَا ثقل أمره على نفوس أَهلهَا لألفهم ملكة الحفصيين وانصباغهم بالميل إِلَيْهِم فتربصوا بالوطاسي الدَّوَائِر وَكَانَ أَبُو عبد الله الحفصي قد استصحب مَعَه فِي وفادته على السُّلْطَان أبي عنان حَاجِبه فارحا مولى ابْن سيد النَّاس فَلَمَّا نزل
للسُّلْطَان عَن بجاية نقم فارح عَلَيْهِ ذَلِك وأسرها فِي نَفسه إِلَى أَن بَعثه الحفصي الْمَذْكُور مَعَ الوطاسي لينقل حرمه ومتاعه وماعون دَاره إِلَى الْمغرب فَانْتهى إِلَى بجاية وبينما هُوَ يحاول مَا أرسل فِي شَأْنه شكا إِلَيْهِ الصنهاجيون سوء ملكة بني مرين فنجع كَلَامهم فِيهِ وَنَفث لَهُم بِمَا عِنْده من الضغن ودعاهم إِلَى الثورة بالمرينيين وَالْقِيَام بدعوة الحفصيين فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك وتواعدوا للفتك بعلي بن عمر الوطاسي بمجلسه من القصبة وَتَوَلَّى كبرها مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم بن الْحَاج من مشيختهم وباكره فِي دَاره على عَادَة الْأُمَرَاء وَلما أكب عَلَيْهِ ليلثم أَطْرَافه طعنه بخنجره ثمَّ ولج عَلَيْهِ الْبَاقُونَ فاستلحموه وَذَلِكَ فِي ذِي الْحجَّة من سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة وثارت الغوغاء بِالْبَلَدِ وهتف الْهَاتِف بدعوة أبي زيد بن مُحَمَّد بن أبي بكر الحفصي صَاحب قسنطينة وطيروا إِلَيْهِ بالْخبر واستدعوه فتثاقل عَنْهُم وَبلغ الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان أبي عنان فاتهم أَبَا عبد الله الحفصي بمداخلة حَاجِبه فارح فِي ذَلِك فاعتقله بداره واعتقل وَفْدًا من أَشْرَاف بجاية كَانُوا بِبَابِهِ ثمَّ رَاجع شُيُوخ بجاية بصائرهم وتداركوا أَمرهم فِي الرُّجُوع إِلَى طَاعَة السُّلْطَان أبي عنان وَاتفقَ رَأْيهمْ على أَن يرقعوا هَذَا الْخرق ويسدوا هَذِه الثلمة براس الْحَاجِب فارح وصنهاجة الثائرين مَعَه وداخلهم فِي ذَلِك الْقَائِد هِلَال مولى ابْن سيد النَّاس وَلما عزموا على أَمرهم دعوا الْحَاجِب فارحا إِلَى الْمَسْجِد ليفاوضوه فِيمَا نزل بهم فأحس بِالشَّرِّ ولجأ إِلَى دَار الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن إِدْرِيس البجائي إِمَام بجاية ومفتيها فاقتحموا عَلَيْهِ الدَّار وباشره مَوْلَاهُ مُحَمَّد بن سيد النَّاس بطعنة فأنفذه وَرمى بشلوه من أَعلَى الدَّار فاحتزوا رَأسه وبعثوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان أبي عنان وفر مَنْصُور بن إِبْرَاهِيم بن الْحَاج وَقَومه صنهاجة عَن الْبَلَد وسرح السُّلْطَان أَبُو عنان إِلَيْهَا حَاجِبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أبي عَمْرو فِي الْكَتَائِب فَدَخلَهَا فاتح سنة أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة وَذَهَبت صنهاجة فِي كل وَجه وَلحق أَصْحَاب الفعلة مِنْهُم بتونس وتقبض الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو على جمَاعَة من غوغاء بجاية
المتهمين بالخوض فِي الْفِتْنَة يناهزون الْمِائَتَيْنِ فاعتقلهم وأركبهم الأسطول إِلَى الْمغرب فاطمأن النَّاس وَسَكنُوا وتوافت لَدَيْهِ وُفُود الذواودة من كل جِهَة فأجزل صلَاتهم ووفد عَلَيْهِ عَامل الزاب يُوسُف بن مزني فَأكْرم وفادته ثمَّ ارتحل إِلَى تلمسان غرَّة جمدى الأولى من السّنة وَمَعَهُ شُيُوخ الذواودة ووجوه بجاية
قَالَ ابْن خلدون وَكنت يَوْمئِذٍ فِي جُمْلَتهمْ فَجَلَسَ السُّلْطَان للوفد وَعرض مَا جنب إِلَيْهِ من الْجِيَاد والهدايا وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وَانْصَرفُوا إِلَى مواطنهم فاتح شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة قَالَ وانقلبت مَعَ الْحَاجِب بعد إسناء الْجَائِزَة وَالْخلْع والحملان من السُّلْطَان والوعد الْجَمِيل بتجديد مَا إِلَى قومِي ببلدي من الإقطاعات وَلما احتل الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو ببجاية ضبط أمرهَا وَأقَام أودها وألح على قسنطينة بترديد الْبعُوث وتجهيز الْكَتَائِب إِلَى أَن أذعنوا للطاعة ومكنوه من تاشفين ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن الْمَنْصُوب هُنَاكَ للفتنة وأوفد أَبُو زيد الحفصي صَاحب قسنطينة ابْنه على السُّلْطَان أبي عنان فَقبل وفادته وشكر سَعْيه وانكفأ الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو إِلَى بجاية وَأقَام بهَا إِلَى أَن هلك فِي الْمحرم سنة سِتّ وَخمسين وَسَبْعمائة فَذهب حميد السِّيرَة عِنْد أهل الْبَلَد وَعقد السُّلْطَان أَبُو عنان على بجاية لعبد الله بن عَليّ بن سعيد أحد وزرائه فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي ربيع من سنة سِتّ وَخمسين الْمَذْكُورَة فاستقر بهَا وسلك سنَن الْحَاجِب قبله وَسيرَته وجهز العساكر إِلَى حِصَار قسنطينة إِلَى أَن كَانَ من فتحهَا مَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله
خُرُوج أبي الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن بِبِلَاد السوس ثمَّ مَقْتَله عقب ذَلِك
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن لما ركب الْبَحْر من تونس إِلَى الْمغرب عقد على تونس لِابْنِهِ أبي الْفضل هَذَا وَأَنه لما أقلع عَنْهَا ثار أهل الْبَلَد وشيعة الحفصيين عَلَيْهِ فأخرجوه عَنْهَا وَلحق بِأَبِيهِ فَكَانَ مَعَه إِلَى أَن هلك وخلص الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي عنان فلحق بِهِ هُوَ وَأَخُوهُ أَبُو سَالم ففكر أَبُو
عنان فِي أَمرهمَا وخشي عَاقِبَة ترشيحهما فأشخصهما إِلَى الأندلس ليكونا مَعَ الْغُزَاة والقرابة فِي إيالة السُّلْطَان أبي الْحجَّاج يُوسُف بن الْأَحْمَر ثمَّ نَدم على ذَلِك وَلما استولى على تلمسان وَالْمغْرب الْأَوْسَط وَرَأى أَن قد استفحل أمره واعتز سُلْطَانه أنفذ الرُّسُل إِلَى أبي الْحجَّاج فِي أَن يشخصهما إِلَيْهِ لِأَن مقامهما عِنْده أحوط لجمع الْكَلِمَة بِخِلَاف مَا إِذا غابا عَن حَضرته وخشي أَبُو الْحجَّاج غائلته عَلَيْهِمَا فَأبى من إسلامهما الْيَد وَأجَاب الرُّسُل بِأَنَّهُ لَا يخفر ذمَّته وَلَا يسيء جوَار الْمُسلمين الْمُجَاهدين لَدَيْهِ فَغَضب السُّلْطَان أَبُو عنان لذَلِك وَقَامَ وَقعد وَأمر حَاجِبه ابْن أبي عَمْرو أَن يكْتب إِلَه ويبالغ فِي التوبيخ واللوم فَفعل الْحَاجِب الْمَذْكُور
قَالَ ابْن خلدون وَقد أوقفني الْحَاجِب على ذَلِك الْكتاب ببجاية فَقضيت عجبا من فصوله وأغراضه وَلما قَرَأَهُ أَبُو الْحجَّاج ابْن الْأَحْمَر دس إِلَى أبي الْفضل وَكَانَ أكبر الْأَخَوَيْنِ باللحاق بالطاغية وَكَانَت بَينهمَا ولَايَة ومخالصة فَنزع إِلَيْهِ أَبُو الْفضل وجهز الطاغية لَهُ أسطولا أركبه فِيهِ وأنزله بساحل السوس من أَرض الْمغرب وَنذر السُّلْطَان أَبُو عنان بذلك فأوعز إِلَى قَائِد أسطوله باعتراض أسطول الطاغية فاعترضه وأوقع بِهِ وَكتب ابْن الْأَحْمَر أثْنَاء ذَلِك كتابا إِلَى السُّلْطَان أبي عنان يعْتَذر عَن أَمر أبي الْفضل من إنْشَاء وزيره لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب وَنَصه
الْمقَام الَّذِي شهد اللَّيْل وَالنَّهَار بأصالة سعادته وَجرى الْفلك الدوار بِحكم إِرَادَته وتعود الظفر بِمن يناويه فاطرد وَالْحَمْد لله جَرَيَان عَادَته فَوَلِيه مُتَحَقق لإفادته وعدوه مرتقب لإبادته وحلل الصَّنَائِع الإلهية تضفو على أعطاف مجادته مقَام مَحل أخينا الَّذِي سهم سعده صائب وأمل من كاده خاسر خائب وسير الْفلك الْمدَار فِي مرضاته دائب وصنائع الله تَعَالَى لَهُ تصحبها الألطاف الْعَجَائِب فسيان شَاهد مِنْهُ فِي عصمَة وغائب السُّلْطَان الكذا ابْن السُّلْطَان الكذا أبقاه الله تَعَالَى مُسَددًا لسهم ماضي الْعَزْم تجل سعوده عَن تصور الْوَهم وَلَا زَالَ مرهوب الْحَد ممتثل الرَّسْم موفور الْحَظ من نعْمَة الله تَعَالَى عِنْد تعدد الْقسم فائزا بفلج الْخِصَام عِنْد لد الْخصم مُعظم قدره
وملتزم بره مبتهج بِمَا يسببه الله تَعَالَى لَهُ من إعزاز نَصره وَإِظْهَار أمره فلَان سَلام كريم طيب بر عميم يخص مقامكم الْأَعْلَى ومثابتكم الفضلى الَّتِي حازت فِي الْفَخر الأمد الْبعيد وفازت من التأييد والنصر بالحظ السعيد وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته أما بعد حمد الله الَّذِي فسح لملككم الرفيع فِي الْعِزّ مدى وعرفه عوارف آلائه وعوائد النَّصْر على أعدائه يَوْمًا وَغدا وحرس سَمَاء علائه بشهب من قدره وقضائه فَمن يستمع الْآن يجد لَهُ شهابا رصدا وَجعل نجح آماله وَحسن مآله قِيَاسا مطردا فَرب مُرِيد ضره ضرّ نَفسه وهاد إِلَيْهِ الْجَيْش أهْدى وَمَا هدي وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد نبيه وَرَسُوله الَّذِي مَلأ الْكَوْن نورا وَهدى وَأَحْيَا مراسم الْحق وَقد صَارَت طرائق قددا أَعلَى الْأَنَام يدا وأشرفهم محتدا الَّذِي بجاهه نلبس أَثوَاب السَّعَادَة جددا ونظفر بالنعيم الَّذِي لَا يَنْقَطِع أبدا وَالرِّضَا عَن آله وَأَصْحَابه الَّذين رفعوا لسماء سنته عمدا وأوضحوا لسبيل اتِّبَاعه مقصدا وتقبلوا شيمه الطاهرة ركعا وَسجدا سيوفا على من اعْتدى ونجوما لمن اهْتَدَى حَتَّى علت فروع مِلَّته صعدا وَأصْبح بناؤها مديدا مخلدا وَالدُّعَاء لمقامكم الأسمى بالنصر الَّذِي يتوالى مثنى وموحدا كَمَا جمع لملككم مَا تفرق من الألقاب على توالي الأحقاب فَجعل سيفكم سِفَاحًا وعلمكم منصورا ورأيكم رشيدا وعزمكم مؤيدا فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم كتب الله تَعَالَى لكم صنعا يشْرَح لِلْإِسْلَامِ خلدا ونصرا يُقيم للدّين الحنيفي أوادا وعزما يمْلَأ أَفْئِدَة الْكفْر كمدا وجعلكم مِمَّن هيأ لَهُ من أمره رشدا وَيسر لكم الْعَاقِبَة الْحسنى كَمَا وعد بِهِ فِي كِتَابه الْعَزِيز وَالله أصدق موعدا من حَمْرَاء غرناطة حرسها الله وَلَا زَائِد بِفضل الله سُبْحَانَهُ إِلَّا استطلاع سعودكم فِي آفَاق الْعِنَايَة واعتقاد جميل صنع الله فِي الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة وَالْعلم بِأَن ملككم تحدى من الظُّهُور على أعدائه بِآيَة وأجرى جِيَاد السعد فِي ميدان لَا يحد بغاية وخرق حجاب الْمُعْتَاد بِمَا لم يظْهر إِلَّا لأَصْحَاب الْكَرَامَة وَالْولَايَة وَنحن على مَا علمْتُم من السرُور بِمَا يهز لملككم الْمَنْصُور عطفا ويسدل عَلَيْهِ من الْعِصْمَة سجفا فقاسمه الارتياح لمواقع نعم الله تَعَالَى نصفا وَنصفا ونعقد بَين أنباء مسرته وَبَين الشُّكْر لله حلفا ونعد التَّشَيُّع لَهُ مِمَّا يقربنا إِلَى الله زلفى
ونؤمل من إمداده ونرتقب من جهاده وقتا يكفل بِهِ الدّين ويكفى وتروى غلل النُّفُوس وتشفى وَإِلَى هَذَا وصل الله سعدكم ووالى نصركم وعضدكم فَإنَّا من لدن صدر عَن أخيكم أبي الْفضل مَا صدر من الانقياد لخدع الآمال والاغترار بموارد الْآل وَقَالَ رَأْيه فِي اقتحام الْأَهْوَال وتورط فِي هفوة حَار فِيهَا حيرة أهل الْكَلَام فِي الْأَحْوَال وناصب من أَمركُم السعيد جبلا قضى الله لَهُ بالاستقرار والاستقلال وَمن ذَا يزاحم الأطواد ويزحزح الْجبَال وأخلف الظَّن منا فِي وفائه وأضمر عملا اسْتَأْثر عَنَّا بإخفائه واستعان من عَدو الدّين بِمعين فَلَا ورى لمن استنصر بِهِ زند وَلَا خَفق لمن تولاه بالنصر بند وَإِن الطاغية أَعَانَهُ وأنجده وَرَأى أَنه سهم على الْمُسلمين سدده وعضب للفتنة جرده فَسخرَ لَهُ الْفلك وأمل أَن يستخدمه بِسَبَب ذَلِك الْملك فَأوردهُ الهلك وَالظُّلم الحلك علمنَا أَن طرف سعادته كاب وسحائب آماله غير ذَات انسكاب وَقدم عزته لم يسْتَقرّ من السداد فِي غرز ركاب فَإِن نجاح أَعمال النُّفُوس مُرْتَبِط بنياتها وغايات الْأُمُور تظهر فِي بداياتها وعوائد الله تَعَالَى فِيمَن نَازع قدرته لَا تجْهَل وَمن غَالب أَمر الله خَابَ مِنْهُ الْمعول فَبَيْنَمَا نَحن ترنقب خسار تِلْكَ الصَّفْقَة المعقودة وخمود تِلْكَ الشعلة الموقودة وصلنا كتابكُمْ يشْرَح الصُّدُور ويشرح الْأَخْبَار وَيهْدِي طرف المسرات على أكف الاستبشار ويعرب بِلِسَان حَال المسارعة والابتدار عَن الود الْوَاضِح وضوح النَّهَار والتحقق بخلوصنا الَّذِي يُعلمهُ عَالم الْأَسْرَار فَأَعَادَ فِي الإفادة وأبدأ وأسدى من الْفَضَائِل الجلائل مَا أسدى فَعلم مِنْهُ مآل من رام يقْدَح زند الشتات من بعد الالتئام ويثير عجاجة الْمُنَازعَة من بعد ركُوب القتام هَيْهَات تِلْكَ قلادة الله تَعَالَى الَّتِي مَا كَانَ ليتركها بِغَيْر نظام وَلم يدر أَنكُمْ نصبتم لَهُ من الحزم حبالة لَا يفلتها قنيص سددتم لَهُ من السعد سَهْما مَا لَهُ عَنهُ من محيص بِمَا كَانَ من إرْسَال جوارح الأسطول السعيد فِي مطاره حَائِلا بَينه وَبَين أوطاره فَمَا كَانَ إِلَّا التَّسْمِيَة والإرسال ثمَّ الْإِمْسَاك والقتال ثمَّ الاقتيات والاستعمال فيا لَهُ من زجر استنطق لِسَان الْوُجُود مجدله واستنصر الْبَحْر فخذله وصارع الْقدر فجدله لما جد لَهُ وَإِن خدامكم استولوا على مَا كَانَ فِيهِ من مُؤَمل غَايَة بعيدَة ومنتسب إِلَى نِسْبَة غير سعيدة
وشانئ غمرته من الْكفَّار خدام المَاء وأولياء النَّار تحكمت فيهم أَطْرَاف العوالي وصدور الشفار وَتحصل مِنْهُم من تخطاه الْحمام فِي قَبْضَة الأسار فعجبنا من تيسير هَذَا المرام وإخماد الله لهَذَا الضرام وَقُلْنَا تكييف لَا يحصل فِي الأوهام وتسديد لَا تَسْتَطِيع إِصَابَته السِّهَام كلما قدح الْخلاف زندا أطفأ سعدكم شعلته أَو أظهر الشتات ألما أَبْرَأ يمن طائركم علته مَا ذَاك إِلَّا لنِيَّة صدقت معاملتها فِي جنب الله تَعَالَى وَصحت واسترسلت بركتها وسحت وَجِهَاد نذرتموه إِذا فرغت شواغلكم وتمت واهتمام بِالْإِسْلَامِ يَكْفِيهِ الخطوب الَّتِي أهمت فَنحْن نهنيكم بمنح الله ومننه ونسأله أَن يلْبِسكُمْ من إعانته أوقى جننه فأملنا أَن تطرد آمالكم وتنجح فِي مرضات الله أَعمالكُم فمقامكم هُوَ الْعُمْدَة الَّتِي يدافع الْعَدو بسلاحها وتنبلج ظلماته بصفاحها وَكَيف لانهنئكم بصنع على جهتنا يعود وبشابقنا تطلع مِنْهُ السُّعُود فتيقنوا مَا عندنَا من الِاعْتِقَاد الَّذِي رسومه قد اسْتَقَلت وكتفت وديمه بِسَاحَة الود قد وكفت وَالله عز وجل يَجْعَل لكم الْفتُوح عَادَة وَلَا يعدمكم عناية وسعادة وَهُوَ سُبْحَانَهُ يعلي مقامكم وينصر أعلامكم ويهني الْإِسْلَام أيامكم وَالسَّلَام الْكَرِيم يخصكم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته اه
وَلما نزل أَبُو الْفضل بساحل السوس لحق بِعَبْد الله السكسيوي صَاحب الْجَبَل الْمَنْسُوب إِلَيْهِ ودعا لنَفسِهِ وَكَانَ ذَلِك إِثْر مقدم الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو من فتح بجاية سنة أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة فَجهز السُّلْطَان أَبُو عنان إِلَيْهِ عسكره من تلمسان وَعقد على حَرْب السكسيوي وابي الْفضل لوزيره فَارس بن مَيْمُون بن وردار فَسَار حَتَّى نزل على جبل السكسيوي وأحاط بِهِ وَأخذ بمخنقه واختط مَدِينَة لمعسكره وتجمير كتائبه بسفح ذَلِك الْجَبَل سَمَّاهَا الْقَاهِرَة وَلما اشْتَدَّ الْحصار على السكسيوي بعث إِلَى الْوَزير يسْأَله الرُّجُوع إِلَى طَاعَته الْمَعْرُوفَة وَأَن ينْبذ الْعَهْد إِلَى أبي الْفضل ففارقه وانتقل إِلَى جبال المصامدة وَدخل الْوَزير فَارس أَرض السوس فدوخ أقطارها ومهد أكنافها وسارت الألوية والجيوش فِي جهاتها ورتب المسالح فِي ثغورها وأمصارها
وَسَار أَبُو الْفضل ينْتَقل فِي جبال المصامدة إِلَى أَن انْتهى إِلَى صناكة
وَألقى بِنَفسِهِ على ابْن الْحميدِي مِنْهُم مِمَّا يَلِي بِلَاد درعة فأجاره وَقَامَ بأَمْره ونازله عَامل درعة يَوْمئِذٍ عبد الله بن مُسلم الزردالي من مشيخة بني عبد الواد كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رحمه الله قد اصطنعه أَيَّام فَتحه لتلمسان فاستقر فِي دولتهم واندرج فِي صنائعهم فَأخذ بمخنق ابْن الْحميدِي وأرهبه بوصول العساكر والوزراء إِلَيْهِ وداخله فِي التقبض على أبي الْفضل وَأَن يبْذل لَهُ من المَال فِي ذَلِك مَا أحب فَأجَاب ولاطف عبد الله بن مُسلم الْأَمِير أَبَا الْفضل ووعده من نَفسه الدُّخُول فِي الْأَمر وَطلب لقاءه فَركب إِلَيْهِ أَبُو الْفضل وَلما استمكن مِنْهُ ابْن مُسلم تقبض عَلَيْهِ وَدفع لِابْنِ الْحميدِي مَا اشْترط لَهُ من المَال وأشخصه معتقلا إِلَى أَخِيه السُّلْطَان أبي عنان سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة فأودعه السجْن وَكتب بِالْفَتْح إِلَى القاصية ثمَّ قَتله لليال يسيرَة من اعتقاله خنقا بمحبسه وانقضى أَمر الْخَوَارِج وتمهدت الدولة إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
وفادة الْوَزير ابْن الْخَطِيب من قبل سُلْطَانه الْغَنِيّ بِاللَّه على السُّلْطَان أبي عنان رحمهم الله
كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن الْأَحْمَر قد أوفد وزيره لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب على السُّلْطَان أبي عنان إِثْر مهلك السُّلْطَان أبي الْحسن معزيا لَهُ بمصابه فَقدم ابْن الْخَطِيب وَأدّى الرسَالَة وجلى فِي اغراض تِلْكَ السفارة وَعَاد إِلَى غرناطة ثمَّ هلك السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة بمصلى عيد الْفطر وَهُوَ ساجد طعنه بعض الزعانف فأصماه لوقته وَبَايع النَّاس ابْنه مُحَمَّد بن يُوسُف الْغَنِيّ بِاللَّه وَقَامَ بِأَمْر دولته مَوْلَاهُ رضوَان الراسخ الْقدَم فِي قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من مُلُوكهمْ واستبد بِالْأَمر وَانْفَرَدَ ابْن الْخَطِيب بوزارته كَمَا كَانَ لِأَبِيهِ من قبل وَاتخذ لكتابته غَيره وَجعل ابْن الْخَطِيب رديفا لرضوان فِي أمره وتشاركا فِي الاستبداد
مَعًا فجرت الدولة على أحسن حَال ثمَّ إِن السُّلْطَان الْغَنِيّ بِاللَّه بعث وزيره ابْن الْخَطِيب سفيرا عَنهُ إِلَى السُّلْطَان أبي عنان مستمدا لَهُ على عدوه الطاغية على عَادَة سلفه فِي ذَلِك قَالَ ابْن الْخَطِيب لما أشرفت على مَدِينَة فاس فِي غَرَض هَذِه الرسَالَة خاطبني الْخَطِيب الرئيس أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَرْزُوق التلمساني بمنزل الشاطبي على مرحلة مِنْهَا بِمَا نَصه
(
(يَا قادما وافي بِكُل نجاح
…
أبشر بِمَا تَلقاهُ من أفراح)
(هذي ذرى ملك الْمُلُوك فلذ بهَا
…
تنَلْ المنى وتفز بِكُل سماح)
(مغنى الإِمَام أبي عنان يممن
…
تظفر ببحر بالندا طفاح)
(من قَاس جود أبي عنان فِي الندا
…
بسواه قَاس الْبَحْر بالضحضاح)
(ملك يفِيض على العفاة نواله
…
قبل السُّؤَال وَقبل بسطة رَاح)
(فلجود كَعْب وَابْن سعد فِي الندا
…
ذكر محاه عَن نداه ماح)
(مَا أَن سَمِعت وَلَا رَأَيْت بِمثلِهِ
…
من أريحي للندا مرتاح)
(بسط الْأمان على الْأَنَام فَأَصْبحُوا
…
قد ألحفوا مِنْهُ بِظِل جنَاح)
(وهم على العافين سيب نواله
…
حَتَّى حكى سح الْغَمَام الساح)
(فنواله وجلاله وفعاله
…
فاقت وأعيت السن المداح)
(وَبِه الدنا أضحت تروق وأصبحت
…
كل المنى تنقاد بعد جماح)
(من كَانَ ذَا ترح فرؤية وَجهه
…
متلافة الأحزان والأتراح)
(فانهض أَبَا عبد الْإِلَه تفز بِمَا
…
تبغيه من أمل ونيل نجاح)
(لَا زلت ترتشف الْأَمَانِي رَاحَة
…
من رَاحَة الْمولى بِكُل صباح)
فَالْحَمْد لله يَا سَيِّدي وَأخي على نعمه الَّتِي لَا تحصى حمد يؤم بِهِ جميعنا الْمَقْصد الْأَسْنَى فَيبلغ الأمد الْأَقْصَى فطالما كَانَ مُعظم سَيِّدي للأسى فِي خبال وللأسف بَين اشْتِغَال بَال واشتعال بلبال ولقدومكم على هَذَا الْمحل المولوي فِي ارتقاب ولمواعيدكم بذلك فِي تحقق وُقُوعه من غير شكّ وَلَا ارتياب فها أَنْت تجتني من هَذَا الْمقَام الْعلي بتشيعك وُجُوه المسرة صباحا وتتلقى أَحَادِيث مكارمه ومواهبه مُسندَة صحاحا بحول الله تَعَالَى ولسيدي
الْفضل فِي قبُول مركوبة الْوَاصِل إِلَيْهِ بسرجه ولجامه فَهُوَ من بعض مَا لَدَى الْمُعظم من إِحْسَان مَوْلَاهُ وإنعامه ولعمري لقد كَانَ وافدا على سَيِّدي فِي مستقره مَعَ غير فَالْحَمْد لله الَّذِي يسر فِي إيصاله على أفضل أَحْوَاله قَالَ ابْن الْخَطِيب فراجعته بِمَا نَصه
(راحت تذكرني كؤوس الراح
…
والقرب يخْفض للجنوح جنَاح)
(وسرت تدل على الْقبُول كَأَنَّمَا
…
دلّ النسيم على انبلاج صباح)
(حسناء قد غنيت بِحسن صفاتها
…
عَن دملج وقلادة ووشاح)
(أمست تَحض على اللياد بِمن جرت
…
بسعوده الأقلام فِي الألواح)
(بخليفة الله الْمُؤَيد فَارس
…
شمس الْمَعَالِي الْأَزْهَر الوضاح)
(مَا شِئْت من شيم وَمن همم غَدَتْ
…
كالزهر أَو كالزهر فِي الأوداح)
(فضل الْمُلُوك فَلَيْسَ يدْرك شأوه
…
أَنى يُقَاس الْغمر بالضحضاح)
(أَسْنَى بني عباسهم بلوائه
…
الْمَنْصُور أَو بحسامه السفاح)
(وغدت مغاني الْملك لما حلهَا
…
تزري ببدر هدى وبحر سماح)
(وحياة من أهداك تحفة قادم
…
فِي الْعرف مِنْهَا رَاحَة الْأَرْوَاح)
(مَا زلت أجعَل ذكره وثناءه
…
روح وريحاني الأريح وَرَاح)
(وَلَقَد تمازج حبه بجوارحي
…
كتمازج الْأَجْسَام بالأرواح)
(وَلَو أنني أَبْصرت يَوْمًا فِي يَدي
…
أَمْرِي لطرت إِلَيْهِ دون جنَاح)
(فَالْآن ساعدني الزَّمَان وأيقنت
…
من قربه نَفسِي بفوز قداح)
(إيه أَبَا عبد الْإِلَه وَإنَّهُ
…
لنداء ود فِي علاك صراح)
(أما إِذا استنجدتني من بعد مَا
…
ركدت لما جنت الخطوب ريَاح)
(فإليكها مَهْزُولَة وَأَنا امْرُؤ
…
قررت عجزي وأطرحت سلَاح)
سَيِّدي أبقاك الله لعهد تحفظه وَوَلَاء بِعَين الْوَفَاء تلحظه وصلتني رقعتك الَّتِي ابتدعت وبالحق من مولى الْخَلِيفَة صدعت والفتنى وَقد سطت بِي الأوحال حَتَّى كَادَت تتْلف الرّحال وَالْحَاجة إِلَى الْغَدَاء قد شمرت عَن كشح البطين وثانية العجماوين قد توقع فَوَات وَقتهَا وَإِن كَانَت صلَاتهَا صَلَاة الطين
والفكر قد غاض مُعينَة وَضعف وعَلى الله جَزَاء الْمولى الَّذِي يُعينهُ فغزتني بكتيبتي بَيَان أسدها هسور وَعلمهَا مَنْصُور وألفاظها لَيْسَ فِيهَا قُصُور ومعانيها عَلَيْهَا الْحسن مَقْصُور واعتراف مثلي بِالْعَجزِ فِي المضايق حول وَمِنْه وَقَول لَا أَدْرِي للْعَالم فَكيف بِغَيْرِهِ جنَّة لَكِنَّهَا بشرتني بِمَا يقل لمؤديه بذل النُّفُوس وَإِن جلت وأطلعتني من السَّرَّاء على وَجه تحسده الشَّمْس إِذا تجلت بِمَا أعلمتني بِهِ من جميل اعْتِقَاد مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله فِي عَبده وَصدق المخيلة فِي كرم مجده وَهَذَا هُوَ الْجُود الْمَحْض وَالْفضل الَّذِي شكره هُوَ الْفَرْض وَتلك الْخلَافَة المولوية تتصف بِصِفَات من يبْدَأ بالنوال من قبل الضراعة وَالسُّؤَال من غير اعْتِبَار للأسباب وَلَا مجازات للأعمال نسْأَل الله تَعَالَى أَن يبقي مِنْهَا على الْإِسْلَام أَو فِي الظلال ويبلغها من فَضله أقْصَى الآمال وَوصل مَا بَعثه سَيِّدي صحبتهَا من الْهَدِيَّة والتحفة الودية وقبلتها امتثالا واستجليت مِنْهَا عتقا وجمالا وسيدي فِي الْوَقْت أنسب باتخاذ ذَلِك الْجِنْس وأقدر على الاستكثار من إناث البهم وَالْإِنْس وَأَنا ضَعِيف الْقُدْرَة غير مستطيع لذَلِك إِلَّا فِي الندرة فَلَو رأى سَيِّدي ورايه سداد وقصده فضل ووداد أَن ينْقل الْقَضِيَّة إِلَى بَاب الْعَارِية من بَاب الْهِبَة مَعَ وجود الْحُقُوق المترتبة لبسط خاطري وَجمعه وَعمل فِي رفع الْمُؤْنَة على شاكلة حَالي مَعَه وَقد استصحبت مركوبا يشق عَليّ هجره ويناسب مقَامي شكله ونجره وسيدي فِي الْإِسْعَاف على الله أجره وَهَذَا أَمر عرض وَفرض فرض وعَلى نظره الْمعول واعتماد إغضائه هُوَ الْمَعْقُول الأول وَالسَّلَام على سَيِّدي من مُعظم قدره وملتزم بره ابْن الْخَطِيب فِي لَيْلَة الْأَحَد السَّابِع وَالْعِشْرين لذِي الْقعدَة سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة وَالسَّمَاء قد جَادَتْ بمطر سهرت مِنْهُ الأجفان وَظن أَنه طوفان واللحاق فِي غدها بِالْبَابِ المولوي مُؤَمل بحول الله اه
وَلما قدم الْوَزير الْمَذْكُور على السُّلْطَان الْمَذْكُور تقدم الْوَفْد الَّذين مَعَه من وزراء الأندلس وفقهائها وممثل بَين يَدَيْهِ واستأذنه فِي إنشاد شَيْء من الشّعْر يقدمهُ بَين يَدي نَجوَاهُ فَأذن لَهُ وَأنْشد وَهُوَ قَائِم
(خَليفَة الله ساعد الْقدر
…
علاك مَا لَاحَ فِي الدجى قمر)
(ودافعت عَنْك كف قدرته
…
مَا لَيْسَ يَسْتَطِيع دَفعه الْبشر)
(وَجهك فِي النائبات بدر دجى
…
لنا وَفِي الْمحل كفك الْمَطَر)
(وَالنَّاس طرا بِأَرْض أندلس
…
لولاك مَا أوطنوا وَلَا عمروا)
(وَمن بِهِ مذ وصلت حبلهم
…
مَا جَحَدُوا نعْمَة وَلَا كفرُوا)
(وَجُمْلَة الْأَمر أَنه وَطن
…
فِي غير علياك مَا لَهُ وطر)
(وَقد أهمتهم نُفُوسهم
…
فوجهوني إِلَيْك وَانْتَظرُوا)
فاهتز السُّلْطَان أَبُو عنان لهَذِهِ الأبيات وَأذن لَهُ فِي الْجُلُوس وَقَالَ لَهُ قبل أَن يجلس مَا ترجع إِلَيْهِم إِلَّا بِجَمِيعِ طلباتهم ثمَّ أدّى الرسَالَة وَدفع الْكتاب وَلما عزموا على الِانْصِرَاف أثقل كاهلهم بِالْإِحْسَانِ وردهم بِجَمِيعِ مَا طلبوه
قَالَ ابْن خلدون قَالَ شَيخنَا القَاضِي أَبُو الْقَاسِم الشريف وَكَانَ مَعَه فِي ذَلِك الْوَفْد لم نسْمع بسفير قضى سفارته قبل أَن يسلم على السُّلْطَان إِلَّا هَذَا
وَنَصّ الْكتاب الَّذِي قدم بِهِ ابْن الْخَطِيب الْمقَام الَّذِي يُغني عَن كل مَفْقُود بِوُجُودِهِ ويهز إِلَى جميل العوائد أعطاف بأسه وجوده ونستضيء عِنْد إظلام الخطوب بِنور سعوده ونرث من الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ أَسْنَى ذخر يَرِثهُ الْوَلَد عَن آبَائِهِ وجدوده مقَام مَحل أَبينَا الَّذِي رعى الأذمة شَأْنه وصلَة الرَّاعِي سجية انْفَرد بهَا سُلْطَان ومواعد النَّصْر ينجزها زَمَانه وَالْقَوْل وَالْفِعْل فِي ذَات الله تَعَالَى تكفلت بهما يَده الْكَرِيمَة وَلسَانه وتطابق فيهمَا إسراره وإعلانه السُّلْطَان الكذا ابْن السُّلْطَان الكذا ابْن السُّلْطَان الكذا أبقاه الله تَعَالَى محروسا من غير الْأَيَّام جنابه مَوْصُولَة بالوقاية الإلهية أَسبَابه مسدولا على ذَاته الْكَرِيمَة ستر الله تَعَالَى وحجابه مصروفا عَنهُ من صروف الْقدر مَا يعجز عَن رده بوابه وَلَا زَالَ ملْجأ تنْفق لَدَيْهِ الْوَسَائِل الَّتِي تدخرها لأولادها أولياؤه وأحبابه ويسطر فِي صحف الْفَخر ثَوَابه وتشتمل على مَكَارِم الدّين وَالدُّنْيَا أثوابه وتتكفل بنصر الْإِسْلَام وجبر الْقُلُوب عِنْد طوارق الْأَيَّام كتائبه وَكتابه مُعظم مَا عظم من حَقه
السائر من إجلاله وشكر خلاله على لاحب طرقه المستضيء فِي ظلمَة الْخطب بِنور أفقه الْأَمِير عبد الله مُحَمَّد بن أَمِير الْمُسلمين أبي الْحجَّاج ابْن أَمِير الْمُسلمين أبي الْوَلِيد بن فرج بن نصر سَلام كريم بر عميم يخص مقامكم الْأَعْلَى وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته أما بعد حمد الله الَّذِي لاراد لأَمره وَلَا معَارض لفعله مصرف الْأَمر بقدرته وحكمته وعدله الْملك الْحق الَّذِي بِيَدِهِ ملاك الْأَمر كُله مُقَدّر الْآجَال والأعمار فَلَا يتَأَخَّر شَيْء عَن مِيقَاته وَلَا يبرح عَن مَحَله جَاعل الدُّنْيَا مناخ نَقله لَا يغتبط الْعَاقِل بِمِائَة وَلَا بظله وسبيل رحْلَة فَمَا أكثب ظعنه من حلّه وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد صفوة خلقه وخيرة أنبيائه وَسيد رسله الَّذِي نعتصم بِسَبَبِهِ الْأَقْوَى ونتمسك بحبله ونمد يَد الافتقار إِلَى فَضله ونجاهد فِي سَبيله من كذب بِهِ أَو حاد عَن سبله ونصل إِلَيْهِ ابْتِغَاء مرضاته وَمن أَجله وَالرِّضَا عَن آله وأحزابه وأنصاره وَأَهله المستولين من ميدان الْكَمَال على خصله وَالدُّعَاء لمقامكم الْأَعْلَى بعز نَصره ومضاء فَضله فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم كتب الله تَعَالَى لكم وقاية لَا تطرق الخطوب حماها وعصمة ترجع عَنْهَا سِهَام النوائب كلما فَوْقهَا الدَّهْر ورماها وعناية لَا تغير الْحَوَادِث اسْمهَا وَلَا مسماها وَعزا يزاحم أجرام الْكَوَاكِب منتماها من حَمْرَاء غرناطة حرسها الله تَعَالَى وَنعم الله سُبْحَانَهُ تتواتر لدينا دفعا ونفعا وألطافه نتعرفها وترا وشفعا ومقامكم الأبوي هُوَ الْمُسْتَند الْأَقْوَى والمورد الَّذِي ترده آمال الْإِسْلَام فتروي وتهوي إِلَيْهِ أفئدتهم فتجد مَا تهوى ومثابتكم الْعدة الَّتِي تأسست مبانيها على الْبر وَالتَّقوى وَإِلَى هَذَا وصل الله تَعَالَى سعدكم وَأبقى مجدكم فَإنَّا لما نعلم من مساهمة مجدكم الَّتِي يقتضيها كرم الطباع وطباع الْكَرم وَتَدْعُو إِلَيْهَا ذمم الرَّعْي ورعي الذمم نعرفكم بعد الدُّعَاء لملككم بدفاع الله تَعَالَى عَن إرتقائه وامتاع الْمُسلمين بِبَقَائِهِ بِمَا كَانَ من وَفَاة مَوْلَانَا الْوَالِد نَفعه تَعَالَى بالسعادة الَّتِي ألبسهُ حلتها وَالشَّهَادَة الَّتِي فِي أَعمالهَا الزكية كتبهَا والدرجة الْعَالِيَة الَّتِي حتمها لَهُ وأوجبها وَبِمَا تصير لنا من أمره وَضم بِنَا من نشره وسدل على من خَلفه من ستره وَإِنَّهَا لعبرة لمن ألْقى السّمع وموعظة تهز الْجمع وَترسل الدمع وحادثة أجمل الله تَعَالَى فِيهَا
الدّفع وَشرح مجملها وَإِن اخرس اللِّسَان هولها وَأسلم الْعبارَة قوتها وحولها إِنَّه رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لما برز لإِقَامَة سنة هَذَا الْعِيد مستشعرا شعار كلمة التَّوْحِيد مظْهرا سمة الخضوع للْمولى الَّذِي تضرع بَين يَدَيْهِ رِقَاب العبيد آمنا بَين قومه وَأَهله متسربلا فِي حلل نعم الله تَعَالَى وفضله قرير الْعين باكتمال عزه واجتماع شَمله قد احترس بأقصى استطاعته وَاسْتظْهر بخلصان طَاعَته وَالْأَجَل الْمَكْتُوب قد حضر والإرادة الإلهية قد أنفذت الْقَضَاء وَالْقدر وَسجد بعد الرَّكْعَة الثَّانِيَة من صلَاته أَتَاهُ أمرالله لميقاته على حِين الشَّبَاب غض جلبابه وَالسِّلَاح زاخر عبابه وَالدّين بِهَذَا الْقطر قد أينع بالأمن جنابه وَأمر من يَقُول للشَّيْء كن فَيكون قد بلغ كِتَابه وَلم يرعه وَقد اطمأنت بِذكر الله تَعَالَى الْقُلُوب وخلصت الرغبات إِلَى فَضله الْمَطْلُوب إِلَّا شقي قيضه الله تَعَالَى لسعادته غير مَعْرُوف وَلَا مَنْسُوب وخبيث لم يكن بمعتبر وَلَا مَحْسُوب تخَلّل الصُّفُوف المعقودة وَتجَاوز الْأَبْوَاب المسدودة وخاض الجموع المشهودة والأمم المحشورة إِلَى طَاعَة الله المحشودة لَا تدل الْعين عَلَيْهِ شارة وَلَا بزَّة وَلَا تحمل على الحذر من مثله أَنفه وَلَا عزة وَإِنَّمَا هُوَ خَبِيث ممرور وكلب عقور وحية سمها وَحي مَحْذُور وَآلَة مصرفة لينفذ بهَا قدر مَقْدُور فَلَمَّا طعنه وأثبته وأعلق بِهِ شرك الْحِين فَمَا أفلته قبض عَلَيْهِ من الخلصان الْأَوْلِيَاء من خبر ضَمِيره وَأحكم تَقْرِيره فَلم يجب عِنْد الِاسْتِفْهَام جَوَابا يعقل وَلَا عثر على شَيْء عَنهُ ينْقل لطفا من الله أَفَادَ بَرَاءَة الذمم وتعاورته للحين أَيدي التمزيق وَاتبع شلوه بالتحريق وَاحْتمل مَوْلَانَا الْوَالِد رحمه الله إِلَى الْقصر وَبِه ذماء لم يلبث بعد الفتكة العمرية إِلَّا أيسر من الْيَسِير وتخلف الْملك ينظر من الطّرف الحسير وينهض بالجناح الكسير وَقد عَاد جمع السَّلامَة إِلَى جمع التكسير إِلَّا أَن الله تَعَالَى تدارك هَذَا الْقطر الْغَرِيب أَن أقامنا مقَامه لوقته وحينه وَرفع عماد بِنَاء ملكه وَلم شعث دينه وَكَانَ جَمِيع من حضر المشهد من شرِيف النَّاس ومشروفهم وأعلامهم ولفيفهم قد جمعه ذَلِك الْمِيقَات وَحضر الْأَوْلِيَاء الثِّقَات فَلم تخْتَلف علينا كلمة وَلَا شذت مِنْهُم عَن بيعتنا نفس مسلمة وَلَا أخيف بري وَلَا حذر جري وَلَا فرى فري وَلَا وَقع لبس وَلَا استوحشت
نفس وَلَا نبض للفتنة وَلَا أغفل للدّين حق فاستند النَّقْل إِلَى نَصه وَلم يعْدم من فقيدنا غير شخصه وبادرنا إِلَى مُخَاطبَة الْبِلَاد نمهدها ونسكنها ونقرر الطَّاعَة فِي النُّفُوس ونمكنها وأمرنا النَّاس بهَا بكف الْأَيْدِي وَرفع التَّعَدِّي وَالْعَمَل من حفظ شُرُوط المسالمة المعقودة بِمَا يجدي من شَره مِنْهُم للفرارا عاجلناه بالإنكار وصرفنا على النَّصَارَى مَا أوصاه مصحبا بالإعتذار وخاطبنا صَاحب قشتالة نرى مَا عِنْده فِي صلَة السّلم إِلَى أمدها من الْأَخْبَار واتصلت بِنَا البيعات من جَمِيع الأقطار وَعفى على حزن الْمُسلمين بوالدنا مَا ظهر عَلَيْهِم بولايتنا من الإستبشار واستبقوا تطير بهم أَجْنِحَة الإبتدار جعلنَا الله تَعَالَى مِمَّن قَابل الْحَوَادِث بالإعتبار وَكَانَ على حذر من تصاريف الأقدار وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وأعاننا على إِقَامَة دينه فِي هَذَا الوطن الْغَرِيب الْمُنْقَطع بَين الْعَدو الطاغي وَالْبَحْر الزخار وألهمنا من شكره مَا يتكفل بالمزيد من نعمه وَلَا قطع عَنَّا عوائد كرمه وَإِن فَقدنَا والدنا فَأَتمَّ لنا من بعده الْوَالِد والذخر الَّذِي تكرم مِنْهُ العوائد وَالْحب يتوارث كَمَا ورد فِي الْأَخْبَار الَّتِي صحت مِنْهَا الشواهد وَمن أعد مثلكُمْ لِبَنِيهِ فقد تيسرت من بعد الْمَمَات أمانيه وتأسست قَوَاعِد ملكه وتشيدت مبانيه فالإعتقاد الْجَمِيل مَوْصُول وَالْفُرُوع لَهَا فِي التَّشَيُّع إِلَيْكُم أصُول وَفِي تَقْرِير فخركم محصول وَأَنْتُم ردء الْمُسلمين بِهَذِهِ الْبِلَاد الْمسلمَة الَّذِي يعينهم بإرفاده وَيَنْصُرهُمْ بإنجاده ويعامل الله تَعَالَى فِيهَا بِصدق جهاده وعندما اسْتَقر هَذَا الْأَمر الَّذِي تبِعت المحنة فِيهِ المنحة وراقت من فضل الله تَعَالَى ولطفه فِيهِ الصفحة وأخذنا الْبيعَة من أهل حضرتنا بعد استدعاء خواصهم وأعيانهم وتزاحمت على رقها المنشور خطوط أَيْمَانهم وتأصلت قَوَاعِد ألفاظها ومعانيها فِي قُلُوبهم وآذانهم وضمنوا الْوَفَاء بِمَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ وَقد خبر سلفنا وَالْحَمْد لله وَفَاء ضمانهم بادرنا تَعْرِيف مقامكم الَّذِي نعلم مساهمته فِيمَا سَاءَ وسر أحلى وَأمر عملا بِمُقْتَضى الخلوص الَّذِي ثَبت وَاسْتقر وَالْحب الَّذِي مَا مَال يَوْمًا وَلَا أَزور وَمَا أَحَق تَعْرِيف مقامكم بِوُقُوع هَذَا الْأَمر الْمَحْذُور وانجلاء ليله عَن صبح الصنع البادي السفور وَإِن كُنَّا قد خاطبنا من خدامكم من يُبَادر إعلامكم بالأمور إِلَّا
أَنه أَمر لَهُ مَا بعده وحادث يَأْخُذ حَده ونبعث إِلَى بَابَكُمْ من شَاهد الْحَال مَا بَين وُقُوعهَا إِلَى استقرارها رَأْي العيان وَتَوَلَّى تسديد الْأُمُور بِأَعْمَالِهِ الْكَرِيمَة ومقاصده الحسان ليَكُون أبلغ فِي الْبر وأشرح للصدر وأوعب للْبَيَان فوجهنا إِلَيْكُم وَزِير أمرنَا وَكَاتب سرنا الْفَقِيه الْأَجَل أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْخَطِيب وألقينا إِلَيْهِ من تَقْرِير تعويلنا على ذَلِك الْمقَام الْأَسْنَى واستنادنا من التَّشَيُّع إِلَيْهِ إِلَى الرُّكْن الوثيق الْمَبْنِيّ مَا نرجو أَن يكون لَهُ فِيهِ الْمقَام الأغنى وَالثَّمَرَة العذبة الْمَجْنِي فلاهتمامه بِهَذَا الْغَرَض الأكيد الَّذِي هُوَ أساس بنائنا وقامع أَعْدَائِنَا آثرنا تَوْجِيهه على توفر الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ ومدار الْحَال عَلَيْهِ والمرغوب من أبوتكم المؤملة أَن يتلقاه قبُولهَا بِمَا يَلِيق بِالْملكِ العالي والخلافة السامية الْمَعَالِي وَالله عز وجل يديم أيامكم لصلة الْفضل المتوالي ويحفظ مجدكم من غير الْأَيَّام والليالي وَهُوَ سُبْحَانَهُ يصل سعدكم ويحرس مجدكم ويوالي نصركم وعضدكم وَالسَّلَام الْكَرِيم يخصكم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته اه
وللسلطان الْغَنِيّ بِاللَّه هَذَا مَعَ السُّلْطَان أبي عنان رحمهمَا الله مراسلات عديدة ومكاتبات مديدة قد ذكر صَاحب نفح الطّيب مِنْهَا جملَة وافرة مَعَ التَّنْبِيه على أَسبَابهَا فانظرها فِيهِ إِن شِئْت وَأكْرم السُّلْطَان أَبُو عنان الْوَزير ابْن الْخَطِيب فِي هَذِه الْوِفَادَة وَغَيرهَا إِكْرَاما بليغا وَلما انْصَرف عَنهُ مدحه بقصيدة طَوِيلَة طنانة يَقُول فِي أَولهَا
(أبدى لداعي الْفَوْز وَجه منيب
…
وأفاق من عذل وَمن تأنيب)
وَيَقُول فِي أَثْنَائِهَا
(يَا نَاصِر الدّين الحنيف وَأَهله
…
إنضاء مسغبة وفل خطول)
(حقق ظنون بنيه فِيك فَإِنَّهُم
…
يتعللون بوعدك المرقوب)
(ضَاقَتْ مَذَاهِب نَصرهم فتعلقوا
…
بجناب عز من علاك رحيب)
(ودجا ظلام الْكفْر فِي آفاقهم
…
أَو لَيْسَ صبحك مِنْهُم بقريب)
(فَانْظُر بِعَين الْعِزّ من ثغر غَدا
…
حذر العدا يرنو بِطرف مريب)
(نادتك أندلس ومجدك ضَامِن
…
أَلا يخيب لديك ذُو مَطْلُوب) وَهِي طَوِيلَة
وَفِي سنة سِتّ وَخمسين وَسَبْعمائة انْتقض على السُّلْطَان أبي عنان وزيره وَصَاحب شواره عِيسَى بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي الطَّلَاق من شُيُوخ بني مرين ووجوها وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان قد اسْتَعْملهُ على جبل طَارق فتمكنت رياسته بِهِ وانتقض على السُّلْطَان لأسباب يطول شرحها ثمَّ التاثت حَاله وَضَاقَتْ مذاهبه فَقبض عَلَيْهِ وأحضر بَين يَدي السُّلْطَان أبي عنان هُوَ وَابْنه يَوْم منى من سنة سِتّ وَخمسين الْمَذْكُورَة فتنصلا واعتذرا فَلم يقبل مِنْهُمَا وأودعهما السجْن وضيق عَلَيْهِمَا وَلما كَانَ آخر السّنة أَمر بهما فجنبا إِلَى مصارعهما وَقتل عِيسَى قعصا بِالرِّمَاحِ وَقطع ابْنه أَبُو يحيى من خلاف وأبى من مداواة قطعه فَلم يزل يتخبط فِي دَمه إِلَى أَن هلك بعد ثَلَاثَة أَيَّام من قطعه وَعقد السُّلْطَان على جبل طَارق وَسَائِر ثغور الأندلس لِسُلَيْمَان بن دَاوُد ثمَّ عقد بعده لوَلَده أبي بكر السعيد وَهُوَ الَّذِي تولى الْملك بعده وَالله أعلم
رحْلَة السُّلْطَان أبي عنان الى سلا وتطارحه على وَليهَا الْأَكْبَر أبي الْعَبَّاس بن عَاشر رضي الله عنه
كَانَ لبني مرين عُمُوما وللسلطان أبي عنان خُصُوصا جنوح إِلَى الْخَيْر ومحبة فِي أَهله وَتعرض لمن يشار إِلَيْهِ بالصلاح واستمطار لطله ووبله وَكَانَ الشَّيْخ الْأَشْهر أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَاشر الأندلس رضي الله عنه قد استوطن فِي هَذَا التَّارِيخ مَدِينَة سلا وَكَانَ من الْأَفْرَاد الجامعين بَين الْعلم وَالْعَمَل المتمسكين بِالْكتاب وَالسّنة الناهجين سنَن السّلف الصَّالح فِي الزّهْد والورع والإنقطاع عَن الْخلق جملَة بِحَيْثُ طَار ذكره وَعظم لَدَى الْخَاص وَالْعَام
قدره فتحركت همة السُّلْطَان أبي عنان لزيارته والإقتباس مِمَّا يفتح الله بِهِ من وعظه وإشارته فارتحل سنة سبع وَخمسين وَسَبْعمائة إِلَى سلا فَقَدمهَا وحرص على الإجتماع بالشيخ الْمَذْكُور ووقف بِبَابِهِ مرَارًا فَلم يَأْذَن لَهُ وترصده يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة وَلما انفض النَّاس تبعه على قَدَمَيْهِ وَالنَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ لَا يرَاهُ فَقَالَ السُّلْطَان عِنْد ذَلِك لقد منعنَا من هَذَا الْوَلِيّ ثمَّ أرسل إِلَيْهِ وَلَده رَاغِبًا ومستعطفا فَأَجَابَهُ بِمَا قطع رَجَاءَهُ من لِقَائِه غير أَنه كتب إِلَيْهِ كتابا وعظه فِيهِ وَذكره فسر السُّلْطَان أَبُو عنان بذلك الْكتاب وحزن لما فَاتَهُ من الإجتماع بالشيخ وَقد ذكر الْفَقِيه الْعَلامَة الْبركَة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عَاشر بن عبد الرَّحْمَن السلاوي الْمَدْعُو بالحافي فِي كِتَابه تحفة الزائر فِي مَنَاقِب الشَّيْخ ابْن عَاشر نَص هَذَا الْكتاب وَلم يحضرني الْآن فَانْظُرْهُ فِيهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
غَزْوَة السُّلْطَان أبي عنان إفريقية وَفتح قسنطينة ثمَّ فتح تونس بعْدهَا
لما كَانَ أَيَّام التَّشْرِيق من سنة سبع وَخمسين وَسَبْعمائة اعتزم السُّلْطَان أَبُو عنان على النهوض إِلَى إفريقية واضطرب مُعَسْكَره بِسَاحَة فاس الْجَدِيد وَبعث فِي الحشد إِلَى مراكش وأوعز إِلَى بني مرين بِأخذ الأهبه للسَّفر وَجلسَ للعطاء وَعرض الْجنُود من لدن عزمه على النهوض إِلَى شهر ربيع الأول من سنة ثَمَان وَخمسين بعْدهَا ثمَّ ارتحل من فاس وسرح فِي مقدمته وزيره فَارس بن مَيْمُون فِي العساكر وَسَار هُوَ فِي ساقته على التعبية إِلَى أَن احتل ببجاية وتلوم لإزاحة الْعِلَل ثمَّ نَازل الْوَزير قسنطينة وَجَاء السُّلْطَان على أَثَره وَلما أطلت راياته وَمَاجَتْ الأَرْض بجُنُوده ذعر أهل الْبَلَد وألقوا بِأَيْدِيهِم إِلَى الأذعان وانفضوا من حول سلطانهم أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي بكر الحفصي وجاؤوا مهطعين إِلَى السُّلْطَان أبي عنان وتحيز الحفصي فِي خاصته إِلَى القصبة ثمَّ طلبُوا الْأمان من السُّلْطَان أبي عنان فبذله لَهُم وَخَرجُوا وأنزلهم بمعسكره أَيَّامًا ثمَّ بعث بِأبي الْعَبَّاس فِي
الأسطول إِلَى سبتة فاعتقله بهَا وَعقد على قسنطينة لمنصور بن الْحَاج خلوف الياباني من شُيُوخ بني مرين وَأهل الشورى مِنْهُم وأنزله بالقصبة فِي شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة ووصلت إِلَيْهِ بيعات أُمَرَاء الْأَطْرَاف من توزر ونفطة وَقَابِس وَغَيرهَا ووفد عَلَيْهِ أَوْلَاد مهلهل أُمَرَاء بني كَعْب من سليم وأقبال بني أبي اللَّيْل مِنْهُم يستحثونه لملك تونس فسرح مَعَهم العساكر وَعقد عَلَيْهَا ليحيى بن عبد الرَّحْمَن بن تاشفين وَبعث أسطوله فِي الْبَحْر مدَدا لَهُم وَعقد عَلَيْهِ للرئيس مُحَمَّد بن يُوسُف الْمَعْرُوف بالأبكم من أُمَرَاء بني الْأَحْمَر
وَكَانَ سُلْطَان تونس يَوْمئِذٍ أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أبي بكر الحفصي وَلما اتَّصل بِهِ خبر بني مرين أخرج حَاجِبه أَبَا مُحَمَّد بن تافراجين لقتالهم فزحفت الجيوش إِلَى تونس وَوصل الأسطول إِلَى مرْسَاها فَقَاتلهُمْ ابْن تافارجين يَوْمًا أَو بعض يَوْم ثمَّ ركب اللَّيْل إِلَى المهدية فتحصن بهَا وَدخل أَوْلِيَاء السُّلْطَان إِلَى تونس فِي رَمَضَان من سنة ثَمَان وَخمسين وَسَبْعمائة وَأَقَامُوا بهَا الدعْوَة المرينية واحتل يحيى بن عبد الرَّحْمَن بالقصبة وأنفذ الْأَوَامِر وَكتب إِلَى السُّلْطَان أبي عنان بِالْفَتْح فَعظم سروره وَنظر بعد ذَلِك فِي أَحْوَال ذَلِك الْقطر وَقبض أَيدي الْعَرَب من ريَاح عَن الإتاوة الَّتِي يسمونها الخفارة فارتابوا وطالبهم بِالرَّهْنِ عَن الطَّاعَة فَأَجْمعُوا الْخلاف والتفوا على أَمِيرهمْ يَعْقُوب بن عَليّ وَلَحِقُوا بالزاب وارتحل السُّلْطَان فِي اثرهم فأجفلوا أَمَامه إِلَى القفر فخرب حصونهم الَّتِي بالزاب وَرجع عَنْهُم وَحمل لَهُ ابْن مزني عَامل بسكرة والزاب جبايته وَأطلق الْمُؤَن للعسكر من الإدام وَالْحِنْطَة والحملان والعلوفة ثَلَاثَة أَيَّام وكافأه السُّلْطَان على صَنِيعه فَخلع عَلَيْهِ وعَلى أَهله وَولده وأسنى جوائزهم
وَرجع إِلَى قسنطينة واعتزم على الرحلة إِلَى تونس وَضَاقَتْ العساكر ذرعا بشأن النَّفَقَات والإبعاد فِي الرحلة وارتكاب الْخطر فِي دُخُول إفريقية
فتمشت رجالاتهم فِي الانفضاض عَن السُّلْطَان وداخلو الْوَزير فَارس بن مَيْمُون فِي ذَلِك فوفقهم ثمَّ أذن شُيُوخ الْعَسْكَر ونقباؤه لمن تَحت أَيْديهم من الْقَبَائِل فِي اللحاق بالمغرب حَتَّى يبقو منفردين وأنهى إِلَى السُّلْطَان أبي عنان أَن شُيُوخ الْعَسْكَر قد عزموا على قَتله وَنصب إِدْرِيس بن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء لِلْأَمْرِ فأسرها فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم وَرَأى قلَّة من مَعَه من الْجند فارتاب وكر رَاجعا إِلَى الْمغرب بعد أَن كَانَ ارتحل عَن قسنطينة إِلَى جِهَة تونس مرحلَتَيْنِ فانكفأ وأغذ السّير إِلَى فاس فاحتل بهَا غرَّة ذِي الْحجَّة من سنة ثَمَان وَخمسين الْمَذْكُورَة وتقبض يَوْم دُخُوله على وزيره فَارس بن مَيْمُون لِأَنَّهُ اتهمه بمداخلة بني مرين فِي شَأْنه وَقَتله رَابِع أَيَّام التَّشْرِيق قعصا بِالرِّمَاحِ وتقبض على مشيخة بني مرين فاستلحمهم وأودع طَائِفَة مِنْهُم السجْن
وَلما رَجَعَ السُّلْطَان أَبُو عنان من إفريقية بلغ خَبره إِلَى الْجِهَات فارتحل أَبُو مُحَمَّد بن تافرجين من المهدية إِلَى تونس وَلما أطل عيها ثارت شيعَة الحفصيين على من كَانَ بهَا من جَيش بني مرين فنجوا إِلَى السفن وركبوا الْبَحْر إِلَى الْمغرب وَجَاء على أَثَرهم يحيى بن عبد الرَّحْمَن فِيمَن كَانَ مَعَه من العساكر وَأَوْلَاد مهلهل وَكَانَ يَوْم الهيعة بِنَاحِيَة الجريد لاقْتِضَاء جبايته فصوب إِلَى الْمغرب واجتمعوا كلهم بِبَاب السُّلْطَان أبي عنان فأرجأ حركته إِلَى الْعَام لقابل وَكَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
وزارة سُلَيْمَان بن دَاوُد ونهوضه بالعساكر إِلَى إفريقية
لما رَجَعَ السُّلْطَان أَبُو عنان من إفريقية وَلم يستتم فتحهَا بَقِي فِي نَفسه مِنْهَا شَيْء وخشي على ضواحي قسنطينة من يَعْقُوب بن عَليّ وَمن مَعَه من الذواودة الْمُخَالفين فأهمه شَأْنهمْ واستدعى سُلَيْمَان بن دَاوُد من مَكَانَهُ بجبل طَارق وَعقد لَهُ على وزارته وسرحه فِي العساكر إِلَى إفريقية فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي ربيع من سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان لما خَالف عَلَيْهِ يَعْقُوب بن عَليّ وفر إِلَى القفر أَقَامَ مَكَانَهُ أَخَاهُ المنازع لَهُ فِي رياسة ريَاح
مَيْمُون بن عَليّ وَقدمه على أَوْلَاد مُحَمَّد من الذواودة وأحله بمكانه من رياسة البدو فَنزع إِلَيْهِ عَن أَخِيه يَعْقُوب الْكثير من قومه وَتمسك بِطَاعَة السُّلْطَان أَيْضا طوائف من أَوْلَاد سِبَاع بن يحيى فانحاشوا جَمِيعًا للوزير ونزلوا بحللهم على مُعَسْكَره
ثمَّ ارتحل السُّلْطَان ابو عنان من فاس حَتَّى احتل بتلمسان فَأَقَامَ بهَا لمشارفة أَحْوَال الْوَزير الْمَذْكُور واحتل الْوَزير بوطن قسنطينة وَبعث إِلَى عَامل بسكرة والزاب يُوسُف بن مزني بِأَن تكون يَده مَعَه وَأَن يفاوضه فِي أَحْوَال الذواودة لرسوخه فِي مَعْرفَتهَا فارتحل إِلَيْهِ من بسكرة ونازلوا جبل أوراين واقتضوا جبايته ومغارمه وشردوا الْمُخَالفين من الذواودة عَن العيث فِي الوطن فتم غرضهم من ذَلِك وانْتهى الْوَزير وعساكر السُّلْطَان إِلَى أول أوطان إفريقية من آخر مجالات ريَاح وانكفأ رَاجعا إِلَى الْمغرب فَوَافى السُّلْطَان أَبَا عنان بتلمسان ووصلت مَعَه وُفُود الْعَرَب الَّذين أبلوا فِي الْخدمَة فوصلهم السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِم وَحَملهمْ وَفرض لَهُم فِي الْعَطاء بالزاب وَكتب لَهُم بذلك وانقلبوا إِلَى أَهْليهمْ فرحين مغتبطين ووفد على اثرهم أَحْمد بن يُوسُف بن مزني اوفده أَبوهُ بهدية إِلَى السُّلْطَان من الْخَيل وَالرَّقِيق والدرق فتقبلها السُّلْطَان وَأكْرم وفادته ثمَّ استصحبه إِلَى فاس ليريه أَحْوَال كرامته وليستبلغ فِي الاحتفاء بِهِ واحتل بدار ملكه منتصف ذِي الْقعدَة من سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة
وَفَاة السُّلْطَان أبي عنان رحمه الله
لما وصل السُّلْطَان أَبُو عنان إِلَى دَار ملكه بفاس احتل بهَا بَين يَدي الْعِيد الْأَكْبَر حَتَّى إِذا قضى الصَّلَاة من يَوْم الْأَضْحَى أدْركهُ الْمَرَض بالمصلى وأعجله طائف الوجع عَن الْجُلُوس للنَّاس يَوْم الْعِيد على الْعَادة فَدخل قصره وَلزِمَ فرَاشه
وَذكر ابْن خلدون مَا حَاصله إِنَّه كَانَت بَين الْوَزير حسن بن عمر الفودودي وَبَين ولي الْعَهْد أبي زيان مُحَمَّد بن السُّلْطَان أبي عنان نفرة مستحكمة لسوء طويته وَشر ملكته فاتفق الْوَزير الْمَذْكُور مَعَ من كَانَ على رَأْيه من أهل مجْلِس السُّلْطَان على تَحْويل الْأَمر عَنهُ إِلَى غَيره من أَبنَاء السُّلْطَان فَأَجْمعُوا الفتك بِهِ والبيعة لِأَخِيهِ أبي بكر السعيد طفْلا خماسيا ثمَّ أغروا الْوَزير مَسْعُود بن عبد الرَّحْمَن بن ماساي بتطلب أبي زيان ولي الْعَهْد فِي نواحي الْقصر والتقبض عَلَيْهِ فَدخل إِلَيْهِ وتلطف فِي إِخْرَاجه من بَين الْحرم وقاده إِلَى أَخِيه السعيد فَبَايع وثل إِلَى بعض حجر الْقصر فاتلفت فِيهَا مهجته واستقل الْحسن بن عمر بِالْأَمر يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وَالسُّلْطَان أَبُو عنان أثْنَاء ذَلِك يجود بِنَفسِهِ وارتقب النَّاس دَفنه يَوْم الْأَرْبَعَاء وَالْخَمِيس بعده فَلم يدْفن فارتابوا وفشى الْكَلَام فَدخل الْوَزير زَعَمُوا إِلَيْهِ بمكانه من قصره ثمَّ غطه حَتَّى أتْلفه وَدفن يَوْم السبت وحجب الْحسن بن عمر الْوَلَد الْمَنْصُوب لِلْأَمْرِ وأغلق عَلَيْهِ بَابه وَتفرد بِالْأَمر وَالنَّهْي دونه انْتهى وَهَذَا أول مرض نزل بالدولة المرينية
وَقَالَ فِي الجذوة توفّي السُّلْطَان أَبُو عنان قَتِيلا خنقه وزيره الْحسن بن عمر الفودودي يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة متم سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة وَسنة يَوْم توفّي ثَلَاثُونَ سنة
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان أبي عنان وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان أَبُو عنان رحمه الله أَبيض اللَّوْن تعلوه صفرَة طَوِيل الْقَامَة يشرف على النَّاس بِطُولِهِ نحيف الْبدن عالي الْأنف حسنه أعين أدعج جَهورِي الصَّوْت فِي كَلَامه عجلة حَتَّى لَا يكَاد السَّامع يفهم مَا يَقُول عَظِيم اللِّحْيَة تملأ صَدره أسودها وَإِذا مرت بهَا الرّيح تَفَرَّقت نِصْفَيْنِ حَتَّى يستبين مَوضِع الذقن وَكَانَ فَارِسًا شجاعا يقوم فِي الْحَرْب مقَام جنده وَكَانَ فَقِيها
يناظر الْعلمَاء الجلة عَارِفًا بالْمَنْطق وأصول الدّين وَله حَظّ صَالح من علمي الْعَرَبيَّة والحساب وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ عَارِفًا بناسخه ومنسوخه حَافِظًا للْحَدِيث عَارِفًا بِرِجَالِهِ فصيح الْقَلَم كَاتبا بليغا حسن التوقيع شَاعِرًا أنْشد لَهُ صَاحب الجذوة اشعارا حَسَنَة من ذَلِك فِي الْحِكْمَة قَوْله
(وَإِذا تصدر للرياسة خامل
…
جرت الْأُمُور على الطَّرِيق الأعوج)
وَقَالَ ابْن الْأَحْمَر كنت يَوْمًا جَالِسا مَعَه بمقعد ملكه من الْمَدِينَة الْبَيْضَاء بفاس فَدخل عَلَيْهِ رجل يتصلح فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ قَالَ بديهة
تراهم فِي ظواهرهم كراما
…
ويخفون المكيدة والخداعا)
وللسلطان أبي عنان رحمه الله آثَار دينية من بِنَاء الْمدَارِس والزوايا وَغير ذَلِك ومدرسته العنانية بفاس مَشْهُورَة إِلَى الْآن وَمن مدارسه الْمدرسَة العجيبة بحومة بَاب حُسَيْن من سلا وَقد صَارَت الْيَوْم فندقا يعرف بفندق أسكور وَمِمَّا قَالَه أَبُو بكر بن جزي فِي بعض مَا أنشأه السُّلْطَان الْمَذْكُور من الزوايا قَوْله
(هَذَا مَحل الْفضل والإيثار
…
والرفق بالسكان وَالزُّوَّارِ)
(دَار على الْإِحْسَان شيدت والتقى
…
فجزاؤها الْحسنى وعقبى الدَّار)
(هِيَ ملْجأ للواردين ومورد
…
لِابْنِ السَّبِيل وكل ركب ساري)
(آثَار مَوْلَانَا الْخَلِيفَة فَارس
…
أكْرم بهَا فِي الْمجد من آثَار)
(لَا زَالَ مَنْصُور اللِّوَاء مظفرا
…
ماضي العزائم سامي الْمِقْدَار)
(بنيت على يَد عبدهم وخديم
…
بابهم الْعلي مُحَمَّد بن حدار)
(فِي عَام أَرْبَعَة وَخمسين انْقَضتْ
…
من بعد سبعمئين فِي الْأَعْصَار)
وَقَالَ صَاحب الجذوة حَدثنِي شَيخنَا أَبُو رَاشد اليدري أَن السُّلْطَان أَبَا عنان هُوَ الَّذِي أحدث بفاس الْعلم الْأَزْرَق فِي الصومعة يَوْم الْجُمُعَة
وَقَالَ فِي مَوْضُوع آخر مِنْهَا حُكيَ أَن السُّلْطَان ابا عنان المريني صعد الصومعة يَعْنِي بالقرويين ليعتبر الْمَدِينَة وترتيبها ووقف على المنجانة وَمَا اتَّصل بهَا فَاسْتحْسن ذَلِك وأنعم على النَّاظر فِيهَا بمرتب وسع عَلَيْهِ فِيهِ
ليستعين بِهِ على الْقيام بشعائر الْإِسْلَام وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة قَالَ وَأمر بإثر ذَلِك بِأَن ينصب بِأَعْلَى الصومعة صاري من خشب وينشر فِيهِ علم فِي الْأَوْقَات الَّتِي يصلى فِيهَا وفنار فِيهِ سراج مزهر فِي أَوْقَات صَلَاة اللَّيْل ليستدل بذلك من بعد وَمن لم يسمع النداء وَفِي ذَلِك اعتناء بِأُمُور الْأَوْقَاف وَمَا يتَعَلَّق بهَا من وجوب الصَّلَوَات وَيَتَرَتَّب عَلَيْهَا من وُجُوه الْحُقُوق فِي الْعَادَات والعبادات وَمِمَّا قيل فِي ذَلِك
(نور بِهِ علم الْإِيمَان مُرْتَفع
…
للمهتدين بِهِ للحق إرشاد)
(يأْتونَ من كل صوب نَحوه فَلهم
…
لَدَيْهِ للرشد إصدار وإيراد)
وَقد لخص ابْن الْخَطِيب رحمه الله فِي رقم الْحلَل سيرة السُّلْطَان أبي عنان فَقَالَ
(وخلص الْأَمر لكف فَارس
…
باني الزوايا الكثر والمدارس)
(الْأسد المفترس الْمَصْنُوع لَهُ
…
من نَالَ من كل المساعي أمله)
(وَاحِد آحَاد الْمُلُوك العظما
…
ومطلع النَّصْر إِذا مَا أقدما)
(ومخجل الْغَيْث إِذا الْغَيْث هما
…
الْملك وَملك العلما)
(أوجب حق الشّعْر وَالْكِتَابَة
…
فَأَمْلَتْ أعلامها جنابه)
(واستجلب الأماثل الكبارا
…
النبهاء الْعلية الأخيارا)
(يجبرهم على حُضُور الدولة
…
فهم بدور وشموس حوله)
(وَكَانَ جبارا على خُدَّامه
…
ينالهم فِي القسر فِي أَحْكَامه)
(مذْهبه أَلا يقيل عثره
…
حَتَّى لأرباب التقى والثرة)
(فطْرَة السَّيْف تناغي الدرة
…
إِذْ غلبت على المزاج الْمرة)
(وَمَات فِيمَا قيل شَرّ ميتَة
…
بغيلة لنَفسِهِ مفيته)
(لم يغن عَنهُ الْبَأْس والبسالة
…
وأصبحت مهجته مسالة)
(وألقيت أزمة التَّدْبِير
…
من بعده فِي رَاحَة الْوَزير)
وَمن أَعْيَان كِتَابه أَبُو الْقَاسِم بن رضوَان وَأَبُو الْقَاسِم الْبُرْجِي
وَمن أَعْيَان قُضَاته أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمقري وَهُوَ
جد أبي الْعَبَّاس الْمقري صَاحب نفح الطّيب وَغَيره من التآليف الحسان وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الفشتالي وَغَيرهمَا رحم الله الْجَمِيع
فَسَار الْعَامِل الْمَذْكُور وَقصد قلعية عش الْفساد وَلما شارفها سرب إِلَيْهِم العساكر فنهبوا أَمْوَالهم وحرقوا مداشرهم وانتسفوا أَرضهم وديارهم وتركوهم أفقر من ابْن المدلق ثمَّ بَث عماله فِي تِلْكَ الْقَبَائِل فجبوها واستوفوا زكواتها وأعشارها وَعَاد ظافرا وَفِي هَذِه السّنة وَذَلِكَ صباح يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع عشر من محرم مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الإِمَام خَاتِمَة الْمُحَقِّقين بالمغرب سَيِّدي مُحَمَّد الطّيب بن عبد الْمجِيد بن عبد السَّلَام ابْن كيران الفاسي صَاحب التآليف البديعة والحواشي المحررة مثل شرح الحكم العطائية وَشرح السِّيرَة النَّبَوِيَّة وَغير ذَلِك من التآليف الْمَعْرُوفَة والموجودة بأيدي النَّاس
ثمَّ لما دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف بلغ السُّلْطَان ثَانِيًا أَن أهل الرِّيف لَا زَالُوا مقيمين على بيع الزَّرْع لِلنَّصَارَى وَأَنَّهُمْ أضافوا إِلَى بيع الزَّرْع بيع الْمَاشِيَة وَقد كَانَ السُّلْطَان منع النَّصَارَى من وسق ذَلِك بالمراسي فافتات هَؤُلَاءِ الْقَوْم على السُّلْطَان وأعطوهم من ذَلِك مَا أَرَادوا طَمَعا فِي الرِّبْح وَكَانَ السُّلْطَان قد تقدم إِلَى الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي فِي كفهم عَن ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ قد ولاه عَلَيْهِم وأضافهم إِلَى من كَانَ إِلَى نظره من أهل الْجَبَل والثغور فَكَانَ لَا يلْتَفت إِلَيْهِم وَرُبمَا قبض أهل الْمُرُوءَة مِنْهُم على سفلتهم مِمَّن يتعاطى ذَلِك ويبعثون بهم إِلَيْهِ فيسرحهم على طمع فاتسع الْخرق وَصَارَ كلهم يفعل ذَلِك وَلما تحقق السُّلْطَان بفعلهم أَمر رُؤَسَاء قراصينه أَن يذهبوا إِلَى جِهَة الرِّيف ومراسيها وكل من عثروا عَلَيْهِ بهَا من مراكب النَّصَارَى فليأخذوه فَسَارُوا وقبضوا على بعض النَّصَارَى فأسروهم وَلم يقنعه ذَلِك حَتَّى أَمر بغزو الرِّيف وعزم على النهوض إِلَيْهِم بِنَفسِهِ وَأذن فِي النَّاس بذلك وجهز العساكر مَعَ الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي وَوجه مَعَه وَلَده الْمولى إلراهيم بعساكر الثغور وعرب سُفْيَان وَبني مَالك فَسَارُوا على طَرِيق الْجَبَل وَخرج السُّلْطَان من فاس فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَمَعَهُ السوَاد الْأَعْظَم فسلك الجادة إِلَى تازا وكارت حَتَّى نفذ إِلَى بِلَاد الرِّيف فَلم يرعهم إِلَّا العساكر مُحِيطَة بهم من كل وَجه فنهبوهم وحرقوا مداشرهم وَاسْتَخْرَجُوا
أمراسهم ودفائنهم وَولى السُّلْطَان عَلَيْهِم أَحْمد بن عبد الصَّادِق الريفي وَتَركه فِي بِلَادهمْ فِي حِصَّة من الْعَسْكَر يستخلص مِنْهُم الْأَمْوَال وَعَاد السُّلْطَان إِلَى دَار ملكه مؤيدا منصورا
خُرُوج السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى بِلَاد الْحَوْز وتمهيدها ثمَّ دُخُوله مراكش
كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله قد ولى على قبائل تامسنا الْقَائِد كريران الحريزي فَيُقَال إِنَّه أَسَاءَ السِّيرَة فيهم فنبذوا طَاعَته وَخَرجُوا عَلَيْهِ فَقدم على السُّلْطَان مستصرخا عَلَيْهِم فَخرج إِلَيْهِم فِي العساكر سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَتقدم إِلَى جيرانهم من الْقَبَائِل بِأَن يزحفوا إِلَيْهِم من خَلفهم فَفَعَلُوا وهجم هُوَ عَلَيْهِم من أمامهم وأوقع بهم وقْعَة شنعاء أتلفت موجودهم وأباحت نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ وفر مِنْهُم طَائِفَة فعبروا وَادي أم الرّبيع زمَان مُدَّة فَهَلَك جلهم ثمَّ ترك فيهم عَامله فِي حِصَّة من الْجند وَأمره باستخلاص الْأَمْوَال مِنْهُم وَتقدم هُوَ إِلَى نَاحيَة مراكش لقمع أهل الْفساد من قبائل الْحَوْز مثل دكالة وَعَبدَة والشياظمة الَّذين خَرجُوا أَيْضا على عاملهم الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الصَّادِق صَاحب الصويرة فَأصْلح من شَأْنهمْ وعزله عَنْهُم لما علمه من سوء سيرته فيهم وَنَقله من الصويرة إِلَى مراكش ثمَّ مِنْهَا إِلَى فاس فولى أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد على عَسْكَر القلعة بمراكش وَعَاد رحمه الله إِلَى الغرب
وَفِي هَذِه السّنة فِي الثَّالِث عشر من رَمَضَان مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الْفَقِيه الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْحَاج الرهوني صَاحب الْحَاشِيَة الْكَبِيرَة على مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل وَغَيرهَا من التآليف النافعة والخطب البارعة وَبَاعه فِي الْعُلُوم خُصُوصا الْفِقْه مُقَرر مَعْلُوم رحمه الله ونفعنا بِهِ وَفِي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ الْخَامِس عشر من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الشَّيْخ الْعَالم الْعَارِف الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التجاني
شيخ الطَّائِفَة التجانية وَكَانَت وَفَاته بفاس المحروسة وضريحه بهَا شهير عَلَيْهِ بِنَاء حفيل رحمه الله ونفعنا بِهِ
غَزْو السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان قبائل الصَّحرَاء وإيقاعة بآيت عطة وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما كَانَت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف بلغ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان أَن بعض قبائل الصَّحرَاء كعرب الصَّباح وبرابرة آيت عطه اشتغلوا بِالْفَسَادِ وَعظم ضررهم واستولوا على قُصُور المخزن الَّتِي هُنَالك من عهد السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل فعقد لِابْنِهِ الْمولى إِبْرَاهِيم على جَيش كثيف وَوَجهه إِلَيْهِم فَسَار وَنزل أَولا على قُصُور الْعَرَب وَنصب عَلَيْهِم آلَة الْحَرْب فبددهم ثمَّ زَاد إِلَى قُصُور آيت عطه فنصب عَلَيْهِم الْآلَة كَذَلِك وضيق عَلَيْهِم إِلَى أَن طلبُوا الْأمان فَأَمنَهُمْ فطلبوا أَن يفرج بالجيش عَنْهُم قَلِيلا حَتَّى يخرجُوا بعيالهم خوفًا من معرة الْجَيْش فأشفق لَهُم وَأَفْرج عَنْهُم وَكَانَ ذَلِك مكيدة مِنْهُم فَلَمَّا نفس عَن مخنقهم أدخلُوا مَعَهم مَا شاؤوا من رجال وَسلَاح وقوت وتمادوا على الْحَرْب فَسقط فِي يَد الْمولى إِبْرَاهِيم وَحمى أَنفه وَكَانَ مَعَه جمَاعَة وافرة من أعيانهم رهنا عِنْده فَقتل طَائِفَة مِنْهُم وسَاق نَحْو الْمِائَة إِلَى فاس فَقَتلهُمْ بِبَاب المحروق وَلما أنهى خبر فعلة البربر إِلَى السُّلْطَان عَابَ على ابْنه إفراجه عَنْهُم أَولا وَقتل الرهائن ثَانِيًا ثمَّ أَنهم أوفدوا جمَاعَة مِنْهُم على السُّلْطَان راغبين إلية أَن يبقيهم بالقصور فردهم بالخيبة وَقَالَ لَهُم لَا بُد لي من الْوُصُول إِلَى تِلْكَ الْقُصُور إِن شَاءَ الله حَتَّى تكون لي أولكم وَلما انْسَلَخَ رَمَضَان من السّنة وَأقَام سنة عيد الْفطر شرع فِي تجهيز العساكر إِلَى الصَّحرَاء وقمع ظلمَة آيت عطه ثمَّ بعث فِي مقدمته السوَاد الاعظم من جَيش العبيد وَعقد عَلَيْهِم لوصيفه الأنجب الْقَائِد أَحْمد بن مبارك صَاحب الحاتم وَبعث مَعَه الطبجية بالمدافع والمهاريس وَآلَة الْحصار وَالْهدم فَخَرجُوا من فاس فِي
زِيّ فاخر وشوكة تَامَّة وَبعد انفصالهم عَنْهَا طَرَأَ على السُّلْطَان من بعض الثغور البحرية خبر بِأَن عمَارَة الْعَدو تروج بالبحر وتجتمع عِنْد جبل طَارق وَلم ندر إِلَى أَيْن تُرِيدُ فَتَأَخر السُّلْطَان عَن الْخُرُوج حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ أَمر هَذِه الْعِمَارَة ثمَّ ورد الْخَبَر الْيَقِين بِأَنَّهَا قد قصدت ثغر الجزائر وَأصَاب الفرنج من هدم الأبراج وتخريب الدّور والمساجد وَحرق الْأَشْجَار شَيْئا كثيرا لَكِن لما رجعُوا مفلولين مقتولين هان الْأَمر وصغرت الْمُصِيبَة وَلما جَاءَ البشير بانهزام الفرنج عَن الجزائر قوي عزم السُّلْطَان على مُتَابعَة من وَجه من عسكره إِلَى الصَّحرَاء فَخرج فِي غرَّة ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فِيمَن تخلف مَعَه من الْعَسْكَر وقبائل الْعَرَب والبربر وجد السيرإلى أَن عمر وَادي ملوية فَلَقِيَهُ البشير هُنَالك بِخَبَر الْفَتْح والاستيلاء على الْقُصُور وَقتل أَهلهَا وَسَبْيهمْ وَنهب بضائعهم وأمتعتهم فجد السّير إِلَى أَن خيم بأغريس وَمِنْهَا كتب إِلَى الْقَائِد أَحْمد أَن يوافيه بالجيش لبلاد فركلة للنزول على الْقُصُور الخربات الَّتِي بهَا آيت عطة فَاجْتمعُوا مَعَ السُّلْطَان بهَا ونصبوا عَلَيْهَا المدافع والمهاريس ودام الرَّمْي عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى كثر الْهدم وَالْقَتْل وعاينوا الْمَوْت الْأَحْمَر فأرسلوا إِلَى السُّلْطَان النِّسَاء وَالصبيان للشفاعة فِي الْخُرُوج بؤوسهم فَأَمنَهُمْ وَلما جن اللَّيْل خَرجُوا حاملين أَوْلَادهم على ظُهُورهمْ خوفًا من معرة الْجَيْش وَلما أصبح السُّلْطَان أَمر بِنَهْب مَا فِي الْقُصُور من الْقُوت وَالْمَتَاع والكراع وكمل فتح هَذِه الْأَمَاكِن الَّتِي كَانَت نقمة لأهل ذَلِك الْقطر الصحراوي وَلما من الله على السُّلْطَان بِهَذَا الْفَتْح شكر صنع الله لَهُ بِأَن فرق على الْعَسْكَر وقبائل تِلْكَ الأقطار مَا وسعهم من الْخيرَات
قَالَ صَاحب الْجَيْش أعْطى الشرفاء مائَة ألف مِثْقَال غير مَا كَانَ يعطيهم فِي كل سنة وَقسم رحمه الله ذَلِك بِخَط يَده فَكتب لدار مولَايَ عبد الله كَذَا ولشريفات حموبكة كَذَا ولشرفاء تافيلالت كَذَا ولشرفاء تيزيمي وَأَوْلَاد الزهراء كَذَا ولشرفاء الرتب كَذَا ولشرفاء مدغرة كَذَا ولشرفاء زيز
والخنق والقصابي كَذَا وَأعْطى الطّلبَة والعميان والمقعدين والزمنى وزوايا تافيلالت مائَة ألف مِثْقَال قسم ذَلِك بِخَط يَده أَيْضا وَجعل للفقيه الْمدرس أَرْبَعَة أسْهم وَلغيره سَهْمَيْنِ والسهم من كَذَا وللطالب الَّذِي يحفظ الْقُرْآن برسمه حَتَّى صفا لوحه سَهْمَان وَلغيره سهم والسهم من كَذَا وَلَا فرق بَين الْأَحْرَار والحراطين وَلكُل وَاحِد من الضُّعَفَاء والعمى والمقعدين كَذَا الْأَحْرَار والحراطين سَوَاء وللزوايا كَذَا فلزاوية الشَّيْخ سَيِّدي الْغَازِي كَذَا ولزاوية سَيِّدي أبي بكر بن عمر كَذَا ولزاوية سَيِّدي أَحْمد الحبيب كَذَا ولزاوية سَيِّدي عَليّ بن عبد الله كَذَا ولزاوية ضريح مَوْلَانَا عَليّ الشريف كَذَا ولمقبرة أخنسوس كَذَا وَوجه المَال مَعَ الْأمين السَّيِّد الْمُعْطِي مرينو الرباطي وَأمر الشرفاء أَن يعينوا أَرْبَعِينَ من ثقاتهم وأمنائهم حَتَّى لَا تقع زِيَادَة فِيمَا كتبه بِيَدِهِ وَلَا نُقْصَان وَأمر القَاضِي أَن يعين عشرَة من الطّلبَة وَعشرَة من الْعَوام للْقِيَام على تَفْرِقَة ذَلِك ثمَّ أعْطى المدرسين زِيَادَة على مَا تقدم وَكَذَا الْأَئِمَّة والمؤذنين وَلم ينس أحدا كل ذَلِك بِخَط يَده رحمه الله
قَالَ صَاحب الْجَيْش وَلَا زَالَ هَذَا الزِّمَام عِنْدِي ثمَّ بعد قَضَاء وطره من الزِّيَارَة والصلة توجه إِلَى مراكش على طَرِيق الفائجة لتفقد أَحْوَال جَيش الْحَوْز الَّذِي كَانَ وَجهه من مراكش لإقليم درعة فَبَلغهُ أثْنَاء الطَّرِيق أَن آيت عطه الَّذين بدرعة لما سمعُوا بِقُرْبِهِ مِنْهُم خَرجُوا من الْقُصُور هاربين وتركوها يبابا وتحصنوا بجبل صاغرو وَلما دخل السُّلْطَان مراكش سرح العساكر إِلَى السوس لتفقد أَحْوَاله وجباية أَمْوَاله وتمهيد أَطْرَافه وَأخذ هُوَ رحمه الله فِي استصلاح قبائل الْحَوْز من دكالة وَعَبدَة والشياظمة فَقتل وَعزا وسجن وَولى من ولى وطهر تِلْكَ الْأَعْمَال من وُلَاة السوء الَّذين كَانُوا بهَا وَعَاد إِلَى حَضرته بفاس وَكَانَ دُخُوله إِلَيْهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما دَخلهَا أَخذ فِي تجهيز ولديه الْمولى عَليّ وَالْمولى عمر لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج إِلَى أَن استوفى الْغَرَض فِي ذَلِك وَعين من يتَوَجَّه مَعَهُمَا من الخدم والتجار
وَسَائِر الْحَاشِيَة وخرجا مَعَ الركب النَّبَوِيّ على الْهَيْئَة الْمَعْهُودَة فِي حفظ الله وَفِي هَذِه السّنة عزل السُّلْطَان وصيفه ابْن عبد الصَّادِق عَن فاس وَولى عَلَيْهَا كَاتبه أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد الرِّفَاعِي الرباطي الْمَدْعُو القسطالي كَانَ يعلم أَوْلَاده فنقله عَن ذَلِك إِلَى مرتبَة الْولَايَة وأوصاه أَن يسير بِالْعَدْلِ فِي الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين ويشتد على الفجرة والمتمردين وَفِي هَذِه السّنة عَشِيَّة يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع ربيع الثَّانِي مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الْمُحَقق الأديب البليغ أَبُو الْفَيْض حمدون بن عبد الرَّحْمَن بن حمدون بن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ المرداسي الشهير بِابْن الْحَاج صَاحب التآليف الْحَسَنَة والفوائد المستحسنة والخطب النافعة وَالْحكم الجامعة رحمه الله ونفعنا بِهِ
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف عزل السُّلْطَان الْفَقِيه أَبَا الْعَبَّاس عَن فاس لعَجزه عَن الْقيام بالخطة وَولى على فاس خديمه الْحَاج أَبَا عبد الله مُحَمَّد الصفار من بَيت رياسة وَفِي هَذِه السّنة أبطل السُّلْطَان الْجِهَاد فِي الْبَحْر وَمنع رؤساءه من القرصنة بِهِ على الْأَجْنَاس وَفرق بعض قراصينه على الإيالات الْمُجَاورَة مثل الجزائر وطرابلس وَمَا بَقِي مِنْهَا أنزل مِنْهَا المدافع وَغَيرهَا من آلَة الْحَرْب وَأعْرض عَن أَمر الْبَحْر رَأْسا بعد أَن كَانَت قراصين الْمغرب أَكثر وَأحسن من قراصين صَاحب الجزائر وتونس قَالَه منويل وَفِي هَذِه السّنة قدم ولدا السُّلْطَان الْمولى عَليّ وَالْمولى عمر من الْمشرق مَعَ الركب ونزلوا بثغر طنجة وَكَانَ السُّلْطَان قد بعث إِلَيْهِمَا بمركب من مراكب النجليز فَانْتهى إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وحملهما وَمن مَعَهُمَا من الخدم والتجار وَسَائِر الْحَاج وَلما نزلُوا بطنجة حدث الوباء بالمغرب فَقَالَ النَّاس إِن ذَلِك بسببهم فانتشر أَولا بِتِلْكَ السواحل وَمِنْهَا شاع فِي الحواضر والبوادي إِلَى أَن بلغ فاسا ومكناسة فِي بَقِيَّة الْعَام
وَلما دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف شاع الوباء وَكثر فِي بِلَاد الغرب فَتوجه السُّلْطَان إِلَى مراكش وَكَانَ الْأَمر لَا زَالَ مُحْتملا ثمَّ زَاد
وتفاحش حَتَّى أصَاب النَّاس مِنْهُ أَمر عَظِيم وَفِي هَذَا الوباء توفّي الشَّيْخ المرابط الْبركَة سَيِّدي الْعَرَبِيّ ابْن الْوَلِيّ الْأَشْهر سَيِّدي الْمُعْطى بن الصَّالح الشرقاوي وضريحه شهير بِأبي الْجَعْد رحمه الله ونفعنا بِهِ وأسلافه آمين
وقْعَة ظيان وَمَا جرى فِيهَا على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله
لما وصل السُّلْطَان رحمه الله إِلَى مراكش سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف أَقَامَ بهَا إِلَى رَجَب مِنْهَا ثمَّ أَخذ فِي الاستعداد لغزو برابرة فازاز وهم آيت ومالو بطن من صنهاجة وَعرفت الْوَقْعَة بوقعة ظيان فَخذ مِنْهُم فحشد السُّلْطَان رحمه الله عرب الْحَوْز كلهم وَكتب إِلَى العبيد بمكناسة يَأْمُرهُم أَن يوافوه بتادلا وَكتب إِلَى وَلَده وخليفته بفاس الْمولى إِبْرَاهِيم أَن يوافيه بهَا بِجَيْش الودايا وشراقة وعرب الغرب وبرابرته وعسكر الثغور وَكَانَ النَّاس يَوْمئِذٍ فِي شدَّة من هَذَا الوباء الَّذِي عَم الحواضر والبوادي وَكَانَ السُّلْطَان لما أَخذ فِي استنفار هَذِه الْقَبَائِل لَا علم لَهُ بتفاحش الوباء بالمغرب وَكَانَ الْوَاجِب على ابْن السُّلْطَان أَن يعلم أَبَاهُ بِمَا النَّاس فِيهِ من فتْنَة الوباء فيعفيهم من الْغَزْو أَو يُؤَخِّرهُ إِلَى يَوْم مَا فَجمع ولد السُّلْطَان الجموع وجلهم كَارِه وَسَار لميعاد أَبِيه فوافاه بتادلا فَاجْتمع للسُّلْطَان فِيمَا يُقَال من الجيوش نَحْو سِتِّينَ ألفا وزحف إِلَى البربر فَانْتهى إِلَى بسيط آدخسان وَبهَا مزارع البربر وفدنها فَأرْسل السُّلْطَان الجيوش فِي تِلْكَ الزروع وَكَانَت شَيْئا كثيرا فَأتوا عَلَيْهَا وَبعث البربر إِلَيْهِ بنسائهم وولدانهم للشفاعة وَأَن يدفعوا للسُّلْطَان كل مَا يَأْمُرهُم بِهِ من المَال وينصرف عَنْهُم فَأبى وزحف إِلَيْهِم فَقَاتلهُمْ يَوْمًا إِلَى اللَّيْل وَلَقَد أَخْبرنِي من حضر الْوَقْعَة أَن الْمُقَاتلَة كَانَت فِي هَذَا الْيَوْم من عرب الغرب وَمن برابرة زمور وجروان وآيت أدراسن إِلَّا أَن الْقَتْل استحر فِي الْعَرَب دون البربر وَذَلِكَ أَن كَبِير زمور الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي دس إِلَى
ظيان بأنما نَحن وَأَنْتُم وَاحِد فَإِذا كَانَ اللِّقَاء فَلَا ترمونا وَلَا نرميكم إِلَّا بالبارود وَحده وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان لما قدمهم لِلْقِتَالِ فِي أول يَوْم مِنْهُ وَأخر عرب الْحَوْز استرابوا بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَن يصدم بَعضهم بِبَعْض وتسلم لَهُ الْعَرَب فَفعل ابْن الْغَازِي مَا فعل وَلما رَاح مقاتلة الْعَرَب مَعَ الْعشي أخبروا السُّلْطَان بِأَن هَؤُلَاءِ البربر الَّذين مَعَه لَا أَمَان فيهم وَإِنَّمَا ظلوا يترامون بالبارود لَا غير وَلأَجل ذَلِك قد هلك من إِخْوَاننَا كثير وَلم يهْلك مِنْهُم أحد فأسرها السُّلْطَان فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم وَلما كَانَ الْغَد وَركب النَّاس لِلْقِتَالِ أرسل إِلَى البربر أَن لَا يركب مِنْهُم أحد وَقَالَ لَهُم إِنِّي أردْت أَن أجرب الْعَرَب الْيَوْم وأختبر فائدتهم فأظهروا الطَّاعَة وَتقدم الْعَرَب إِلَى الْقِتَال وَأقَام البربر فِي أخبيتهم إِلَى منتصف النَّهَار ثمَّ ركبُوا خيولهم وتسابقوا إِلَيْهَا عَن آخِرهم قَالَ الْمخبر بِهَذَا الْخَبَر شاهدتهم سَاعَة ركبُوا فَكنت لَا ألتفت إِلَى جِهَة إِلَّا رَأَيْتهَا حَمْرَاء من كَثْرَة سروجهم الَّتِي كَانَت على ظُهُور الْخَيل إِذْ ذَاك ثمَّ تصايحت البربر فِيمَا بَينهَا وَتَقَدَّمت براياتها إِلَى الْجِهَة الَّتِي فِيهَا الْقِتَال وَأتوا من خلف الْعَرَب الَّذين كانو فِي نحر الْعَدو وهم يتصايحون فَلم يردهم إِلَّا صياح البربر من خَلفهم وراياتهم قد أطلت عَلَيْهِم من كل جِهَة وَكَانَت شَيْئا كثيرا فظنوا أَن ظيان قد التحفتهم من خَلفهم فخشعت نُفُوسهم وفشلوا وَرَجَعُوا منهزمين لايلوي حميم على حميم فَأَخَذتهم البربر من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم يقتلُون ويسلبون وَحصل انزعاج كَبِير فِي الْمحلة وتمت الْهَزِيمَة عَلَيْهَا وَلم يبْق بهَا إِلَّا جَيش الودايا وَالْعَبِيد هَكَذَا أَخْبرنِي من شَاهد هَذِه الْوَقْعَة مِمَّن يوثق بِهِ
وسَاق صَاحب الْجَيْش الْخَبَر عَنْهَا بِأَن قَالَ كَانَ انخذال برابرة زمور بِرَأْي كَبِيرهمْ الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي وَكَانَت لَهُ وجاهة فِي الدولة وَكَانَ الْحسن بن حمو واعزيز كَبِير آيت أدراسن يساميه فِي الْمنزلَة وَلما خرج الْمولى إِبْرَاهِيم بن السُّلْطَان فِي هَذِه الْغَزْوَة كَانَ ابْن واعزيز قد حظي لَدَيْهِ حَتَّى صَار من أخص ندمائه فَنَفْس ابْن الْغَازِي عَلَيْهِ ذَلِك ودبر بِأَن جر
الْهَزِيمَة على الْجَيْش أجمع فَإِنَّهُ أظهر الْفِرَار وَقت اللِّقَاء حَتَّى سرى الفشل فِي النَّاس وانهزموا ثمَّ عطفت البرابر مَعَ الْعشي على محلّة السُّلْطَان فشرعوا فِي نهبها وأحاط عَسْكَر العبيد بهَا من كل جِهَة وصاروا يُقَاتلُون البربر على أَطْرَاف الأخبية وَلما أقبل الْمسَاء ترك العبيد الأخبية وأرزوا إِلَى أفراك السُّلْطَان وَصَارَ الْقِتَال على أفراك إِلَى وَقت الْعشَاء فَهَلَك من العبيد خلق كثير وَصَارَ الْقِتَال بِالسُّيُوفِ والرماح وَمَا زَالَ أَصْحَاب السُّلْطَان يترسون عَلَيْهِ بِأَنْفسِهِم حَتَّى عجزوا عَن الدفاع وخلص البربر إِلَى السُّلْطَان وَأَرَادَ رجل مِنْهُم يُقَال إِنَّه من بني مكيلد أَن يجرده فَأعلمهُ بِأَنَّهُ السُّلْطَان فاستحلفه الْبَرْبَرِي فَحلف لَهُ فَنزل عَن فرسه وأركبه وطار بِهِ إِلَى خيمته وَكَانَ البربر يلقونه وَهُوَ ذَاهِب بِهِ فَيَقُولُونَ من هَذَا الَّذِي مَعَك فَيَقُول أخي أَصَابَته جِرَاحَة وَلما وصل بِهِ إِلَى خيمته أعلن بِأَنَّهُ السُّلْطَان فَأَقْبَلت نسَاء الْحَيّ من كل جِهَة يفرحن ويضربن بِالدُّفُوفِ ثمَّ جعلن يتمسحن بأطرافه تبركا بِهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ إعجابا بِهِ حَتَّى أضجرنه وَلما جَاءَ رجال الْحَيّ أعظموا حُلُوله بَين أظهرهم وأجلوه وَسعوا فِيمَا يرضيه ويلائمه من وطاء ومطعم ومشرب بِكُل مَا قدرُوا عَلَيْهِ فَلم يقر لَهُ قَرَار مَعَهم وَيُقَال إِنَّه بَقِي عِنْدهم ثَلَاثًا لَا يَأْكُل وَلَا يشرب أسفا على مَا أَصَابَهُ إِلَّا أَنه كَانَ يسد رمقه بِشَيْء من الحليب وَالتَّمْر وتنصل البربر لَهُ مِمَّا شجر بَينهم وَبَينه وأظهروا لَهُ غَايَة الخضوع والاستكانة حَتَّى أَنهم كتفوا نِسَاءَهُمْ وقدموهن إِلَيْهِ مستشفعين بِهن على عَادَتهم فِي ذَلِك وَبعد ثَلَاث أركبوه وَقدمُوا بِهِ فِي جمَاعَة من الْخَيل إِلَى قَصَبَة آكراي فنزلوا بِهِ قَرِيبا مِنْهَا وَبعث رحمه الله إِلَى مكناسة يعلم الْجَيْش بمكانه فجاؤوه مُسْرِعين وَدخل مكناسة بعد أَن أحسن إِلَى ذَلِك الْفَتى الْبَرْبَرِي وَإِلَى جَمِيع أهل حيه غَايَة الْإِحْسَان وَأمر رحمه الله أَن يعْطى لكل من أَتَى سليبا من المنهزمين حائك وَثَلَاثُونَ أُوقِيَّة فَفرق من ذَلِك شَيْئا كثيرا بِبَاب مَنْصُور العلج من مكناسة وَأُصِيب الْمولى إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان فِي هَذِه
الْوَقْعَة بجراحات معظمها فِي رَأسه فَحمل جريحا إِلَى فاس فَمَاتَ بهَا وَكَانَت مصيبته على السُّلْطَان أعظم مِمَّا أَصَابَهُ فِي نَفسه وَالْأَمر لله وَحده
قَالَ صَاحب الْجَيْش كَانَ السُّلْطَان الحازم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله لَا يرد الشَّفَاعَة فِي مثل هَذَا الْمقَام وَرُبمَا دس إِلَى من يظْهر ذَلِك صُورَة حَتَّى يكون نهوضه عَن عز وَذَلِكَ من حسن سياسته وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة الفادحة سَبَب سُقُوط هَيْبَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان من قُلُوب الرّعية فَلم يمتثل لَهُ بعْدهَا أَمر فِي عصاتها حَتَّى لَقِي الله تَعَالَى
وَلما دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كثر عيث البربر وإفسادهم السابلة واستحوذوا على مزارع مكناسة ومسارحها فنصب لَهُم السُّلْطَان رحمه الله حبالة الطمع وكادهم بهَا بِأَن صَار كلما وَفد عَلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم كساها وَأحسن إِلَيْهَا فتسامعوا بذلك فقادهم الطمع إِلَى أَن وَفد عَلَيْهِ مِنْهُم فِي مرّة وَاحِدَة سَبْعمِائة فَارس من أعيانهم فَقبض عَلَيْهِم وجردهم من الْخَيل وَالسِّلَاح وأودعهم السجْن ثمَّ أَمر بِالْقَبْضِ على كل من وجد مِنْهُم بسوق مكناسة وصفرو فَقبض بصفرو على نَحْو الثلاثمائة من آيت يوسي وَقَامَت بِسَبَب ذَلِك فتْنَة البربر على سَاق فَإِنَّهُم امتعضوا لمن قبض عَلَيْهِ من إخْوَانهمْ وزحفوا إِلَى مكناسة وحاصروها وجاؤوا مَعَهم بدجالهم أبي بكر مهاوش وتحزبوا وصاروا يدا وَاحِدَة على كل من يتَكَلَّم بِالْعَرَبِيَّةِ بالمغرب وَكَانَ مهاوش فِي هَذِه الْأَيَّام قد أَمر أمره لِأَنَّهُ لما عزم السُّلْطَان على غزوهم كَانَ يعدهم بِأَن الظُّهُور يكون لَهُم فَلَمَّا صدق عَلَيْهِم ظَنّه اعتقدوه وافتتنوا بِهِ وزحفوا إِلَى مكناسة فضيقوا على السُّلْطَان بهَا فَجعل رحمه الله يعالج أَمرهم بِالْحَرْبِ تَارَة وَالسّلم أُخْرَى إِلَى أَن طلبُوا مِنْهُ أَن يسرح لَهُم إخْوَانهمْ ويرجعوا إِلَى الطَّاعَة وَالدُّخُول فِي الْجَمَاعَة فسرحهم لَهُم على يَد المرابط أبي مُحَمَّد عبد الله بن حَمْزَة العياشي فَلَمَّا ظفروا بإخوانهم نقضوا الْعَهْد الَّذِي أَخذ عَلَيْهِم المرابط الْمَذْكُور وعادوا إِلَى العيث وإفساد السابلة ثمَّ تَبِعَهُمْ على
ذَلِك قبائل الْعَرَب وَاخْتَلَطَ الحابل بالنابل وَاشْتَدَّ الْأَمر وَبلغ الحزام الطبيين وَللَّه در الْعَلامَة أبي مَرْوَان عبد الْملك التاجموعتي إِذْ يَقُول
(هم البرابر لَا ترجو نوالهم
…
وسل من الله تَعْجِيل النَّوَى لَهُم)
(لَا بلغ الله قلبا مِنْهُم أملا
…
وَبلغ الله قلبِي مَا نوي لَهُم)
ثمَّ لما سَقَطت هَيْبَة السُّلْطَان وَزَالَ وقعه من الْقُلُوب سرى فَسَاد الْقَبَائِل إِلَى الْجند فَإِن العبيد عَادوا على كَبِيرهمْ الْقَائِد أَحْمد بن مبارك صَاحب الْخَاتم فَقَتَلُوهُ افتياتا على السُّلْطَان مَعَ أَنه كَانَ من أخص دولته لنجابته وكفايته وديانته واعتماد السُّلْطَان عَلَيْهِ فِي سَائِر مهماته وَلما قَتَلُوهُ اعتذروا للسُّلْطَان بأعذار كَاذِبَة فَقبل ظَاهر عذرهمْ وطوى لَهُم على الْبَتّ
قَالَ أكنسوس كَانَ الْقَائِد أَحْمد وَأَبَوَاهُ وَإِخْوَته قد أَعْطَاهُم السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله لِابْنِهِ الْمولى سُلَيْمَان فَنَشَأَ الْقَائِد أَحْمد فِي كفَالَته وتخلق بأخلاقه من زمن الصِّبَا إِلَى مماته وَكَانَت حَيَاته مقرونة بسعادة السُّلْطَان الْعَادِل الْمولى سُلَيْمَان فَإِنَّهُ من يَوْم قتل رحمه الله سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف لم يلتئم شَمل المملكة حَتَّى توفّي السُّلْطَان الْمَذْكُور
ذكر آل مهاوش وأوليتهم وَمَا آل إِلَيْهِ أَمرهم
أما الَّذِي كَانَ مِنْهُم فِي دولة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فاسمه مُحَمَّد وناصر وَالْوَاو فِي لُغَة البربر بِمَعْنى ابْن وَكَانَ وَالِده مرابطا من آيت مهاوش فرقة من آيت سخمان مِنْهُم وَكَانَ جده أَبُو بكر من أَتبَاع الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس سَيِّدي أَحْمد بن نَاصِر الدرعي رحمه الله وَكَانَ الشَّيْخ الْمَذْكُور قد جرى فِي مَجْلِسه يَوْمًا ذكر الدَّجَّال فَقَالَ الشَّيْخ لَا يخرج الدَّجَّال حَتَّى تخرج دجاجيل من جُمْلَتهمْ مهاوش وَمَعْنَاهُ من جُمْلَتهمْ ولد هَذَا الرجل فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ لما شب مُحَمَّد وناصر قَرَأَ الْقُرْآن والعربية وَالْفِقْه وَحصل على طرف من علم الشَّرِيعَة ثمَّ تنسك وتزهد وَلبس الخشن فَيُقَال إِنَّه حصل
لَهُ نوع من الْكَشْف شاع بِهِ خَبره عِنْد البربر وأكبوا عَلَيْهِ واشتهر أمره أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَلما انْتهى أمره نَهَضَ إِلَى قَبيلَة جروان الَّذين كَانُوا يخدمونه فنهبهم بِسَبَبِهِ وفر مهاوش إِلَى رُؤُوس الْجبَال وَبَقِي مختفيا إِلَى أَن بُويِعَ السُّلْطَان الْمولى يزِيد رحمه الله وَكَانَ قد اتَّصل بمهاوش قبل ولَايَته وَذَلِكَ حِين فر من وَالِده ولجأ إِلَيْهِ حَسْبَمَا مر فآواه مهاوش وَأحسن إِلَيْهِ
وَلما بُويِعَ السُّلْطَان الْمَذْكُور وَفد عَلَيْهِ مهاوش فِي جمَاعَة من قومه ففرح بهم الْمولى يزِيد وَأعْطى مهاوش عشرَة آلَاف ريال وَأعْطى الَّذين قدمُوا مَعَه مائَة ألف ريال وَلما هلك مُحَمَّد وناصر هَذَا ترك عدَّة أَوْلَاد أكبرهم أَبُو بكر وَمُحَمّد وَالْحسن إِلَّا أَنهم تبعوا سيرة أَبِيهِم فِي مُجَرّد التدجيل والتمويه على جهلة البربر وتثبيطهم على طَاعَة السُّلْطَان وَلم يكن مَعَهم مَا كَانَ مَعَ والدهم من التظاهر بِالْخَيرِ وَالدّين فَأمر أَمرهم عِنْد أهل جبل فازاز واعتقدوهم ووقفوا عِنْد إشارتهم ثمَّ لما جَاءَت دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله واتفقت لَهُ الْهَزِيمَة الَّتِي مر ذكرهَا وأمتلأت أَيدي البربر من خيل المخزن وسلاحه وأثاث الْجند وفرشه بطروا وَظهر لَهُم إِن ذَلِك إِنَّمَا نالوه ببركة مهاوش لِأَنَّهُ كَانَ يعدهم بِشَيْء من ذَلِك فَتمكن ناموسه من قُلُوبهم واستحكمت طاعتهم لَهُ وتمردوا على السُّلْطَان بِسَبَب مَا كَانُوا يسمعُونَ مِنْهُ إِلَّا أَن كَيده كَانَ قاصرا على أهل لِسَانه ووطنه لَا يتعداهم إِلَى غَيرهم ثمَّ بعد ذَلِك بِزَمَان انطفأ ذباله وَلم يزل فِي انتقاص إِلَى الْآن وَالله غَالب على أمره
حُدُوث الْفِتْنَة بفاس وقيامهم على عاملهم الصفار
لما توالت هَذِه الْفِتَن على السُّلْطَان رحمه الله وانفتقت عَلَيْهِ الفتوق وَصَارَ النَّاس كَأَنَّهُمْ فوضى لَا سُلْطَان لَهُم قَامَ عَامَّة أهل فاس على عاملهم الْحَاج مُحَمَّد الصفار فأرادوا عَزله وتعصبت لَهُ طَائِفَة من أهل عدوته وافترقت
الْكَلِمَة بفاس حَتَّى أدّى ذَلِك إِلَى الْحَرْب وَسَفك الدِّمَاء وَنهب الدكاكين وتراموا بالرصاص من أَعلَى منار مَسْجِد الرصيف وَبلغ ذَلِك السُّلْطَان وَهُوَ يَوْمئِذٍ بمكناسة يعالج دَاء البربر فزاده ذَلِك وَهنا على وَهن فَكتب إِلَى أهل فاس كتابا شحنه بالوعظ والعتب وَأمر ابْنه الْمولى عليا أَن يقرأه عَلَيْهِم فَجَمعهُمْ وقرأه عَلَيْهِم حَتَّى سَمِعُوهُ وفهموه وَنَصّ الْكتاب الْمَذْكُور بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم إِلَى أهل فاس السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإِن العثماني بإصطنبول وَأمره ممتثل بتلمسان والهند واليمن وَمَا رَأَوْهُ قطّ وَلَكِن أَمر الله يمتثلون {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن} النِّسَاء 59 وَكَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة وَلَكِن يعْفُو ويصفح وَاعْلَمُوا أَن الْعمَّال ثَلَاثَة عَامل أكل السُّحت وأطعمه الغوغاء والسفلة وعامل لم يَأْكُل وَلم يطعم غَيره انتصف من الظَّالِم وعامل أكل وَحده وَلم يطعم غَيره فَالْأول تحبه الْعَامَّة والسفلة ويبغضه الله وَالسُّلْطَان والصالحون وَالثَّانِي يُحِبهُ الله ويكفيه مَا أهمه من أَمر السُّلْطَان وَالثَّالِث كعمال الْيَوْم يَأْكُل وَحده وَيمْنَع رفده وَلَا ينصر الْمَظْلُوم فَهَذَا يبغضه الله وَرَسُوله وَالسُّلْطَان وَالنَّاس أَجْمَعُونَ وَهَذَا معنى حَدِيث أزهد فِيمَا فِي أَيدي النَّاس يحبك النَّاس الخ
وَحَدِيث الْعمَّال ثَلَاثَة الخ فَلَو كَانَ للصفار مائدة خمر وَطَعَام يَأْخُذهُ من الْأَسْوَاق ويتغذى عِنْده ويتعشى السفلة والفساق وَيَدْعُو الْيَوْم ابْن كيران وَغدا ابْن شقرون وَبعده بنيس وَابْن جلون وَيفرق عَلَيْهِم من الذعائر لأحبوه وَمَا قَامُوا عَلَيْهِ وَلَو أردتم النَّصِيحَة لله وَلِرَسُولِهِ ولأميره لقدم علينا ثَلَاثَة مِنْكُم أَو ذكرْتُمْ ذَلِك لولدنا مولَايَ عَليّ أصلحه الله فَأخْبرنَا بذلك وَقل للصفار الْكلاب لَا تتهارش إِلَى على الطَّعَام والجيف فَإِذا رَأَتْ كَلْبا بِبَاب دَار سَيّده وَلَا شَيْء أَمَامه لم تعرج عَلَيْهِ وَإِن رَأَتْهُ يَأْكُل فَإِن هُوَ تعامى وأشركهم فِيمَا يَأْكُل أكلُوا مَعَه وسكتوا وَإِن هُوَ قطب وَجهه وكشر عَن أنيابه تراموا عَلَيْهِ وغلبوه على مَا فِي يَده وَهَذَا الصفار لم يتق الله ويزهد الزّهْد الَّذِي ينصره الله بِهِ وَلم يلاق النَّاس بِوَجْه طلق ويطرف مِمَّا يَأْكُلهُ فسلطهم
الله عَلَيْهِ وَلما رأى يُوسُف بن تاشفين النِّعْمَة الَّتِي فِيهَا ابْن عباد قَالَ أكل أَصْحَابه وأعوانه مثله فَقَالُوا لَا فَقَالَ إِنَّهُم يبغضونه ويسلمونه للمكاره لاستبداده دونهم ولتغيير الْمُنكر شُرُوط وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ وَكم من مرّة قُلْنَا لكم الْعلمَاء هُوَ يُنكرُونَ مَا يُنكر ويعلموننا بِمَا كَانَ وَلَكِن الْجُلُوس بِلَا شغل والفراغ وَعدم الْحَمد حملكم على مَا يحرم عَلَيْكُم الْكَلَام فِيهِ
(إِن الشَّبَاب والفراغ والجده
…
مفسده للمرء أَي مفْسدَة)
وَأما بَيت مَال الله والأحباس فَالله حسيب من بدل وَقد كُنْتُم تتكلمون على المكس وَالْحَرِير والقشينية وَغير ذَلِك فَأرى حكم الله من ذَلِك وانظروا لمن تعرفونه من الْعمَّال وَأما الْفسق فَهُوَ عَادَة وديدن كل من قَامَ فِي الْفِتْنَة وَكم مرّة رمت قِطْعَة فَلم أجد إِلَيْهِ سَبِيلا لِأَن جلّ كبرائكم بالمصاري والعرصات وَإِنَّمَا أولي عَلَيْكُم البراني لأنكم لَا تحسدونه وَإِن أكل وَحده والحاسد يُرِيد زَوَال النِّعْمَة عَن محسوده والتجار لِأَن التَّاجِر لَا يطْمع فِي مَال أحد ويكفيه الرّفْعَة والجاه لنماء مَاله وانظروا مَا أجبتكم بِهِ وَمَا كتبتم لنا بِهِ واعرضوه على فقهائكم فَمن قَالَ الْحق منا وَمن قَالَ الْبَاطِل أَخَذْتُم بحظكم من الْفِتَن اهـ
وَهَذِه الرسَالَة قد شرحها الْفَقِيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر بن عبد الْكَرِيم اليازغي وَكَانَ أهل فاس قد كتبُوا إِلَى السُّلْطَان رحمه الله فِي شَأْن عاملهم الصفار الْمَذْكُور وَاعْتَذَرُوا عَن خُرُوجهمْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ اشْتغل بِمَا لَا يُرْضِي الله من الْفسق وَمد الْيَد إِلَى الْحَرِيم فأنكروا عَلَيْهِ فَأجَاب السُّلْطَان رحمه الله بالرسالة الْمَذْكُورَة
خُرُوج السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان من مكناسة إِلَى فاس وَمَا لَقِي من سُفَهَاء البربر فِي طَرِيقه إِلَيْهَا
قد تقدم لنا أَن البربر طلبُوا من السُّلْطَان تَسْرِيح إخْوَانهمْ وَأَنه بذلك
تصلح أَحْوَالهم ويراجعون الطَّاعَة وَلما سرحهم نكثوا الْعَهْد وازدادوا تمردا فَلَمَّا أعيا السُّلْطَان أَمرهم وكل أَمرهم إِلَى الله وعزم على الْخُرُوج من مكناسة إِلَى فاس لما حدث بهَا من الشغب أَيْضا فولى على مكناسة وجند العبيد وَلَده الْمولى الْحسن وَكَانَ لَهُ علم وحزم ثمَّ خرج السُّلْطَان رحمه الله من مكناسة لَيْلًا على خطر عَظِيم وَأسرى ليلته وَلم يعلم البربر بِخُرُوجِهِ حَتَّى أصبح وَقد جَاوز المهدومة وشارف وَادي النجَاة فتبعوه على الصعب والذلول ونهبوا كل من تخلف من الْجَيْش واستولوا على كثير من روام السُّلْطَان وَكَانَ مَعَ السُّلْطَان فِي تِلْكَ اللَّيْلَة المرابط الْبركَة أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن حَمْزَة العياشي فَجعل يكف البربر عَن الْجَيْش فَلم يغن شَيْئا لِأَنَّهُ كَانَ كلما كفهم من نَاحيَة أَغَارُوا من نَاحيَة أُخْرَى وخلص السُّلْطَان إِلَى فاس وَقد ازْدَادَ حنقة على البربر فَلَمَّا دَخلهَا أَمر بِنَهْب دور البربر القاطنين بفاس فنهبوا كل من فِيهِ رَائِحَة البربرية وَلَو قَدِيما فَكَانَ ذَلِك فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَادًا كَبِيرا وَأقَام السُّلْطَان بفاس إِلَى رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ خرج لإِصْلَاح نواحي بِلَاد الهبط فوصل فِي خرجته هَذِه إِلَى قصر كتامة فمهد تِلْكَ الْبِلَاد وَأمن سبلها وَرجع إِلَى رِبَاط الْفَتْح فَقدم عَلَيْهِ بهَا قبائل الْحَوْز على بكرَة أَبِيهِم من حاحا والشياظمة وَعَبدَة والرحامنة وَأهل السوس والسراغنة وزمران وَأهل دكالة وقبائل الشاوية وتادلا وَقدم عَلَيْهِ أَيْضا قبائل بني حسن وَعبيد الدِّيوَان وَقبض فِي هَذِه الْمرة على نَحْو الْمِائَة من زعير وأودعهم السجْن وَدخل شهر رَمَضَان فَفرق عُمَّال الْقَبَائِل كلا إِلَى عمله وَأمرهمْ بالقدوم عَلَيْهِ لعيد الْفطر ويستصحبوا زكواتهم وأعشارهم وَكَانَ قد عزم على الْمقَام برباط الْفَتْح إِلَى أَن يُقيم سنة الْعِيد بِهِ وتجتمع عَلَيْهِ العساكر فَيتَوَجَّه بهَا لغزو البربر ثمَّ بدا لَهُ رحمه الله فسافر مَعَ قبائل الْحَوْز إِلَى مراكش فِي عَاشر رَمَضَان الْمَذْكُور
ذكر مَا حدث من الْفِتَن بفاس وأعمالها بعد سفر السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى مراكش
لما عزم السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله على السّفر إِلَى مراكش ندب جند العبيد إِلَى السّفر مَعَه فتثاقلوا عَلَيْهِ وَظهر مِنْهُم قلَّة المبالاة بِهِ وأحس مِنْهُم بذلك فَأَعْرض عَنْهُم وَبعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ انْسَلَّ من بَين أظهرهم وَقصد محلّة أهل الْحَوْز فَدخل قبَّة الْقَائِد مُحَمَّد بن الجيلاني ولد مُحَمَّد الصَّغِير السرغيني وَكَانَ السُّلْطَان يطمئن إِلَيْهِ مُنْذُ كَانَ رَفِيقه فِي نكبته عِنْد ظيان إِذا كَانَ ابْن الجيلاني الْمَذْكُور مأسورا عِنْدهم وسرحوه للسُّلْطَان فرافقه إِلَى مكناسة حَسْبَمَا مر وَلما احتل السُّلْطَان بمحلة أهل الْحَوْز ازْدَادَ فَسَاد نِيَّة العبيد وسافر السُّلْطَان إِلَى مراكش وَترك مضاربه وأثاثه بيدهم فتوزعوها وعادوا إِلَى مكناسة وَسمع النَّاس بِمَا ارْتَكَبهُ هَؤُلَاءِ العبيد فِي حق السُّلْطَان فَعَاد شباب الْفِتْنَة إِلَى عنفوانه وسرى فِي الحواضر والبوادي سم أفعوانه فخب عبيد مكناسة بعد قدوم إخْوَانهمْ عَلَيْهِم فِي الْفِتْنَة وَوَضَعُوا وَامْتنع عُمَّال الغرب وَبني حسن من دفع الزكوات والأعشار وطردوا جباة السُّلْطَان وَعمد الودايا بفاس إِلَى حارة الْيَهُود الَّتِي بَين أظهرهم بفاس الْجَدِيد فانتهبوها واستصفوا موجودها وَأخذُوا مَا كَانَ تَحت أَيدي الْيَهُود من كتَّان وحرير وَفِضة وَذهب لتجار أهل فاس إِذْ كَانُوا يخيطون لَهُم ويصنعون مَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَى خياطته وصنعته فَضَاعَت فِي ذَلِك أَمْوَال لَا يحصيها قلم حاسب ثمَّ جردوهم رجَالًا وَنسَاء وَسبوا نِسَاءَهُمْ وافتضوا أبكارهم وسفكوا دِمَاءَهُمْ وَشَرِبُوا الْخُمُور فِي نَهَار رَمَضَان وَقتلُوا الْأَطْفَال ازدحاما على النهب ثمَّ تجاوزوا هَذَا كُله إِلَى حفر الْبيُوت على الدفائن فوقعوا بِسَبَب ذَلِك على أَمْوَال طائلة وَلما رَأَوْا ذَلِك قبضوا على أعيانهم وتجارهم وصادروهم بِالضَّرْبِ والنكال ليدلوهم على مَا دفنوه من المَال وَمن عِنْده يَهُودِيَّة حسناء حالوا بَينه وَبَينهَا حَتَّى يفتديها بِالْمَالِ وَكَانَ هَذَا الْحَادِث الْعَظِيم فِي الثَّالِث عشر من رَمَضَان سنة
خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما فرغوا من الْيَهُود التفتوا إِلَى أهل فاس فَاسْتَاقُوا السَّرْح وبهائم الْحَرْث والجنات وَمنعُوا الدَّاخِل وَالْخَارِج فَقَامَ بفاس هرج عَظِيم وغلقوا الْأَبْوَاب ومالوا على من وجدوه من الودايا دَاخل الْبَلَد فأوقعوا بهم ونهبوهم وَحمل النَّاس السِّلَاح ونقلت البضائع والسلع من الْأَسْوَاق إِلَى الدّور خوفًا عَلَيْهَا وَاجْتمعَ أهل الْحل وَالْعقد مِنْهُم فعينوا من يقوم بأمرهم فَقدم اللمطيون رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ الْحَاج أَحْمد الْحَارِثِيّ وَقدم أهل العدوة رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ قدور المقرف وَقدم أهل الأندلس رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ عبد الرَّحْمَن بن فَارس فضبطوا الْبَلَد وبينما هم كَذَلِك قدم عَلَيْهِم جمَاعَة من أَعْيَان الودايا وتلافوا أَمرهم مَعَهم والتزموا رد مَا نهبوه لَهُم من السَّرْح وَمَا نهب فِي جملَة أَمْوَال الْيَهُود مِمَّا كَانَ يصنع عِنْدهم فخمدت بذلك نَار الْفِتْنَة بعض الشَّيْء وَقد قَالَ أدباء الْوَقْت فِي هَذَا الْخطب الَّذِي اتّفق فِي هَذِه الْمدَّة جملَة من الْأَشْعَار من ذَلِك قَول الْكَاتِب البارع أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الفاسي
(أعين الْعين للمحبين دَاء
…
والدوا فِي شفاهها والشفاء)
(فَإِذا مَا رمين سَهْما لصب
…
فالهوى قد هوى بِهِ والهواء)
(كَيفَ يعدل نَحْو رَأْيِي عذول
…
من رمته ظَبْي اللحاظ الظباء)
(سعد ساعد أَخا الغرام بِقرب
…
من سعاد فقد عناه العناء)
(زارني ضيف طيفها فشجاني
…
وسرى الطيف للمحب حباء)
(هَب شوقي أذهب نشر كباها
…
وعرتني من ذكرهَا العرواء)
(فسقى عهدها العهاد وَحيا
…
الْملك الْعَادِل الْحيَاء الْحيَاء)
(لَيْسَ إِلَّا أَبَا الرّبيع ربيع
…
خلقه الْجُود والجدي وَالْوَفَاء)
(بِسُلَيْمَان قد سلمنَا وسدنا
…
فالعلي منزل لَهُ والْعَلَاء)
(ملك ملك الْعلَا والمعالي
…
وسما فَلهُ الفخار سَمَاء)
(غرَّة الْمجد درة العقد من قد
…
راق من فَضله السنا والسناء)
(نجل خير الورى وَأفضل من فذ
…
نبأت بظهوره الْأَنْبِيَاء)
(من إِذا رجاه راج لنول
…
قبل حل الحبى أَتَاهُ الحباء)
(خلق دمث وَخلق بهي
…
من ذكي نوره تغار ذكاء)
(كَفه كفت الْفساد وكفت
…
كل عَاد فَمَا لَهُ أكفاء)
(رَاحَة رَاحَة لكل فَقير
…
بحياء تحيا بِهِ الْأَحْيَاء)
(رَوْضَة راضت الْعُلُوم وَلَكِن
…
عرفهَا الْعرف والثراء الثَّنَاء)
(قد روى فَضله الأفاضل طرا
…
فعلى الْفضل والرواة رواء)
(لأبي الْقَاسِم الظياني لديهم
…
فضل سبق لَهُ علا وعلاء)
(جمع الْوَصْف أحكم الْوَصْف صدقا
…
وَأَتَاهُ الْإِنْشَاء كَيفَ يَشَاء)
(صَالح نَاصح أَمِين رصين
…
قد ثناه إِلَى علاك السناء)
(كَيفَ لَا يحسن السناء ويسمو
…
فِي إِمَام لَهُ الْمَعَالِي رِدَاء)
(إِنَّمَا هُوَ معجز مُسْتَقل
…
يَقْتَدِي بفعاله الْعُقَلَاء)
(بسط الْعدْل فِي البسيطة فالدين
…
لَهُ بسطة بِهِ وارتقاء)
(وَغدا بِإِقَامَة الدّين فالغرب
…
غَرِيبا أنصاره الغرباء)
(لم يجد فِي البرابر الغلف برا
…
شَأْنه الْبر فِي البدا والبراء)
(نقضوا الْعَهْد خالفوا الْأَمر وَالنَّهْي
…
إِلَّا إِنَّهُم هُوَ السُّفَهَاء)
خالفوا منتقى الْخَلَائق جهلا
…
بعماهم فَلَا عداهم عماء)
(عَادَة فِي جدودهم جددوها
…
لَهُم الدَّهْر الارتداد رِدَاء)
(قد دعاهم مهاوش لضلال
…
فَعَلَيْهِم وبالهم والوباء)
(شقّ جهلا عَصا الإِمَام شقاقا
…
وَعصى الله لَا هَناه الهناء)
(واقتفى أَثَرهم الغواة ضلالا
…
فغاباهم مَا أَن عَلَيْهِ غباء)
(وَإِذا خبثت أصُول فروع
…
لَاحَ من فعلهم عَلَيْهِ لِوَاء)
(وَكَذَا الْعَرَب أعربوا عَن مساوفهم
…
فِي سوى الْخُرُوج سَوَاء)
(نافقوا رافقوا الخبيثين كفرا
…
همزوا لمزوا فَلَيْسَ برَاء)
(والودايا جاؤوا بادوء عيب
…
داؤهم مَاله الزَّمَان دَوَاء)
(قتلوا سلبوا أخافوا وحافوا
…
مَا ثناهم عَن الْقَبِيح ثَنَاء)
(مَا رعوا ذمَّة وَلَا فعل ذمّ
…
بل عراهم من الْحيَاء عراء)
(وَإِمَام الْأَنَام يُحِلهُمْ عَنْهُم
…
ويوالي وَمَا يُفِيد الْوَلَاء)
(نهبوا حارة الْيَهُود وهدوا
…
دُورهمْ وعرى النِّسَاء سباء)
(لَو تراهم بَين الرعايا عُرَاة
…
يحتذيهم رِجَالهمْ وَالنِّسَاء)
(خفروا ذمَّة النَّبِي فذموا
…
لعماء فَلَا سقاهم عماء)
(يَا إِمَام الْهدى عَلَيْك بِقوم
…
مَلأ الغرب بغيهم والبغاء)
(قد طم ظلمهم وَعم أذاهم
…
وانجلى عَنْهُم فَحق الْجلاء)
(كم سدلت عَلَيْهِم أَي ستر
…
ووهبت فَمَا أَفَادَ الْعَطاء)
(وحدوت إِلَى الرشاد فحادوا
…
ودعوت فَمَا أَفَادَ الدُّعَاء)
(نلْت رشدا برشدهم وجهادا
…
فَأبى مِنْهُم الرشاد إباء))
(وَإِذا خذل الْإِلَه أُنَاسًا
…
من محياهم يَزُول الْحيَاء)
(فعبيد الْإِلَه خير عبيد
…
قد كفى مِنْهُم الإِمَام كفاء)
(حَاربُوا ضاربوا على الْحق راعوا
…
ذمَّة الله لَا عداهم عَلَاء)
(فاتخذهم مواليا وجنودا
…
واصطفيهم فَإِنَّهُم أصفياء)
(قد أصَاب الأعادي مِنْهُم عَذَاب
…
ودهى مِنْهُم الدهاة دهاء)
(وَإِذا سخر الْإِلَه أُنَاسًا
…
لسَعِيد فَإِنَّهُم سعداء)
(يَا إِلَه الْأَنَام خُذ بيدَيْهِ
…
وأعنه فقد عناه العناء)
(فينام الْأَنَام فِي ظلّ أَمن
…
ورداه للماردين رِدَاء)
(وَعَلِيهِ السَّلَام مَا سَار سَار
…
وشدت فَوق وَرقهَا الورقاء)
ثمَّ حدث على تفئة ذَلِك فتْنَة أُخْرَى بفاس بِسَبَب نزاع جرى بَين قاضيها الْفَقِيه أبي الْفضل عَبَّاس بن أَحْمد التاودي وَبَين مفتيها الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الدكالي فِي قَضِيَّة الشريفين الشفشاوني والعراقي من أهل فاس وَهِي مَعْلُومَة فأنهى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان فَأخر الْفَقِيه أَبَا عبد الله عَن الْفَتْوَى فَغَضب للمفتي جمَاعَة من المدرسين وطلبة الْعلم وتعصبوا لَهُ وتحزبوا على القَاضِي فَكَتَبُوا رسما يتَضَمَّن الشَّهَادَة بجوره وجهله وَوَضَعُوا خطوطهم وناطوا بِهِ قصيدة تَتَضَمَّن الشكوى بِهِ وَشرح حَاله للسُّلْطَان ووجهوا بهما إِلَيْهِ وَنَصّ القصيدة
(يَا أَيهَا الْملك الَّذِي عَدَالَته
…
أحيت مآثرها الصّديق أَو عمرا)
(يَا أَيهَا الْملك الَّذِي مناقبه
…
فِي غرَّة الدَّهْر قد لاحت لنا قمرا)
(أَنْت الَّذِي وضع الْأَشْيَاء موضعهَا
…
وَفِي الْعُلُوم الَّذِي أَحْيَا الَّذِي اندثرا)
(أَنْت الَّذِي صير الدّين القويم كَمَا
…
أوصى بِهِ من سما الْأَمْلَاك والبشرا)
(وَلم يزل بك فِي عز وَفِي حرم
…
يجني ذَوُو الْعلم من رياضة ثمرا)
(تذب عَنهُ بأسياف وآونة
…
بفكرة تحكم الْأَحْكَام والصورا)
(وَمن يرم هَدمه تَأْخُذهُ صَاعِقَة
…
من راحتيك فَلَا تبقى لَهُ أثرا)
(وَقد شكا الدّين من هضم وَمن كمد
…
أَصَابَهُ فَهُوَ يبكي الدمع منهمرا)
(سطت عَلَيْهِ يَد القَاضِي الَّذِي غمرت
…
أقضية الْجور مِنْهُ البدو والحضرا)
(أعفى مراسمه جورا وأبدله
…
جهلا بِمَا يذهب الْأَلْبَاب والفكرا)
(جَاءَ الْولَايَة وَهُوَ من شبيبته
…
يرى القضا حِرْفَة يجني بهَا وطرا)
(فَلم يكن همه فِيهِ سوى قنص
…
أَو نخوة تتْرك الضَّعِيف منكسرا)
(أما حُقُوق الورى فَإِنَّهَا عدم
…
مَجْهُولَة جعلت منبوذة بعرا)
(فاستنقذت مِلَّة الْمُخْتَار جدك من
…
هَذَا الَّذِي مَا درى وردا وَلَا صَدرا)
(يَأْتِي الْحُكُومَة عباسا ومنقبضا
…
مِمَّا بِهِ من سقام يجلب الكدرا)
(فَلَا يرى أرسم الْخَصْمَيْنِ من ملل
…
لَكِن يحكم أوهاما بهَا جَهرا)
(ويستبد بِرَأْيهِ وَحَيْثُ بَدَت
…
فَتْوَى تبصره ألْقى بهَا حجرا)
(وَلَا يُمكن خصما قد دَعَاهُ إِلَى
…
تسجيله مَا رأى فِي الحكم مُعْتَبرا)
(ملت قُلُوب الورى مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُم
…
إلاك يَا من بِهِ الْإِسْلَام قد نصرا)
(ضجوا لعزتكم يَشكونَ سيرته
…
بعبرة تتْرك الْفُؤَاد منفطرا)
(فأدركن يَا عماد الدّين صارمه
…
رعية ترتجي من حلمكم مَطَرا)
(فأنزلنه لقد طَغى بعزته
…
وَلم يخف فِي غَد لظى وَلَا سقرا)
(واصرفه عَنْهُم كصرفه ضعيفهم
…
واعزله عزلا فَإِن الْأَمر قد أمرا)
(فَأَنت غيثهم إِن أزمة أزمت
…
وَأَنت كهفهم إِن حَادث ظهرا)
وَلما وصل الرَّسْم وَالْقَصِيدَة إِلَى السُّلْطَان رأى أَن ذَلِك من التعصب الَّذِي يحدث بَين الأقران فرفضه لكَمَال أناته وعقله وَلم يقبل شَهَادَة عَالم
على مثله فَلَمَّا رَأَوْا أَن السُّلْطَان لم يساعدهم هجموا على القَاضِي وَهُوَ بِمَجْلِس حكمه وَأَرَادُوا قَتله وسدد نَحوه الشريف أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطَّاهِر الكتاني كابوسا أخرجه فِيهِ فأخطأه فانزعج القَاضِي وَلزِمَ بَيته وَقدمُوا مَكَانَهُ الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الدلائي ثمَّ عزلوه وولوا مَكَانَهُ الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد الزرهوني فَكَانَت عَاقِبَة أمره أَنه لما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رحمه الله نَفَاهُ إِلَى الصويرة وَالله تَعَالَى أعلم
خُرُوج أهل فاس على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وبيعتهم للولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما اسْتمرّ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله مُقيما بمراكش والفتن بفاس وَسَائِر بِلَاد الغرب قد تجاوزت مداها وَعم أذاها وَرفعت الشكايات إِلَيْهِ من فاس وَغَيرهَا بِمَا النَّاس فِيهِ من الكرب الْعَظِيم والخطب الجسيم كتب رحمه الله بِخَط يَده كتابا إِلَى أهل فاس يرشدهم إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحهمْ من حلف البربر والاعتماد عَلَيْهِم فِي حراسة بِلَادهمْ وَسَائِر مرافقهم كَمَا كَانُوا قَدِيما أَيَّام الفترة فِي دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الله إِلَى أَن يفرغ من شَأْن الْحَوْز وَيقدم عَلَيْهِم هَكَذَا زعم صَاحب الْبُسْتَان
قَالَ أكنسوس كَانَ مُرَاد السُّلْطَان بذلك الْكتاب تهييج أهل فاس على التَّمَسُّك بِطَاعَتِهِ وترغيبهم فِي محبته ونصرته وَقد فعل مثل ذَلِك بمراكش فَإِنَّهُ جمع أعيانها وأعيان الرحامنة عقب صَلَاة الْجُمُعَة وَقَالَ لَهُم قد رَأَيْتُمْ مَا جرت بِهِ الأقدار من فَسَاد قُلُوب الرّعية وتمادي الْقَبَائِل على الغي وَالْفساد وَمن يَوْم رَجعْنَا من وقْعَة ظيان وَنحن نعالج أَمر النَّاس فَلم يزدادوا إِلَّا فَسَادًا وَقد جرى على الْمُلُوك الْمُتَقَدِّمين أَكثر من هَذَا فَلم ينقصهم ذَلِك عِنْد رعيتهم بل قَامُوا مَعَهم وأعانوهم على أهل الْفساد حَتَّى أصلحوهم وَإِنِّي قد عجزت
بِشَهَادَة الله لِأَنِّي مَا وجدت معينا على الْحق وَكم مرّة تُحَدِّثنِي نَفسِي أَن أترك هَذَا الْأَمر وأتجرد لعبادة رَبِّي حَتَّى أَمُوت فَقَالَ من حضر من أَعْيَان الرحامنة وَغَيرهم يَا مَوْلَانَا بَارك الله لنا فِي عمرك وَجَعَلنَا فداءك وَنحن أمامك ووراءك فمرنا بِمَا تشَاء فقولك مُطَاع وأمرك ممتثل وَمَا رَأينَا مِنْك إِلَّا الْخَيْر فسر السُّلْطَان بمقالتهم ودعا لَهُم بِخَير وَلما فعل مَعَ أهل مراكش هَذَا الْأَمر أَرَادَ أَن يسْلك مثله مَعَ أهل فاس فَوَقع مَا وَقع وَلما بعث السُّلْطَان بِالْكتاب الْمَذْكُور إِلَى ابْنه الْمولى عَليّ بفاس أمره أَن يقرأه على أَهلهَا بِمحضر الْفَقِيه الْمُفْتِي السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الدكالي والفقيه الشريف السَّيِّد مُحَمَّد بن الطَّاهِر الفيلالي والفقيه الْكَاتِب السَّيِّد أبي الْقَاسِم الظياني والأمين السَّيِّد الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون الفاسي فَجَمعهُمْ الْمولى عَليّ فِي الْمَسْجِد الَّذِي بِبَاب دَاره بزقاق الْحجر وَقَرَأَ عَلَيْهِم الْكتاب الْمَذْكُور وَكَانَ الْمَسْجِد غاصا بالخاصة والعامة فازدحموا عَلَيْهِ ليروا الْكتاب بأعينهم وَأَكْثرُوا عَلَيْهِ فضجر وَقَامَ وَدخل دَاره وأغلقها عَلَيْهِ فَقَالَ بعض النَّاس إِن السُّلْطَان قد خلع نَفسه وَقَالَ لكم قدمُوا من ترضونه وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّه لم يخلع نَفسه وَجعل آخَرُونَ يقرعون بَاب الْمولى عَليّ وَيَقُولُونَ أخرج إِلَيْنَا كتاب السُّلْطَان حَتَّى نقرأه ونعلم مَا فِيهِ فَقَالَ لَهُم إِنِّي أحرقته فازدادوا رِيبَة وَصَدقُوا أَن السُّلْطَان قد خلع نَفسه وَاجْتمعَ رُؤَسَاء أهل فاس مِنْهُم الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الرزيق وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن سُلَيْمَان وعلال الْعَافِيَة وقدور بن عَامر الجامعي وَلم يكن من أهل فاس وَإِنَّمَا كَانَ قاطنا بالطالعة وَهَؤُلَاء من أهل عدوة الأندلس وَكَذَلِكَ عيرهم من أهل عدوة الْقرَوِيين واللمطيين ثمَّ جمعُوا الطّلبَة الَّذين حَضَرُوا قِرَاءَة الْكتاب وألزموهم أَن يكْتب كل وَاحِد مِنْهُم مَا سمع فَكتب لَك وَاحِد مَا ظهر لَهُ ثمَّ حازوا خطوطهم وخلصوا مِنْهَا مَا هُوَ مُرَادهم وَهُوَ أَن السُّلْطَان عجز وعزل نَفسه وَأمر النَّاس أَن ينْظرُوا لأَنْفُسِهِمْ هَذَا وَالْحَرب قَائِمَة بَين أهل فاس والودايا
فَكتب أهل فاس إِلَى قواد البربر يستنصرونهم على الودايا ويستقدمونهم للنَّظَر والخوض مَعَهم فِيمَن يتَوَلَّى أَمر النَّاس فَقدم الْحسن بن حمو واعزيز المطيري كَبِير آيت أدراسن فِي وُجُوه قومه وَقدم الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي كَبِير زمور وَبني حكم فِي وُجُوه قومه فَاجْتمعُوا بِأَهْل فاس وتفاوضوا فِي أَمر الْبيعَة فَوَقع اختيارهم على الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وَكَانَ ذَا سمت وانقباض وصهر السُّلْطَان على ابْنَته وَكَانَ يسكن بدرب ابْن زيان قرب الْمدرسَة العنانية فَكَانَ لَا يخرج إِلَّا من الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة يُصَلِّي بِالْمَدْرَسَةِ ثمَّ يعود إِلَى دَاره فاختاروه لذَلِك من غير اختبار وَلَا تمحيص ثمَّ قَالُوا إِن السُّلْطَان لَا بُد لَهُ من مَال وَرِجَال فتكفل ابْن واعزيز بِالرِّجَالِ وَقَالَ عندنَا من الْخَيل وَالرِّجَال مَا لن يغلب من قلَّة وتكفل الْحَاج الطَّالِب بن جلون بِالْمَالِ وأحال على جمَاعَة من التُّجَّار وَسَمَّاهُمْ وَذكر أَن السُّلْطَان لما عزم على السّفر إِلَى مراكش ودع عِنْدهم بواسطته مَالا لَهُ بَال وَلما تمّ لَهُم مَا أَرَادوا غدوا على الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد فأحضروه وشرطوا عَلَيْهِ شُرُوطًا مِنْهَا إِخْرَاج الودايا من فاس الْجَدِيد وَكَانُوا كلما شرطُوا عَلَيْهِ شرطا حرك لَهُم رَأسه أَي نعم ثمَّ بَايعُوهُ صَبِيحَة الرَّابِع وَالْعِشْرين من محرم سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَيُقَال إِنَّهُم لما خاطبوه أَولا امْتنع فَقَالُوا لَهُ إِن لم نُبَايِعك بَايعنَا رجلا من آل الْمولى إِدْرِيس رضي الله عنه فخاف خُرُوج الْأَمر من بَيتهمْ وَأجَاب وَالله أعلم وَحضر هَذِه الْبيعَة الشريف سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ ابْن عَليّ الوزاني وَالشَّيْخ أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الدرقاوي وَكَانَ ابْن الْغَازِي الزموري من أخص أَتْبَاعه وَهُوَ رَئِيس البربر فِي ذَلِك الْوَقْت وَعَلِيهِ وعَلى ابْن واعزيز كَانَت تَدور هَذِه الْأُمُور وحضرها أَيْضا أَبُو بكر مهاوش كَبِير آيت ومالو وَلما أحكموا أَمرهم كتبُوا إِلَى العبيد بمكناسة ليساعدوهم فامتنعوا إِلَّا أَن من كَانَ يبغض السُّلْطَان مِنْهُم وعدهم سرا ثمَّ كتبُوا إِلَى الودايا بِمثل مَا كتبُوا بِهِ إِلَى العبيد فَكَانُوا عَنْهَا أبعد فَبعث أهل فاس الشَّيْخ
أَبَا عبد الله الدرقاوي إِلَى الودايا ليَأْتِي بيعتهم وَكَانَ لَهُ فيهم أَتبَاع فقبضوا عَلَيْهِ وأودعوه السجْن وَكَتَبُوا بذلك إِلَى السُّلْطَان فَمَا سخط وَلَا رَضِي وَاسْتمرّ الْمولى إِبْرَاهِيم والبربر مقيمين بفاس إِلَى أَن نفذ مَا عِنْدهم من المَال الَّذِي أظهره لَهُم الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون فاتفق رَأْيهمْ على الْخُرُوج من فاس وَكَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ
مسير الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد إِلَى تطاوين ووفاته بهَا
لما نفذ مَا كَانَ عِنْد الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وشيعته من المَال واستهلكوه فِي غير فَائِدَة تفاوضوا فِيمَا يصنعون فأجمع رَأْيهمْ على أَن يَسِيرُوا إِلَى المراسي بِقصد فتحهَا والاستيلاء على مَالهَا فَخَرجُوا بالمولى إِبْرَاهِيم مستبدين عَلَيْهِ ضاربين على يَده وَإِنَّمَا الْمُتَصَرف والآمر والناهي هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان وَأما ابْن عبد الرزيق وَجَمَاعَة من أَصْحَابه الَّذين أسسوا هَذَا الْأَمر فَإِنَّهُم هَلَكُوا فِي حَرْب الودايا فِي عَشِيَّة وَاحِدَة فِي وقْعَة ظهر المهراس وحزت رؤوسهم وَبعث بهَا إِلَى السُّلْطَان بمراكش وَلما برزوا من فاس مروا بآيت يمور ونزلوا بالولجة الطَّوِيلَة وراودوا من هُنَالك من عرب بني حسن وَأهل الغرب ودخيسة وَأَوْلَاد نصير على الانخراط فِي سلكهم فَأَبَوا عَلَيْهِم وعزم الْقَائِد مُحَمَّد بن يشو على أَن يبيتهم بغارة شعواء تفرق جمعهم فَدس إِلَيْهِم مُحَمَّد بن قَاسم السفياني اللوشي وَكَانَ منحرفا عَن السُّلْطَان بِمَا عزم عَلَيْهِ ابْن يشو وَأَشَارَ عَلَيْهِم أَن يعبروا النَّهر إِلَى ناحيته ليحميهم مِمَّن أَرَادَهُم فعبروا إِلَيْهِ وانضم إِلَيْهِم فِيمَن مَعَه وَسَارُوا إِلَى قصر كتامة فنزلوا بالكدية الإسماعيلية وَمِنْهَا كتبُوا إِلَى أهل الثغور والعرائش وطنجة وتطاوين يَدعُونَهُمْ إِلَى بيعَة سلطانهم وَالدُّخُول فِي حزبهم فَأَما أهل العرائش وطنجة فَأَجَابُوا بِالْمَنْعِ وَقيل أَن أهل العرائش بَايعُوا ووفد عَلَيْهِ بَعضهم وَلَعَلَّ ذَلِك
كَانَ فِي ثَانِي حَال وَأما أهل تطاوين فامتثلوا وَكَانَ قَاضِي طنجة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْفُلُوس قد عزم على بيعَة الْمولى إِبْرَاهِيم فَنَذر بِهِ عاملها أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ السعيدي فنفاه وَقدم للْقَضَاء مَكَانَهُ الْفَقِيه الأديب أَبَا الْبَقَاء خَالِد الطنجي وَلما ورد على الْمولى إِبْرَاهِيم وَحزبه جَوَاب أهل تطاوين بِالْقبُولِ سَارُوا إِلَيْهَا فَدَخَلُوهَا واستولوا على مَال المرسى وعَلى مخازن السُّلْطَان وَمَا فِيهَا من سلَاح وكتان وملف وَغير ذَلِك فتوزعته البربر ثمَّ انتهبوا ملاح الْيَهُود واكتسحوه فعثروا فِيهِ على أَمْوَال طائلة يُقَال إِنَّهُم وجدوا بِهِ عددا كثيرا من فنائق الضبلون والبندقي فَكَانَ ابْن الْغَازِي الزموري وَغَيره من رُؤَسَاء ذَلِك الْجمع لَا يُعْطون أَصْحَابهم إِلَّا البندقي فَكثر جمعهم لذَلِك وَلما مَضَت لَهُم من قدومهم تطاوين سَبْعَة وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا توفّي الْمولى إِبْرَاهِيم رحمه الله وَكَانَ قد دَخلهَا مَرِيضا يُقَاد بِهِ فِي المحفة فأخفوا مَوته ودفنوه بداره وَكَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ
بيعَة الْمولى السعيد بن يزِيد بتطاوين ورجوعه إِلَى فاس
لما توفّي الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد اخفى رُؤَسَاء دولته مَوته لَيْلَتَيْنِ أَو ثَلَاثًا ثمَّ دعوا أهل تطاوين إِلَى بيعَة أَخِيه الْمولى السعيد بن يزِيد فافترقت كلمتهم فَمنهمْ من أَبى وَمِنْهُم من أجَاب فأحضر ابْن سُلَيْمَان وَابْن الْغَازِي وأشياعهما من أَبى من أهل تطاوين وألزموهم الْبيعَة فالتزموها وكتبوها وأحكموا عقدهَا وَكَانَ الْمُتَوَلِي يَوْمئِذٍ بتطاوين الْحَاج عبد الرَّحْمَن بن عَليّ أشعاش فأخروه وولوا مَكَانَهُ أَبَا عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن يُوسُف المسلماني وَكَانَ داهية شهما وبينما هم فِي ذَلِك ورد عَلَيْهِم الْخَبَر بمجيء السُّلْطَان من مراكش وَأَنه قد وصل إِلَى قصر كتامة ففت ذَلِك فِي عضدهم وَخَرجُوا مبادرين إِلَى فاس على طَرِيق الْجَبَل وَكَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ
مَجِيء السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان من مراكش إِلَى الْقصر ثمَّ مسيره إِلَى فاس وحصاره إِيَّاهَا
كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله فِي هَذِه الْمدَّة مُقيما بمراكش وَكَانَ العبيد قد ندموا على مَا فرط مِنْهُم برباط الْفَتْح من التَّخَلُّف عَن السُّلْطَان وَنهب أثاثه حَسْبَمَا مر فَجعلُوا يَتَسَلَّلُونَ إِلَيْهِ من مكناسة مثنى وفرادى حَتَّى اجْتمع عِنْده جلهم لَا سِيمَا من كَانَ مِنْهُم مَعْرُوفا بِعَيْنِه مثل القواد وأرباب الْوَظَائِف وَلما بلغه مَا كَانَ من بيعَة الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد تربص قَلِيلا حَتَّى إِذا بلغه خُرُوجه إِلَى المراسي قلق وَخرج من مراكش فِي جَيش العبيد وَبَعض قبائل الْحَوْز يبادره إِلَيْهَا وَلما وصل إِلَى رِبَاط الْفَتْح عبر إِلَى سلا وَنزل بِرَأْس المَاء وَلما حضرت الْجُمُعَة دخل الْمَدِينَة فصلى بالجامع الْأَعْظَم مِنْهَا وَدخل دَار الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الله معنينو من أَعْيَان أهل سلا واستصحب مَعَه الْفَقِيه الْمُؤَقت أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمَكِّيّ الزواوي من أهل سلا أَيْضا بِقصد الْقيام بوظيفة التَّوْقِيت وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى قصر كتامة أَتَاهُ الْخَبَر بِدُخُول الْمولى إِبْرَاهِيم إِلَى تطاوين فَأَقَامَ هُنَالك وَكتب إِلَى الودايا وَإِلَى من بَقِي بمكناسة يحضهم على التَّمَسُّك بِالطَّاعَةِ وَكتب إِلَى وَلَده الْمولى الطّيب بفاس الْجَدِيد يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ بالفقيه الأديب أبي عبد الله مُحَمَّد أكنسوس وَهُوَ صَاحب كتاب الْجَيْش
قَالَ أكنسوس فقدمنا على السُّلْطَان بريصانة على مرحلَتَيْنِ من الْقصر قَاصِدا تطاوين ومحاصرة الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد بهَا قَالَ فورد عَلَيْهِ كتاب من عِنْد الْقَائِد أبي عبد الله الْعَرَبِيّ السعيدي صَاحب طنجة بوفاة الْمولى إِبْرَاهِيم وبيعة أَخِيه الْمولى السعيد وَأَنَّهُمْ قد عَادوا بِهِ إِلَى فاس وَلما تحقق بذلك رَجَعَ على طَرِيق الْقصر يؤم فاسا ويسابق السعيد إِلَيْهَا فوافياها فِي يَوْم وَاحِد فَنزل السعيد بجموعه بقنطرة سبو وَدخل السُّلْطَان دَار الْإِمَارَة بفاس الْجَدِيد مَعَ الودايا وَلما كَانَ فجر الْغَد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة أغارت خيل الودايا
على محلّة الْمولى السعيد بالقنطرة فانتسفوها بِمَا فِيهَا وَقتلُوا من البربر وَأهل فاس وَغَيرهم خلقا كثيرا واحتووا على أَمْوَال طائلة مِمَّا كَانَت البربر قد نهبته من ملاح تطاوين وأفلت الْمولى السعيد وبطانته بجريعة الذقن ودخلوا فاسا فأغلقوها عَلَيْهِم وثابت إِلَيْهِم نُفُوسهم وَفِي هَذِه الْأَيَّام قتل الْمعلم الْأَكْبَر أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد عنيقيد التطاوني وَكَانَ عجبا فِي صناعَة الرَّمْي بالمهراس وَكَانَ الْمولى السعيد قد أَتَى بِهِ من تطاوين ليحاصر بِهِ على فاس الْجَدِيد فَدس إِلَيْهِ السُّلْطَان من قَتله ناداه رجل وَهُوَ فِي محلّة أَصْحَابه لَيْلًا يَا فلَان أجب مَوْلَانَا السُّلْطَان فَظن أَنه دعِي إِلَى الْمولى السعيد فَقَالَ هَا أَنا ذَا وبرز من خبائه فَرَمَاهُ الْمُنَادِي برصاصة كَانَ فِيهَا حتفه ثمَّ عزم السُّلْطَان على محاصرة فاس حَتَّى يفيئوا إِلَى أَمر الله وَلَكِن اكْتفى من الْحصار بمنعهم من الدُّخُول وَالْخُرُوج وَكَانَ الودايا قد ألحوا عَلَيْهِ فِي أَن يرميهم بالبنب فَأبى رحمه الله وَقَالَ لَو كَانَت البنبة الَّتِي نرميها تذْهب حَتَّى تقع بدار ابْن سُلَيْمَان أَو بدار الطّيب البياز أَو غَيرهمَا من رُؤُوس الْفِتْنَة لفعلنَا وَلَكِن إِنَّمَا تقع فِي دَار أرملة أَو يَتِيم أَو ضَعِيف حَبسه الْعَجز مَعَهم ثمَّ إِن أهل فاس بدؤوا بِالرَّمْي وَكَانَ مَعَهم سعيد الْعجل عَارِفًا بِالرَّمْي فَجعلُوا يقصدون دَار السُّلْطَان فَوَقَعت بنبة بالموضع الَّذِي كَانَ يجلس فِيهِ للْقِرَاءَة وَوَقعت أُخْرَى بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي بِبَاب دَاره وَكَانَ بهَا جمَاعَة من طبجية سلا ورباط الْفَتْح فقتلت مِنْهُم أَربع نفر مِنْهُم الباشا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حُسَيْن فنيش السلاوي فَعِنْدَ ذَلِك حنق السُّلْطَان وَأمر أَن يُؤْتى بالمهاريس الْكِبَار من طنجة من فرمة ثَمَانِينَ إِلَى فرمة مائَة فجيء بهَا ونصبها عَلَيْهِم فَكَانَ الْقِتَال لَا يفتر لَيْلًا وَنَهَارًا والكور والبنب تخْتَلف بَين أهل البلدين فِي كل وَقت وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك قَرِيبا من عشرَة أشهر وَلَا يدْخل أحد إِلَى فاس وَلَا يخرج مِنْهَا إِلَّا على خطر وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة نَهَضَ السُّلْطَان إِلَى طنجة للنَّظَر فِي أَمر تطاوين الْخَارِجَة عَلَيْهِ بعد أَن تقدم إِلَى الودايا فِي الْحصار والتضييق على فاس إِلَى
أَن يعود إِلَيْهِم وَلما اسْتَقر بطنجة بعث إِلَى أهل تطاوين وراودهم على الرُّجُوع إِلَى الطَّاعَة فَأَبَوا ولجوا فِي عصيانهم فَبعث إِلَيْهِم جَيْشًا كثيفا مَعَ الْقَائِد حمان الصريدي البُخَارِيّ فَنزل بوادي أبي صفيحة وحاصرهم مُدَّة فَكَانَت الْحَرْب بَينه وَبينهمْ سجالا مرّة لَهُ وَمرَّة عَلَيْهِ وَهَلَكت نفوس من أَعْيَان تطاوين وَغَيرهم
مَجِيء الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام من الصويرة إِلَى الغرب واستخلافه بفاس وَمَا تخَلّل ذَلِك
كَانَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فِي ابْتِدَاء أمره بتافيلالت وَلما توسم فِيهِ عَمه الْمولى سُلَيْمَان مخايل الْخَيْر والنجابة استقدمه مِنْهَا وولاه على الصويرة وأعمالها فكفاه أمرهَا وَقَامَ بشأنها ثمَّ لما كَانَ الْمولى سُلَيْمَان بطنجة فِي هَذِه الْمرة واستعصى عَلَيْهِ أَمر فاس وتطاوين وانصرم فصل الشتَاء وَأَقْبل فصل الرّبيع كتب إِلَى ابْن أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور يَأْمُرهُ بالقدوم عَلَيْهِ فِي قبائل الْحَوْز ويلقاه بهم برباط الْفَتْح وَكَانَ غَرَض السُّلْطَان أَن يزحف بهم إِلَى فاس إِلَّا أَن السياسة اقْتَضَت أَن يكون الْأَمر هَكَذَا فَجمع الْمولى عبد الرَّحْمَن قبائل الْحَوْز وقواده وَقدم بهم إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَلما لم يَجدوا السُّلْطَان بِهِ تثاقلوا عَن العبور مَعَ الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى بِلَاد الغرب لِأَن السُّلْطَان إِنَّمَا وعدهم أَن يلقوه برباط الْفَتْح فَكتب الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى عَمه يُعلمهُ بِصُورَة الْحَال وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه قد استوزر فِي هَذِه الْمدَّة الْفَقِيه أَبَا عبد الله أكنسوس فَبَعثه إِلَى الْمولى عبد الرَّحْمَن وأصحبه مَالا يفرقه على جَيْشه لينشطوا للقدوم وَكَانَ قدر المَال خمسين أُوقِيَّة لكل فَارس وَأمره إِذا قدم أَرض سلا أَن ينزل عِنْد عاملها أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي عزة الْمَعْرُوف بِأبي جميعة وَبعث للْمولى عبد الرحمن ليعبر إِلَيْهِ فِي وُجُوه الْجَيْش لقبض الصِّلَة وَلَا يذكر لَهُم سفرا فَإِذا قبضوها فليقرأ عَلَيْهِم كِتَابه وَكَانَ مضمنه أَنه يَأْمُرهُم بالقدوم عَلَيْهِ لقصر كتامة لقبض الْكسْوَة
الَّتِي أَتَى بهامن طنجة وَحِينَئِذٍ يذهب مَعَهم السُّلْطَان إِلَى الْحَوْز فَفعل الْوَزير ذَلِك كُله وَتقدم الْمولى عبد الرَّحْمَن فِي جَيْشه إِلَى قصركتامة
قَالَ الْوَزير الْمَذْكُور فَلَمَّا جِئْنَا الْقصر وجدنَا السُّلْطَان لَا زَالَ مُقيما بطنجة فتقدمت إِلَيْهِ وأعلمته بوصول الْمولى عبد الرَّحْمَن وجيشه إِلَى الْقصر فَخرج السُّلْطَان من طنجة وَجعل طَرِيقه على آصيلا وَلما بَات بسوق الْأَحَد بالغربية بعث إِلَيْهِ الْمولى المجذوب سَيِّدي مُحَمَّد بن مَرْزُوق يَدعُوهُ للقدوم عَلَيْهِ والبيات عِنْده فَأجَاب دَعوته وَدخل عَلَيْهِ وتبرك بِهِ وَمن هُنَاكَ كتب إِلَى ابْن أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن أَن يتَقَدَّم بالجيش إِلَى العرائش ويلقاه بِهِ هُنَالك فَفعل الْمولى عبد الرَّحْمَن وَهُنَاكَ اجْتمع بِعَمِّهِ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فسر بمقدمه ودعا لَهُ بِخَير وَأثْنى عَلَيْهِ بِمحضر أُولَئِكَ الْمَلأ من النَّاس ثمَّ دَعَا السُّلْطَان قواد الْحَوْز فيهم الْقَائِد عبد الْملك بن بيهي والقائد عَليّ بن مُحَمَّد الشيظمي وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن الغنيمي نَائِبا عَن الْحَاج حمان الْعَبْدي وَكَانَ فِي ركابه ابْنه فضول بن حمان صَغِيرا والقائد بلعباس بن المزوار الدكالي البوزراري والحاج الْعَرَبِيّ بن رقية البوزراري والقائد مُحَمَّد بن حَدِيدَة البوعزيزي والقائد الْمُعْطى الحمري والقائد الصّديق ابْن الْفَقِيه العمراني وَلم يكن فيهم من الرحامنة إِلَّا الْحَاج الْمُعْطى بن مُحَمَّد الْحَاج وَلم يكن فيهم من السراغنة وَلَا من الشاوية أحد وَلما اجْتَمعُوا خرج عَلَيْهِم السُّلْطَان وَجلسَ على طنفسة ثمَّ دَعَا بالقائد عبد الْملك بن بيهي فأجلسه إِلَى جنبه ودعا لَهُ بِخَير ثمَّ قَالَ إِنَّكُم تعبتم فِي سَبِيل الله وَنحن أتعب مِنْكُم ونسأل الله أَن لَا يضيع أجرنا وأجركم وأعلموا أَنكُمْ فِي طَاعَة الله وَطَاعَة رَسُوله وَلكم المزية التَّامَّة وَقد وَجب علينا الْإِحْسَان إِلَيْكُم وَقد ظهر لي أَنكُمْ حِين وصلتم إِلَى هَذَا الْمحل لَا يَنْبَغِي لكم أَن ترجعوا بِدُونِ زِيَارَة مَوْلَانَا إِدْرِيس وَكنت أردْت أَن أوجهكم إِلَى بِلَادكُمْ من هُنَا وَلَكِن أَنا لايمكنني أَن أرجع إِلَّا بعد أَن يحكم الله بيني وَبَين هَؤُلَاءِ الخارجين عَن الْحق وَأَنْتُم لَا يجمل بكم أَن ترجعوا بِغَيْر سُلْطَان فَاصْبِرُوا قَلِيلا وتمموا عَمَلكُمْ حَتَّى تذْهبُوا إِن شَاءَ الله بسلطانكم فرحين مستبشرين
فَقَالُوا كلهم سمعا وَطَاعَة لَا نُفَارِقك حَتَّى نرْجِع بك وَلَو مكثنا عشر سِنِين وعَلى أثر هَذَا عقد السُّلْطَان لقائد خيل الْجَيْش البُخَارِيّ الْحَاج إِبْرَاهِيم بن رزوق على مِائَتَيْنِ من الْخَيل مَفْرُوضَة من الحوزية وَالْعَبِيد وَأمره أَن يسير إِلَى تطاوين وَيُقِيم بمرتيل وَيمْنَع أَهلهَا من الْوُصُول إِلَى المرسى فَفعل وارتحل السُّلْطَان من العرائش يُرِيد فاسا فِي قبائل الْحَوْز فَمر بِبِلَاد سُفْيَان وَنزل بسوق الْأَرْبَعَاء مِنْهَا قرب ضريح سَيِّدي عِيسَى بن الْحسن المصباحي فَأَصَابَهُ مرض هُنَالك وَورد عَلَيْهِ الْخَبَر بِأَن إِبْرَاهِيم بن رزوق قد كاده صَاحب تطاوين الْعَرَبِيّ بن يُوسُف حَتَّى قبض عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه وسلبهم وسجنهم فآلم هَذَا الْخَبَر السُّلْطَان وزاده إِلَى مَا بِهِ من الْمَرَض ثمَّ أبل مِنْهُ بعد أَيَّام فَنَهَضَ إِلَى فاس وعرج على طَرِيق تازا وَلما بَات بسوق الْخَمِيس بالكور من بِلَاد الحياينة أغارت عَلَيْهِ غياثة وَمن شايعهم من أهل تِلْكَ النواحي وَكَانُوا قد دخلُوا فِي بيعَة أبي يزِيد فَدَارُوا بالمحلة ونضحوها بالرصاص فَقَامَ السُّلْطَان وَجعل يسكن النَّاس بِنَفسِهِ ونهاهم عَن الرّكُوب وَالِاضْطِرَاب فحفظ الله الْمحلة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَلم يصب أحد من النَّاس وَلَا من الدَّوَابّ وأصبحت قَتْلَى الْعَدو مصرعة حول الْمحلة ثمَّ دخل السُّلْطَان مَدِينَة تازا فوفد عَلَيْهِ بهَا أهل الرِّيف وعرب آنقاد والصحراء وَجعلُوا يزدحمون عَلَيْهِ ليروا وَجهه وَيَقُولُونَ إِنَّه وَالله للسُّلْطَان لِأَن أهل فاس كَانُوا يشيعون مَوته ويكتبون بذلك إِلَى الْقَبَائِل ثمَّ تقدم السُّلْطَان إِلَى فاس فَنزل بقنطرة وَادي سبو وَذَلِكَ أَوَاخِر رَجَب سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَكَانَ أهل فاس قد سئموا الْحَرْب وعضهم الْحصار وملوا دولة أبي يزِيد فاختلفت كلمتهم عِنْد مَا قدم السُّلْطَان وهاجت الْحَرْب دَاخل الْبَلَد بَين شيعَة السُّلْطَان وشيعة السعيد فكثرهم شيعَة السُّلْطَان وفتحوا الْبَاب وَخَرجُوا إِلَيْهِ بالأشراف وَالصبيان والمصاحف وتهافتوا على فسطاطه تَائِبين خاضعين وَجَاء السعيد فِي جوَار الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَمَعَهُ الْأمين الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون فَكَانَ جَوَاب السُّلْطَان لَهُم أَن قَالَ {قَالَ لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} يُوسُف 92 وَكَانَ رحمه الله قد رأى
وَهُوَ سَائِر إِلَى فاس رُؤْيا وَهِي أَنه دخل فاسا وزار تربة الْمولى إِدْرِيس رضي الله عنه وقلده سَيْفا وَصعد الْمنَار وَأذن فَكَانَ من عَجِيب صنع الله أَن فتح عَلَيْهِ فاسا ودخلها وزار الْمولى إِدْرِيس وَأذن بمنارة على الْهَيْئَة الَّتِي رأى وَجَاء رجل من أَوْلَاد الْبَقَّال فقلده سَيْفا تَصْدِيقًا للرؤيا وَلما دخل ضريح الْمولى إِدْرِيس وجد الشريف الْبركَة سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني هُنَالك فَعَاتَبَهُ السُّلْطَان عتابا خَفِيفا وَزَالَ مَا بصدره عَلَيْهِ وانقطعت أَسبَاب الْفِتَن وَالْحَمْد لله
وَاعْلَم أَن مَا صدر من أهل فاس وَمن وافقهم على هَذِه الْبيعَة لَا لوم عَلَيْهِم فِيهِ وماكان من حق السُّلْطَان رحمه الله أَن يبْعَث إِلَيْهِم بذلك الْكتاب الَّذِي أوقعهم فِي حيص بيص وَكَانَ سَببا لهَذِهِ الْفِتَن وَقَول أكنسوس إِن السُّلْطَان أَرَادَ تهييجهم على التَّمَسُّك بِطَاعَتِهِ كَمَا فعل مَعَ أهل مراكش لَيْسَ بِشَيْء أَو مَا علم السُّلْطَان رحمه الله كَلَام الكبراء خُصُوصا الْمُلُوك مِمَّا تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله وَأَن الْعَامَّة إِذا نقلته وَضعته غَالِبا فِي غير مَحَله وَفِي الصَّحِيح أَن عمر رضي الله عنه بلغه وَهُوَ بمنى أَن رجلا قَالَ وَالله لَو قد مَاتَ عمر لبايعنا فلَانا يُرِيد رجلا من غير قُرَيْش فَقَالَ عمر رضي الله عنه لأقومن العشية فأحذر هَؤُلَاءِ الرَّهْط الَّذين يُرِيدُونَ أَن يغصبوهم فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رضي الله عنه لَا تفعل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن الْمَوْسِم يجمع رعاع النَّاس يغلبُونَ على مجلسك فَأَخَاف أَن يسمعوا مِنْك كلمة فَلَا ينزلوها على وَجههَا ويطيروا بهَا عَنْك كل مطير فامهل حَتَّى تقدم الْمَدِينَة دَار الْهِجْرَة وَدَار السّنة فتخلص بأصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فيحفظوا مَقَالَتك وينزلوها على وَجههَا فَقَالَ عمر وَالله لأقومن بِهِ فِي أول مقَام أقومه بِالْمَدِينَةِ الحَدِيث فَانْظُر كَيفَ منع عبد الرَّحْمَن عمر رضي الله عنه من الْكَلَام بِالْمَوْسِمِ وبمحضر الْعَامَّة خوفًا من وُقُوع الْفِتْنَة وانقاد لَهُ عمر حَيْثُ علم أَن ذَلِك هُوَ الصَّوَاب وَكَانَ وقافا عِنْد الْحق هَذَا وَالنَّاس نَاس وَالزَّمَان زمَان وَفِي خير الْقُرُون فَكيف فِي زمَان قل علمه وَكثر
جَهله وغاض خَيره وفاض شَره وَأمر السُّلْطَان متداع مختل والفتنة قَائِمَة على سَاق كَمَا رَأَيْت فَلهَذَا قُلْنَا مَا كَانَ من حق السُّلْطَان أَن يبْعَث بذلك الْكتاب الموجه بمقصدين الْمُحْتَمل احْتِمَالَيْنِ وَلَكِن قَضَاء الله غَالب
وَلما افْتتح السُّلْطَان رحمه الله فاسا وَصفا لَهُ أمرهَا عزم على النهوض إِلَى تطاوين فاستخلف على فاس وأعمالها ابْن أَخِيه الْفَارِس الأنجد السّري الأسعد الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام لعدالته وكفايته وَحسن سياسته وَأخذ مَعَه الْمولى السعيد بن يزِيد وَخرج فِي جَيش الودايا وَالْعَبِيد وقبائل الْحَوْز أَوَائِل شعْبَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف فَجعل طَرِيقه على بِلَاد سُفْيَان وَلما وصل إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بِالْحجرِ الْوَاقِف بَين نهري سبو وورغة قدم عَلَيْهِ هُنَالك الْقَائِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن العامري اليحياوي فِي قومه بني حسن والقائد أَبُو عبد الله مُحَمَّد المعتوجي السفياني وقاسم بن الْخضر فِي قومهما سُفْيَان وَبني مَالك وَقدم عَلَيْهِ هُنَالك أَوْلَاد الشَّيْخ أبي عبد الله سَيِّدي الْعَرَبِيّ الدرقاوي صبية صغَارًا يشفعون فِي أَبِيهِم ليسرحه لَهُم فوصلهم وكساهم وَقَالَ لَهُم وَالله مَا سجنته وَلَا أمرت بسجنه وَلَكِن اتركوه فسيسرحه الله الَّذِي سجنه فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ بَقِي فِي السجْن حَتَّى توفّي السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وبويع الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فَافْتتحَ عمله بتسريحه وَلما نزل السُّلْطَان رَحمَه بمشرع مسيعيدة من نهر سبو وَفد عَلَيْهِ أهل تطاوين تَائِبين وَمَعَهُمْ قائدهم الْعَرَبِيّ بن يُوسُف المسلماني وَكَانَ النَّاس يظنون أَنه ينكل بِهِ وبمن قَامَ مَعَه فِي الْفِتْنَة فَلم يفل لَهُم إِلَّا خيرا حَتَّى لقد قَالَ لَهُ ابْن يُوسُف يَا مَوْلَانَا إِن أهل تطاوين لم يَفْعَلُوا شَيْئا وَإِنِّي أَنا الَّذِي فعلت يُرِيد أَن يبرئهم ويفديهم بِنَفسِهِ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان رحمه الله مَا عنْدك مَا تفعل أَنْت وَلَا هم وَإِنَّمَا الْفَاعِل هُوَ الله تَعَالَى وصفح عَنْهُم وَأحسن إِلَيْهِم وَلما صفا أَمر تطاوين وَلم يبْق بِبِلَاد الغرب مُنَازع انْقَلب السُّلْطَان رَاجعا إِلَى الْحَوْز وجد السّير إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة
وقْعَة زَاوِيَة الشرادي وَمَا جرى فِيهَا على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله
هَؤُلَاءِ الشراردة أصلهم من عرب معقل من الصَّحرَاء وهم طوائف زُرَارَة والشبانات وهم الخلص مِنْهُم ويضاف لَهُم بعض أَوْلَاد دليم وتكنة وذوو بِلَال وَغَيرهم وَكَانَت مَنَازِلهمْ فِي دولة السُّلْطَان الْأَعْظَم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله غربي مراكش على بعض يَوْم مِنْهَا فَنَشَأَ فيهم الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الشرادي من أهل الصّلاح زمن أَصْحَاب الشَّيْخ سَيِّدي أَحْمد بن نَاصِر الدرعي فاعتقدوه وَرُبمَا ناله بعض الْإِحْسَان من السُّلْطَان الْمَذْكُور ثمَّ نَشأ ابْنه السَّيِّد أبي مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس فَجرى مجْرى أَبِيه وَبنى الزاوية المنسوبة إِلَيْهِم واعتقده قومه أَيْضا بل وَغَيرهم
فقد ذكر صَاحب نشر المثاني أَن السَّيِّد مُحَمَّدًا هَذَا لما قدم من الْحَج سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وَألف اجتاز بِمَدِينَة فاس فَاجْتمع عَلَيْهِ نَاس مِنْهَا وتلمذوا لَهُ وبنوا لَهُ زَاوِيَة بدرب الدرج من عدوة الأندلس وَأثْنى عَلَيْهِ وعَلى أَبِيه فَانْظُرْهُ ثمَّ جَاءَ ابْنه الْمهْدي بن مُحَمَّد فسلك ذَلِك المسلك أَيْضا وَنَشَأ فِي دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله وَاتخذ شَيْئا من كتب الْعلم من غير أَن يكون لَهُ فِيهِ يَد تعْتَبر ثمَّ تظاهر بِمَعْرِِفَة السيميا والحدثان فازداد ناموسه وَتمكن من جهلة قومه وَرُبمَا نمى شَيْء من أمره إِلَى السُّلْطَان فتغافل عَنهُ ثمَّ لما قدم السُّلْطَان رحمه الله مراكش هَذِه الْمرة وجد أمره قد زَاد واستفحل وَكَانَ الشراردة يَوْمئِذٍ قد حسنت حَالهم فأثروا وكثروا وَكَانَ السُّلْطَان قد ولى عَلَيْهِم رجلا مِنْهُم اسْمه قَاسم الشرادي فَحدث بَينه وَبَين الْمهْدي مَا يحدث بَين المرابطين وأرباب الْولَايَة وَكَانَ رُبمَا التجأ جَان إِلَى زَاوِيَة الْمهْدي فَيقبض عَلَيْهِ الْقَائِد ويخرجه مِنْهَا فاستحكمت الْعَدَاوَة بَين الْقَائِد وَبَين الْمهْدي ثمَّ جرى شنآن بَين الْمهْدي وَبَين بعض قرَابَته ففر ذَلِك الْقَرِيب إِلَى مراكش وَكَانَ الْقَائِد قَاسم بهَا فَشَكا إِلَيْهِ عَمه الْمهْدي فاغتنمها
الْقَائِد وَدخل على السُّلْطَان فشرح لَهُ حَال الْمهْدي وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من التهور والسمو بِنَفسِهِ إِلَى الْمحل الَّذِي لَا يبلغهُ وَأَنه لَا يَسْتَقِيم أَمر المخزن بِتِلْكَ الْقَبِيلَة مَعَه وَلم يزل بِهِ حَتَّى أعطَاهُ السُّلْطَان مِائَتَيْنِ من الْخَيل أغار بهَا على الزاوية فانتهبوها على حِين غَفلَة من أَهلهَا وجلهم غَائِب فِي أَعماله فتسامعوا بِأَن الْخَيل قد عاثت فِي دِيَارهمْ وجاؤوا على الصعب والذلول وأوقعوا بخيل المخزن واستلبوهم من خيلهم وسلاحهم وعادوا إِلَى مراكش راجلين فَعظم ذَلِك على السُّلْطَان واغتاظ وَاتفقَ أَن كَانَ مَعَ السُّلْطَان عَامل مراكش أَبُو حَفْص عمر بن أبي سِتَّة وعامل الرحامنة الْقَائِد قَاسم الرحماني وَكِلَاهُمَا عَدو للشراردة لَا سِيمَا الرحماني فشنعوا فِي ذَلِك بِمحضر السُّلْطَان وأسدوا وألحموا فِي غَزْو الشراردة وتأديبهم حَتَّى لَا يعودوا لمثلهَا وَفِي أثْنَاء ذَلِك نَدم الشراردة على مَا كَانَ مِنْهُم وبعثوا إِلَى السُّلْطَان بالشفاعات وذبحوا عَلَيْهِ وعَلى صلحاء مراكش فَلم يقبل مِنْهُم وَيُقَال إِن ذَلِك لم يكن يبلغ السُّلْطَان لِأَن النَّقْض والإبرام إِنَّمَا كَانَ لعمر بن أبي سِتَّة وقاسم الرحماني وَكَانَ السُّلْطَان رحمه الله كالمغلوب على أمره مَعَهُمَا فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى بعث إِلَى قبائل الْحَوْز يستنفرهم لغزو الشراردة فَاجْتمعُوا عَلَيْهِ وَكَانَ مَعَه جَيش الودايا وكبارهم مثل الطَّاهِر بن مَسْعُود الحساني والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر وَغَيرهمَا وَمَعَهُ الْقَائِد مُحَمَّد بن العامري فِي بني حسن وَغَيرهم من قبائل الغرب
وَلما أجمع السُّلْطَان الْخُرُوج إِلَيْهِم قدم أَمَامه قاسما الرحماني إِذْ كَانَ قد تكفل لَهُ بِأَن يَكْفِيهِ أَمر الشراردة وَحده فَكَانَ متسرعا إِلَيْهِم قبل كل أحد فرابط بِعَين دادة ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا والوسائط تَتَرَدَّد بَين السُّلْطَان وَبَين الشراردة وكادت كلمتهم تخْتَلف إِذْ قَامَ فيهم رجل مرابط اسْمه الحبيب من أَوْلَاد سَيِّدي أَحْمد الزاوية وَبعث نَحْو الْأَرْبَعين من الشراردة إِلَى السُّلْطَان سعيا فِي الصُّلْح فَأَشَارَ الرحماني وَابْن أبي سِتَّة فِيمَا قيل على السُّلْطَان بِالْقَبْضِ
عَلَيْهِم فَقبض عَلَيْهِم وحيزت خيلهم وسلاحهم فشرى الدَّاء وأعوز الدَّوَاء ثمَّ زحف السُّلْطَان وانتشبت الْحَرْب أول النَّهَار وَلما اشْتَدَّ الْحر وَكَانَ الزَّمَان زمَان مصيف تحاجزوا ثمَّ عَاد قَاسم الرحماني فأنشب الْحَرْب مَعَ الْعشي فَكَانَت الدبرة عَلَيْهِ وَقتل وَحمل رَأسه على رمح وَانْهَزَمَ جَيش المخزن وَوَقع الفشل فِي الْمحلة فتفرقت الْقَبَائِل وَبَاتُوا لَا يلوون على شَيْء وَلما طلع النَّهَار لم يبْق مَعَ السُّلْطَان إِلَّا جَيش المخزن فزحف الشراردة إِلَى الْمحلة وَرَأَوا السُّلْطَان قد بَقِي فِي قلَّة فطمعوا فِيهِ وأنشبوا الْحَرْب فَانْهَزَمَ الْجَيْش الَّذين كَانُوا مَعَ السُّلْطَان وَتركُوا الْمحلة بِمَا فِيهَا فتوزعتها الشراردة شذر مذر وانحاز السُّلْطَان فِي حَاشِيَته وَقصد مراكش فلقيتهم فِي طريقهم ساقية مَاء حبستهم عَن الْمُرُور وخالط الشراردة الْقَوْم الَّذين كَانُوا مَعَ السُّلْطَان وَجعلُوا يستلبون من ظفروا بِهِ مِنْهُم وتراكم المنهزمة على السُّلْطَان ولجؤوا إِلَيْهِ وَقتل الشراردة عمر بن أبي سِتَّة خلف ظَهره
وَلما رأى السُّلْطَان رحمه الله ذَلِك نَادَى فِي النَّاس أَن لَا يقتل أحد نَفسه على وَلَا على هَذِه الأسلاب أعطوهم مِنْهَا مَا شاؤوا وَاجْتمعَ نَحْو الْعشْرين من كبار الشراردة وتقدموا إِلَى السُّلْطَان فَقَالُوا يَا مَوْلَانَا تحيز إِلَيْنَا لِئَلَّا تصيبك الْعَامَّة فانحاز إِلَيْهِم وَكَانَ رَاكِبًا على بغلته فالتفوا عَلَيْهِ وَسَارُوا بِهِ إِلَى زاويتهم وأنزلوه بِالدَّار الْمَعْرُوفَة عِنْدهم بدار الْمَوْسِم واحترموه وغدوا وراحوا فِي خدمته وَكَانَ مَعَ وصيفه فرجى صَبيا صَغِيرا وَهُوَ الَّذِي ولي إِمَارَة فاس الْجَدِيد فِي دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَكَانَ مَعَه أَيْضا عبد الْخَالِق بن كريران الحريزي شَابًّا كَمَا بقل عذاره وَبَقِي عِنْدهم ثَلَاثَة أَيَّام وَحَضَرت الْجُمُعَة فَصلاهَا عِنْدهم وخطبوا بِهِ وَمن الْغَد ركبُوا مَعَه وصحبوه إِلَى مراكش إِلَى أَن وصلوا إِلَى عين أبي عكاز فودعوه وَرَجَعُوا وَمِمَّا قَالَ لَهُم عِنْد الْوَدَاع إِن الَّذين أَرَادوا أَن يفتحوا بَاب الْفِتْنَة على النَّاس قد سد الله أَبْوَابهَا برؤوسهم يَعْنِي الرحامنة وَبعد وُصُول السُّلْطَان إِلَى مراكش
بِيَوْم أَو نَحوه عدا الرحامنة على مُحَمَّد بن أبي سِتَّة فَقَتَلُوهُ بِسَبَب أَن الشراردة كَانُوا قد أسروه ثمَّ استحيوه وَاتَّخذُوا عِنْده عهدا ويدا بِأَنَّهُ إِذا أفضت إِلَيْهِ ولَايَة مراكش بعد أَخِيه عمر الْمَقْتُول يحسن فِي إدارة أَمرهم عِنْد السُّلْطَان فَسمع الرحامنة بذلك فَقَتَلُوهُ
قَالَ صَاحب الْجَيْش لما عزم السُّلْطَان على الْخُرُوج إِلَى زَاوِيَة الشرادي بَعَثَنِي قبل ذَلِك بِثَلَاث إِلَى السوس فِي شَأْن ابْن أَخِيه الْمولى بناصر بن عبد الرَّحْمَن وَكَانَ عَاملا عَلَيْهَا فكثرت الشكايات بِهِ إِلَى السُّلْطَان فَبَعَثَنِي فِي شَأْنه فَلَمَّا جِئْت تارودانت تربصت قَلِيلا فَلم يفجأنا إِلَّا خبر الْهَزِيمَة على السُّلْطَان بالروايات الْمُخْتَلفَة فَقَائِل يَقُول إِنَّه قد قتل وَآخر يَقُول إِنَّه قد مَاتَ حتف أَنفه وَآخر يَقُول لَا بَأْس عَلَيْهِ ثمَّ ورد علينا كِتَابَانِ من عِنْد السُّلْطَان أَحدهمَا بِخَط الْكَاتِب مطبوعا وَالْآخر بِخَط يَده تَحْقِيقا لسلامته يَقُول فِيهِ إِن هَذِه الْحَرَكَة مَا وَقعت إِلَّا لهلاك الظلمَة والملبسين علينا المظهرين للمحبة لنا وهم فِي الْبَاطِن أعدى الأعادي مثل قَاسم الرحماني وَفُلَان وَفُلَان وَأما أَوْلَاد أبي سِتَّة فقد قتل زُرَارَة عمر على رَائِحَة الرحامنة وَقتل الرحامنة مُحَمَّدًا على رَائِحَة أهل السوس والشريف سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الْجَلِيل الوزاني أَصَابَته رصاصة رِعَايَة رحمه الله عَلَيْهِ وَالْحَاصِل هان علينا كسر الخابية بِمَوْت الفار وَقد أَحْسَنت فِي التَّرَبُّص فاترك الْأَمر على طيته واصحب مَعَك أَشْيَاخ السوس وعدهم منا بِالْإِحْسَانِ ومساعدتهم على مَا يطلبونه منا وَالسَّلَام اه
وَلما دخل السُّلْطَان مراكش رَاجع الْقَوْم الَّذين انْهَزمُوا عَنهُ بصائرهم وَأَقْبلُوا إِلَيْهِ خاضعين تَائِبين وعَلى أبوابه فِي الْعَفو راغبين فَمَا وَسعه إِلَّا الْإِعْرَاض عَن أفعالهم الذميمة وطاعتهم السقيمة وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه ثمَّ أَمرهم بالتهيىء لغزو برابرة الغرب فتوجهوا إِلَى بِلَادهمْ ليأتوا بحصصهم إِلَى عيد المولد الْكَرِيم فانقضى أَجله رَحمَه الله
وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رحمه الله
كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله فِي هَذِه الْمدَّة قد سئم الْحَيَاة ومل الْعَيْش وَأَرَادَ أَن يتْرك أَمر النَّاس لِابْنِ أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام ويتخلى هُوَ لعبادة ربه إِلَى أَن يَأْتِيهِ الْيَقِين قَالَ ذَلِك غير مرّة وتعددت فِيهِ رسائله ومكاتيبه فمما كتبه فِي ذَلِك هَذِه الْوَصِيَّة الَّتِي يَقُول فِيهَا الْحَمد لله لما رَأَيْت مَا وَقع من الْإِلْحَاد فِي الدّين واستيلاء الفسقة والجهلة على أَمر الْمُسلمين وَقد قَالَ عمر إِن تابعناهم تابعناهم على مَا لَا نرضى وَإِلَّا وَقع الْخلاف وَأُولَئِكَ عدُول وَهَؤُلَاء كلهم فساق وَقَالَ عمر فَبَايعْنَا أَبَا بكر فَكَانَ وَالله خير وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي حق أبي بكر يَأْبَى الله وَيدْفَع الْمُسلمُونَ ورشحه بتقديمه للصَّلَاة إِذْ هِيَ عماد الدّين وَقَالَ أَبُو بكر للْمُسلمين بَايعُوا عمر وَأخذ لَهُ الْبيعَة فِي حَيَاته فلزمت وَصحت بعد مَوته وَقَالَ عمر هَؤُلَاءِ السِّتَّة أفضل الْمُسلمين وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نعم العَبْد صُهَيْب وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة أَمِين هَذِه الْأمة وَقَالَ مَا أظلت الخضراء وَلَا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذَر وَقَالَ فِي أبي بكر وَعمر أَكثر من هَذَا فَصَارَ الْمَدْح للتعريف وَاجِبا ولإظهار حَال الرجل لينْتَفع بِهِ فَأَقُول جعله الله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم مَا أَظن فِي أَوْلَاد مَوْلَانَا الْجد عبد الله وَلَا فِي أَوْلَاد سَيِّدي مُحَمَّد وَالِدي رحمه الله وَلَا أَوْلَاد أَوْلَاده أفضل من مولَايَ عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَلَا أصلح لهَذَا الْأَمر مِنْهُ لِأَنَّهُ إِن شَاءَ الله حفظه الله لَا يشرب الْخمر ويزني ولايكذب وَلَا يخون وَلَا يقدم على الدِّمَاء وَالْأَمْوَال بِلَا مُوجب وَلَو ملك ملك المشرقين لِأَنَّهَا عبَادَة صهيبية ويصوم الْفَرْض وَالنَّفْل وَيُصلي الْفَرْض وَالنَّفْل وَإِنَّمَا أتيت بِهِ من الصويرة ليراه النَّاس ويعرفوه وأخرجته من تافيلالت لأظهره لَهُم لِأَن الدّين النَّصِيحَة فَإِن اتبعهُ أهل الْحق صلح أَمرهم كَمَا صلح سَيِّدي مُحَمَّد جده وَأَبوهُ حَيّ وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَيّ أبدا ويغبطه أهل الْمغرب ويتبعونه إِن شَاءَ الله
وَكَانَ من اتبعهُ اتبع الْهدى والنور وَمن اتبع غَيره اتبع الْفِتْنَة والضلال وَاحْذَرْ النَّاس أَوْلَاد يزِيد كَمَا حذر وَالِدي وَقد رأى من اتبعهُ أَو اتبع أَوْلَاده كَيفَ خَاضَ الظلمَة ونالته دَعْوَة وَالِده وَخرج على الْأمة وَأما أَنا فقد خفت قواي ووهن الْعظم مني واشتعل الرَّأْس شيبا حفظني الله فِي أَوْلَادِي وَالْمُسْلِمين آمين نصيحة وَصِيَّة سُلَيْمَان بن مُحَمَّد لطف الله بِهِ اه
وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة وَقعت غدرة ذَوي بِلَال فِي انتهابهم الصاكة الْوَارِدَة من مرسى الصويرة وَكَانَ انتهابهم إِيَّاهَا بِاتِّفَاق من الشياظمة الَّذين جاؤوا مَعهَا وَقَائِدهمْ عَليّ بن مُحَمَّد الشيظمي هُوَ الَّذِي انتهب أَكْثَرهَا وَكَانَ فِيهَا من الذَّخَائِر النفيسة وَالْأَمْوَال الثَّقِيلَة شَيْء كثير وَهَذِه الْوَقْعَة هِيَ الَّتِي هدت أَرْكَان السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله فاعتراه مَرضه الَّذِي كَانَ سَبَب وَفَاته وَلما أثقله الْمَرَض أعَاد الْعَهْد للْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَبعث بِهِ إِلَى فاس إِذْ كَانَ خَليفَة بهَا كَمَا مر فَدَعَا رحمه الله بِصَحِيفَة بَيْضَاء ودعا بالطابع الْكَبِير فجيء بِهِ وَلم يحضرهُ إِلَّا أَهله من النِّسَاء فطبع الصَّحِيفَة بِيَدِهِ وَكتب بعض الْكتاب وأكملته بعض حظاياه مِمَّن كَانَت تحسن الْكِتَابَة ثمَّ طواه وَختم عَلَيْهِ ودعا الْقَائِد الجيلاني الرحماني الحويوي وَكَانَ قَائِد المشور وَقَالَ لَهُ ادْع لي فارسين يذهبان بِهَذَا الْكتاب إِلَى فاس وَقد عينت لَهما سخرة كَبِيرَة يقبضانها هُنَاكَ إِذا أَسْرعَا السّير فَكَانَ ذَلِك الْكتاب هُوَ الْعَهْد الَّذِي قرىء بفاس وَنَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم أخوالنا الودايا ورماة فاس وأعيانها ورؤساءها سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وعَلى ابْن عمنَا الْفَقِيه القَاضِي مولَايَ أَحْمد والفقيهين ابْن إِبْرَاهِيم والآزمي وَبعد فقد وجدت من نَفسِي مَا لَيْسَ بتارك أحدا فِي الدُّنْيَا وَهَذِه وَصِيَّة أقدمها بَين يَدي أَجلي وَالله مَا بَقِي فِي قلبِي مِثْقَال ذرة على أحد من خلق الله لِأَن ذَلِك أَمر قد قدره الله وَسبق علمه بِهِ وَلست فِيهِ بأوحد وَمَا وَقع لمن قبلي أشنع وأقطع وَإِنِّي قد عقدت
بَين أخوالي وَأهل فاس أخوة بحول الله لَا تنفصم يَرِثهَا الْأَبْنَاء عَن الْآبَاء وأوصي الْجَمِيع بِمَا أوصى الله بِهِ الْأَوَّلين {وَلَقَد وصينا الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَإِيَّاكُم أَن اتَّقوا} النِّسَاء 131 {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا وَاتَّقوا الله} الْحَشْر 7 وبسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ وَلنْ تزَال هَذِه الْأمة بِخَير مَا أخذُوا بِكِتَاب الله وَقد عهِدت لِابْنِ أخي مولَايَ عبد الرَّحْمَن بن هِشَام ورجوت الله أَن يكون لي فِي هَذَا الْأَمر مثل مَا لِسُلَيْمَان بن عبد الْملك فِي عَهده لعمر بن عبد الْعَزِيز {إِنَّا نَحن نحيي الْمَوْتَى ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} يس 12 من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقد انْعَقَد الْإِجْمَاع على عقد الْبيعَة بالعهد وَالْقَاضِي والفقيهان يبينون لكم هَذَا {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} النِّسَاء 59 وَإِنِّي أشهد الله أَنِّي مقرّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة لعبد الله عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وببيعته أَلْقَاهُ وَقد أدّيت لأمة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا عَليّ من النَّصِيحَة وأرجوا الله أَن يثيبني بِهَذِهِ النِّيَّة الصَّحِيحَة وَهُوَ المطلع على مَا فِي الضمائر والعالم بالسرائر وَالسَّلَام وَفِي رَابِع ربيع النَّبَوِيّ عَام ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اه
ثمَّ تَمَادى بالسلطان رحمه الله مَرضه إِلَى أَن توفّي ثَالِث عشر ربيع الأول وَهُوَ الثَّانِي من عيد المولد الْكَرِيم من السّنة الْمَذْكُورَة وَمَات رحمه الله ثَابت الذِّهْن صَحِيح الميز على غَايَة من الْيَقِين والفرح بلقاء ربه وَدفن بضريح جده الْمولى عَليّ الشريف بِبَاب آيلان من مراكش وَقد رثاه جمَاعَة من أدباء الْعَصْر من ذَلِك قَول الْفَقِيه الأديب الْكَاتِب البليغ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الفاسي
(نبأ عرى أَوْهَى عرى الْإِيمَان
…
وَأَبَان حسن الصَّبْر عَن إِمْكَان)
(شقَّتْ لموقعه الْقُلُوب وزلزلت
…
أَرض النُّفُوس ورج كل مَكَان)
(فقد الإِمَام أبي الرّبيع المرتضى
…
جزعت لعظم مصابه الثَّقَلَان)
(وبكت عُيُون الدّين مَاء جفونها
…
وجدا عَلَيْهِ وكل ذِي إِيمَان)
(لم نعى الناعون خير خَليفَة
…
وعرا الْفُؤَاد طوارق الأحزان)
(مزقت ثوب تجلدي من فَقده
…
وَنَثَرت در الدمع من أجفاني)
(عجبا لمَوْت غاله إِذْ لم يخف
…
فتك الْمُلُوك وسطوة السُّلْطَان)
(وسما لمنصبه المنيف وَلم يهب
…
غضب الْجنُود وغيرة الأعوان)
(لَو كَانَ ينفع خَاضَ فرسَان الوغا
…
حرصا عَلَيْهِ مواقد النيرَان)
(وحموه بِالنَّفسِ النفيسة إِنَّمَا
…
يحْمُونَ روح الْعدْل وَالْإِحْسَان)
(لَكِن قَضَاء الله حم فَلَا يرى
…
للمرء فِي دفع الْقَضَاء يدان)
(وَالْمَوْت مورد كل حَيّ كأسه
…
وَسوى الْمُهَيْمِن فِي الْحَقِيقَة فان)
(إِن غَابَ عَنَّا شخصه فَلَقَد ثوى
…
فِينَا الثَّنَاء لَهُ بِكُل لِسَان)
(ومناقب ومفاخر ومآثر
…
شاعت لَهُ فِي سَائِر الأوطان)
(ومعارف وعوارف ووسائل
…
ومسائل قد أوضحت ومعاني)
(وبدور أَوْلَاد وَآل قد قفوا
…
آثاره فِي الْعلم والعرفان)
(تخذوا الدّيانَة والصيانة شرعة
…
وتقلدوا بصوارم الإيقان)
(أَخْلَاقهم ووجوههم وأكفهم
…
كالزهر والأزهار والأمزان)
(إِن حَاربُوا أبدوا شجاعة جدهم
…
أَو خاطبوا أزروا على سحبان)
(من كل من جعل الْقُرْآن سميره
…
وسما بِوَصْف الْعلم والتبيان))
(كم آيَة ظَهرت لَهُ وكرامة
…
دَامَت دلائلها مدى الْأَزْمَان)
(قد كَانَ أوحد دهره ولذاته
…
فِي الْعدْل والتمكين وَالْإِحْسَان)
(قد كَانَ عَالم عصره وفريده
…
فِي الْفَهم وَالتَّحْقِيق والإتقان)
(قد كَانَ فَردا فِي البلاغة إِن جرت
…
أقلامه بهرت بِسحر بَيَان)
(من للعلى من بعده من للنَّهْي
…
من للتقى وتلاوة الْقُرْآن)
(يَا رمسه مَاذَا حويت من العلى
…
وطويت من علم وَمن عرفان)
(يَا رمس كم واريت من كرم وَمن
…
جود وَمن فضل وَمن إِحْسَان)
(يَا رمس كم حجبت عَنَّا شمسه
…
وضياؤها فِي سَائِر الْبلدَانِ)
(ووسعت بَحر علومه وسخائه
…
فطمى بِضيق بَطْنك البحران)
(فَلَو اسْتَطَعْت جعلت قلبِي قَبره
…
حبا وأحشائي من الأكفان)
(وَلَو أَن عمري فِي يَدي لوهبته
…
وفديته بالأهل والإخوان)
(لَكِن يُخَفف بعض أثقال الأسى
…
علمي بِهِ فِي جنَّة الرضْوَان)
(فسقى ثراه من الْمَوَاهِب دِيمَة
…
وهمت عَلَيْهِ سحائب الغفران)
(ورد الرَّسُول بِمَوْت خير خَليفَة
…
وَولَايَة الْعَهْد الرفيع الشَّأْن)
(فَجَزِعت من حزن لما قد نابني
…
وطربت من فَرح بِمَا أولاني)
(مَا مَاتَ من ترك الْخَلِيفَة بعده
…
مثل الْمُؤَيد عَابِد الرَّحْمَن)
(ملك تسربل بالتقى حَتَّى ارْتقى
…
من نهجه الأتقى على كيوان)
(يَا وَاحِدًا فِي الْفضل غير مشارك
…
أَقْسَمت مَا لَك فِي الْبَريَّة ثَان)
(لله بيعتك الَّتِي قد أشبهت
…
فِيمَا تَوَاتر بيعَة الرضْوَان)
(قد أحكمتها يَد الشَّرِيعَة والتقى
…
بعرى النُّصُوص وواضح الْبُرْهَان)
(سعد الَّذِي أضحى بهَا متمسكا
…
وَهوى العنيد بهوة الخسران)
(وَجرى على التَّيْسِير أَمرك فَاسْتَوَى
…
ملك الورى لَك فِي أقل زمَان)
(وَأَتَتْ لنصرتك المغارب كلهَا
…
فبعيدها لَك فِي الْحَقِيقَة داني)
(عقدوا على النصح الْقُلُوب وَإِنَّمَا
…
عقدوا بنصرك رايه الْإِيمَان)
(لَو شِئْت من أهل الْمَشَارِق طَاعَة
…
لأتوك من يمن وَمن بغدان)
(هابتك أَصْنَاف الطغاة بزعمهم
…
لما وثقت بنصرة الرَّحْمَن)
(وَبسطت عدلك فِي الورى فَكَأَنَّمَا
…
قد عَاشَ فِي أيامك الْعمرَان)
(يَا أهل بَيت الْمُصْطَفى أوصافكم
…
جلت عَن الإحصاء والحسبان)
(طَابَ المديح مَعَ الرثاء بذكركم
…
فنظمته كقلائد العقيان)
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله ومآثره وَسيرَته
لما بُويِعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله رد الْفُرُوع إِلَى أُصُولهَا وأجرى الْخلَافَة على قوانينها بِإِقَامَة الْعدْل والرفق بالرعية والضعفاء وَالْمَسَاكِين وَمن وفور عقله وعدله إِسْقَاط المكوس الَّتِي كَانَت موظفة على حواضر الْمغرب فِي الْأَبْوَاب والأسواق وعَلى السّلع والغلل وعَلى الْجلد وعشبة الدُّخان فقد كَانَ يقبض فِي ذَلِك أَيَّام وَالِده رحمه الله خَمْسمِائَة ألف مِثْقَال مَعْلُومَة مثبتة فِي الدفاتر مبيعة فِي ذمم عُمَّال الْبلدَانِ وقواد الْقَبَائِل كل مَدِينَة وَمَا عَلَيْهَا وَمن ذَلِك المكس كَانَ صائر الْعَسْكَر فِي الْكسْوَة والسروج وَالسِّلَاح وَالْعدة وَالْإِقَامَة والخياطة والتنافيذ لوفود الْقَبَائِل والعفاة والمؤنة للعسكر ولدور السُّلْطَان وَسَائِر تعلقاته فَكَانَ ذَلِك المكس كَافِيا لصوائر الدولة كلهَا وَلَا يدْخل بَيت المَال إِلَّا مَال المراسي وأعشار الْقَبَائِل وزكواتهم وَكَانَ مُسْتَفَاد هَذَا المكس يعادل مَال المراسي وأعشار الْقَبَائِل فزهد فِيهِ هَذَا السُّلْطَان الْعَادِل فَعوضهُ الله أَكثر مِنْهُ من الْحَلَال الْمَحْض الَّذِي هُوَ الزكوات والأعشار من الْقَبَائِل وزكوات أَمْوَال التُّجَّار وَالْعشر الْمَأْخُوذ من تجار النَّصَارَى وَأهل الذِّمَّة بالمراسي وَأما الْمُسلمُونَ فقد مَنعهم من التِّجَارَة بِأَرْض الْعَدو لِئَلَّا يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى تعشير مَا بِأَيْدِيهِم أَو المشاجرة مَعَ الْأَجْنَاس هَكَذَا بلغنَا وَالله أعلم
وَكَانَت الْقَبَائِل فِي دولته قد تمولت ونمت مواشيها وَكَثُرت الْخيرَات لَدَيْهَا من عدله وَحسن سيرته فَصَارَت الْقَبِيلَة الَّتِي كَانَت تُعْطِي عشرَة آلَاف مِثْقَال مُضَارَبَة أَيَّام وَالِده يسْتَخْرج مِنْهَا على النّصاب الشَّرْعِيّ عشرُون وَثَلَاثُونَ ألف مِثْقَال وَذَلِكَ من توفيق الله لَهُ وتمسكه بِالْعَدْلِ والحلم والجود وَالْحيَاء وَجَمِيل الصَّبْر وَحسن السياسة والتأني فِي الْأُمُور واجتنابه لما هُوَ بضد ذَلِك
فَأَما الْحلم فَهُوَ دأبه وطبعه وَقد اتّفق أهل عصره على أَنه كَانَ أحلم النَّاس فِي زَمَانه وأملك لنَفسِهِ عِنْد الْغَضَب من أَن يَقع فِي الْخَطَأ ومذهبه
دَرْء الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ والتماس التَّأْوِيل وَقبُول الْعذر حَتَّى لقد حكى عَنهُ أَنه مَا اعْتمد الْبَطْش بِأحد وتصدى لنكبته لغَرَض نفساني أَو لحظ دُنْيَوِيّ وحسبك من حلمه مَا قَابل بِهِ الخارجين عَلَيْهِ
قَالَ صَاحب الْجَيْش لما عزمت على الْخُرُوج من فاس أَيَّام الْفِتْنَة لملاقاة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بقصر كتامة جِئْت إِلَى القَاضِي أبي الْفضل عَبَّاس بن أَحْمد التاودي لأودعه فَكَانَ من جملَة مَا أَوْصَانِي بِهِ قَالَ قل لمولانا السُّلْطَان يَقُول لَك عَبَّاس إِنَّا نَخَاف إِذا ظَفرت بهؤلاء الظلمَة أَن تصفح عَنْهُم فَلَمَّا اجْتمعت بالسلطان أبلغته مقَالَة القَاضِي فَقَالَ كَيفَ أصفح عَنْهُم وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لأبي عَزِيز لَا أتركك تمسح سبلتك بِمَكَّة وَتقول خدعت مُحَمَّدًا مرَّتَيْنِ فَلَمَّا فتح الله عَلَيْهِ فاسا كَانَ جَوَابه أَن قَالَ لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ بل تعجل بِالْخرُوجِ مِنْهَا مَخَافَة أَن يغريه بعض بطانته بِأحد مِنْهُم فلعمري لقد صدق من قَالَ إِن التخلق يَأْتِي دونه الْخلق
وَأما الدّين وَالتَّقوى فَذَلِك شعاره الَّذِي يمتاز بِهِ ومذهبه الَّذِي يدين الله بِهِ من أَدَاء الْفَرِيضَة لوَقْتهَا الْمُخْتَار حضرا وسفرا وَقيام رَمَضَان وإحياء لياليه بالإشفاع ينتقي لذَلِك الأساتيذ ومشايخ الْقُرَّاء وَيجمع أَعْيَان الْعلمَاء لسرد الحَدِيث الشريف وتفهمه والمذاكرة فِيهِ على مر اللَّيَالِي وَالْأَيَّام ويتأكد ذَلِك عِنْده فِي رَمَضَان ويشاركهم بغزارة علمه وَحسن ملكته ويتناول راية السَّبق فِي فهم الْمسَائِل الَّتِي يعجز عَنْهَا غَيره فَيُصِيب الْمفصل ويواظب على صِيَام الْأَيَّام المستحبة من كل شهر ويعظم الْعلمَاء الَّذين هم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وَيرْفَع مناصبهم على سَائِر رجال دولته وَيجْرِي عَلَيْهِم الأرزاق ويعطيهم الدّور الْمُعْتَبرَة والضياع المغلة وَيحسن مَعَ ذَلِك إِلَى من دونهم فِي الْمرتبَة من المدرسين وطلبة الْعلم ويؤثر المعتنين مِنْهُم وَذَوي الْفَهم بمزيد البروتضعيف الجراية حَتَّى لقد تنافس النَّاس فِي أَيَّامه فِي اقتناء الْعُلُوم وانتحال صناعتها لاعتزاز الْعلم وَأَهله فِي دولته وسعة أَرْزَاقهم
وَأما صبره عِنْد الشدائد وَاحْتِمَال العظائم وتجلده عِنْد حُلُول الْخطب ونزول الْمَقْدُور فَحدث عَن الْبَحْر وَلَا حرج وَعَن الْجَبَل سكونا ورسوخ قدم
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلَو حَدثنَا بِمَا شَاهَدْنَاهُ مِنْهُ لَكَانَ عجبا وَأما الْعدْل فَإِنَّهُ مَا رئي فِي مُلُوك عصره أعدل مِنْهُ وَمن عَجِيب سيرته أَنه كَانَ يلْزم الْعمَّال رد مَا يقبضونه من الرعايا على وَجه الظُّلم من غير إِقَامَة بَيِّنَة عَلَيْهِم على مَا جرى بِهِ عمل الْفُقَهَاء من قلب الحكم فِي الدَّعْوَى على الظلمَة وَأهل الْجور حَسْبَمَا ذكره الوانشريسي وَغَيره وَمن عدله واقتصاده مَا حَكَاهُ لنا الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمَكِّيّ الزواوي الْمُؤَقت بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم من سلا قَالَ مر السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بسلا سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف فَنزل بِرَأْس المَاء واستدعاني للْقِيَام بوظيفة التَّوْقِيت عِنْده قَالَ فَدخلت عَلَيْهِ فَإِذا هُوَ رجل طَوِيل أَبيض جميل الصُّورَة ففاوضني فِي مسَائِل من التَّوْقِيت وَكَانَ يُحسنهُ فأجبته عَنْهَا فأعجبه ذَلِك ثمَّ وصلني بضبلونين وَأخرج مجانته من جيبه ليحققها فَرَأَيْت مجدولها من صوف ثمَّ حضرت صَلَاة الْعَصْر فَتقدم وَصلى بِنَا فَرَأَيْت سراويله مرقعة وَكَانَ إِمَام صلَاته الرَّاتِب هُوَ الْفَقِيه السَّيِّد الْحَاج الْعَرَبِيّ الساحلي لكنه صلى بِنَا تِلْكَ الصَّلَاة وَلما فَرغْنَا من الصَّلَاة وانقلبنا إِلَى مَنَازلنَا جِيءَ بِالطَّعَامِ وَهُوَ قصيعة من الكسكس عَلَيْهَا شَيْء من اللَّحْم والخضرة وَلَيْسَ مَعهَا غَيرهَا قَالَ وَكَانَت عَادَة الْمولى سُلَيْمَان فِي السّفر أَن لَا يتَّخذ كشينة أَي مطبخا إِنَّمَا هُوَ طَعَام يسير يصنع لَهُ ولبعض الْخَواص مِمَّا يَكْفِي من غير إِسْرَاف حَتَّى أَن الْكتاب كَانُوا يقبضون سِتّ موزونات ويعولون أنفسهم وَكَانَت أقواتهم وأزوادهم خَفِيفَة اه
وَأما سياسته الْخَاصَّة فِي جبر الْقُلُوب واستئلاف الشارد وتسكين المرتاب وإرضاء الْوَلِيّ ومجاداة الْعَدو والدفاع بِالَّتِي هِيَ أحسن عِنْد اشْتِبَاه الْأُمُور ومعاناة الرِّجَال بِوُجُودِهِ المكائد والحيل فِي الْأُمُور الَّتِي لَا ينفع فِيهَا حَرْب وَلَا قُوَّة فشيء لَا يبلغ فِيهِ شأوه وَلَا يشق غباره
وَأما عَادَته فِي الْحَرْب فقد أَخذ فِيهَا بسيرة الْعَجم بِحَيْثُ لَا يُبَاشر
الحروب بِنَفسِهِ وَيعْمل بِعَمَل أهل الصَّدْر الأول فيقف فِي قلب الْجَيْش كالجبل الراسي وأمراؤه يباشرون الْحُرُوف بِأَنْفسِهِم فِي الميمنة والميسرة وَهُوَ ردء لَهُم كلما رأى فُرْجَة سدها أَو خللا أصلحه وَهُوَ كالصقر مطل على حومة الوغا فَإِذا أمكنته فرْصَة أنتهزها وَمن شدَّة ثباته وَعدم تزحزحه أَنه كَانَ لَا يركب وَقت الْحَرْب إِلَّا البغلة وَبِذَلِك جرى عَلَيْهِ فِي وقْعَة ظيان والشراردة مَا جرى فَكَانَ حماته يفرون عَنهُ بِلَا حَيَاء وَيبقى هُوَ ثَابتا رحمه الله
وَأما جمعه لأشتات الْعُلُوم فَلَقَد كَانَ وَارِثا من وَرَثَة الْأَنْبِيَاء حَامِلا للواء الشَّرِيعَة جَامعا مَانِعا إِذا بوحث فِي الْأَخْبَار كَانَ كجامع سُفْيَان أَو فِي الْأَشْعَار فكنابغة ذبيان أَو فِي الفطنة والفراسة فكإياس أَو فِي النجدة والرأي فكالمهلب وَإِذا خَاضَ فِي السّنة وَالْكتاب أبدى ملكة مَالك وَابْن شهَاب وَلَو تصدى فِي الْفِقْه للفتيا والتدريس لم يشك سامعه أَنه ابْن الْقَاسِم أَو ابْن إِدْرِيس وَإِذا تكلم فِي عُلُوم الْقُرْآن أنهل بِمَا يغمر مورد الظمآن
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلَا يعرف مِقْدَار هَذَا السُّلْطَان إِلَّا من تغرب عَن الأوطان وَحمل عَصا التسيار ورمت بِهِ فِي الأقطار الْأَسْفَار وَشَاهد سيرة الْمُلُوك فِي الْعباد وَمَا عَمت بِهِ الْبلوى فِي سَائِر الْبِلَاد وَلَا يتَحَقَّق أهل الْمغرب بعدله إِلَّا بعد مغيبه وفقده
(الْمَرْء مَا دَامَ حَيا يستهان بِهِ
…
ويعظم الرزء فِي حِين يفتقد)
وَمن آثاره الْبَاقِيَة وبناءاته العادية فبفاس الْمَسْجِد الْأَعْظَم بالرصيف الَّذِي لَا نَظِير لَهُ كَانَ حفر أساسه الْمولى يزِيد واشتغل عَنهُ وَتَركه فَافْتتحَ هُوَ عمله ببنائه وتشييده وأبقاه دينا على الْمُلُوك وَبنى مَسْجِد الدِّيوَان كَانَ صَغِيرا فهدمه وَزَاد فِيهِ أملاكا وَجعله مَسْجِدا جَامعا تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة وَبنى مَسْجِد الشرابليين زَاد فِيهِ ووسعه وَجعله مَسْجِدا جَامعا كَذَلِك وَبنى مَسْجِد الشَّيْخ أبي الْحسن بن غَالب وضريحه وَبنى ضريح الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب التازي وَهدم مدرسة الْوَادي ومسجدها لتلاشيهما وجددهما على شكل آخر وجدد الْمدرسَة العنانية وَأصْلح مَسْجِد القصبة البالية وبيضه بالجص وزلجه وَبنى بَاب الْفتُوح على هَيْئَة ضخمة وَبَاب بني مُسَافر وَالْبَاب الْجَدِيد
على براح أبي الْجُلُود وَبنى القنطرة على الْوَادي بَينهمَا وجدد قنطرة الرصيف مرَّتَيْنِ وَأصْلح قنطرة وَادي سبو وَأصْلح طرقات فاس الْجَدِيد كلهَا من دَاخل وخارج ورصفها بِالْحِجَارَةِ وَأصْلح أَبْوَاب فاس الْجَدِيد كلهَا ورمم مَا تلثم مِنْهَا وجدد قُصُور الْملك الخربة بهَا وَزَاد غَيرهَا وَأمر بتبييض مَسَاجِد الْخطب وتبليط أرْضهَا وَبنى مَسْجِد صفرو وجدد أسواره وَبنى لأَهله حَماما بِهِ وَبنى مَسْجِد الْمنزل ببني يازغة وَبنى مَسْجِد وَجدّة وحماما بهَا وَأصْلح قلعتها وَدَار إمارتها وَبنى مَسْجِد وازان وَمَسْجِد تطاوين وَأخرج أهل الذِّمَّة من جواره وَبنى لَهُم حارة بطرِيق الْمَدِينَة وَبنى الصقائل والأبراج بطنجة وجدد مَسْجِد آصيلا وأسوارها وجدد قُصُور الْملك بمكناسة بعد تلاشيها وَأصْلح القناطر الَّتِي بَين فاس ومكناسة وَبنى قنطرة على وَادي سَيِّدي حرازم بخولان وَبنى مَسْجِد الجزارين بسلا ووقف عَلَيْهِ أوقافا تقوم بمصلحته وَأخرج يهودها من وسط الْبَلَد من حومة بَاب حُسَيْن وَبنى لَهُم حارة على حدتها غربي الْبَلَد وَبنى الْمَسْجِد الْأَعْظَم بحومة السويقة من رِبَاط الْفَتْح وَبنى دَار الْبَحْر لنزوله وَبنى قنطرة وَادي حِصَار بتامسنا وَبنى مَسْجِد أبي الْجَعْد بتادلا وَبنى قنطرة وَادي أم الرّبيع وقنطرة تانسيفت بمراكش بعد سُقُوطهَا وَبنى الْمَسْجِد الْأَعْظَم الَّذِي كَانَ أسسه على بن يُوسُف اللمتوني بمراكش وبناه بِنَاء ضخما وأزال منارته الَّتِي كَانَت بِهِ قَدِيما وشيد مَنَارَة أُخْرَى بديعة الْحسن رائقة الصَّنْعَة وأكمل مَسْجِد الرحبة الَّذِي كَانَ أسسه وَالِده رحمه الله وَمَات قبل تَمَامه وجدد قُصُور وَالِده بمراكش وَأَصْلَحهَا وصان القصبة وعمرها ثمَّ ختم رحمه الله ديوانه بِالْحَسَنَة الْعَظِيمَة والمنقبة الفخيمة وَهِي عَهده بالخلافة لِابْنِ أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام على كَثْرَة أَوْلَاده وَوُجُود بعض إخْوَته ولعمري أَن هَذَا الْعَهْد لمنقبة جليلة للعاهد والمعهود إِلَيْهِ أما العاهد فَإنَّا لم نسْمع بعد أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه بِأحد من خلفاء الأسلام وملوكه عدل بِولَايَة الْعَهْد عَن وَلَده الْمُسْتَحق لَهَا إِلَى غَيره حَتَّى كَانَ هَذَا الإِمَام الْجَلِيل الَّذِي أَحْيَا سيرة العمرين نعم قد عهد سُلَيْمَان بن عبد الْملك لِابْنِ عَمه عمر بن عبد الْعَزِيز
رحمهمَا الله لَكِن حكى ابْن الْأَثِير أَن سُلَيْمَان لما حَضرته الْوَفَاة عزم أَن يعْهَد لِابْنِ لَهُ صَغِير فوعظه رَجَاء بن حَيْوَة فَرجع عَن ذَلِك وشاوره فِي ابْنه دَاوُد وَكَانَ غازيا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَقَالَ لَهُ رَجَاء لَا تَدْرِي أَحَي هُوَ أم ميت فَحِينَئِذٍ رَجَعَ إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز رضي الله عنه وَأما الْمَعْهُود إِلَيْهِ فَإِن فِي الْعَهْد إِلَيْهِ دون الْأَبْنَاء وَالإِخْوَة شَاهدا عدلا على كَمَال فَضله وإحرازه لخلال الْخَيْر وتبريزه فِيهَا على من عداهُ من بني أَبِيه وعشيرته ولعمري أَن ذَلِك لكذلك فَإِن الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام رحمه الله قد اشتهرت ديانته وأمانته عِنْد القاصي والدان حَتَّى صَار لَا يخْتَلف فِي عَدَالَته اثْنَان
تمّ الْجُزْء الثَّامِن ويليه الْجُزْء التَّاسِع وأوله الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام
الْخَبَر عَن دولة ملك الزَّمن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى حسن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن خلد الله ملكه
لما توفّي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله اجْتمع أهل الْحل وَالْعقد من كبار الدولة وقواد الْجَيْش والقضاة وَالْعُلَمَاء والأشراف وأعيان مراكش وأحوازها على بيعَة نجله أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى أبي عَليّ حسن بن مُحَمَّد لما توفر فِيهِ من شُرُوط الْإِمَامَة وتكامل فِيهِ من النجدة والشهامة والزعامة وَلما اتّصف بِهِ من الْفضل وَالدّين وَسَائِر خِصَال الْخَيْر وَأَسْبَاب الْيَقِين وَلِأَن وَالِده رحمه الله كَانَ اسْتَخْلَفَهُ فِي حَيَاته وَألقى عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مهماته فَنَهَضَ بأعبائها وتقلب من مغاني السَّعَادَة فِي ظلالها وأفيائها
قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس لما اسْتخْلف الْمولى الْحسن حفظه الله لم تشغله شؤون الْخلَافَة المترادفة آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَلَا فِي قصوره السُّلْطَانِيَّة من الحدائق والأزهار عَن وظائف الدّين وَأَسْبَاب الْيَقِين من نوافل الْخَيْر من صَلَاة وَصِيَام وتلاوة كَمَا حَدثنِي بذلك بعض بطائنه وَأَنه يجد لَهَا فِي خلواته لَذَّة وحلاوة فَلَمَّا توفّي السُّلْطَان كَمَا قُلْنَا كَانَ الْمولى حسن أيده الله غَائِبا عَن الحضرة بِأبي ريقي من بِلَاد حَاجَة فَكتب إِلَيْهِ رُؤَسَاء الدولة بِمَا حدث من موت السُّلْطَان واجتماع النَّاس على بيعَته فَقدم مراكش فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما دنا مِنْهَا خرج للقائه الوزراء والقضاة والأشراف والأعيان وَسَائِر أهل مراكش برجالهم وَنِسَائِهِمْ وصبيانهم فملؤوا تِلْكَ البطاح وَضَاقَتْ بهم الأَرْض وَأخذُوا يعزونه ويهنئونه وَهُوَ أيده الله يقف لكل جمَاعَة مِنْهُم عل حدتها حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان إشفاقا عَلَيْهِم وتطييبا لنفوسهم وَكَانَ يَوْم دُخُوله لحضرة مراكش يَوْمًا مشهودا وموسما من مواسم الْخيرَات معدودا وَلما اسْتَقر بدار الْملك قدمت عَلَيْهِ الْوُفُود من جَمِيع الْأَمْصَار ونسلوا إِلَيْهِ من سَائِر النواحي والأقطار وكل وَفد يَأْتِي ببيعته وهديته واغتبط النَّاس بولايته وتيمنوا بطلعته فقابل أيده الله كلا
بِمَا يسْتَحقّهُ من الْإِكْرَام وأفاض على الرّعية جلائل الإنعام وَشرع فِي تجهيز الجيوش وَفتح بيُوت الْأَمْوَال فغمر النَّاس بالعطاء وكسا وأركب ونهض من مراكش يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة قَاصِدا حَضْرَة فاس وَالْوُقُوف على الرِّعَايَة وَالنَّظَر فِيهَا بِمَا يصلحها فَمر على بِلَاد السراغنة وَخرج مِنْهَا إِلَى البروج وَمِنْهَا إِلَى كيسر من بِلَاد تامسنا فاتصل بِهِ هُنَالك خبر فتْنَة أهل فاس وإيقاعهم بالأمين الْحَاج مُحَمَّد بن الْمدنِي بنيس وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك على مَا قيل أَنه لما وصل خبر وَفَاة السُّلْطَان إِلَى فاس وَأَن النَّاس اجْتَمعُوا على بيعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى حسن أعزه الله وَاجْتمعَ أهل فاس لعقد الْبيعَة أَيْضا اشْترط عامتهم لَا سِيمَا الدباغون أَن يزَال عَنْهُم المكس فَيُقَال إِن بعض من أَرَادَ جمع الْكَلِمَة من الْعلمَاء والأعيان تكفل لَهُم بذلك عَن السُّلْطَان وَلما تمت الْبيعَة أصبح الْأمين بنيس غاديا على عمله من تَرْتِيب وكلائه لقبض الوظيف فِي الْأَسْوَاق والأبواب وَغَيرهَا فَكَلمهُ بعض أَعْيَان فاس فِي التَّأَخُّر عَن هَذَا الْأَمر قَلِيلا حَتَّى تطمئِن النُّفُوس وَيثبت الْحق فِي نصابه وَحِينَئِذٍ يُؤْتى الْأَمر من بَابه فَأبى وأصر على مَا هُوَ بصدده فثار بِهِ الْعَامَّة وهدموا دَاره وانتهبوا أثاثه واستصفوا موجوده وَأَرَادُوا قَتله فاختفى بِبَعْض الْأَمَاكِن حَتَّى سكنت الهيعة ثمَّ تسرب إِلَى حرم الْمولى إِدْرِيس رضي الله عنه فَأَقَامَ بِهِ وَأمن على نَفسه وَكَانَت فتْنَة عَظِيمَة يطول شرحها واتصل بالسلطان وَهُوَ بكيسر أَيْضا خبر فتْنَة أهل آزمور وقتلهم لنائب عاملهم وَكَانَ عاملهم يَوْمئِذٍ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عمر بن أبي سِتَّة المراكشي ونائبه هُوَ أَحْمد بن الْمُؤَذّن الْفَرَجِيِّ من سكان آزمور وَكَانَ قَتلهمْ لَهُ تَاسِع عشر رَمَضَان من السّنة ثمَّ أَن أهل فاس كتبُوا إِلَى السُّلْطَان أعزه الله وَهُوَ بِبِلَاد تامسنا رِسَالَة بليغة يتنصلون فِيهَا من فعلة بنيس ويرمون بهَا الْعَامَّة والغوغاء وَمن لَا خلاق لَهُم وَنَصهَا
الْحَمد لله وَحده الْكَرِيم الَّذِي لَا يعجل بعقوبة من ارْتكب الذَّنب وتعمده وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد صَاحب الشَّفَاعَة الْكُبْرَى والجاه الْعَظِيم الْمُخَاطب بقول مَوْلَانَا فِي كِتَابه الْحَكِيم {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم}
الْقَلَم 4 وعَلى آله الَّذين أوجب الله لَهُم مَوَدَّة وحبا وَأنزل فيهم {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} الشورى 23 وَأَصْحَابه الَّذين كَانُوا أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم فَكَانَت الْمَلَائِكَة يَوْم حنين نَصرهم وعونهم هَذَا ونخص الْمقَام الَّذِي علا قدره واستنار ضوءه وفجره وجلله الفخار وَالْوَقار وعلاه الْبَهَاء وكساه وَألبسهُ الرَّسُول من رِدَاء الشّرف يَوْم كَانَ عَليّ وَفَاطِمَة والحسنان فِي دَاخل كَسَاه من ارْتقى وفَاق وساد ومهد بِهِ للخلافة المهاد والوساد وتزينت بمدائحه الطروس العاطلة وخجلت لسماحته الغيوث الهاطلة من ضربت المفاخر رواقها بناديه وَلم تزل الْمَعَالِي تَدعُوهُ لنَفسهَا وتناديه واتخذت بيعَته جلبابا للأجياد والاعناق وأغضت مهابته الجفون والأحداق عين أَعْيَان الدولة الشَّرِيفَة المولوية وَصدر المملكة العلوية الَّذين لم تزل سيرتهم فِي سجلات الْآثَار المحمودة مرسومة ومآثرهم فِي الدَّوَاوِين مرقومة وَألقى إِلَيْهِ هَذَا الْقطر المغربي الرسن وَحل مِنْهُ مَحل الوسن السُّلْطَان الْمُؤَيد مَوْلَانَا الْحسن سلالة الْقَوْم الَّذين زكتْ نُفُوسهم وأينعت فِي حدائق المزايا غروسهم ويسير الْمجد تَحت أَلْوِيَتهم وتتعطر الْمجَالِس بِطيب أفنيتهم لَا زَالَ السعد يراوحك ويغاديك والعز نَائِما بواديك والطعن فِي عين حاسديك والقذى فِي عين أعاديك وجعلك الله من صروف الزَّمَان فِي أَمَان وَلَا قطع الله عَن جمَاعَة الْعلمَاء جميل عادتكم وَلَا سلب الْمُسلمين ملابس سعادتكم وَرفع فِي بروج السَّعَادَة أعلامك وَمكن من رِقَاب الْأَعْدَاء حسامك وَجعل الْفَتْح أَيْنَمَا تَوَجَّهت قبالتك وأمامك وَشَرِيعَة جدك مقلدك وأمامك فِي نعْمَة طَوِيلَة الْأَعْمَار وروضة حلوة الثِّمَار أما بعد أبعد الله عَن ساحة سيدنَا كل شَرّ وَقرب مِنْهَا المحسن وَالْبر وأبقاها ملْجأ للمحتاج والمضطر فَإِنَّهُ لما ورد علينا من حَضْرَة سيدنَا الْعُظْمَى ومكانته الشما كتاب سنى مُعظم الصِّفَات والأسما بديع الْمعَانِي رائق المباني غمر ببلاغته البلغا ورقي ببراعته أَعلَى المنابر فَمن تكلم دونه فقد لَغَا بادرناه بالتقبيل وأحللناه مَحل التَّاج والإكليل فقرىء على الجم الْغَفِير وَفَرح بوروده الْكَبِير وَالصَّغِير واطمأنت بنشره النُّفُوس وارتفع بِهِ كل كدر وبوس وَتَشَوُّقِ الْحَاضِرُونَ
لسَمَاع مَا فِيهِ وأنصت لقرَاءَته ذُو الْمُرُوءَة وَالسَّفِيه وَالْجَامِع غاص بأَهْله وكل حَال بمحله فَلَمَّا قرىء الْكتاب تبين أَن صَدره مدح وعجزه لوم وعتاب فَاشْتَمَلَ على بسط وجمال وَقبض وجلال وَجمع بَين ترغيب وترهيب فارتاب مِنْهُ كل مريب فَلَمَّا تمّ وَختم وتقرر كل مَا فِيهِ وَعلم تَفَرَّقت الْجَمَاعَات أَفْوَاجًا وارتجت الْمَدِينَة ارتجاجا وَحصل للنَّاس بذلك الْجزع وعمهم الْخَوْف والفزع وَالَّذِي أوقع النَّاس فِي ذَلِك مَا فِي الْكتاب من الْأَمر بتدارك مَا وَقع ففهموا أَن ذَلِك برد مَا ضَاعَ وَقد تفرق فِي الْآفَاق وَمَا اجْتمع وَذَلِكَ غير مُمكن كَمَا سيتبين وَالْحق أوضح وَأبين من أَن يبين على أَن الْمَقْصُود بذلك وَالْمرَاد حسم مَادَّة الْفساد لينقطع من جمَاعَة السُّفَهَاء عداؤها وَلِئَلَّا تتقد نَار الْفِتْنَة فيتعذر إطفاؤها أما مَا وَقع فِي قَضِيَّة الْحَاج مُحَمَّد بنيس حَتَّى أفْضى بِهِ الْحَال إِلَى الاحترام بمولانا إِدْرِيس وَفعل بأمكنته الْفِعْل الخسيس وليم بِسَبَبِهِ المرؤوس والرئيس حَتَّى تَوَجَّهت الْحجَّة على مسموع الْكَلِمَات إِذْ هِيَ متوجهة من جِهَات فقد تنْدَفع الْحجَّة بشرح الْقَضِيَّة على وَجههَا وإيرادها على مُقْتَضى كنهها من غير قلب للْحَقِيقَة وَلَا خُرُوج عَن متن الطَّرِيقَة وَفِي كريم علم سيدنَا أَن للْإنْسَان أعذارا يرْتَفع عَنهُ بهَا الملام وَلَا يُعَاتب مَعهَا وَلَا يلام وَذَلِكَ أَن مَا وَقع من النهب وَقع بَغْتَة فِي يَوْم يستعظم شَاهده وَصفه ونعته وَالْمَدينَة وقتئذ عامرة بالبادية والحاضرة وَلَا معرفَة لنا بِمن نهب وَلَا بِمن أَتَى وَلَا بِمن ذهب أَمر أبرزته الْقُدْرَة لم يمكنا تلافيه وَلم يفد فِيهِ نهي سَفِيه فَلَو صدر ذَلِك من آحَاد مُعينين وأفراد مخصوصين لأمكن الانتصاف وانتزع مِنْهُم مَا أَخَذُوهُ من غير اعتساف لَكِن الْأَمر برز وَصدر من قوم مختلطين من بَدو وَحضر فيهم الْأَبْيَض وَالْأسود والأحمر وَمَا مِنْهُم إِلَّا من أستأسد وتنمر وَلَيْسَ فِي وُجُوههم من الْحيَاء عَلامَة وَلَا أثر لَا يقلبون موعظة إِذْ لَيْسُوا من أهل الْفِكر فَلَا يُمكن دفعهم إِلَّا بِجَيْش عَظِيم وعسكر يصاح فيهم بِالنَّهْي وهم فِي طغيانهم يعمهون وَلَا يلتفتون إِلَى من نَهَاهُم بل لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يسمع الصم الدُّعَاء إِذا مَا ينذرون ثمَّ لما كَانَ الْيَوْم الْعَاشِر من شهر تَارِيخه وَقع
بِالْحرم الإدريسي مَا وصلكم وَلَا أَظُنهُ إِلَّا فصل لكم لَكِن عمتنا ألطاف الله ورحماته وَحفظ الضريح ورحباته وَلم تنتهك حرماته وحمته حماته ورماته فأبوابه قد فتحت وزواره بمشاهدة أنواره قد منحت وَمِمَّا فِي الْكتاب الْمَذْكُور أَن السَّفِيه إِذا لم ينْتَه فَهُوَ مَأْمُور ولعمرك أَنه لَيْسَ منا علم بذلك وَلَا شُعُور وَكَيف يَأْمر الْعَاقِل بالمحظور أم كَيفَ يرضى مُسلم بهتك حُرْمَة الْإِسْلَام وَأَهله وَمَا يُوجب افْتِرَاق الْكَلِمَة من قَول أحد أَو فعله وَقد جَاءَ الْوَعيد بِمَا يلْزم من سكت وَحضر فَكيف بِمن بَاشر أَو أَمر لَكِن بَاب التَّوْبَة وَالْحَمْد لله مَفْتُوح لمن يَغْدُو عَلَيْهِ أَو يروح فنسأل الله أَن يمن عَلَيْهِم بِالتَّوْبَةِ من ارْتِكَاب هَذِه الحوبة وَقد كتبنَا لسيدنا بِهَذَا الْكتاب وَالْمَدينَة بِحَمْد الله آمِنَة والنفوس مطمئنة سَاكِنة وَالْأَيْدِي على التَّعَدِّي مَكْفُوفَة والطرق مسلوكة غير مخوفة وَذَلِكَ بعد معاناة فِي إخماد نَار الْفِتْنَة وَنصب وألطاف الله تتوارد وتصب بعد أَن كَانَت نَار الْفِتْنَة توقدت وتأججت وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر وبالأكدار قد مزجت وكل من لَهُ مُرُوءَة وَدين وعد من المهتدين بذل فِي صَلَاح الْمُسلمين جهده وَأبْدى من الْفِعْل الْجَمِيل مَا عِنْده ولقاضينا بَارك الله فِيهِ الْيَد الطُّولى فَلم يَقع مِنْهُ تَقْصِير فِي الْقَضِيَّة الثَّانِيَة وَلَا الأولى هَذَا وكما فِي علمكُم أَن الْملك من ملك هَوَاهُ وَلم يغتر بِهَذَا الْعرض الفاني وَمَا أغواه وقهر نَفسه عِنْد الْغَضَب وابتكر مَا يوصله إِلَى الله واقتضب وَأَن الْكَرِيم إِذا حاسب مسامح وَإِذا قدر عَفا وَلَو أبدى الْمُسِيء إساءته وهفا فليتفضل سيدنَا بِقبُول شَفَاعَة من يضع اسْمه فِي هَذَا الْكتاب من الْعلمَاء والأشراف وَمِنْهُم بِعَدَمِ صَوَاب مَا صدر من السُّفَهَاء إِقْرَار واعتراف وَلَا يستغرب صُدُور الْخَيْر من معدنه وَالْفضل من موطنه وتتحاشى أخلاقك الفاخرة وشيمك الطاهرة أَن تكون شفاعتنا فِي هَؤُلَاءِ العصاة مَرْدُودَة وجماعتنا عَن ساحتكم مبعدة مطرودة ولحسن الظَّن بكم تحمل لجانبكم الزعيم وَالْكَفِيل على أَن لَا نرى مِنْكُم إِلَّا الْجَمِيل فليمن سيدنَا على هَذِه الحضرة الفاسية منا وَلَا يؤاخذنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا وَكَيف والحلم من داركم برز وَخرج وَفِي أوصافكم الحسان اندرج فأحببنا أَن تكون هَذِه
المنقبة فِي أوصافكم تذكر وَفِي صحيفتكم تكْتب وتسطر فقابلوا بالصفح والإغضا عَمَّا سلف وَمضى وكلنَا من رعيتكم ومقتطفون من ثمار روضتكم ومستمدون من مائدتكم وَالظَّن الْأَقْوَى بكم أَنكُمْ تقبلون الشَّفَاعَة منا وتمنون على الْمُسْتَضْعَفِينَ من رعيتكم منا وكأنا بِكِتَابِكُمْ بضمن ذَلِك يُتْلَى وكلماته أشهر من الْعَسَل وَأحلى وَالله يتَوَلَّى أَمر الائتلاف بمتعود إحسانه وَيجمع قُلُوبنَا على طَاعَته وموجبات رضوانه حَتَّى نَكُون فِي ذَات الله إخْوَانًا وعَلى الدّين أنصارا وأعوانا والقلوب بيد من لَهُ الْأَمر وَالِاخْتِيَار وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار وَإِذا تَعَارَضَت الحظوظ فَمَا عِنْد الله خير للأبرار وَخير الْعَمَل عمل قرب إِلَى الْجنَّة وَأبْعد من النَّار فَالْوَاجِب على كل مُسلم أَن يدع مَا يزري بِالْإِسْلَامِ ويهينه وَلَا يلْتَفت لدواعي القطيعة فَإِنَّهَا تقَوِّي الْكفْر وتعينه أما علمنَا أَن من وَرَائِنَا عدوا يَشْتَهِي مواطىء أقدامنا وتنكيس أعلامنا تقضي أخوة الْإِسْلَام ومناصرته ومعاضدته ومواصلته أَن لَا يكون لجميعنا طموح إِلَّا إِلَيْهِ وَلَا تمالؤ إِلَّا عَلَيْهِ وفقنا الله لما فِيهِ رِضَاهُ وَجعل سعينا فِيمَا يُحِبهُ ويرضاه آمين وَالسَّلَام فِي منتصف رَمَضَان الْمُعظم عَام تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ
ثمَّ دخل السُّلْطَان الْمولى الْحسن أعزه الله رِبَاط الْفَتْح صَبِيحَة يَوْم الْخَمِيس التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان الْمَذْكُور وَكَانَ الْعِيد يَوْم السبت فَأَقَامَ السُّلْطَان أيده الله سنة الْعِيد برباط الْفَتْح وَختم بِهِ صَحِيح الإِمَام البُخَارِيّ على الْعَادة وَكَانَ فَقِيه الْمجْلس ومدرسه يَوْمئِذٍ الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد الْمهْدي بن الطَّالِب ابْن سَوْدَة الفاسي وَحضر ذَلِك الْمجْلس وُفُود الْمغرب وقضاة العدوتين وعلماؤها وحضرنا فِي جُمْلَتهمْ ومدح السُّلْطَان بقصائد بليغة واحتفل أعزه الله لهَذَا الْخَتْم بأنواع الْأَطْعِمَة والأشربة وَالطّيب وَفرق الْأَمْوَال على من حضر ثمَّ وصل أهل العدوتين من علمائهما وقرائهما ومؤذنيهما وطبجيتها وبحريتهما على الْعَادة وَهُنَاكَ قدم عَلَيْهِ أهل آزمور متنصلين مِمَّا صدر من عامتهم فِي حق مُحَمَّد بن الْمُؤَذّن فقابلهم بالبشر والصفح إِلَى أَن بحث عَن رُؤُوس الْفِتْنَة بعد ذَلِك فعاملهم بِمَا يستحقونه وَأقَام السُّلْطَان أعزه
الله برباط الْفَتْح إِلَى يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من شَوَّال من السّنة فَنَهَضَ قَاصِدا مكناسة فَعبر الْمجَاز وَمَعَهُ من جنود الدولة وعساكر الْقَبَائِل مَا يجل عَن الْحصْر وَكَانَ نهوضه عَن إزعاج بِسَبَب مَا اتَّصل بِهِ من خبر الْمولى عبد الْكَبِير بن عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان ولد الَّذِي كَانَ ثار لأوّل بيعَة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن فسلك هَذَا الْوَلَد مَسْلَك أَبِيه وأطمعه شياطين البربر فِي الْملك حَتَّى أوردوه مورد الردى وحان وَسقط الْعشي بِهِ على سرحان وَلما كَانَ السُّلْطَان أعزه الله بِبِلَاد بني حسن بلغه خبر الْقَبْض عَلَيْهِ فَكتب كتابا إِلَى الْأَمْصَار يَقُول فِيهِ مَا نَصه وَبعد فَإِن عبد الْكَبِير بن عبد الرَّحْمَن الَّذِي سَوَّلت لَهُ نَفسه مَا سَوَّلت من الرَّأْي المنكوس والحظ المعكوس كَانَ تحزب بشياطين وأوباش من برابرة بني أمكليد وَأتوا بِهِ لآيت عَيَّاش قرب فاس فَلَمَّا سمع بذلك خدامنا أهل فاس وأخوالنا شراقة وَغَيرهم من الْجَيْش السُّوسِي وقبائل الصّلاح قَامُوا على سَاق فِي طرده وإبعاده ونفيه من ساحتهم وتشتيت رماده وقابلوه بالنكاية والوبال وَرَأى مِنْهُم مَا لم يخْطر لَهُ ببال وَرجع بخفي حنين ثمَّ بعد الطَّرْد والإبعاد لم يبال بِمَا هُوَ عَلَيْهِ من سوء الْحَال وَلَا أقلع عَمَّا طمع فِيهِ من الْمحَال وَلَا انتبه من نومته وَلَا أَفَاق من سكرته وَبَقِي على دورانه عِنْد البربر إِلَى أَن ختم مطافه بالوصول لآيت يوسي فَحكم الله فِيهِ هُنَالك وأتى بِهِ مَقْبُوضا عَلَيْهِ وَذَهَبت رِيحه وَسقط فِي أَيدي من كَانَ آواه من البربر وحصلوا كلهم على الخسران والخزي والخذلان وَهَا الفتان متقف تَحت يَد أخينا الأرضى مولَايَ إِسْمَاعِيل رعاه الله فَالْحَمْد لله حق حَمده وَلَا نعْمَة إِلَّا من عِنْده وَهُوَ المسؤول بِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم ومجد وَعظم أَن يُؤَدِّي عَنَّا وَعَن الْمُسلمين شكر نعْمَته وَأَن يجزينا على مَا عودنا من جزيل فَضله ومنته هَذَا وَقد كتبنَا لكم هَذَا بعد مَا خيمنا بحول الله بِبِلَاد الصفافعة من بني حسن ومحلتنا المظفرة بِاللَّه محفوفة بالنصر والعز بِحَمْد الله وأعلامنا المنصورة بِاللَّه ريَاح الْيمن والسعادة تسوقها والأرباح تكفل بهَا سوقها وَقد أعلمناكم لِتَأْخُذُوا حظكم من الْفَرح بِمَا خول مَوْلَانَا جلّ وَعلا من عَظِيم نعمه فَللَّه الْحَمد وَله الْمِنَّة
وَالسَّلَام فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من شَوَّال عَام تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ ثمَّ تقدم السُّلْطَان أعزه الله إِلَى دَار ابْن العامري فأوقع بأولاد يحيى فرقة من بني حسن وَكَانُوا قد ثَارُوا بعاملهم عبد الْقَادِر بن أَحْمد المحروقي فهدموا دَاره وانتهبوها وعاثوا فِي الطرقات وأخافوها فأوقع بهم السُّلْطَان الْمولى الْحسن أعزه الله وقْعَة كَادَت تستأصلهم وَتَأْتِي عَلَيْهِم فتشفعوا إِلَيْهِ وتطارحوا عَلَيْهِ وأظهروا التَّوْبَة والخضوع فَقبل تَوْبَتهمْ وَولى عَلَيْهِم ثَلَاثَة عُمَّال ووظف عَلَيْهِم مَالا لَهُ بَال ونهض أعزه الله إِلَى مكناسة الزَّيْتُون ف 4 ي سَابِع ذِي الْقعدَة من السّنة فَدَخلَهَا مظفرا منصورا وَلما احتل بهَا كتب أيده الله إِلَى الْأَمْصَار بِمَا نَصه وَبعد فَأَنا بإثر الْفَرَاغ من أَمر الْقَبِيلَة اليحيوية وَبِنَاء أمرهَا على أساس الْجد بحول الله وَحُصُول المُرَاد من كَمَال استقامتها بِحَمْد الله وجهنا الوجهة السعيدة لوطن أسلافنا الْكِرَام قدسهم الله بمكناسة الزَّيْتُون وتقدمنا فِي محلتنا السعيدة المنصورة الَّتِي أرْخى الْيمن وَالظفر عَلَيْهَا ستوره فلقينا فِي طريقنا أهل هَذَا الْقطر المغربي من البرابرة وَغَيرهم على اخْتِلَاف شعوبهم وقبائلهم مظهرين غَايَة الْفَرح بمقدمنا ومتبركين بيمن طلعتنا وقائمين بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة لعَلي جانبنا وحللنا حضرتنا السعيدة بمكناسة الزَّيْتُون فِي يَوْم كَانَ من الْأَيَّام السعيدة المشهودة والأوقات المعدودة بل فاق ذَلِك الْيَوْم السعيد بِمَا وَقع فِيهِ من السرُور كل موسم وَعِيد فَالْحَمْد لله على مَا خول وَأولى من فَضله العميم وخيره الجسيم وَهُوَ المسؤول بِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم ومجد وَعظم أَن يُؤَدِّي عَنَّا وَعَن الْمُسلمين شكر نعْمَته وَأَن يجرينا على مَا عودنا من جزيل فَضله ومنته آمين وَالسَّلَام فِي الْعشْرين من ذِي الْقعدَة الْحَرَام عَام تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ
وَكَانَ دُخُوله أعزه الله إِلَى مكناسة بعد زيارته تربة الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر وَصلَاته الْجُمُعَة بهَا وَأطَال أيده الله الْمقَام بمكناسة وَفِي مُدَّة مقَامه بهَا أوقع ببني مطير وَمن لافهم من مجاط وَبني مكيلد وآيت يوسي وَغَيرهم بعد أَن طَال قِتَاله لَهُم ثمَّ اقتحم عَلَيْهِم معاقلهم وانْتهى إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بالحاجب بحبوحة قرارهم وَمحل منعتهم وانتصارهم بل تجاوزته عساكره
المنصورة وأعلامه المنشورة بمسافة بعيدَة إِلَى أَن دخلت فَم الخنيق الَّذِي هُوَ أول بني مكيلد فاستباحت هُنَالك حلاتهم وطارت برؤوس عناتهم ومزقتهم فِي أعز مكانهم كل ممزق وقبضت مِنْهُم على عدد وافر من الأسرى بعث بِهِ السُّلْطَان أعزه الله إِلَى الْأَمْصَار فَكَانَت عِبْرَة لأولي الْأَبْصَار وَكَانَ إِيقَاعه ببني مطير منتصف محرم فاتح سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَاسْتمرّ مُقيما بمكناسة إِلَى فاتح ربيع الأول مِنْهَا وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث الشَّهْر الْمَذْكُور نَهَضَ أيده الله إِلَى فاس فَدَخلَهَا يَوْم الْخَمِيس السَّادِس مِنْهُ بعد مَا تَلقاهُ أَشْرَافهَا وأعلامها وأعيانها وَجَمِيع رماتها حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان مَعَ الْعَامِل وَالْقَاضِي وَاجْتمعت بِهِ مقدمتهم بوادي النجَاة فألان جَانِبه لَهُم وتنزل لملاقاتهم تطييبا لنفوسهم وَلما وصل إِلَى الْبَلَد لم يعرج على شَيْء دون قصد ضريح الْمولى إِدْرِيس رضي الله عنه وزيارته والتبرك بِهِ وانهار عَلَيْهِ الضُّعَفَاء وَالنِّسَاء وَالصبيان يقبلُونَ أَطْرَافه ويتمسحون بأذياله وَقدم الذَّبَائِح للحرم الإدريسي وَغَيره وأفاض من العطايا على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين مَا جَاوز الْحصْر وَكَانَ يَوْم دُخُوله يَوْمًا مشهودا وموسما من مواسم الْخيرَات معدودا وَعِيد بفاس عيد المولد الْكَرِيم وقدمت عَلَيْهِ الْوُفُود من كل نَاحيَة وَاجْتمعت بِبَابِهِ وُجُوه الْقَبَائِل من كل قاصية ودانية وازدان الْعَصْر وَعم الْفَتْح والنصر واستقامت الْأُمُور ونادى مُنَادِي السرُور فِي الْخَاص وَالْجُمْهُور وَلما فرغ السُّلْطَان أعزه الله من شَأْن الْعِيد أَمر أَمِينه أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن شقرون المراكشي أَن يرتب الوظيف المجعول على أَبْوَاب فاس وأسواقها على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله فَفعل وَكَانَ ذَلِك أَوَاخِر الشَّهْر الْمَذْكُور وَلما جَلَست الْأُمَنَاء كل بمحله واستقامت الْأَحْوَال وَذَهَبت الْأَهْوَال ثقل ذَلِك على الدباغين ومرضوا فِيهِ وذهبوا إِلَى الشريف الْفَقِيه الْمولى عبد الْملك الضَّرِير وَقَالُوا لَهُ أَنْت الَّذِي أوقعتنا فِي هَذَا كُله بضمانك إِسْقَاط المكس أَولا حَتَّى صدر منا فِي حق بنيس مَا صدر والآن أخرجنَا مِمَّا أوقعتنا فِيهِ أما بِإِسْقَاط المكس وَأما بِإِخْرَاج بنيس من بَين أظهرنَا لِئَلَّا تدول لَهُ دولة علينا وَالرجل قد صَار عدوا لنا فَقَامَ الْفَقِيه الْمَذْكُور وَقدم على السُّلْطَان
أعزه الله وَذكر لَهُ مَا عزم عَلَيْهِ السفلة من الدباغين فَأَعْرض السُّلْطَان أيده الله عَن ذَلِك وقابل بالجميل فَقَالَ الْفَقِيه الْمَذْكُور إِن لم يكن شَيْء مِمَّا ذكرت لسيدنا فَالْأولى بِي أَن أنتقل إِلَى تافيلالت وَلَا أبقى بَين أظهر هَؤُلَاءِ الْقَوْم فأسعفه السُّلْطَان وَبعث جملَة من الحمارين لحمله وَحمل أَوْلَاده وَلما رأى الدباغون ذَلِك نفخ الشَّيْطَان فيهم وعمدوا إِلَى الحمارين فطردوهم وارتجت فاس وَمَاجَتْ الْأَسْوَاق وَقَامَت الْفِتْنَة على سَاق واتصل الْخَبَر بالسلطان أيده الله فاستدعى عَامل فاس إِدْرِيس بن عبد الرَّحْمَن السراج وَكَانَ مُتَّهمًا بالخوض فِي وقْعَة بنيس وَمَا ترَتّب عَلَيْهَا بعد فأظهر الطَّاعَة والامتثال وَركب بغلته يُرِيد الْقدوم على السُّلْطَان بفاس الْجَدِيد فَقَامَ الدباغون دونه ومنعوه من الذّهاب إِلَى السُّلْطَان وتهددوه بِالْقَتْلِ إِن فعل فَقعدَ وَوَقع ذَلِك مِنْهُ الْموقع لِأَنَّهُ كَانَ متخوفا على نَفسه وَلما رأى السُّلْطَان أيده الله تمادي هَؤُلَاءِ الطغام ومحكهم ولجاجهم بعد أَن بَالغ فِي إلانة الْجَانِب والمقابلة بالجميل وَمن ذَلِك إعراضه أعزه الله عَن الْكَلَام فِي أَمر بنيس أَمر بحصارهم والتضييق عَلَيْهِم لَعَلَّهُم يرجعُونَ ثمَّ لم يَكفهمْ عصيانهم حَتَّى صعدوا على منار الْمدرسَة العثمانية وعَلى غَيرهَا مِمَّا هُوَ مطل على فاس الْجَدِيد وَأخذُوا فِي الرَّمْي بالرصاص حَتَّى أَصَابُوا بعض من كَانَ بِأبي الْجُلُود وَلما انْتَهوا من سوء الْأَدَب إِلَى هَذِه الْغَايَة أَمر السُّلْطَان أيده الله بمقابلتهم على قدر جريمتهم فطافت بهم العساكر ورموهم بالكور من كل نَاحيَة ثمَّ اقتحمت طَائِفَة من الْعَسْكَر سور فاس من جِهَة الطالعة وَأخذُوا فِي النهب وَالْقَتْل وَعظم الْخطب وَاشْتَدَّ الكرب وَفِي أثْنَاء ذَلِك بعث السُّلْطَان أعزه الله وزيره أَبَا عبد الله الصفار يَعِظهُمْ ويعرض عَلَيْهِم الْأمان بِشَرْط التَّوْبَة وَالرُّجُوع إِلَى الطَّاعَة فأذعنوا وامتثلوا وانطفأت نَار الْفِتْنَة وانحسمت أَسبَاب المحنة فَعجل السُّلْطَان أيده الله بِالْكِتَابَةِ لجَمِيع الْآفَاق وتلطف وَاعْتذر بِأَنَّهُم الَّذين بدؤوا بِالْحَرْبِ والبادي أظلم وَمَعَ ذَلِك فبمجرد مَا أذعنوا إِلَى الطَّاعَة كف عَنْهُم رَحْمَة لَهُم وإبقاء عَلَيْهِم وَكَانَ هَذَا الْحَادِث يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع ربيع الثَّانِي من السّنة
وَنَصّ كتاب السُّلْطَان أعزه الله وَبعد فَبعد مَا كتبنَا لكم فِي شَأْن مَا تلقانا بِهِ أهل فاس من الْفَرح وَالسُّرُور والاحتفال فِي جَمِيع الْأُمُور اختبرناهم وبلونا أَحْوَالهم فألفينا أَحْوَالهم تصدق أَقْوَالهم فأمرناهم حِينَئِذٍ برد المستفادات لحالها الْمُعْتَاد كَمَا فعلنَا بمكناسة وَغَيرهَا من الْبِلَاد فامتثلوا طائعين وجدوا فِي دَفعهَا مسارعين وَمن جملَة من أمنا عَلَيْهَا ابْن شقرون المراكشي الْأمين فَلم نشعر بالدباغين أَصْحَاب فعلة بنيس إِلَّا وَقد ملئوا رعْبًا وتخوفوا أَن يركبُوا فِي الْمُؤَاخَذَة بهَا مركبا صعبا فطلبوا إِخْرَاج بنيس من بَين أظهرهم وإبعاده وهم حِينَئِذٍ عِنْد السّمع وَالطَّاعَة الْمُعْتَادَة فَلم نساعدهم فازدادوا تخوفا وَظهر مِنْهُم طيش أبان مِنْهُم تشوشا وتشوفا فتصدينا بحول الله وقوته لتربيتهم وتأنينا كل التأني فِي مفاجأتهم وأحجمنا حَيَاء من معاجلتهم تأدبا مَعَ حرمهم الْأَكْبَر سيدنَا ومولانا إِدْرِيس الْأَزْهَر ومراعاة لجَماعَة أهل الله الْأَحْيَاء والنائمة وإعذارا وإنذارا لتَكون الْحجَّة عَلَيْهِم شرعا وطبعا قَائِمَة حَتَّى ابتدؤونا وكسروا الْحرم فقابلناهم والبادي أظلم فَمَا كَانَ إِلَّا كلمح الْبَصَر أَو هُوَ أقرب حَتَّى ظهر نصر الله فهدمت دور وصوامع وَخَربَتْ فنادق ومصانع كَانُوا يضْربُونَ مِنْهَا ويتترسون بهَا ونهبت حوانيت ودور واستلبت أَيدي الْجَيْش أَقْوَامًا مِنْهُم وأسرت أسرى وَأخذُوا نكالا للآخرة وَالْأولَى لَكنا بِمُجَرَّد ظُهُور سطوة الله الْقَاهِرَة فيهم وَالْفَتْح أمرنَا بالنداء فِي الْحِين بِالْعَفو والصفح وكف أَيدي الْقَتْل والأسر عَنْهُم إبْقَاء عَلَيْهِم وشفقة لَهُم حَتَّى يظْهر مآل أَمرهم ويصفوا كدر غمرهم وَفِي عصر ذَلِك الْيَوْم ورد الْعلمَاء والشرفاء والرؤساء والعرفاء ضارعين صارخين شُفَعَاء على شَرط أَدَاء الْحُقُوق والتزام الشُّرُوط والبقاء على مَا كَانُوا عَلَيْهِ قيد حَيَاة مَوْلَانَا الْمُقَدّس من اللوازم والمغارم فشفعناهم على الشُّرُوط الْمَذْكُورَة وقبلناهم على الْتِزَام الْحُدُود المحصورة وأعلمناكم لتفرحوا بنصر الله وتكونوا على بَال من حَقِيقَة الْوَاقِع وَلِئَلَّا تصيخوا للْأَخْبَار الكاذبة مسام المسامع أَو تلتفتوا إِلَى أقاويل المرجفين الَّذين لَا يدينون الله بدين ولايريدون إِلَّا فتْنَة الْمُؤْمِنَات وَالْمُؤمنِينَ وَالسَّلَام فِي رَابِع ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف
اهـ ثمَّ إِن السُّلْطَان أعزه الله قبض على عَامل فاس إِدْرِيس السراج وعَلى وَلَده واثنين آخَرين مَعَه من رُؤُوس الْفِتْنَة وغربهم إِلَى مراكش وَولى على فاس الْقَائِد الجياني بن حمو البُخَارِيّ أحد قواده واستقامت الْأَحْوَال
وَكَانَ مِمَّا قيل من الشّعْر فِي هَذِه الْوَقْعَة قَول صاحبنا الْفَقِيه الأديب أبي عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر حركات السلاوي حفظه الله
(لله ياتلك الَّتِي تأوي الفنا
…
لَا تَنْقَضِي مَا كَانَ صبري قد بنى)
(كلا وَقد هيجت مني لوعة
…
قد أوشكت فِي مهجتي أَن تهدنا)
(وأتيت موطن مصرع العشاق ثمَّ
…
بَكَيْت حَتَّى كدت تبْكي الموطنا)
(لَو كَانَت الأجبال تعقل لانثنت
…
تبْكي لما بك رأفة وتحننا)
(فَبِأَي رَأْي يَا حميمة قد غَدا
…
مِنْك البكا عوض الترنم والغنا)
(وَبِأَيِّ ذَنْب قد فجعت قُلُوبنَا
…
وسقيتنا كأس الأسى بدل الهنا)
(أَو مَا كَفاك من المتيم مهجة
…
مَا شَأْنهَا إِلَّا معاناة العنا)
(صب لَهُ فِي كل يَوْم عِبْرَة
…
وتلهف يقتده قد القنا)
(كَيفَ اصْطِبَارِي والحبيب مصارمي
…
والدهر مغرا بالوشاية بَيْننَا)
(دَعْنِي فعدلك للمتيم ضلة
…
شَرّ عَلَيْهِ من مقاساة الضنا)
(تالله لارقأت لعَيْنِي عِبْرَة
…
حَتَّى ترى وَجه المليك الأيمنا)
(الْيَد الشهم السّري الأصيد الفخم
…
النَّهْي الباهي الْهمام الصيدنا)
(الْأَعْظَم المستعظم العذب الْحلِيّ المستعذب
…
الْحسن الثنا المستحسنا)
(قد حَاز فِي الْأَشْرَاف كل فَضِيلَة
…
مَلأ المسامع حسنها والأعينا)
(ومكارما ومحاسنا ومفاخرا
…
لَو ذاق لذتها الكفور لآمَنَّا)
(فلذاك سيدنَا الْمُقَدّس خصّه
…
بمآثر مَا تَنْتَهِي فتدونا)
(ورث الْخلَافَة كَابِرًا عَن كَابر
…
لَا كَالَّذي يَأْتِي إِلَيْهَا ضعيفنا)
(عشقته عشق ابْن الملوح خذنه
…
وصبت إِلَيْهِ صبا الْعُيُون إِلَى الرنا)
(وَله وَقد لبته قبل دُعَائِهِ
…
أَلْقَت أزمتها وَقَالَت هَا أَنا)
(ملك بِهِ الْملك الْأَغَر تشيدت
…
أَرْكَانه فِي الْعِزّ محكمَة الْبَنَّا)
(أضحى بِهِ يختال فخرا قَائِلا
…
لسواك يَا ركن الورى لن أركنا)
(والدهر سلم والحظوظ بواسم
…
والنصر يقبل من هُنَاكَ وَمن هُنَا)
(والسعد قد ألْقى عَصا تسياره
…
فِي قصره متاليا أَن يقطنا)
(حسنت بطلعته الدنا فَكَأَنَّهَا
…
حلى بِهِ هَذَا الزَّمَان تزينا)
(إِن المزايا والعطايا والحجا
…
أَخْلَاق سيدنَا تناء أودنا)
(لَا لَا تقس قيسا بِهِ فِي النبل أَو
…
فِي الْفضل قعقاعا وأحنف فِي الأنا)
(أَو فِي الشجَاعَة عَامِرًا أَو فِي الندى
…
مَعنا وَفِي الإفصاح قس الألسنا)
(فهم لَو اطلعوا على خصلاته
…
لغدت ظنونهم بِذَاكَ تَيَقنا)
(فاستصغروا مَا كَانَ يصدر مِنْهُم
…
وأتى جَمِيعهم إِلَيْهِ مذعنا)
(لَيْت الْمُلُوك السالفين قد أحضروا
…
فَرَأَوْا مليكا مَالِكًا حسن الثنا)
(وَلَو أَنهم علمُوا ضخامة ملكه
…
قَالُوا لنا ملك وَلَكِن قدونا)
(وَلَو أَنهم سمعُوا بِعظم سماحه
…
تاقوا وَقَالُوا ليته فِي عصرنا)
(وَلَو أَنهم قد أبصروا إقدامه
…
بهتُوا وَقَالُوا لَيْسَ ذَا فِي طوقنا)
(هَذَا الْأَمِير ابْن الْأَمِير ابْن الْأَمِير
…
ابْن الْأَمِير الْمَالِكِي رسن الدنا)
(هاذ العصامي العظامي الَّذِي
…
وسع الْأَمَاكِن فَضله والأزمنا)
(مَا زَالَ يسمح بالجوائز واللها
…
حَتَّى لقد تخذ السماحة ديدنا)
(فخم نتيه تلذذا بحَديثه
…
حَتَّى نظن الأَرْض قد مادت بِنَا)
(طبع الْفُؤَاد على مودنه فَمَا
…
نَدْعُو لَهُ بالنصر إِلَّا هيمنا)
(يَا أَيهَا الْملك السميذع وَالَّذِي
…
مَا كَانَ مشبهه مضى فِي غربنا)
(مَا زلت تجتاب الْبِلَاد بسيرة
…
عمرية تذر الْمعاصِي مذعنا)
(وَتبين للنَّاس الرشاد وسبله
…
وتريهم نهج السوَاء البينا)
(وتدمر العاتي بأبيض صارم
…
وَتقوم المعوج بالسمر القنا)
(لَوْلَا الْبُغَاة من الْأَنَام وجورهم
…
مَا فَارَقت بيض السيوف الأجفنا)
(لَكِن بِحِلْمِك قد حقنت دِمَاءَهُمْ
…
مَا أوشكت من بغيهم أَن تحقنا)
(وأنمت فِي ظلّ الْأمان جفونهم
…
لولاك لم يَك لامرىء أَن يأمنا)
(وَلَقَد تَركتهم وكل قَبيلَة
…
تثني عَلَيْك ثَنَا الْقُلُوب على المنا)
(حَتَّى أتيت الحضرة الفاسية الغراء
…
معتجرا بأثواب السنا)
(وَالْملك من فرط السرُور بك أزدهى
…
وَله فَم بجميل ذكرك أعلنا)
(وأتاك أَهلهَا قؤلا هَل لنا
…
يَا ماجدا من عطفة تشفي الضنى)
(يَا طالما اشتاقت إِلَيْك قُلُوبنَا
…
شوق الْفَقِير إِلَى ملاقاة الْغنى)
(فمنحتهم بعد الضراعة عزة
…
وكسوتهم بعد الأسا ثوب الهنا)
(هَذَا وَمَا صبحتهم بكريهة
…
حَتَّى جنى جهلا بِفَضْلِك من جنا)
(شربوا كؤوس الحتف لَوْلَا أَنَّهَا
…
أبقت عَلَيْهِم رأفة وتحننا)
(وأتاك أَرْبَاب البصائر قولا
…
يَا لَا تُؤَاخِذنَا بزلة غَيرنَا)
(فصفحت عَنْهُم صفح مقتدر وَلم
…
تتْرك جيوشك فيهم أَن تثخنا)
(وحبوتهم بعد الآسى بمسرة
…
منعت قُلُوب النَّاس أَن تتحزنا)
(فغدى ببغيته المصافي وانثنى
…
بندامة الكسفى من قد شيطنا)
(لَو كَانَ فِي الْإِحْسَان شَيْء يتقى
…
لنهاك طبع الْجُود أَن لَا تحسنا)
(إِن الْكَرِيم إِذا تمكن من أَذَى
…
صاحت بِهِ أحلامه فتحننا)
(مثل الشجاع إِذا سطى يَوْم الوغا
…
أضحى بري طعم الردى حُلْو الجنا)
(لَا كالجبان فَلَو تكلّف نجدة
…
صدته خَشيته الْحمام فأقبنا)
(وَكَذَا اللَّئِيم إِذا أَرَادَ تفضلا
…
جَاءَتْهُ أَخْلَاق اللئام فأشقنا)
(لَو أَن جودك فِي الورى متفرق
…
مَا كَانَ فيهم من بَرى متمسكنا)
(وَلَو أَن بأسك قد تفرق بَينهم
…
مَا كَانَ يُمكن لامرىء أَن يجبنا)
(لَو لم تكن مولى خَمِيس أرعن
…
لكفتك هيبتك الْخَمِيس الأرعنا)
(لَو أَن من أثنى على هرم رأى
…
يَوْمًا علاك لقَالَ غَيْرك مَا عَنَّا)
(شهد الْأَنَام بِأَن مجدك باهر
…
لم يجحدنه جَاحد فنبرهنا)
(يدعونك الْحسن الرضى طرا وَلَو
…
شوركت فِي حسن دعوك الأحسنا)
(يَا أَيهَا الشهم السّري وَمن بِهِ
…
أضحى على الأقطار يفخر قطرنا)
(إِنِّي امتدحتك والمحبة شَافِعِيّ
…
ومحبة الْأَشْرَاف نعم المقتنى)
(وتحصني أبدا بعزة ركنكم
…
ومعزز من بالكرام تَحَصُّنًا)
(لَا زَالَت أمداحي لأقعس مجدكم
…
مُتَوَالِيَات أَو يصدني المنا)
(تالله لَا قمنا بشكركم وَلَو
…
أعضاؤنا كَانَت جَمِيعًا أَلسنا)
(فلنمدحنك فِي الْحَيَاة وَإِن نمت
…
قَامَت عظامتنا بمدحك بَعدنَا)
(خُذْهَا إِلَيْك خريدة فكرية
…
طلعت بغيظ قُلُوب أَبنَاء الزِّنَى)
(بهرت قُلُوب ذَوي النَّهْي بمحاسن
…
منعت خرائد فكرهم أَن تحسنا)
(فاصرف إِلَيْهَا منَّة عين الرضى
…
وامنع بِفَضْلِك حسنها أَن يغبنا)
(دَامَت إِلَيْك من الْمُهَيْمِن نصْرَة
…
تدع المعاند ضارعا مستهجنا)
(بِمُحَمد الْمُخْتَار جدك خير من
…
قد أوضح النهج الْقَدِيم وَبينا)
(صلى عَلَيْهِ الله مَا جن الدجى
…
وأمالت الرّيح الْجنُوب الأغصنا)
(والآل والصحب الصناديد الذرى
…
والمانحي قصادهم نيل المنا)
ثمَّ شرع السُّلْطَان أعزه الله بِجمع الْعَسْكَر وتنظيمه زِيَادَة على مَا كَانَ فِي حَيَاة وَالِده فألزم أهل فاس بِخَمْسِمِائَة وألزم أهل العدوتين بستمائة وألزم غَيرهمَا من الثغور بمائتين مِائَتَيْنِ وَلم يتَّخذ من مراكش وَلَا أَعمالهَا شَيْئا فصعب على النَّاس ذَلِك وجمعوا مِنْهُ مَا قدرُوا عَلَيْهِ واعتنى السُّلْطَان أعزه الله بِهِ فَكَانَ يُبَاشر عرضه وترتيبه بِنَفسِهِ وَفِي أَيَّام مقَامه بفاس نبغ نابغ بأعمال وَجدّة يُقَال لَهُ أَبُو عزة الهبري من هبرة بطن من سُوَيْد وسُويد من عرب بني مَالك بن زغبة الهلاليين وَكَانَ هَذَا الرجل فِيمَا زَعَمُوا يخط فِي الرمل وَيتَعَاطَى بعض السحريات فَتَبِعَهُ بعض الأوباش الَّذين لَا شغل لَهُم وتأشبوا عَلَيْهِ ودنا من أَطْرَاف الإيالة وَقَوي حسه وَكَانَ السُّلْطَان أعزه الله عَازِمًا على النهوض إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَة وتمهيدها وَنفي الدجاجلة عَنْهَا فاستعد غَايَة الاستعداد وجدد الفساطيط وكسى الْجنُود فرسانها ورماتها قديمها وحديثها وعرضها كلهَا ثمَّ نَهَضَ من فاس منتصف رَجَب سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما بَات فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة بآيت شغروسن أغار على الْمحلة لَيْلًا أَبُو عزة الهبري وَمَعَهُ سعيد بن أَحْمد الشغروسني وَيُقَال إِنَّه إدريسي النّسَب فماجت الْمحلة بعض الشَّيْء ثمَّ تراجع النَّاس وَأخذُوا مراكزهم وصوبوا المدافع وآلات الْحَرْب نَحْو عدوهم فشردوهم فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بهم وَقبض على عدد من أَصْحَابه وَقطعت رُؤُوس مِنْهُم وَتقدم السُّلْطَان أعزه الله
فِي جموع مؤلفة من الْجَيْش السعيد المظفر وأنجاد نظام الْعَسْكَر وغزاة الْقَبَائِل الغربية بربرية وعربية إِلَى بني سادان وآيت شغروسن فأوقع بهم وَقتل وَأسر وانتسفت الجيوش زُرُوعهمْ وبعثرت أَرضهم وديارهم فلجؤوا إِلَى بني وراين فَأمر السُّلْطَان أيده الله بِقِتَال الْجَمِيع ثمَّ جَاءَ بَنو وراين متنصلين متبرئين إِلَى السُّلْطَان مِنْهُم فقبلهم وَولى عَلَيْهِم رجلا من أعيانهم ثمَّ جَاءَ بَنو سادان وآيت شغروسن تَائِبين خاضعين فَعَفَا عَنْهُم ووظف عَلَيْهِم مائَة ألف مِثْقَال وَزِيَادَة أَرْبَعمِائَة من الْخَيل فأذعنوا لأدائها واستوفاها السُّلْطَان أعزه الله مِنْهُم فِي أَوَائِل شعْبَان من السّنة ثمَّ تقدم إِلَى تازا فَدَخلَهَا فِي أَوَائِل الشَّهْر الْمَذْكُور وَلما احتل بهَا قدمت عَلَيْهِ وُفُود قبائلها مُتَمَسِّكِينَ بِحَبل الطَّاعَة داخلين فِيمَا دخلت فِيهِ الْجَمَاعَة فرحين مغتبطين وَبِكُل مَا أمكنهم من الْخدمَة متقربين وَجَاءَت عرب الأحلاف وَمن جاورهم حاملين هوادجهم المحلاة بِأَحْسَن حليهم وشاراتهم الَّتِي يستعملونها فِي مواسمهم وزيهم فقابل السُّلْطَان أعزه الله كلا بِمَا يجب من المجاملة وَحسن الْمُعَامَلَة مَا عدا ثَلَاث فرق من غياثة المجاورين لتازا وهم بَنو أبي قيطون وَأهل الشقة وَأهل الدولة فَإِنَّهُم كَانُوا يضرون بِأَهْل تازا ويغيرون عَلَيْهِم فألزمهم السُّلْطَان أيده الله بأَدَاء مَا تعلق لَهُم بِذِمَّتِهِمْ فأدوه فِي الْحَال ثمَّ وظف عَلَيْهِم ثَلَاثِينَ ألف ريال أُخْرَى لبيت المَال فأدوها أَيْضا عَن طيب أنفسهم وَمن عداهم من أهل غياثة فَإِنَّمَا أَدّوا الزكوات والأعشار وأظهروا حسن الطَّاعَة والامتثال وَفِي هَذِه الْأَيَّام جِيءَ إِلَى السُّلْطَان بالهبري أَسِيرًا فَإِنَّهُ لما خرج السُّلْطَان أعزه فِي طلبه وَطلب غَيره أبعد فِي الصَّحرَاء وَلم تزل تلفظه الْبِلَاد وتتدافعه الشعاب والوهاد إِلَى أَن ساقته خَاتِمَة النكال إِلَى قَبيلَة بني كلال وهم على أَربع مراحل من تازا فقبضوا عَلَيْهِ وجاؤوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان أَسِيرًا حَتَّى أوقفوه بَين يَدَيْهِ مصفدا كسيرا فأظهر الهبري الْجزع وتضرع وخضع فحقن السُّلْطَان أعزه الله دَمه وَأمر بِهِ فطيف فِي الْمحلة على جمل ثمَّ أَمر ببعثه إِلَى فاس فسجن بهَا بعد أَن طيف
بِهِ فِي أسواقها ثمَّ مضى السُّلْطَان أعزه الله لوجهه حَتَّى بلغ قَصَبَة سلوان على طرف الإيالة المغربية من جِهَة الشرق فوفدت عَلَيْهِ قبائل تِلْكَ النواحي وأهدوا ومانوا وأظهروا غَايَة الْفَرح وَالسُّرُور
حكى من حضر أَنهم كَانُوا يزدحمون عَلَيْهِ لتقبيل يَده وركابه وَوضع ثِيَابه على أَعينهم تبركا بِهِ وَفِي أَوَائِل رَمَضَان من هَذِه السّنة فِي لَيْلَة الْخَامِس أَو السَّادِس وَقع تناثر فِي الْكَوَاكِب وتداخل واضطراب عَظِيم على هَيْئَة مفزعة بَعْضهَا مشرق وَبَعضهَا مغرب وَبَعضهَا إِلَى هَيْئَة أُخْرَى فَكَانَ الْحَال كَمَا وصف الْأَعْمَى بقوله
(كَأَن مثار النَّقْع فَوق رؤوسنا
…
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه)
دَامَ ذَلِك إِلَى قرب السحر وَأقَام السُّلْطَان أعزه الله بِهَذِهِ الْبِلَاد حَتَّى عيد بهَا بعيد الْفطر وَكَانَ المشهد هُنَالك عَظِيما والموسم مخيما وَحضر بَنو يزناسن وَمَعَهُمْ كَبِيرهمْ الْحَاج مُحَمَّد بن البشير بن مَسْعُود فأهدى هَدِيَّة كَبِيرَة وولاه السُّلْطَان على تِلْكَ الْقَبَائِل من بني يزناسن وَغَيرهَا وقفل أعزه الله رَاجعا فأدركه فصل الشتَاء بِتِلْكَ الْجبَال والفيافي فَاشْتَدَّ الْبرد وَقلت الأقوات وَهلك بِسَبَب ذَلِك عدد كثير من الْجند وَلحق النَّاس مشقة فادحة وَأظْهر السُّلْطَان نَصره الله يَوْمئِذٍ من الشَّفَقَة والبرور مَا تناقله النَّاس وتحدثوا بِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يسير بسير الضَّعِيف وَيقف على المرضى حَتَّى يصلح من شَأْنهمْ وَيَأْمُر بدفن من يدْفن وَحمل من يحمل وَإِذا سقط لأحد دَابَّته أَو رَحْله وقف عَلَيْهِ بِنَفسِهِ حَتَّى يعان عَلَيْهِ وَهَكَذَا إِلَى أَن دخل حَضْرَة فاس بِحَيْثُ أدْرك بِهِ عيد الْأَضْحَى من السّنة فعيد بهَا وتفرغ للنَّظَر فِي أَمر الْعَسْكَر يقوم عَلَيْهِ بِنَفسِهِ ويعرضه على عينه ويتصفح قَوَائِم مؤنه ورواتبه فَاطلع أيده الله على مَا كَانَ يدلسه القائمون على ذَلِك من الزِّيَادَة الْبَاطِلَة فعزل من عزل وأدب من يسْتَحق التَّأْدِيب ثمَّ قبض على كَبِير الْعَسْكَر السُّوسِي وَهُوَ الْحَاج منو الحاحي وَكَانَت فِيهِ شجاعة وإقدام إِلَّا أَنه كَانَ مفرطا فِي التهور والإدلال على الدولة وكبرائها فَأدى ذَلِك إِلَى الانتقام مِنْهُ بِالضَّرْبِ والسجن وَالِاحْتِيَاط على مَاله وضياعه
وَلَا زَالَ مسجونا إِلَى الْآن ثمَّ سرح من السجْن واستوطن مراكش عَام ألف وثلاثمائة وَخَمْسَة وَفِي هَذِه الْمدَّة شرع السُّلْطَان أعزه الله فِي بِنَاء دَاره الْعَالِيَة بِاللَّه العامرة المزرية بمصانع الْمُعْتَمد وقباب الزهرة وَذَلِكَ فِي الْبُسْتَان الْمَعْرُوف ببستان آمِنَة دَاخل فاس الْجَدِيد عمد أعزه الله إِلَى نَاحيَة من ذَلِك الْبُسْتَان فَقطع مَا كَانَ بهَا من الشّجر وَبنى فِيهَا قبَّة فارهة فائقة الْحسن بديعة الْجمال يُقَال إِنَّه ضاهى بهَا بعض قباب الْمُعْتَمد بن عباد بإشبيلية ثمَّ بنى الدَّار الْكُبْرَى بإزائها وَهِي من عجائب الدُّنْيَا حَسْبَمَا بلغنَا بَالغ أيده الله فِي تنجيدها وتنميقها وأودعها من النقش العجيب والترخيم البديع والزليج الرفيع المزري بخمائل الزهر وقطائف الْهِنْد وبديع الطوس بِحَيْثُ جزم كل من رأى ذَلِك بِأَن مثله لم يتَقَدَّم فِي دولة من دوَل الْمغرب وجلب لقبابها الْأَبْوَاب من بِلَاد الأروام يُقَال إِن ثمن أحد الْأَبْوَاب خَمْسَة عشر ألف ريال مسامره من الْفضة المذهبة وَعوده من أفضل أَنْوَاع الْعود لَا تعرف لَهُ قيمَة وَفِيه من التخريم والنقش مَا يدهش الْفِكر ويحير النّظر وَبَاقِي الْأَبْوَاب من البلور الصافي الْمَذْهَب الْمُودع فِيهِ كل نقش غَرِيب وَبهَا خوخات مركبة بهيئة بديعة كل ذَلِك قد عَمه الذَّهَب النضار الَّذِي يدهش الْأَبْصَار وجلب لذَلِك من الأثاث الرُّومِي مَا قِيمَته أُلُوف من الريال وفيهَا من الْفرش والحائطيات المزخرفة مَا لَا يدرى ثمنه وَلَا يعرف معدنه وموطنه إِلَى غير ذَلِك من المقاعد الْحَسَنَة والمنازل المستحسنة الرائقة الطّرف البديعة الصَّنْعَة والرصف وَفِي مُدَّة مقَام السُّلْطَان أيده الله بفاس بلغه عَن ولد البشير بن مَسْعُود بعض استبداد فَاقْتضى نظر السُّلْطَان أعزه الله أَن يبْعَث من قبله عَاملا لجباية تِلْكَ النواحي فعقد لِأَخِيهِ الْمولى عَليّ على جَيش وأضاف إِلَيْهِ الْقَائِد أَبَا زيد عبد الرَّحْمَن بن الشليح الزراري بِمَنْزِلَة الْوَزير والظهير وبعثهما إِلَى نَاحيَة وَجدّة وَكَانَ ابْن الشليح الْمَذْكُور يَوْمئِذٍ يتَوَلَّى عمالة تازا وَكَانَ أهل وَجدّة وأعمالها يكْرهُونَ ولَايَة ولد البشير عَلَيْهِم وَيُحِبُّونَ ولَايَة ابْن الشليح إِذْ كَانَ لَهُ ذكر وصيت فِي تِلْكَ النَّاحِيَة وَرُبمَا كَاتبه عرب آنقاد وكاتبهم وَلما أحس ولد البشير بذلك انصبغت الْعَدَاوَة بَينه وَبَين ابْن الشليح فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى
وَجه السُّلْطَان أيده الله ابْن الشليح الْمَذْكُور واليا على وَجدّة وأعمالها وجابيا لأموالها وناظرا فِي شؤونها وَأَحْوَالهَا فَقَامَتْ قِيَامَة ولد البشير وَعلم أَنه لَا يصفو لَهُ عَيْش مَعَه فعزم على أَن يطرده عَن تِلْكَ الْبِلَاد وَيَردهُ من حَيْثُ جَاءَ وَكَانَ ولد البشير هَذَا حسن الطَّاعَة للسُّلْطَان إِلَّا أَنه انفسد أمره بِمَا ذَكرْنَاهُ وَلما قرب ابْن الشليح من أرضه خرج إِلَيْهِ فِي خيله وَرجله وَلما الْتَقت مُقَدّمَة الْجَيْش بهم انتشبت الْحَرْب بَينهم وَقَامَت الْفِتْنَة على سَاق وَكَانَ غَرَض ولد البشير أَن يضم إِلَيْهِ أَخا السُّلْطَان وجيشه وَيقوم بخدمتهم ويطرد عَنهُ عدوه فَقَط فَلم يستقم لَهُ ذَلِك وَكَانَ رَأْيه هَذَا خطأ إِذْ لَيست هَذِه بِطَاعَة كَمَا لَا يخفى ثمَّ انهزم الْجَيْش وعمدت بَنو يزناسن وَالْعرب إِلَى الْمحلة فانتهبوها وَعَاد عبد الرَّحْمَن بن الشليح إِلَى السُّلْطَان أعزه الله وَهُوَ بفاس فَأخْبرهُ الْخَبَر وبإثر ذَلِك كتب ابْن البشير إِلَى السُّلْطَان يتنصل من أَمر ابْن الشليح ومحلته وَأَنه لَا زَالَ على الطَّاعَة لم يُبدل وَلم يُغير وَإِنَّمَا الَّذِي انتهب الْمحلة هم السُّفَهَاء من غير إِذن لَهُم وَلَا مُوَافقَة على ذَلِك وَحَتَّى الْآن فَكل مَا ضَاعَ من تِلْكَ الْمحلة يُؤَدِّيه بِأَكْثَرَ مِنْهُ فطوى لَهُ السُّلْطَان أيده الله عَلَيْهَا وأرجأ أمره إِلَى وَقت آخر وَكَانَ قد اتَّصل بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت خبر أبي عبد الله مُحَمَّد الكنتافي صَاحب جبل تينملل وَكَانَ أصل هَذَا الرجل أَنه كَانَ من أَشْيَاخ قبيلته وَكَانَ الْمُتَوَلِي عَلَيْهِم هُوَ قَائِد الْجَيْش السُّوسِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن سعيد الجراوي وَكَانَ الكنتافي هَذَا أحذر من غراب وَأَمْنَع من عِقَاب قد اتخذ حصنا فِي رَأس جبل تينملل حَيْثُ كَانَ ظُهُور مهْدي الْمُوَحِّدين حَسْبَمَا مر فِي أخبارهم وتحصن بِهِ وَصَارَ يُؤَدِّي للقائد الجراوي كل مَا يَأْمُرهُ بِهِ من غير توقف إِلَّا أَنه لَا ينزل إِلَيْهِ فَلَمَّا توفّي الجراوي الْمَذْكُور وَولى السُّلْطَان على الْجَيْش السُّوسِي وَمَا أضيف لَهُ وصيفه الْقَائِد أَحْمد بن مَالك ضايق الكنتافي بعض الشَّيْء وَسَار مَعَه بِغَيْر سيرة الجراوي قبله فَأَنف الكنتافي من ذَلِك وأعلن أَنه فِي طَاعَة السُّلْطَان ومتقلد بيعَته يَمُوت عَلَيْهَا وَيبْعَث عَلَيْهَا وَلَا يقبل ولَايَة أَحْمد بن مَالك وَلَو ألقِي فِي النَّار فَكتب أَحْمد بن مَالك إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بفاس يُعلمهُ بِأَن الكنتافي قد خلع الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة وأشاع
المرجفون بِأَنَّهُ يحاول الِاسْتِقْلَال بِالْأَمر التفاتا إِلَى مَا كَانَ لسلفه من أهل ذَلِك الْجَبَل مُنْذُ سَبْعمِائة سنة وَرُبمَا حن هُوَ إِلَى ذَلِك أَيْضا وَقد حكى ابْن خلدون أَن أهل ذَلِك الْجَبَل كَانُوا فِي زَمَانه على هَذَا الِاعْتِقَاد
(تخرصا وأحاديثا ملفقة
…
لَيست بنبع إِذا عدت وَلَا غرب)
وَاسْتَأْذَنَ أَحْمد بن مَالك السُّلْطَان أعزه الله فِي غَزْو هَذَا الكنتافي فَأذن لَهُ فَبعث إِلَيْهِ كَتِيبَة من الْجند ففضها الكنتافي فازداد المرجفون تقولا وتخرصا ثمَّ بعث إِلَيْهِ ابْن مَالك جَيْشًا آخر أعظم من الأول فَهَزَمَهُ الكنتافي أَيْضا وَقبض على جمَاعَة مِنْهُم بِالْيَدِ فَمن كَانَ من جَيش السُّلْطَان سرحه إِظْهَارًا للطاعة وَمن كَانَ من الْقَبَائِل الْمُجَاورَة لَهُ ضرب عُنُقه وَكَانُوا عددا وافرا فتفاحش أَمر الكنتافي فِي الْحَوْز وَكَاد يَسْتَحِيل إِلَى فَسَاد فَبعث وَلَده إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان بفاس وَكتب لَهُ بشرح قَضيته وَأَنه مظلوم من قبل أَحْمد بن مَالك وَمَا ارْتَكَبهُ فِي حق الْجَيْش إِنَّمَا هُوَ مدافعة عَن نَفسه وَأَنه لم يقتل جنديا قطّ وَبَالغ فِي التنصل وَتَقْدِيم الشفاعات والذبائح والعارات فأرجأ السُّلْطَان أعزه الله أمره ونهض من فاس منتصف رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فوصل إِلَى رِبَاط الْفَتْح لَيْلَة عيد الْفطر فاتفق أَن وَقع بهَا نادرة وَهِي أَن جمَاعَة من شُهُود اللفيف اثنى عشر جاؤوا إِلَى القَاضِي أبي عبد الله بن إِبْرَاهِيم رحمه الله لَيْلَة التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان وشهدوا عِنْده أَنهم رَأَوْا هِلَال شَوَّال بعد الْغُرُوب رُؤْيَة مُحَققَة لم يلحقهم فِيهَا شكّ وَلَا رِيبَة فَسمع القَاضِي شَهَادَتهم وسجلها وَكتب للسُّلْطَان بذلك وَهُوَ بقرميم فارتحل السُّلْطَان فِي جَوف اللَّيْل وَدخل دَاره وَأصْبح من الْغَد معيدا وَعِيد أهل العدوتين وأعمالهما والجم الْغَفِير من أهل الْمغرب الَّذين حَضَرُوا مَعَ السُّلْطَان وَلما كَانَ ظهر ذَلِك الْيَوْم وَهُوَ التَّاسِع وَالْعشْرُونَ من رَمَضَان حقق الفلكيون من أهل الدولة أَن الْعِيد لَا يُمكن فِي ذَلِك الْيَوْم وَتَكَلَّمُوا بذلك وفاهوا بِهِ فَكثر الْكَلَام بذلك وَكَانَ جلّ النَّاس على شكّ أَيْضا وَلما حَان وَقت الْغُرُوب ارتقب النَّاس الْهلَال وَالسَّمَاء مصحية لَيْسَ فِيهَا قزعة فَلم يرَوا لَهُ أثرا فَأمر السُّلْطَان أعزه الله بالنداء وَأَن النَّاس يُصْبِحُونَ صياما لِأَن رَمَضَان لَا زَالَ فصَام النَّاس من الْغَد وَبعد ذَلِك
ظهر الْهلَال ظهورا مُعْتَادا وَتبين كذب الشُّهُود فسجنوا ثمَّ سرحوا بعد حِين وَلما قضى السُّلْطَان أعزه الله سنة الْعِيد نَهَضَ إِلَى مراكش فَلَمَّا قرب من زَاوِيَة ابْن ساسي بَين بِلَاد الرحامنة وزمران نزل هُنَالك على الرحامنة وَكَانُوا قد حصل مِنْهُم اعوجاج وتمرض فوظف عَلَيْهِم من الْأَمْوَال مَا أثقل ظُهُورهمْ وَفرض عَلَيْهِم من الْعَسْكَر وَالْخَيْل مَا امتحنوا فِي أَدَائِهِ وَلم يقم عَنْهُم حَتَّى أَدّوا جَمِيع ذَلِك وَحَتَّى خرج الْأَشْرَاف والمنتسبون من أهل مراكش إِلَى السُّلْطَان للشفاعة فيهم وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ فِي دُخُوله منزله فَقبل السُّلْطَان أيده الله شفاعتهم وارتحل عَنْهُم فَدخل مراكش آخر ذِي الْقعدَة من السّنة وَكَانَت مُدَّة مقَامه على الرحامنة سِتَّة عشر يَوْمًا وَكَانَ يَوْم دُخُوله إِلَى مراكش يَوْمًا مشهودا وَفِي رَابِع ذِي الْحجَّة بعده قبض على مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ شخصا من أَعْيَان أَوْلَاد أبي السبَاع وَكَانُوا قد عاثوا فِي ذَلِك الْحَوْز على عَادَتهم وَعظم ضررهم واستطار شررهم وَخَرجُوا على عاملهم السَّيِّد عبد الله بن بلعيد وصالوا على الْقَائِد أبي حَفْص عمر المتوكي وَكَانَ الْقَتْل بَينهم وَبَين شيعَة عاملهم ابْن بلعيد الْمَذْكُور ففر إِلَى السُّلْطَان بفاس فَأرْخى أعزه الله لَهُم الْحَبل وَأطَال عَلَيْهِم الرسن وَولى عَلَيْهِم الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن زروال الرحماني صُورَة حَتَّى اطمأنوا بذلك وأنسوا وَلما قدم أعزه الله مراكش ضرب الْبعُوث على قبائل الْحَوْز فناب أَوْلَاد أبي السبَاع فِي ذَلِك ثَلَاثمِائَة فَارس فَقدمت مراكش بخيلها وأسلحتها وَكَانَ السُّلْطَان أيده الله يَوْمئِذٍ قد أَخذ فِي عرض بعوث الْقَبَائِل دَاخل مشور أبي الخصيصات فجَاء أَوْلَاد أبي السبَاع للعرض فَلَمَّا توسطوا المشور الْمَذْكُور أغلقت الْأَبْوَاب وَقبض عَلَيْهِم وجردوا من السِّلَاح وحملوا إِلَى السجْن وَكَانُوا مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ كَمَا قُلْنَا ثمَّ وَجه السُّلْطَان أعزه الله إِلَى حلتهم الْقَائِد الْعَرَبِيّ الرحماني مَعَ كَتِيبَة من الْجَيْش فنزلوا عَلَيْهِم وأغرمهم سِتِّينَ ألف ريال فأدوها فِي الْحَال بعد بيع ماشيتهم بأبخس ثمن وَحِينَئِذٍ بعث السُّلْطَان إِلَى عاملهم عبد الله بن بلعيد فاستدعاه من فاس وَقدم وولاه عَلَيْهِم فاطمأنوا وأطاعوا وجد السُّلْطَان أيده الله فِي جمع العساكر والاستعداد إِلَى أَوَاخِر صفر من سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف
فَقدم عَلَيْهِ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الكنتافي صَاحب الْجَبَل مستأمنا بالمرابط أبي عَليّ الْحسن بن تيمكيلشت فقابله السُّلْطَان بِالْعَفو والصفح وَأكْرم وفادته وولاه على إخوانه وانقلب إِلَى أَهله مَسْرُورا وَلما حضر عيد المولد الْكَرِيم احتفل السُّلْطَان أيده الله غَايَة الاحتفال على عَادَة أسلافه الْكِرَام قدس الله أَرْوَاحهم وَجعل فِي عليين عدوهم ورواحهم وتشنفت الأسماع بالأمداح النَّبَوِيَّة فِي اللَّيْلَة الْمُبَارَكَة بِالْمَسْجِدِ الْمعد لذَلِك وأنشدت قصائد لأدباء الْعَصْر وَبعد الْعِيد كسا السُّلْطَان نَصره الله جَمِيع الْجَيْش والعسكر وَالْكتاب حَتَّى الْأُمَنَاء والطلبة وَفِي مهل ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة خرج من مراكش يؤم بِلَاد الغرب فَجعل طَرِيقه على ثغر الجديدة فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا بعد أَن زار تربة بني آمغار برباط تيط وتفقد أَحْوَال ثغر الجديدة ووقف على أبراجها وأسوارها وباشر فِي الرماية بالمدفع وَكَانَ رميه صَوَابا بِحَيْثُ أصَاب الْغَرَض أعزه الله وَأهْدى لَهُ جَمِيع تجارها من الْمُسلمين وَالنَّصَارَى وَالْيَهُود فَقبل ذَلِك وكافأ عَلَيْهِ وَكَانَ أعزه الله حِين عزم على النهوض من مراكش قد كتب إِلَى عَامله على مَدِينَة آنفى وَهُوَ الْقَائِد الْأَجَل الأنصح أَبُو عبد الله الْحَاج مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن حمان الجراري أَن يتَقَدَّم إِلَى ثغر الجديدة وَيُقِيم هُنَالك حَتَّى يَأْمُرهُ بِمَا يكون عَلَيْهِ عمله فامتثل الْقَائِد الْمَذْكُور وَلما قدم السُّلْطَان أعزه الله إِلَى الثغر الْمَذْكُور اجْتمع بِهِ الْقَائِد الْمَذْكُور وَطلب مِنْهُ أَن يجدد لَهُ ظهيرا بالتوقير والاحترام حَسْبَمَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ ووالده من قبله مَعَ السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى عبد الرَّحْمَن وَابْنه السُّلْطَان المرحوم سَيِّدي مُحَمَّد رحمهمَا الله فَأَجَابَهُ أعزه الله إِلَى ذَلِك وَكتب لَهُ ظهيرا يَقُول فِيهِ مَا نَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد وَآله كتَابنَا هَذَا أسماه الله وأعز أمره وَجعل فِي الصَّالِحَات طيه ونشره يسْتَقرّ بيد ماسكه خديمنا الأرضى الطَّالِب مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري ويتعرف مِنْهُ أننا بحول الله وقوته أَنزَلْنَاهُ الْمنزلَة الَّتِي كَانَ بهَا هُوَ ووالده عِنْد أسلافنا الْكِرَام ولحظناه بِعَين الرِّعَايَة والبرور والاحترام هُوَ وَأَوْلَاده وَإِخْوَته فَلَا يرَوا من جانبنا العالي بِاللَّه إِلَّا الْخَيْر لأَنهم خدام أَبنَاء خدام ودارهم دَار الْمحبَّة والنصيحة فَلَا نسلمهم وَلَا نفوتهم وَلَا نضيع لَهُم
سالف خدمتهم وَلَا نكشف عَنْهُم جِلْبَاب حرمتهم بحول الله وقوته وَالسَّلَام صدر بِهِ أمرنَا المعتز بِاللَّه فِي تَاسِع ربيع الثَّانِي عَام ثَلَاثَة وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما قضى السُّلْطَان أعزه الله أربه من ثغر الجديدة نَهَضَ إِلَى آزمور فَتَلقاهُ أَهلهَا بالفرح وَالسُّرُور والبهجة والحبور فهش لَهُم وقابلهم بِمَا يُنَاسب ودعا لَهُم بِخَير وزار ضريح الشَّيْخ أبي شُعَيْب وَأبي عبد الله مُحَمَّد واعدود رضي الله عنهما وَقدم لضريحهما ذَبَائِح وَطَاف بأسوار الْبَلَد وأبراجه وَأمر بتحصين برج هُنَالك كَانَ مُقَابلا للمرسى ثمَّ خرج من آزمور بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ فَانْتهى إِلَى مَدِينَة آنفى فَدَخلَهَا فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي الْمَذْكُور وعزل عَنْهَا الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري وَولى مَكَانَهُ الْحَاج عبد الله بن قَاسم حِصَار السلاوي ثمَّ كتب إِلَى أبي عبد الله الجراري الْمَذْكُور بولايته على الجديدة وأعمالها وَنَصّ كِتَابه إِلَيْهِ خديمنا الأرضى الطَّالِب مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري وفقك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإنَّا أعفيناك من ولَايَة الدَّار الْبَيْضَاء ووليناك على الجديدة وَلم نعزلك عَنْهَا سخطا لسيرتك وَلَا هضما لجَانب خدمتك وَإِنَّمَا اقْتَضَت الْمصلحَة ذَلِك تَقْدِيمًا للأهم فالأهم وَأَنت منا وإلينا ودارك دَار الْخدمَة وَالصَّلَاح فَلَا نسلمكم وَلَا نفوتكم وَلَا نهضم لكم جانبا وَالسَّلَام فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي عَام ثَلَاثَة وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ
وَاعْلَم أَن هَذَا الْعَامِل من أمثل عُمَّال السُّلْطَان نَصره الله وأعقلهم وأرجحهم وأنصحهم قد اسْتَعْملهُ الْمُلُوك الثَّلَاثَة الْمولى عبد الرَّحْمَن وَابْنه سَيِّدي مُحَمَّد وَابْنه الْمولى الْحسن رضي الله عنهم فظهرت كِفَايَته ونصيحته وحمدت ولَايَته وَسيرَته وَهُوَ الْآن بِهَذَا الْحَال حفظنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين آمين وَلما احتل السُّلْطَان أعزه الله بِالدَّار الْبَيْضَاء طَاف فِي أبراجها وَأمر الطبجية بِنصب الْأَغْرَاض الْمُسَمَّاة بالقريبيات فِي الْبَحْر ثمَّ أَمر برميها وَهُوَ حَاضر وَرُبمَا بَاشر مَعَهم ثمَّ اجتاز بعد الْفَرَاغ على بَاب المرسى وَمحل وضع السّلْعَة للتجار بهَا فَوقف عَلَيْهِ وتأمله كَمَا فعل بثغر الجديدة ووعد
بإصلاح المون على شاطىء الْبَحْر لِأَن البحرية يتعبون فِيهِ وَقت إِنْزَال السّلع ووسقها وَأقَام بِالدَّار الْبَيْضَاء بالمحلة خَارج الْبَلَد يَوْمَيْنِ وَأهْدى إِلَيْهِ تجارها من النَّصَارَى وَالْيَهُود وَالْمُسْلِمين وَأظْهر النَّصَارَى الْفَرح وَأَكْثرُوا من تَعْلِيق الصناجق وَإِيقَاد الحراقيات بِاللَّيْلِ وإرسالها فِي الجو فقابلهم السُّلْطَان أعزه الله بالجميل وَحمل النَّصَارَى مِنْهُم على خيل مُكَافَأَة لَهُم على هديتهم فطاروا بذلك فَرحا حَتَّى أَنهم كتبُوا بذلك لأهل دولتهم ونشروه فِي كوازيطهم وأجوبتهم وَفِي هَذِه الْمدَّة وَجه السُّلْطَان أعزه الله خديمه الأنجد الْفَاضِل أَبَا عبد الله الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج الطَّاهِر الزُّبْدِيُّ الرباطي باشدورا وسفيرا عَنهُ إِلَى دوَل الإفرنج مثل دولة افرانسا ودولة النجليز ودولة الطاليان ودولة البلجيك واستصحب مَعَه هَدَايَا نفيسة وأموالا طائلة صيرها فِي وجهته تِلْكَ ورافقه فِي سفارته هَذِه الْأمين الأرضى السَّيِّد بناصر ابْن السَّيِّد الْحَاج أَحْمد غَنَّام الرباطي برسم الْقيام بخطة الْأَمَانَة والقهرمانية وصاحبنا الْفَقِيه الأديب فلكي الْعَصْر وحاسبه الشريف أَبُو الْعَلَاء إِدْرِيس بن مُحَمَّد الجعيدي السلاوي برسم الْقيام بخطة الْكِتَابَة فوصلوا إِلَى أهل هَذِه الدول وقضوا الْغَرَض على أكمل الْوُجُوه وأحسنها وعادوا مسرورين فِي أَوَاخِر شعْبَان من السّنة وَفِي هَذِه الوجهة قيد صاحبنا أَبُو الْعَلَاء الْمَذْكُور رحلته البديعة الْمُسَمَّاة بتحفة الْأَحْبَار بِغَرَائِب الْأَخْبَار قد اشْتَمَلت على كل نادرة وغريبة وأفصحت عَن صنائع الفرنج وحيلها العجيبة وَعند قفوله وقدومه على حَضْرَة السُّلْطَان أيده الله مدحه بقصيدة جَيِّدَة مطْلعهَا
(أسالم دهري فِي المرام وَفِي الْقَصْد
…
فينقض مَا أبرمت للصلح من عقد)
(وأسأله الرحمى فيبدي ازوراره
…
ونفرته عني فيا عظم مَا يُبْدِي)
(وَكم لي استرضيه وَهُوَ مغاضب
…
وَلَا يرعوي عَمَّا جناه على عمد) وَمِنْهَا فِي آخرهَا
(وهذي بَنَات الْفِكر مني هَدِيَّة
…
إِلَى الْملك الْمَنْصُور ذِي الْجُود والرفد)
(فَإِن أهملت عدلا فَإِنِّي مهمل
…
وإ، صادفت وَقت الْقبُول فيا سعدي)
(وَمَا كنت فِي بَاب القريض مبرزا
…
شهيرا وَلَكِنِّي تعاطيته جهدي)
(لأجل امتحاني لذت فِيهِ بربنا
…
فَأَصْبَحت ذَا وجد وَقد كنت ذَا فقد)
(فها أَنا ضيف زائر لحماكم
…
وحسبي رضاكم فَهُوَ نفس المنى عِنْدِي)
(وَيَا رَبنَا أعْط الْأَمِير مرامه
…
وظفره بالمطلوب مِنْك وبالقصد)
ثمَّ إِن السُّلْطَان أعزه الله نَهَضَ من الدَّار الْبَيْضَاء وَمَعَهُ الْجند الوافر والعسكر المجر والجم الْغَفِير من قبائل الْحَوْز وَأهل دكالة وتامسنا فأوقع بعرب الزيايدة أهل تامسنا وَتقدم إِلَى رِبَاط الْفَتْح فدخله غرَّة جُمَادَى الأولى من السّنة فَمَكثَ بِهِ نَحْو سَبْعَة أَيَّام وَعبر إِلَى سلا فزار أولياءها وَدخل مَسْجِدهَا الْأَعْظَم وَصلى الظّهْر بِهِ وَأمه فِي صلَاته يَوْمئِذٍ صاحبنا الْفَقِيه الْعَلامَة البارع أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْهَاشِمِي بن خضراء وَدخل السُّلْطَان أعزه الله خزانَة الْكتب العلمية بِالْمَسْجِدِ الْمَذْكُور وتأملها وَمَعَهُ يَوْمئِذٍ شَيخنَا الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي أَبُو بكر بن مُحَمَّد عواد فَطلب من السُّلْطَان أيده الله أَن يزِيد فِي شِرَاء الْكتب للخزانة الْمَذْكُورَة فَأذن لَهُ بِأَن يَشْتَرِي من ذَلِك مَا ثمنه نَحْو مائَة ريال فَفعل وَهِي يَوْمئِذٍ بالخزانة الْمَذْكُورَة وَوصل أيده الله عُلَمَاء العدوتين ومجاهديها على الْعَادة وَقد كنت أنشأت قصيدة فِي غَرَض من الْأَغْرَاض فَلَمَّا اتّفق قدوم السُّلْطَان أيده الله هَذِه الْمرة حولتها إِلَى مدحه وَنَصهَا
(قلب كواه من النَّوَى مقباس
…
فغدا بِهِ الوسواس والخناس)
(ونحول جسم يشتكي ألم الضنى
…
وجوى بِهِ تتصاعد الأنفاس)
(والدمع فِي الوجنات محمرا غَدا
…
ولدى الوشاة بِهِ انْتَفَى الإلباس)
(إِن الألى يستعذبون ملامه
…
مَا أَن لَهُم بعذابه إحساس)
(قدما عذلت ذَوي الغرام سفاهة
…
حَتَّى غَدَوْت بمنسميه أداس)
(وحسبته حُلْو الجنى فأساغني
…
من بأسه مَا لَا يسيغ الباس)
(إِن الَّذين علقتهم قد انجدوا
…
بمها الْخُدُور ودونها الحراس)
(أبدا أُؤَمِّل فِي حَياتِي وصلهم
…
وَالْيَوْم قد غلب الرَّجَاء الياس)
(مَا كنت أَحسب قبل إلمامي بهم
…
إِن الظباء لَهَا الْبيُوت كناس)
(تحكى بدور التم يخفي ضوءها
…
ضوء الشموس إِذا بِهن تقاس)
(من كل خود كاعب يهدي لنا
…
نشر الخزامي عطفها المياس)
(تسبي بقد السمهري وباسم
…
يَرْمِي الشعاع كَأَنَّهَا النبراس)
(وَكَأن هاتيك الخدود وفاحما
…
فِي ظلها ورد حواه الآس)
(لله مَا عَيْش تقضي بَيْننَا
…
فَكَأَنَّمَا أَيَّامه الأعراس)
(طَابَ السرُور لنا بِهِ وتأرجت
…
آصاله وافترت الأغراس)
(أَيَّام روض اللَّهْو غض نوره
…
ومنادمي فِيهِ المنى والكاس)
(بِاللَّه يَا قلب استفق ودع الْهوى
…
إِن الْهوى غول النهى الفراس)
(أَو مَا رَأَيْت المخلدين إِلَى المنا
…
سكنوا الثرى وعراهم الإفلاس)
(واعمل ليَوْم لَا تخس شعيرَة
…
فِيهِ إِذا مَا ينصب القسطاس)
(وابك الذُّنُوب بكاء خندف بَعْلهَا
…
لما جلا عَن ربعهَا الياس)
(وَإِذا حوت كَفاك فَابْن مبادرا
…
مجدا تخلده لَك الأنقاس)
(من غير تبذير لمَالِك لَا تكن
…
حُلْو الجنا فتلوكك الأضراس)
(كم من فَتى جَازَ الحضيض إِلَى الذرى
…
وَبنى على لم تبله الأرماس)
(وَإِذا وعدت فَكُن لوعدك مُنجزا
…
كَيْمَا ترى لَك فِي الفخار غراس)
(فالمنع فِي جنب الْوَفَاء صَنِيعَة
…
والتبر فِي جنب المطال نُحَاس)
(وَإِذا حصلت على الرياسة فاذكرن
…
من كَانَ يجمعه بك الإيناس)
(وَاحْذَرْ مناصبة الدنى فَرُبمَا
…
خَان الحسام وطاشت الأقواس)
(كم يغن يَوْمًا عَن كُلَيْب مجده
…
لما حشاه بالقنا جساس)
(وَإِذا تصاحب فاصحبن مهذب
…
راز النهى وَله بِهن مراس)
(فالمرء وَيحك إِنَّمَا يذري بِهِ
…
ويزينه الْأَصْحَاب والجلاس)
(وَإِذا البذي جفاك يَوْمًا فاحتسب
…
فالجهل بالطبع الْكَرِيم يساس)
(وَإِذا عرتك ملمة فاصبر وَلَا
…
تكن الجزوع وهمك الإيجاس)
(واحفظ لسَانك واله من عيب الورى
…
كل امرىء بفعاله منقاس)
(وادأب على حفظ الْعُلُوم وَكن بهَا
…
ذَا خبْرَة وملاذك الأطراس)
(فالعلم أَنْفَع للفتى وأجله
…
مَا قد وعاه الْقلب لَا القرطاس)
(وارو الحَدِيث وَكن بِهِ متأدبا
…
وَالْفِقْه حَقَّقَهُ يطعك قِيَاس)
(وأقم بِعلم النَّحْو لفظك ولتكن
…
فِيهِ الْمُقدم إِذْ بِهِ الإيناس)
(كل الْعُلُوم إِذا نظرت رَأَيْتهَا
…
والنحو مِصْبَاح لَهَا وأساس)
(واكتب من الشّعْر الْمُهَذّب نبذة
…
فالشعر أفضل مَا وعاه الراس)
(إِن لم تقله فَكُن لَهُ مستحضرا
…
إِن رمت نطقا يرتضيه النَّاس)
(كم من وضيع قد علا بقريضه
…
رتبا تشرفه وحسبك شَاس)
(إِذْ خلصته من الأسار وقده
…
أَبْيَات عَلْقَمَة الْفَتى القنعاس)
(وَإِذا قصدت أَخا النوال بمدحة
…
فاقصد فَتى لَهُ فِي الندى آراس)
(مثل الإِمَام أبي عَليّ الرضي
…
حسن الَّذِي هُوَ فِي العلى نبراس)
(الْمَاجِد الْملك الْهمام المرتضى
…
فَخر الْمُلُوك سنامها والراس)
(شملت بِلَاد الغرب رأفته وَقد
…
بهج الزَّمَان وعمت الأرغاس)
(وحبا الورى من نيله حَتَّى لقد
…
طَابَ السرُور وَطَابَتْ الأنفاس)
(سعدت بمقدمه سلا وتقدست
…
مراكش الْحَمْرَاء مِنْهُ وفاس)
(أبدا سيوف الْعَزْم مِنْهُ على العدا
…
برق وغيث نواله بجاس)
(شهم بَصِير بالأمور مجرب
…
يقظان من دَاء الضَّلَالَة ياس)
(حلب الزَّمَان شطوره فَمَتَى اعتصى
…
دَاء الخطوب فرأيه النسطاس)
(يلقى الْوُفُود بحشمة وطلاقة
…
لَا يختشى مِنْهُ أَذَى وشماس)
(فِي الْجُود كَعْب والبسالة عَامر
…
والحلم قيس والذكاء إِيَاس)
(فَالله يحفظه ويحفظ ملكه
…
حَتَّى يُصِيب عداهُ مِنْهُ عماس)
(ويشيد لِلْإِسْلَامِ من عزماته
…
عزا تطأطىء دونه الْأَجْنَاس)
(وينيله مجدا ينسى ذكره
…
فِي عزة قعساء لَيْسَ نقاس)
(فليعل ملك بني على وليدم
…
مَا خلدت مَرْوَان وَالْعَبَّاس)
وَقد تَبِعنِي صاحبنا شَاعِر الْعَصْر الْفَقِيه الأديب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر حركات فِي رُوِيَ هَذِه القصيدة دون بحرها وَهِي من ميلادياته قَالَ
(أدر كؤوسك فالسراء فِي الكأس
…
واشرب على طرب بروضك الكاسي)
(وقم لتنظر وَجه الدَّهْر مبتهجا
…
مُسْتَبْشِرًا بعد تقطيب وتعباس)
(والأفق طلق وَذَا النسيم منطلق
…
مسكي نشر خلال الجو جواس)
(وَالْأَرْض تضحك من بكا الْغَمَام كَمَا
…
يشكو الكئيب على مستهزىء قاسي)
(كَأَنَّهَا وَهِي بِالربيعِ حَالية
…
عواطل قد تحلت يَوْم أعراس)
(وَالْوَرق من ضحك الأزهار نائحة
…
كنوح صب على أحبابه آسى)
(والدوح زاهية الأفنان زاهرة
…
تهدي الْبَهَاء إِلَى البهار والآس)
(كَأَنَّمَا الزهر إِذْ ترَاهُ منتثرا
…
على جداولها الْحباب فِي الكاس)
(كَأَنَّمَا طيب نشره شمائل من
…
قد سَاد بالمكرمات سَائِر النَّاس)
(إمامنا الْحسن المجلي بطلعته
…
عَن الورى كل أزمة وقسقاس)
(كسا الرّعية أَثوَاب المنى جددا
…
من بعد مَا اشْتَمَلت بِكُل إدراس)
(سبط الرَّسُول وَفرع من سلالته
…
طيب الْفُرُوع ترى بِطيب أغراس)
(خَليفَة الله من دَانَتْ لعزته
…
شم الْمُلُوك برغم كل دمناس)
(أنداهم فِي الندى كفا وأشجعهم
…
قلبا وأسطاهم بِكُل دعاس)
(من ذَا ينازله عِنْد الجلاد وَهل
…
يهول اللَّيْث يَوْمًا صوب ولاس)
(قد عَمه النَّصْر فِي ورد وَفِي صدر
…
وحفه الْيمن من سَاق إِلَى راس)
(مولى تردى رِدَاء المكرمات فَقل
…
مَا شِئْت فِي شيم لَهُ واتواس)
(لم يمض مشبهه على الْحَقِيقَة فِي
…
بني أُميَّة أَو أَبنَاء عَبَّاس)
(من ذَا يدانيه فِي حلم وَفِي كرم
…
وَمن يضاهيه فِي الْإِقْدَام والباس)
(يَا كم بِهِ قوي الضَّعِيف وامتلأت
…
كف الْفَقِير وأثرى رب إفلاس)
(سلا كَمثل سلا الغرا وضرتها
…
أَو مثل مراكش وحضرتي فاس)
(فكم بهَا من مآثر لَهُ كرمت
…
لَيست تعد بأقلام وأنقاس)
(بل كل مصر وقرية لَهُ ديم
…
تهمي لأهلهما بِكُل ارغاس)
(فدا الْأَمِير أدام الله عزته
…
طول المدى كل أنفس وأنفاس)
(إليكها أَيهَا الجحجاح مائسة
…
أزرت طلاوتها بِكُل مياس)
(خريدة من بَنَات الْفِكر غانية
…
لرقمها يتَمَنَّى كل قرطاس)
(جاءتك تطلبك الْقبُول عائذة
…
بِاللَّه من شَرّ وسواس وخناس)
(فليهنها أَنَّهَا تشرفت بك إِذْ
…
حوت مَعَاني من مديحك الراسي)
(وَأَنَّهَا لَك قد وافت مهنئة
…
بليلة ذَات أسفار وإهلاس)
(أكْرم بهَا لَيْلَة غراء قد فضلت
…
بِأَفْضَل الرُّسُل كل ذَات إغباس)
(إِذْ أشرق الْكَوْن من أنوار مولده
…
حَتَّى كَفاهُ سناها كل نبراس)
(والشرك فِي الْهون قد أضحت طوائفه
…
مستيقنين حُلُول الْبُؤْس والبأس)
(إِذْ هالهم أَمر أَحْمد وأوقعهم
…
فِي حيرة عبثت بهم وإبلاس)
(تيقنوا أَنه مَا كَانَ يُخْبِرهُمْ
…
بِشَأْنِهِ كل قسيس وشماس)
(وأصبحت جملَة الْأَصْنَام سَاقِطَة
…
منكسات الرؤوس أَي تنكاس)
(وَفِي انصداع الْبناء أَصبَحت عبر
…
لَهُم كَذَا فِي خمود نَار أَفْرَاس)
(وَالْجِنّ لَا تصل السَّمَاء إِذْ منعت
…
مِنْهَا بشهب لرميها وحراس)
(وَمن يرم مِنْهُم للسمع مسترقا
…
ينحط محترقا مِنْهَا بمقباس)
(مُحَمَّد صفوة الْبَارِي وَخيرته
…
من خلقه الْجِنّ والأملاك وَالنَّاس)
(جَاءَت شَرِيعَته البيضا مطهرة
…
للدّين من كل أدران وأدناس)
(وَلم تزل أمد الْأَعْصَار رَافِعَة
…
عَن الْهَدْي كل شُبْهَة وتدلاس)
(أصل الْهدى والندى فَلَيْسَ يُشبههُ
…
هطال غيث وَلَا تيار رجاس)
(فَلَا تقسه بِشَيْء فِي مكارمه
…
فَمَا ترام خلاله بمقياس)
(فَإِنَّهُ الْبَحْر فِي فضل وَفِي كرم
…
وَفِي الشجَاعَة ضيغم بأخياس)
(كَانُوا بِهِ يَتَّقُونَ فِي الوغا بَدَلا
…
عَن اتِّخَاذ مغافر وأتراس)
(أسرى بِهِ الْملك الْأَعْلَى لحضرته
…
وَالروح مونسه أتم إيناس)
(وَاللَّيْل أحرس لَيْسَ فِيهِ يسمع من
…
صياح ديك وَلَا عواء لواس)
(حَتَّى دنا فَتَدَلَّى ثمَّ كَلمه
…
وَقد رأى ربه بمقة الراس)
(ونال من فَضله عزت جلالته
…
مَا لَا يسام بأوهام وأحداس)
(فآب وَالدّين أسست قَوَاعِده
…
على أصُول حميدة وأساس)
(ترَاهُ كَالْقَمَرِ الْمُنِير فِي غسق
…
من الدجى بَين أَصْحَاب وجلاس)
(غَدا يحدث والملا يصدقهُ
…
وَلَيْسَ يرتاب غير المائق الماس)
(دَعَا على المعتدي عتيبة فغدا
…
يَوْمًا بدعوته قَتِيل هماس)
(ورد عين قَتَادَة فَصَارَ بهَا
…
بعد الْعَمى ذَا تمقل وإيناس)
(وَالْمَاء من كَفه السمحاء سَالَ فكم
…
من وَارِد عذبه الروي وَكم حاسي)
(هُوَ الرَّسُول الَّذِي جمت فضائله
…
فَلَيْسَ تحصر أَو تحصى بأطراس)
(مديم ذكر فَإِن تذهل لواحظه
…
فالقلب لَيْسَ بذاهل وَلَا ناسي)
(فالأرض طاولت السَّمَاء قائلة
…
لخير رسل بِبَطن خير ارماس)
(كل النَّبِيين طرا لائذون بِهِ
…
كَمثل نوح وَيُونُس والياس)
(كَذَاك مُوسَى وَعِيسَى والخليل بِهِ
…
لدفع باس بِيَوْم الْحَشْر أباس)
(يَا أكْرم الْخلق يَا خير الورى شرفا
…
يَا من أَتَانَا بتطهير وتقداس)
(أشكوك دَاء أساي فأسه كرما
…
فَمَا لداء الأسى سواك من آسى)
(قسا الزَّمَان وَفِي قسم النوائب لم
…
يعدل فيا ويحه من قَاسم قاسي)
(لَكِن قصدتك والكريم قاصده
…
مَا أَن يرد بخيبة وَلَا يأس)
(وَقد توسلت للْمولى بجاهك أَن
…
يشد بالشرعة الْبَيْضَاء أمراسي)
(وَأَن يحسن أعمالي ومعتقدي
…
فِيهِ ويكشف بلبالي ووسواسي)
(وَأَن يعاملني بِالْعَفو عَن زللي
…
وَأَن يُبدل إقلالي بإقعاس)
(وَأَن يهيىء أَسبَاب السَّعَادَة لي
…
حَتَّى أُنِيخ بِذَاكَ الْبَيْت عرماسي)
(إِذْ قلت من أم طيبتي وَمَات بهَا
…
نَالَ الشَّفَاعَة فِي أهل وَفِي نَاس)
(صلى عَلَيْك إِلَه الْعَرْش مَا نفحت
…
نوافح الزهر من دوح وأخياس)
(صلى عَلَيْك إِلَه الْعَرْش مَا اعتصمت
…
بك الْخَلَائق من عَار وَمن كاس)
(صلى عَلَيْك إِلَه الْعَرْش مَا رمقت
…
بيض الْقَرَاطِيس يَوْمًا سود أنقاس)
(والآل مَا قَالَ نشوان بحبهم
…
أدر كؤوسك فالسراء فِي الكاس)
ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان أعزه الله من رِبَاط الْفَتْح فِي عَاشر جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف قَاصِدا مكناسة وَجعل طَرِيقه على زمور الشلح فَخَرجُوا إِلَيْهِ متذللين خاضعين متقربين إِلَيْهِ بالهدايا والضيافات فَضرب عَلَيْهِم الإتاوة والبعث فانقادوا ثمَّ دخل أعزه الله مكناسة ثامن عشر الشَّهْر الْمَذْكُور فَمَكثَ بهَا أَيَّامًا يسيرَة ثمَّ نَهَضَ إِلَى فاس فَمَكثَ بهَا أَيَّامًا يسيرَة كَذَلِك ريثما
اجْتمعت إِلَيْهِ الْجنُود وَخرج قَاصِدا بِلَاد وَجدّة وَبني يزناسن وَكَبِيرهمْ الْحَاج مُحَمَّد بن البشير بن مَسْعُود وَكَانَ خُرُوجه من فاس منتصف جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة فاجتاز بتازا وأناخ على قَبيلَة غياثة جاعلا الهضبة الْمَعْرُوفَة بِذِرَاع اللوز أَمَامه قبْلَة ووظف عَلَيْهِم الْمُؤْنَة قيل إِنَّه وظف عَلَيْهِم مائَة صَحْفَة من الْقَمْح وَالشعِير فدفعوا شَيْئا يَسِيرا وعجزوا وتعللوا بِأَن هَذَا الَّذِي جرت الْعَادة أَن يدفعوا للملوك من قبل وَكَانَت هَذِه الْقَبِيلَة لم يهجها هيج مُنْذُ قديم لتحصنهم بجبالهم وأوعارهم وَلَهُم استطالة على أهل تازا يركبونهم كل خسف فَظهر للسُّلْطَان أعزه الله قِتَالهمْ فَقَاتلهُمْ يَوْم الْخَمِيس أَوَاخِر الشَّهْر الْمَذْكُور واقتحم عَلَيْهِم حصنهمْ الْمَعْرُوف بالشقة وَهُوَ خَنْدَق بَين جبلين فِيهِ وَاد وعَلى حافتيه بناءات ودور فَحرق ذَلِك كُله وهدمه وانتسف مَا فِيهِ من قَمح وشعير وأدام وَغير ذَلِك وَقطع مِنْهُم رؤوسا يسيرَة وَلما كَانَ الْغَد وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس وَالْعشْرُونَ من الشَّهْر الْمَذْكُور ركب السُّلْطَان أيده الله وَركب مَعَه أهل الْمحلة إِلَّا قَلِيلا وَقدم المدافع والمهاريس أَمَامه واقتحم الشقة فَتَبِعَهُ النَّاس ودخلوا بِلَاد غياثة وتوسطوها وقاتلوا أَهلهَا فهزموهم وَالسُّلْطَان أَمَام الْجَيْش فِي موكبه فَسَار حَتَّى بلغ المداشر وَرمى عَلَيْهَا من الكور والبنب شَيْئا يَسِيرا وَكَانَت غياثة قد وضعت الكمائن على الأنقاب وشحنوها بالرماة وَتركُوا منفذا وَاحِدًا يُفْضِي إِلَى مهواة متلفة ذَات شقوق غامضة وأشجار شائكة وصخور متراكمة لَا يدْرك قعرها وَلَا يبصرها إِلَّا من وقف عَلَيْهَا وَلما وغل الْجَيْش فِي مَزَارِعهمْ ومداشرهم خرجت الكمائن من خَلفهم ورموهم عَن يَد وَاحِدَة بالرصاص فدهش النَّاس وتذكروا فعلهم الْقَدِيم من الانهزام عَن الْمُلُوك بِلَا مُوجب إِذْ لم يكن فِي شَوْكَة غياثة هَؤُلَاءِ وكثرتهم مَا ينهزم مِنْهُ ذَلِك الْجَيْش اللهام وَلَو تلبثوا يَسِيرا وقاوموهم لهزموهم فِي الْحَال كَمَا هزموهم أول مرّة وَلَكِن الْعَادة الْعَادة فَوَلوا مُدبرين لَا يلوون على شَيْء وتكاثر الرصاص على موكب السُّلْطَان حَتَّى سقط حَامِل الرَّايَة وجرح الْمولى عَرَفَة أَخُو السُّلْطَان وَقتل سَيِّدي مُحَمَّد بن الحبيب نقيب الْأَشْرَاف بالعدوتين وَأما الْجَيْش وقواده فَإِنَّهُم لما انْهَزمُوا صرفُوا وُجُوههم إِلَى المهواة
الَّتِي ذكرنَا وقصدوها على عمياء وَقد ارْتَفع دُخان البارود وغبار الْخَيل فتهافتوا فِيهَا تهافت الْفراش فِي النَّار لَا يعلم اللَّاحِق مَا وَقع بالسابق إِلَى أَن امْتَلَأت من الْخَيل وَالرِّجَال والأثاث وَمَا كَادَت وَكَانَ ذَلِك قَضَاء من الله وتمحيصا مِنْهُ فَهَلَك من النَّاس وَالْخَيْل مَا لَا يُحْصى وَبقيت أشلاؤهم ناشبة فِي تِلْكَ الأوعار تلوح مثل المجزرة وترجل السُّلْطَان أعزه الله عَن فرسه حَتَّى خلص من تِلْكَ الشقوق ثمَّ ركب وَاجْتمعَ النَّاس عَلَيْهِ وراجعوا بصائرهم بعد الكائنة ثمَّ انشمر غياثة بعْدهَا إِلَى رُؤُوس الْجبَال وَتركُوا المداشر والجنات فاقتحهما السُّلْطَان بعد يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة عَلَيْهِم فَلم يقف أَمَامه مِنْهُم أحد فعاث فِيهَا وحرقها وَجعلهَا حصيدا كَأَن لم تغن بالْأَمْس وَكتب أيده الله بذلك إِلَى الْآفَاق وَذكر فِي كِتَابه أَن الْخَيل وَالرُّمَاة قد انتسفوا بِلَادهمْ انتسافا ودوخوها أماما وخلفا حَتَّى أشرفوا على بِلَاد جيرانهم وأناخوا فِيهَا بكلكلهم وجرانهم ثمَّ توجه السُّلْطَان نَصره الله إِلَى نواحي وَجدّة فَانْتهى إِلَيْهَا أَوَائِل شعْبَان من السّنة فَتَلقاهُ بَنو يزناسن خاضعين تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم لكَوْنهم ثغرا من ثغور الْمُسلمين وعصبة تدخر لنصرة الدّين إِلَّا أَنه عزل عَنْهُم ولد البشير وَبعث بِهِ مسجونا إِلَى فاس وَولى عَلَيْهِم قوادا مِنْهُم من أهل الحزم والنجدة ووظف عَلَيْهِم قدرا صَالحا من المَال فشرعوا فِي دَفعه فِي الْحَال والتزموا رد مَا تعلق بذممهم من الْمَظَالِم وصلحت أَحْوَالهم واستقام أَمر تِلْكَ النَّاحِيَة وَلما قضى السُّلْطَان أعزه الله غَرَضه مِنْهَا قفل رَاجعا إِلَى فاس فَدَخلَهَا لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان الْمُعظم وَكتب بذلك إِلَى الْأَمْصَار يَقُول هَذَا وَقد كتبنَا لكم هَذَا بعد القفول من حركتنا السعيدة وحلولنا بحضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه بفاس بالفتوحات الجديدة والإنعامات المزيدة حُلُول عز وظفر وإسعاد وَنصر من لَدنه لم يكن بحيلة وَلَا استعداد وَذَلِكَ بعد الْفَرَاغ من تَرْتِيب تِلْكَ الْقَبَائِل وتطهيرها مِمَّا تعلق بهَا من الرذائل ونلنا بِفضل الله فِي هَذِه الْحَرَكَة من أثر الْخَيْر واليمن وَالْبركَة مَا أثلج الصُّدُور وحمدنا غبه فِي الْوُرُود والصدور وَتَركنَا أهل تِلْكَ النواحي وساكني جبالها والضواحي على أحسن مَا يكون صلاحا واطمئنانا وسلوكا للجادة المخزنية بِالْقَلْبِ والقالب سرا
وإعلانا وأبقينا طَائِفَة من جيشنا السعيد عِنْد قبائل الرِّيف زِيَادَة فِي الاطمئنان والتأليف بِقصد اسْتِيفَاء مَا بذممهم من الْوَاجِب واستخلاص مَا تعلق بهم من الْحُقُوق الَّتِي ألزموها ضَرْبَة لازب وَذَلِكَ كُله من تيسير الله ورفده وفضله على عَبده فَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْده فَأَما نَحن فَلَا حول لنا وَلَا قُوَّة وَلَا أنصار مرجوة وَلَا نعتمد على عدَّة وَلَا عدد بل على فَضله تَعَالَى الْمعول وَالْمُعْتَمد عرفنَا الله حق النِّعْمَة وألهمنا شكرها وحمدها وأجرانا على عوائده الجميلة وفوائده الجليلة الَّتِي لَا يقدر قلم الواصف أَن يدْرك حصرها وَحدهَا وَقد اقْتضى نَظرنَا العالي بِاللَّه إعلامكم بذلك لِتَأْخُذُوا حظكم من الْفَرح بتأييد الله وَنَصره وتخلصوا فِي حمد نعمه الجزيلة وشكره وَالسَّلَام فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من رَمَضَان عَام ثَلَاثَة وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اه اسْتمرّ السُّلْطَان أعزه الله مُقيما بفاس وجد فِي بِنَاء مقاصيره ومنتزهاته ببستان آمِنَة من فاس الْجَدِيد وَكتب أيده الله إِلَى وصيفه أَحْمد بن مَالك قَائِد الْجَيْش السُّوسِي بالمنشية من حَضْرَة مراكش أَن بيني لَهُ على الْبَاب الْمَعْرُوف بِبَاب الرئيس من الدَّار الْكُبْرَى بالحضرة المراكشية قبَّة فارهة ويبالغ فِي رَفعهَا وتنجيدها وتنميقها فشرع فِيهَا فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَكُنَّا يَوْمئِذٍ نتولى إحصاء صائرها وصائر غَيرهَا من البناءات المراكشية فَكَانَ مَا صير على الْقبَّة وَحدهَا أَكثر من مائَة ألف مِثْقَال وَكَذَلِكَ بنى بمكناسة الْقبَّة الْعَظِيمَة الَّتِي طاولت السَّمَاء ترفعا وَذَهَبت فِي الجو صعدا بِحَيْثُ أشرفت على مَا حولهَا من بسيط سائس وَغَيره حَتَّى صَارَت مثلا فِي الطول والاشتهار وَبنى أعزه الله قبَّة عَظِيمَة حفيلة على ضريح الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الصَّالح ابْن الْمُعْطِي الشرقاوي بِأبي الْجَعْد فصير عَلَيْهَا أَكثر من ثَلَاثِينَ ألف مِثْقَال تقبل الله مِنْهُ
وَفِي عَاشر شَوَّال من هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الناسك قَاضِي رِبَاط الْفَتْح أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْن الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد أَحْمد بن التهامي البريبري وَدفن بزاوية حنصالة من الْبَلَد الْمَذْكُور وَكَانَ رحمه الله من أمثل قُضَاة الْوَقْت وَمن المتحريين للعدل ولي
الْقَضَاء برباط الْفَتْح أَكثر من عشْرين سنة ثمَّ تخلى عَنهُ من غير عزل وَدخل دَاره فَلم يخرج بعد فَاحْتمل السُّلْطَان وَالنَّاس ذَلِك واعتقدوه وَاسْتمرّ حَاله على ذَلِك إِلَى أَن توفّي فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور رحمنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين
وَفِي سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من محرم مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب شَاعِر الْعَصْر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد أكنسوس المراكشي وَدفن قرب ضريح الإِمَام أبي الْقَاسِم السُّهيْلي خَارج بَاب الرب من مراكش وَحضر جنَازَته الجم الْغَفِير من النَّاس وَهُوَ صَاحب كتاب الْجَيْش رحمه الله
وَفِي صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّابِع عشر من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة ولد لنا ولد سميناه مُحَمَّدًا الْعَرَبِيّ وَكَانَ من عَجِيب صنع الله أَنه ولد مختونا وَلذَا ذَكرْنَاهُ هُنَا وَهُوَ الْآن حَيّ أصلحه الله وأنبته نباتا حسنا وَجعله من عباد الله الصَّالِحين وَمن الْعلمَاء العاملين آمين وَفِي جُمَادَى الأولى من السّنة أَخذ السُّلْطَان أعزه الله فِي الاستعداد بالحضرة الفاسية للحركة اسْتِعْدَادًا لم يتَقَدَّم لَهُ مثله حَتَّى أَنه كتب إِلَى أَخِيه وخليفته بمراكش الْمولى عُثْمَان بن مُحَمَّد أَن يُوَجه إِلَيْهِ من الْعدة الرومية وَهِي مكاحل مركبة فِيهَا توافلها مَا قدرهَا ألف وسِتمِائَة وَعِشْرُونَ مكحلة تخرج أبخاشها بالحبة الرومية وَأَن يُوَجه إِلَيْهِ أَرْبَعمِائَة ألف وَعشرَة آلَاف من الْحبَّة الْمَذْكُورَة وَعشرَة قناطير من البارود وَمِائَة قِنْطَار من ملحه ومدفعين وَكتب أعزه الله إِلَى أُمَنَاء الصائر بِأَن يبعثوا إِلَيْهِ بثلاثمائة وَسِتِّينَ سرجا وسِتمِائَة كسْوَة من الملف للعسكر وَخَمْسَة عشر ألفا من الْبلْغَة وَمثلهَا من النعالة وَبعث أعزه الله عَمه الْمولى الْأمين بن عبد الرَّحْمَن إِلَى رِبَاط الْفَتْح لجمع عَسَاكِر الثغور وحشد قبائل دكالة وتامسنا والغرب وَبني حسن وَغَيرهم وَوجه أَخَاهُ الْمولى الْحسن الصَّغِير لحشد قبائل الدَّيْر والجيش المتفرق بهَا ثمَّ كَانَ خُرُوج السُّلْطَان من فاس إِلَى مكناسة أَوَاخِر الشَّهْر الْمَذْكُور وَلما سَمِعت قبائل البربر بِخُرُوجِهِ ارتابت وحذرت وظنت كل قَبيلَة أَنَّهَا الْمَقْصُودَة ففرت مجاط وَبَنُو مطير إِلَى رُؤُوس الْجبَال
وفرت عرب عَامر من بني حسن إِلَى زمور الشلح وَكَانَ النَّاس يظنون أَن السُّلْطَان يَغْزُو فِي هَذِه السّنة برابرة الْجبَال والصحراء فَخرج الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك
وَفِي هَذِه الْمدَّة وَفد على السُّلْطَان أيده الله عدَّة باشدورات للآجناس مثل باشدور الفرنسيس والإصبنيول والبرتغال وَتكلم الفرنسيس فِي شَأْن بابور الْبر والتلغراف وإجرائهما بالمغرب كَمَا هما بِسَائِر بِلَاد الْمَعْمُور وَزعم أَن فِي ذَلِك نفعا كَبِيرا للْمُسلمين وَالنَّصَارَى وَهُوَ الله عين الضَّرَر وَإِنَّمَا النَّصَارَى أجربوا سَائِر الْبِلَاد فأرادوا أَن يجربوا هَذَا الْقطر السعيد الَّذِي طهره الله من دنسهم نَسْأَلهُ سُبْحَانَهُ أَن يكْتب كيدهم ويحفظ الْمُسلمين من شرهم ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان نَصره الله من مكناسة فِي أواسط رَجَب فِي جمع وافر وعدة كَامِلَة فاجتاز بِبِلَاد زمور الشلح فأظهروا لَهُ غَايَة الطَّاعَة والخضوع وقدمت عَلَيْهِ وفودهم من كل جَانب رافعين أعلامهم وشارتهم وزينتهم الَّتِي يستعملونها فِي مواسمهم وأعيادهم وأدوا لَهُ من المَال والمؤن والضيافات مَا استكثر النَّاس ذَلِك وتحدثوا بِهِ ثمَّ زحف إِلَى عرب السهول من أَعمال سلا فأوقع بهم وشرد بهم من خَلفهم وَكتب أعزه الله فِي الْعشْرين من رَمَضَان إِلَى الْآفَاق يعلمهُمْ بِمَا أتاح الله لَهُ من الظُّهُور والنصر والسعادة وخضوع قبائل البربر لَهُ وتباريهم فِي طَاعَته وخدمته وبذلهم من الجباية مَا لم يَكُونُوا يبذلون الْقَلِيل مِنْهُ لغيره وَذكر فِي كِتَابه أَن ذَلِك كُله بمحض فضل الله ومجاري السَّعَادَة وَحسن السياسة من غير ضرب وَلَا طعن وَلَا سفك دم حَتَّى أَن قَبيلَة بني حكم قد أظهرُوا بعض الاعوجاج فَقَامَ إِلَيْهِم إخْوَانهمْ من زمور فَقومُوا اعوجاجهم حَتَّى فاؤوا إِلَى أَمر الله وَكفى الله السُّلْطَان أَمرهم ثمَّ ذكر فِي كِتَابه أعزه الله أَمر السهول وَأَنه بعد أَن أوقع بهم أَمر بِجمع فَلهم وَرَأى استصلاح كلهم تَأْمِين جلهم لعمارة بِلَادهمْ بهم رَجَاء نفع مَا تقدم من أدبهم
وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة الرَّابِع عشر من شعْبَان من السّنة خسف الْقَمَر خسوفا
كليا بِحَيْثُ ذهب نوره واختفى شخصه حَتَّى لم ير مِنْهُ شَيْء وَبَقِي كَذَلِك نَحْو ساعتين ثمَّ أَخذ فِي التجلي شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن عَاد إِلَى امتلائه وَفِي هَذِه الْمدَّة قلت فلوس النّحاس بمراكش وأعمالها حَتَّى كَادَت تنعدم وَذَلِكَ بِسَبَب غلاء الريال الإفرنجي بمراكش ورخصه بفاس فَكَانَ صرفه بمراكش يَوْمئِذٍ بِثَلَاث وَسِتِّينَ أُوقِيَّة وَصَرفه بفاس بِثَلَاث وَخمسين أُوقِيَّة فَصَارَ التُّجَّار يجلبون فلوس النّحاس من مراكش إِلَى فاس ويصرفونها بالريال فيربحون فِي كل ريال نَحْو مِثْقَال وتمالؤوا على ذَلِك وتوفرت دواعيهم عَلَيْهِ حَتَّى قلت الْفُلُوس بمراكش وتقاعد النَّاس عَلَيْهَا لما فِيهَا من الرِّبْح وتعطل معاش الضُّعَفَاء بذلك وَلحق النَّاس ضَرَر كثير فَكَانَ الرجل يطوف بالبسيطة والريال فِي الْأَسْوَاق فَلَا يجد من يصرفهُ لَهُ وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ أَن يَشْتَرِي من ضروريات معاشه مَا قِيمَته أقل من بسيطة واتصل الْخَبَر بالسلطان أعزه الله فَكتب فِي الْآفَاق يَأْمر النَّاس برد صرف الريال إِلَى الثَّلَاثَة مَثَاقِيل وَربع مِثْقَال فامتثل النَّاس ذَلِك وَنُودِيَ بِهِ فِي الْأَسْوَاق فانعكس الْحَال على التُّجَّار وتقاعدوا على الريال والبسيطة وفاضت الْفُلُوس فِي الْأَسْوَاق حَتَّى صَارَت مُعَاملَة النَّاس لَيست إِلَّا بهَا وَحصل للتجار من الضَّرَر فِي رخص الريال مَا كَانَ حصل للضعفاء فِي قلَّة الْفُلُوس لِأَن التُّجَّار حِينَئِذٍ صَارُوا يبيعون سلعهم الَّتِي بذلوا فِيهَا الريال الغالي بالقراريط النحاسية الَّتِي صَار صرف الريال فِيهَا على النّصْف فَأمْسك النَّاس سلعهم وامتنعوا من بيعهَا وتعطلت الْمرَافِق أَو كَادَت فَكتب السُّلْطَان ثَانِيًا برد أسعار السّلع والأقوات على النّصْف مِمَّا كَانَت حَتَّى تحصل الْمُسَاوَاة بَين الْأَثْمَان والمثمنات فَنَشَأَ بذلك هرج كَبِير وضرر للنَّاس فِي معاشهم وأبى الله إِلَّا أَن تعود السِّكَّة إِلَى حالتها الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا وَقد بَينا الْعلَّة فِي ذَلِك قبل هَذَا وَأَن السكَك والأسعار لَا تزَال فِي الزِّيَادَة مَا دَامَت المخالطة مَعَ الفرنج تكْثر بكثرتها وتقل بقلتها
وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث رَمَضَان من السّنة توفّي عَالم الْمغرب السَّيِّد الْمهْدي بن الطَّالِب ابْن سَوْدَة الفاسي كَانَ عَلامَة متقنا فصيحا عَارِفًا بصناعة الدَّرْس حسن الْإِيرَاد فِيهِ بِحَيْثُ فاق أهل زَمَانه يُقَال إِن لَهُ تآليف لَكِن لم
نقف على شَيْء مِنْهَا رحمه الله ثمَّ عيد السُّلْطَان عيد الْفطر من هَذِه السّنة بزبيدة من بِلَاد زعير وَلم يدْخل رِبَاط الْفَتْح على قربه مِنْهَا ووفدت عَلَيْهِ هُنَالك قبائل الْمغرب وَأهل الْأَمْصَار فَشَهِدُوا الْعِيد مَعَه وَأَجَازَهُمْ وكساهم على الْعَادة وَلما فرغ من أَمر الْعِيد عين عَامل رِبَاط الْفَتْح وَهُوَ الْقَائِد أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مُحَمَّد السُّوسِي وَعين الْحَاج عبد الْكَرِيم بن أَحْمد بريشاء التطاوني والحاج مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق ابْن شقرون الفاسي للذهاب إِلَى مادريد دَار ملك الإصبنيول بِقصد السفارة عَنهُ إِلَى دولتهم والمكافأة لَهُم على مَجِيء باشدورهم حَسْبَمَا مر التَّنْبِيه عَلَيْهِ فَفَعَلُوا وعادوا بِحَيْثُ أدركوا عيد الْأَضْحَى من السّنة مَعَ السُّلْطَان أعزه الله بمراكش ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان بعد عيد الْفطر من زبيدة يؤم الْبِلَاد المراكشية فاجتاز بتادلا وَسكن قبائلها وأوقع ببني عُمَيْر وَقبض مِنْهُم على مَا يناهز أَرْبَعمِائَة مسجون سيقت فِي السلَاسِل والأغلال إِلَى السجْن وفر بَنو مُوسَى إِلَى رُؤُوس الْجبَال حَتَّى اسْتَنْزَلَهُمْ السُّلْطَان على الْأمان ودخلوا فِي الطَّاعَة والتزموا الْخدمَة ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان أيده الله إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي عشر ذِي الْحجَّة من السّنة فَكَانَ بهَا عيد لم يعْهَد النَّاس مثله مُنْذُ قديم وَكتب إِلَى الْآفَاق يعلم النَّاس بِمَا من الله بِهِ من النَّصْر والتأييد وَالْفَتْح والعز المديد وَأقَام السُّلْطَان بمراكش فِي هَذِه الْمرة مُدَّة طَوِيلَة إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَكَانَت هَذِه السّنة من أَشد السنين على الْمُسلمين قد تعدّدت فِيهَا المصائب والكروب وتلونت فِيهَا النوائب والخطوب لَا أَعَادَهَا الله عَلَيْهِم فَكَانَ فِيهَا أَولا غلاء الأسعار وَكَانَ منشأه وابتداؤه من تثقيف السِّكَّة فِي آخر السّنة الْمَاضِيَة ثمَّ عقب ذَلِك انحباس الْمَطَر لم تنزل من السَّمَاء قَطْرَة وأجيحت النَّاس وَهَلَكت الدَّوَابّ والأنعام وعقب ذَلِك الْجُوع ثمَّ الوباء على ثَلَاثَة أَصْنَاف كَانَت أَولا بالإسهال والقيء فِي أوساط النَّاس بادية وحاضرة ثمَّ كَانَ الْمَوْت بِالْجُوعِ فِي أهل الْبَادِيَة خَاصَّة هلك مِنْهُم الجم الْغَفِير وَكَانَ إخْوَانهمْ يحفرون على من دفن مِنْهُم لَيْلًا ويستلبونهم من أكفانهم عثر بسلا على عدد مِنْهُم وَأمر
السُّلْطَان أعزه الله عُمَّال الْأَمْصَار وأمناءها أَن يرتبوا للنَّاس من الأقوات مَا ينتعشون بِهِ فَفَعَلُوا وَبعد هَذَا كُله حدث الوباء بالحمى فِي أَعْيَان النَّاس وأماثلهم فَهَلَك مِنْهُم عدد كثير وَفِي هَذِه المسغبة مد النَّصَارَى أَيْديهم إِلَى الرَّقِيق فاشتروه وَكَانَ ابْتِدَاء ذَلِك أَنهم كَانُوا يعاملون ضعفاء الْمُسلمين وصبيانهم بالصدقات والإرفاقات ثمَّ تجاوزوا ذَلِك إِلَى شِرَاء الرَّقِيق مِنْهُم وَالْأَمر لله وَحده يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَكَانَ فِي أوائلها موت النَّاس بالحمى كَمَا قُلْنَا فَمَاتَ فِي الْمحرم مِنْهَا الْوَزير الْأَعْظَم أَبُو عمرَان مُوسَى بن أَحْمد وَكَانَ شعلة ذكاء وتمثال فطنة ودهاء غفر الله لنا وَله واستوزر السُّلْطَان مَكَانَهُ الْفَقِيه الْأَخير أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ بن الْمُخْتَار بن عبد الْملك الجامعي من بَيت الوزارة وَأهل العراقة فِيهَا ويبلغنا عَنهُ أَنه يحب أهل الْخَيْر ويلين جَانِبه للضعفاء وَالْمَسَاكِين وَيُحب السُّلْطَان وَينْصَح لَهُ ويغار على جَانِبه الْمُعظم وحماه الْمُحْتَرَم ويتجافى عَن الطمع الَّذِي هُوَ أصل كل مفْسدَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا سدده الله وَفِي ظهر يَوْم الْأَحَد عَاشر صفر من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي شَيخنَا الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي أَبُو بكر ابْن الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي مُحَمَّد عواد كَانَ رحمه الله من أهل الْمُشَاركَة فِي الْعلم والاعتناء بِهِ كثير الدَّرْس كثير التَّقْيِيد ختمنا عَلَيْهِ رحمه الله عدَّة كتب كبار جعلهَا الله فِي ميزَان حَسَنَاته مِنْهَا صَحِيح البُخَارِيّ نَحْو عشر مَرَّات وصحيح مُسلم ثَلَاث مَرَّات وشفاء القَاضِي عِيَاض مرَارًا وَكتاب الاكتفا لأبي الرّبيع الكلَاعِي مرّة وَأُخْرَى إِلَى غَزْوَة خَيْبَر وشمائل التِّرْمِذِيّ مرَّتَيْنِ بشرح أبي عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم جسوس وإحياء الْغَزالِيّ رضي الله عنه وعوارف المعارف للسهروردي وتآليف غَيرهَا من كتب النَّحْو وَالْفِقْه وَالْبَيَان وَالْكَلَام وَغير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَبِالْجُمْلَةِ فقد انتفعنا عَلَيْهِ واستفدنا مِنْهُ رحمه الله ونفعنا بِهِ وَولي الْقَضَاء بعده الْفَقِيه الْعَالم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْجريرِي عرف بِابْن الْفَقِيه من بَيت الْعلم وَالدّين والصون وَهُوَ رحمه الله يتحَرَّى المعدلة فِي أَحْكَامه وينتهج صَرِيح الشَّرْع فِي جَمِيع أُمُوره سدده الله وكلاه وَتَوَلَّى
الخطابة بِالْمَسْجِدِ بعد شَيخنَا الْمَذْكُور شقيقه الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد عواد وَهُوَ مجيد فِي الخطابة وَمن أهل الْمُرُوءَة وَالدّين وَالْعلم وفقنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين لما يُحِبهُ ويرضاه وَفِي هَذِه الْأَيَّام استدعى السُّلْطَان أيده الله خديمه الْأمين الأرضى السَّيِّد مُحَمَّد بن الْحَاج مُحَمَّد التازي الرباطي إِلَى حَضرته الْعَالِيَة بِاللَّه بمراكش فَقدم عَلَيْهِ الْأمين الْمَذْكُور وَأجل السُّلْطَان مقدمه وَأسْندَ إِلَيْهِ أَمر خراج الْمغرب ومراسيه ومستفاداتها وَمَا يتبع ذَلِك من صوائرها وفوض إِلَيْهِ فِي ذَلِك تفويضا تَاما لعلمه بنصحه وأمانته وَضَبطه وَهَذَا الرجل من أمثل أهل الْمغرب وأصدقهم وأنصحهم للسُّلْطَان وأشدهم غيرَة على الدّين والوطن حَتَّى لَو كَانَ فِي الدولة عشرَة رجال على شاكلته ومذهبه لَكَانَ يظنّ أَن يكون لَهَا بذلك النجاح التَّام نسْأَل الله تَعَالَى أَن يصلح أمرهَا ويشيد بمنه عزها وَفَخْرهَا وَفِي ربيع الثَّانِي من السّنة ورد أَمر السُّلْطَان أعزه الله على وُلَاة العدوتين أَن يوجهوا عددا من أمنائهم وعدولهم للْخدمَة السُّلْطَانِيَّة بالمراسي المغربية فقدموا عَلَيْهِ بمراكش وَكَانَ فِي جُمْلَتهمْ أخونا فِي الله الْفَقِيه الْعَلامَة الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْهَاشِمِي بن خضراء السلاوي فَقَالَ قصيدة فِي مدح السُّلْطَان نَصره الله نَصهَا
(لبيْك لبيْك يَا خير السلاطين
…
أدامك الله فِي عز وتمكين)
(دَعَوْت عَبدك فَاسْتَجَاب مبتدرا
…
وَقد اناخ على الطير الميامين)
(يهدي إِلَيْك تَحِيَّة مباركة
…
أذكى وَأطيب من مسك ونسرين)
(ممرغا وجنتيه فارحا جذلا
…
إِذا فَازَ مِنْك بتخصيص وَتَعْيِين)
(مؤملا راجيا بُلُوغ مقْصده
…
مُسْتَبْشِرًا برضى بالنجح مقرون)
(يَا نجح سعيي وَيَا بشراي قد سعدت
…
حَالي وفزت بتقريب وتأمين)
(من مبلغ معشري أَنِّي أويت إِلَى
…
ظلّ مديد يُظِلنِي ويؤويني)
(ظلّ الْإِلَه على عباده وَكفى
…
بِهِ كَفِيلا وذخرا للْمَسَاكِين)
(رب السماح فَمَا معن بن زَائِدَة
…
وَأَيْنَ من راحتيه نهر سيحون)
(لله من ملك جلت مآثره
…
عَن أَن يُحِيط بهَا حصر بتدوين)
(دَعَا الْمَعَالِي فانقادت ملبية
…
يضيق عَن وصفهَا بطن الدَّوَاوِين)
(لَهُ السَّعَادَة قد أَلْقَت أزمتها
…
وَالْفَتْح رائده فِي كل مَا حِين)
(وَبشر طلعته يسر ذَا حزن
…
وَأَيْنَ مَا حل كَانَ خير مَيْمُون)
(حامي الشَّرِيعَة والرحمن ناصره
…
ماضي الْعَزِيمَة لَا يرضى بتوهين)
(فِي كل قطر ثَنَاء عَنهُ منتشر
…
أَي انتشار يفوق مسك دارين)
(سَاس الْعباد بتدبير ومعدلة
…
وَأحسن الْأَمر فِي الدُّنْيَا وَفِي الدّين)
(وَلَيْسَ يعبأ بالدنيا وَزينتهَا
…
لكنه بَين مَفْرُوض ومسنون)
(وطبق الأَرْض عدله وَنعمته
…
مجاله بَين تسكين وتحسين)
(بسعده الغرب قد بَدَت محاسنه
…
فجر ذيلا على بَغْدَاد والصين)
(وتاه مزدريا بِكُل مملكة
…
يميس فِي حلل ذَوَات تلوين)
(نعم الإِمَام الْهمام المرتضى حسن
…
فَخر الْمُلُوك سلالة السلاطين)
(السَّيِّد الْملك ابْن السَّيِّد الْملك ابْن
…
السَّيِّد الْملك الْمَعْرُوف باللين)
(بَحر خضم مغيث سيد بَطل
…
بُد الليوث وفرسان الميادين)
(دَانَتْ بِطَاعَتِهِ العدا بأجمعها
…
مذ البست ملبس الصغار والهون)
(وفَاق من قبله حلما ومكرمة
…
وسطوة بهرت أهل الأواوين)
(لَا غرو إِن نَالَ مَا فَاتَ الألى غبروا
…
وشاد مَا عجزوا عَنهُ بتحصين)
(قد يدْرك الآخر الشأو الَّذِي قصرت
…
عَنهُ الْأَوَائِل فِي ماضي الْأَحَايِين)
(تبَارك الله مَا أسمى مفاخره
…
كسبا وَارِثا من الشم العرانين)
(وَلَا ترى الْغَرْس قد زكتْ أرومنه
…
إِلَّا أَتَى الْفَرْع مِنْهُ فِي أفانين)
(يَا خير من أمه الراجي وَأكْرم من
…
يثني عَلَيْهِ بمعرب وملحون)
(وَيَا ابْن خير الْأَنَام من نبوته
…
لَهُ وآدَم بَين المَاء والطين)
(وَيَا ملاذ الورى يَا من سما كرما
…
يَا نعْمَة عظمت يَا كنز مِسْكين)
(يَا منبع الْجُود يَا تَاج الفخار وَيَا
…
مأوى العفاة وَيَا سلوان محزون)
(يَا من روى عَن أَبِيه رفع سؤدده
…
يَا من أوامره إِلَيْهِ تَدعُونِي)
(وفدت ملتمسا رضاك يَا سندي
…
وَلَيْسَ شَيْء سوى رضاك يرضيني)
(فأمنن عَليّ بعطفة تُصَاحِبنِي
…
مدى الدهور وللعلى ترقيني)
(بقيت مَا شِئْت فِي عز ومقدرة
…
ودمت فِي نعم بِحَق جبرين)
وَلما وقف السُّلْطَان أعزه الله على هَذِه القصيدة هزت من عطفه وَأمر أَن يسْأَل منشئها عَن مطلبه فاقترح أَن يُؤذن لَهُ فِي الْإِفْتَاء وَأَن يعْطى ظهيرا بالتوقير والاحترام وَأَن ينعم عَلَيْهِ بِمَا يَقْتَضِي الاعتناء بِهِ فأنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان أعزه الله بِالْإِذْنِ فِي الْإِفْتَاء وبظهير الاحترام وَنفذ لَهُ راتبا من أحباس جَامع ابْن يُوسُف إِعَانَة لَهُ على الدَّرْس بِهِ ثمَّ كَانَ نهوض السُّلْطَان أيده الله من مراكش قَاصِدا بِلَاد الغرب غرَّة جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فاجتاز فِي طَرِيقه بتادلا وأناخ على قَبيلَة آيت أعتاب فأوقع بهم فِي أوعارهم وأعز معاقلهم وأوكارهم وَقطع مِنْهُم وَاحِدًا وَعشْرين رَأْسا ثمَّ زحف إِلَى بني مُوسَى فأدوا الطَّاعَة وَقَامُوا بواجبها ثمَّ سَار محفوفا بالنصر واليمن إِلَى أَن دنا من مكناسة الزَّيْتُون فزحف إِلَى بني مطير وَكَانَ شررهم قد استطار فِي تِلْكَ النواحي كل مطير فَإِنَّهُ لما سَافر السُّلْطَان نَصره الله عَن مكناسة سنة أَربع وَتِسْعين كَمَا مر زحف بَنو مطير هَؤُلَاءِ إِلَى عرب دخيسة وَأَوْلَاد نصير الَّذين أنزلهم السُّلْطَان بسايس وبوأهم إِيَّاه عوض مجاط وأوقعوا بهم وقْعَة شنعاء وَقد صبرت الْعَرَب فِي ذَلِك الْيَوْم صبرا جميلا حَتَّى أَن جمَاعَة مِنْهُم قد عقلوا أنفسهم فِي حومة الْحَرْب لِئَلَّا يَفروا وَقَاتل إخْوَانهمْ دونهم حَتَّى كثرهم البربر فقبضوا عَلَيْهِم بِالْيَدِ وضربوا أَعْنَاقهم وَقتلُوا مِنْهُم نَحْو مِائَتَيْنِ وَهلك من البربر مثل ذَلِك أَو أَكثر وَلما انْهَزَمت الْعَرَب عمد بَنو مطير إِلَى مجاط فأنزلوهم بسائس على مَا كَانُوا عَلَيْهِ قبل ثمَّ انْطَلقُوا فِي الطرقات بالعيث والإفساد فِيهَا والنهب للمارة وَلم يدخروا شَيْئا من الشيطنة ليَوْم آخر وَكَثُرت الشكايات بهم على السُّلْطَان وَهُوَ بمراكش فَلَمَّا قدم أعزه الله قَدمته هَذِه لم يقدم شَيْئا على تأديبهم فَنَهَضَ إِلَى رَأس بِلَادهمْ ومزرعة فسادهم آكراي والحاجب وَغَيرهمَا وتقرى آثَارهم فِي تِلْكَ الْجِهَات حَتَّى جَاوَزت عساكره الْحَاجِب بمسايف كَثِيرَة وتوغلت البربر فِي قنن الْجبَال فَأمر السُّلْطَان أدام الله علاهُ بني مكيلد أَن يزحفوا إِلَيْهِم من نَاحيَة قبْلَة آكراي فزحفوا وانبثوا على حدودهم إِلَى غابة افقفاق الَّتِي هِيَ الْحَد بَين بني مكيلد وآيت شغروسن وآيت يوسي فحصروهم من تِلْكَ الْجِهَات ثمَّ نزل بإزائهم
آيت يوسي وآيت شغروسن وآيت عَيَّاش وآيت والان من جِهَة الشمَال وامتدوا امتدوا إِلَى حُدُود وَادي النجَاة وربط حذوهم من جِهَة الغرب وَرَاء وَادي النجَاة الْقَائِد الْعَرَبِيّ بن مُحَمَّد الشَّرْقِي الْمَدْعُو بَابا مُحَمَّد وَوصل جنَاحه عَلَيْهِم قبائل الغرب والحوز وَصَارَ بَنو مطير فِي مثل أفحوص القطاة وضاق بهم رحب الفضاء وأيقنوا بِالْهَلَاكِ والبوار ولفظتهم السهول والأوعار ونهبت الْجنُود زُرُوعهمْ الْقَائِم والحصيد واستخرجت من مخزونهم الْكثير والعتيد وَلما انْتهى الْحَال بهم إِلَى هَذِه الْغَايَة تطارحوا على السُّلْطَان بالشفاعات وَأَكْثرُوا من التوسل بالذبائح والعارات فرق لَهُم وأقلع عَنْهُم بعد أَن ألزمهم إِعْطَاء خَمْسمِائَة مَرْهُون ووظف عَلَيْهِم مائَة وَخمسين ألف ريال بعد أَدَاء الْحُقُوق ورد الْمَظَالِم وَشرط عَلَيْهِم إِخْرَاج قَبيلَة مجاط من بَين أظهرهم وضمنهم طَرِيق مكناسة وفاس وَجعل الْعهْدَة فِيهَا عَلَيْهِم جَريا على عَادَتهم الْقَدِيمَة من جعلهم النزائل بهَا والحراس فالتزموا ذَلِك كُله وأدوه وَبعد ذَلِك نَهَضَ السُّلْطَان عَنْهُم إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا أَوَاخِر رَجَب الْفَرد من السّنة وَاسْتمرّ بهَا إِلَى أَن دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَنَهَضَ إِلَى فاس وَلما احتل بهَا فرق الجيوش فِي النواحي لجباية الزكوات والأعشار والوظائف المخزنية فانتهت السَّرَايَا والبعوث إِلَى آيت يزدق من برابرة الصَّحرَاء فأذعنوا وأدوا مَا كلفوا بِهِ من الزكوات والأعشار وَغَيرهَا وَإِلَى آيت يوسي وَغَيرهم فأطاعوا وأذعنوا إِلَّا آيت حلى وهم بطن من آيت يوسي فَإِنَّهُم انحرفوا عَن عاملهم وأبوا من أَدَاء مَا وظف عَلَيْهِم فأوقع بهم جَيش السُّلْطَان وَقَطعُوا مِنْهُم عددا من الرؤوس وَسَاقُوا مثلهَا من المساجين فعلقت الرؤوس بأسوار فاس وَبعد ذَلِك أذعن آيت حلى للطاعة فقبلهم السُّلْطَان أيده الله وألزمهم ولَايَة عاملهم الَّذِي كَانُوا منحرفين عَنهُ وَكَانَ ذَلِك فِي أَوَاخِر صفر من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ كَانَ عيد المولد الْكَرِيم فاحتفل لَهُ السُّلْطَان على الْعَادة وَبعث إِلَى حَضرته صاحبنا الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن خضراء بقصيدة ميلادية يَقُول فِيهَا
(أمل المديح محبرا يَا منشد
…
وأعده تطريبا فَذَلِك أَحْمد)
(هَذَا أَوَان مَسَرَّة وسعادة
…
هذي اللَّيَالِي الغر هَذَا الْموعد)
(أَو مَا ترى علم الْبشَارَة لائحة
…
أَو مَا تشاهد نورها يتَرَدَّد)
(هَذَا زمَان ظُهُور طلعة أَحْمد
…
فِي عَالم الأجساد هَذَا المولد)
(طُوبَى لمن يروي غَرِيب حَدِيثه
…
متأدبا ويعيده ويردد)
(طُوبَى لمن يقْضِي حُقُوق مديحه
…
ويجيده نظما بديعا ينشد)
(فمديح خير الْخلق أعظم قربَة
…
لكنه فِي ذَا الأوان مُؤَكد)
(يَا لَيْلَة مَا كَانَ أعظم قدرهَا
…
مَعَ فجرها طلع النَّبِي مُحَمَّد)
(فاسرد شمائله الحسان وَمَا لَهُ
…
من معجزات بِالنُّبُوَّةِ تشهد)
(وَاذْكُر عجائب مولد قرت بِهِ
…
عين الْمُحب وضاق مِنْهُ الأحقد)
(وَاجعَل دعاءك للْإِمَام المرتضى
…
إِن الدُّعَاء لَهُ لحق أوكد)
(واملأ بدر مديحه أسماع من
…
حَضَرُوا لَدَيْهِ وضمهم ذَا المشهد)
(سَاس الرّعية صَادِقا فعنت لَهُ
…
أُمَم وَقد كَانَت قَدِيما تشرد)
(من كَفه فاضت مواهب جمة
…
فالكف مِنْهُ للعفاة المورد)
(طود أتآد شامخ ذُو همة
…
علياء يقصر عَن علاها الفرقد)
(مَا جود حَاتِم طيىء مَا حلم أحنف
…
إِن ذَا لَهو الْحَلِيم الأجود)
(أزكى الْمُلُوك أرومة وأجلهم
…
قدرا وأسبقهم لأمر يحمد)
(باهى بِهِ الغرب الممالك فاغتدى
…
مِنْهُ يغار قريبها والأبعد) وَمن آخرهَا
(مولَايَ يَا تَاج الْمُلُوك وفخرهم
…
فليهنك الْعِيد الْأَغَر الأسعد)
(لله موسم مولد لَك عَائِد
…
بمسرة مَوْصُولَة تتجدد)
(لَا زلت ممنوحا جلائل أنعم
…
مَا اهتز فِي روض بهي أملد)
(لَا زلت محروسا بِعَين عناية
…
مَا رنم الْحَادِي وَحبر منشد)
وَفِي ربيع الثَّانِي من سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورد كتاب السُّلْطَان أعزه الله على قَاضِي سلا بِتَعْيِين صاحبنا الشريف الأديب فلكي الْعَصْر أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن مُحَمَّد الجعيدي السلاوي للذهاب إِلَى مراكش برسم الْقيام على إحصاء صائر السُّلْطَان بهَا بَدَلا عَن الْفَقِيه أبي مُحَمَّد عبد الله بن
خضراء فامتثل الشريف الْمَذْكُور وسافر فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور ومدح جناب السُّلْطَان أسماه الله بِهَذِهِ القصيدة الَّتِي يَقُول فِيهَا
(لبيْك يَا منقذي من لجة الْعَدَم
…
سعيا على الجفن لَا مشيا على الْقدَم)
(فَذا أَوَان سعود كنت أرصده
…
وَذي مناي كَمَا فِي سَابق الْقدَم)
(فَهُوَ المرام وكل الْعِزّ يعقبه
…
وَلَا يُحَال بِأَنِّي أَحْقَر الخدم)
(قصدت أعتاب ملك شامخ بهج
…
يقري الضيوف ويغني صَاحب الْعَدَم)
(أنزلت رحلي بهَا وَعِنْدهَا أملي
…
وَهل يخيب نزيل الْجُود وَالْكَرم)
(شمرت عَن ساعدي وَالْأُذن وَاعِيَة
…
فهاب أهل الحسام سطوة الْقَلَم)
(أرْضى بِذَاكَ الَّذِي أَضَاء مغربنا
…
بعدله فغدا يميس فِي نعم)
(أزكى الْأَئِمَّة شِيمَة وأرفعهم
…
قدرا وأسبقهم لكل مغتنم)
(أميرنا الْحسن الْمَحْمُود سيرته
…
تروع صولته الْأسود فِي الأجم)
(نجل السلاطين قد أَحْيَا مآثرهم
…
ونال مَا عجزت عَنهُ ذَوُو الهمم)
(قد شاد للدولة الغراء مفخرها
…
فَسَاد عِنْد مُلُوك الْعَرَب والعجم)
(تَاج الْمُلُوك وفخرهم وسيدهم
…
وَخير من قد مضى فِي غابر الْأُمَم)
(قد لاحظته السُّعُود وَهِي فِي شرف
…
وكل نحس عداهُ وَهُوَ عَنهُ عَم)
(النَّصْر سابقه والسعد قائده
…
وَالْفَتْح يَخْدمه من جملَة الخدم)
(والجود سيرته والحلم حليته
…
وَالْجد عَادَته فاحذر من النَّدَم)
(لَيْث إِذا مَا أحس الْحَيّ سطوته
…
ألقوا سِلَاحهمْ مَخَافَة النقم)
(غيث إِذا الأَرْض يَوْمًا مَسهَا عَطش
…
غوث توسل بِهِ لبارىء النسم)
(مدير عَالم مفكر فطن
…
ومفحم باهر بأفصح الْكَلم)
(كل الفهوم لَهُ أَلْقَت أزمتها
…
ونوره يَهْتَدِي بِهِ لَدَى الظُّلم)
(بهَا يُقَاوم من بغى ويدمغه
…
بهَا يدافع أهل الريب والتهم)
(كم دبر الرّوم من كرّ وَمن حيل
…
توجو النجاح بهَا والنجح فِي عقم)
(يرى بِنور حجاه كل عَاقِبَة
…
وَعين تَدْبيره لِلْأَمْرِ لم تنم)
(فصل الْخطاب حباه الله مكرمَة
…
وَحِكْمَة عظمت من أبدع الحكم)
(فاطلب رِضَاهُ وَدم على محبته
…
مدا الدهور وجانب دَاعِي السأم)
(فَهُوَ المنى لِذَوي الحجا وبغيتهم
…
وسيب يمناه مثل الزاخر العرم)
(يدني الْأُصُول إِلَى نيل الْوُصُول ويحيينا
…
بنعمته كالأرض بالديم)
(مَا زَالَ يحيى بهَا بِلَاد مغربنا
…
فاقرع بصدقك بَاب الْجُود تغتنم)
(واسلك سَبِيل الصَّفَا تنَلْ بِهِ شرفا
…
وَاقْبَلْ نصيحة من حباك واستقم)
(يَا غَايَة الْقَصْد إِنِّي رَاغِب طرب
…
مستمسك بجوار مِنْك لم يضم)
(مولَايَ يَا من مزاياه وأنعمه
…
فِي النَّاس أشهر من نَار على علم)
(مولَايَ أَنْت الَّذِي تغني الضَّعِيف إِذا
…
مَا الدَّهْر أفْضى بِهِ لقبضة الْهَرم)
(بِشِرَاك إِن الفرنج سَوف يُدْرِكهَا
…
مِنْكُم صغَار بِهِ تداس بالقدم)
(فَأَنت ذُو مدد وهم ذَوُو نكد
…
وَأَنت ذُو جذل وهم ذَوُو غمم)
(مولَايَ جد برضاك لي وَخذ بيَدي
…
واحرس جنابي بِهِ من سَائِر الْأَلَم)
(وَاجعَل ثِيَاب الرضى سترا عَليّ وَلَا
…
يرى بِهِ حَبل عروتي بمنفصم)
(فها أَنا ذَاك عِنْد بَاب سيدنَا
…
أَرْجُو قبولا ووصلا غير منصرم)
(أبقاك رَبك فِي عز ومكرمة
…
بِاللَّه أَمرك نَافِذ على الْأُمَم)
(أدامك الله مَنْصُور اللِّوَاء على
…
كل الأعادي وَلَا بَرحت فِي نعم)
وَفِي آخر هَذِه السّنة ورد كتاب السُّلْطَان أيده الله باستدعاء صاحبنا أبي مُحَمَّد بن خضراء الْمَذْكُور آنِفا لتوليته خطة الْقَضَاء بِحَضْرَة مراكش فامتثل ووفد على أَمِير الْمُؤمنِينَ أدام الله علاهُ بِحَضْرَتِهِ السعيدة من فاس المحروسة بِاللَّه فولاه الْقَضَاء بمراكش وَسَار إِلَيْهَا وَهُوَ الْآن بهَا مَحْمُود السِّيرَة حسن السريرة سدده الله وكلاه وَقَالَ فِي وفادته على الحضرة الشَّرِيفَة قصيدة يمدح بهَا الجناب المولوي وَنَصهَا
(لبيْك دمت مؤيدا ومظفرا
…
وَلَك الْكَمَال كَمَا تشَاء موفرا)
(وافى خديمك أَمرك العالي الَّذِي
…
فِي ضمنه إسعاده بَين الورى)
(إِذْ خص دونهم بأشرف دَعْوَة
…
يَا سعد من أضحى بهَا مُسْتَبْشِرًا)
(فَأجَاب مبتدرا إِجَابَة صَادِق
…
لم يلهه أهل وَلَا حب الذرى)
(وطوى المراحل كي يحل بِحَضْرَة
…
يلقى بهَا وَجه الْأَمَانِي مُسْفِرًا)
(فبدت لَهُ الدَّار المنيفة يَا لَهَا
…
دَارا أعز حمى وأبهى منْظرًا)
(ونحا الجناب المستجار بظله
…
وأناخ فِيهِ خاضعا ومعفرا)
(يهدي إِلَيْك تَحِيَّة مختارة
…
أذكى من الْمسك الذكي وأعطرا)
(ويمد كفيه بِصدق دَاعيا
…
لَك بِالْبَقَاءِ مهنئا وَمُبشرا)
(ويجيد شكر مواهب أوليتها
…
كرما وَحقّ لمثلهَا أَن يشكرا)
(وَيُعِيد ذكر محَاسِن أوتيتها
…
ويصوغ مدحك صوغ تبر أحمرا)
(ويروم إقبالا عَلَيْهِ بالرضى
…
يَا فوزه إِن بالرضى هُوَ بشرا)
(إِن ناله نجحت لَهُ آماله
…
وَدنت مناه وارتقى واستبشرا)
(يَا من يؤمل رفْعَة وسعادة
…
يمم حمى الْمولى الْهمام لتظفرا)
(ملك عَظِيم الْقدر جلّ كَمَاله
…
عَن أَن تعد خصاله أَو تحصرا)
(ملك كريم الطَّبْع عز مِثَاله
…
خلقا كَرِيمًا لم يضاه ومفخرا)
(ملك جزيل الْفضل عَم نواله
…
كل الْأَنَام وفَاق غيثا ممطرا)
(ملك أَفَاضَ على الرّعية خَيره
…
وأنامهم فِي ظله متبصرا)
(ملك جميل سياسة وسريرة
…
وَيدل ظَاهره على مَا أضمرا)
(ملك ترقى فِي سَمَاء مَكَارِم
…
فغدا بِهِ أفق المكرم مقعرا)
(ملك رَحِيم خاشع متواضع
…
وَيرى اكْتِسَاب الْحَمد أربح متجرا)
(قرت بِهِ عين الْخلَافَة واغتدى
…
من سعده ذَا الْقطر أنعم أزهرا)
(من أهل بَيت الْمُصْطَفى أكْرم بِهِ
…
نسبا شريفا مَا أجل وأطهرا)
(جمع المفاخر مكسبا ووراثة
…
وحوى مآثر حَقّهَا أَن تؤثرا)
(ماضي الْعَزِيمَة فِي الْأُمُور مُسَدّد
…
فِي رَأْيه الميمون لَيْسَ مقصرا)
(قل للمحاول شأوه فِي مجده
…
أَو رفده أَو حلمه أطرق كرا)
(هَذَا همام لَا يشق غباره
…
هَذَا همام لن يجارى إِن جرى)
(مولَايَ يَا أزكى الْأَئِمَّة شِيمَة
…
وافيت بابك أَبْتَغِي مِنْك القرا)
(لَا أَبْتَغِي إِلَّا الرضى وَكفى بِهِ
…
فأنلني الْحَظ الجزيل الأوفرا)
(مولَايَ مَا عِنْدِي إِلَيْك هَدِيَّة
…
إِلَّا مديحك هاك مِنْهُ جوهرا)
(نظمته فكرة مخلص متودد
…
خُذْهُ إِلَيْك منظما ومحبرا)
(لَا زلت فِي نعم تدوم ونصرة
…
وسعادة لَا زلت أَنْت الأكبرا)
(لَا زلت فِي حلل الْعِنَايَة رافلا
…
لَا زلت فِي ملك كَبِير أبهرا)
وَاعْلَم أَن الأمداح فِي جناب هَذَا الْملك الْجَلِيل الشريف الْأَصِيل كَثِيرَة والقصائد المفصحة عَن علو قدره وشموخ مجده وفخره شهيرة خطيرة لَا سِيمَا لِأَصْحَابِنَا السلاويين مِمَّن ذَكرْنَاهُ مِنْهُم وَمِمَّنْ لم نذكرهُ وَلَوْلَا خوف الإطالة لأثبتنا من ذَلِك مَا يزرى بالحبر ويفصح بالذكرى والعبر وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة وَالله يَجْزِي كلا بنيته وخلوص طويته
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا تَجَدَّدَتْ الشُّرُوط بَين السُّلْطَان أعزه الله وَبَين أَجنَاس الفرنج فِي سَبِيل تَأْكِيد المهادنة وجلب نفع التِّجَارَة وَكَانَ من جُمْلَتهَا أَن النَّصَارَى وَأهل حمايتهم يلزمون بغرامة الْوَظَائِف المخزنية الْمرتبَة على الْأَبْوَاب كَسَائِر رعية السُّلْطَان وَقدر ذَلِك الوظيف سِتَّة بلايين لكل حمل وَفِي هَذِه الْمدَّة الَّتِي هِيَ أواسط السّنة الْمَذْكُورَة أَخذ السُّلْطَان أعزه الله فِي التأهب للحركة والنهوض من مكناسة الزَّيْتُون قَاصِدا حَضْرَة مراكش الْحَمْرَاء فاحتلها فِي آخر السّنة الْمَذْكُورَة وَعِيد بهَا عيد الْأَضْحَى
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا تحرّك السُّلْطَان أعزه الله لغزو بِلَاد السوس الْأَقْصَى فَأخذ فِي التأهب والاستعداد لذَلِك وَأمر قبائل دكالة وتامسنا بِحمْل الْقَمْح وَالشعِير والتبن إِلَى مرسى الجديدة ومرسى الدَّار الْبَيْضَاء ليحمل مِنْهُمَا فِي المراكب إِلَى سَاحل السوس الْأَقْصَى بِقصد إرفاق الْجَيْش وإعانته وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن جنس الإصبنيول كَانَ متشوفا لتملك بعض المراسي السوسية مُنْذُ انْعِقَاد الْهُدْنَة مَعَه عقب حَرْب تطاوين وَكَثِيرًا مَا كَانَت مراكبه الحربية والتجارية تَتَرَدَّد إِلَى تِلْكَ النواحي فيستهوي أَهلهَا بِأَسْبَاب التِّجَارَة ونيل الأرباح فَرُبمَا سكنوا إِلَيْهِ وَرُبمَا نفروا مِنْهُ وَتكلم السُّلْطَان أعزه الله مَعَ كبرائهم فِي ذَلِك فاحتجوا بِأَن صلح تطاوين كَانَ منعقدا على فتح بعض المراسي السوسية وَأَنَّهُمْ الْآن قد عزموا على الْأَخْذ بشرطهم
الْمَذْكُور وَإِلَّا أفْضى الْحَال إِلَى مَا لَا يَلِيق فَرَأى السُّلْطَان أعزه الله أَن من الْوَاجِب أَن ينْهض إِلَى تِلْكَ الْبِلَاد ليباشر أمرهَا بِنَفسِهِ لَا سِيمَا وَكَانَ أَهلهَا قد بعد عَهدهم بإجراء الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة فِيمَا بَينهم على مقتضياتها فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة فَانْتهى مِنْهَا إِلَى قرب وَادي نول ومهد أقطارها وَولى على أَهلهَا الْقُضَاة والعمال وَاتخذ هُنَاكَ مرسى للوسق والوضع تسمى آساكا وَكتب فِي ذَلِك كتابا لولاة الْمغرب يَقُول فِيهِ بعد الِافْتِتَاح أما بعد فَإنَّا لما نهضنا من مراكش بحول الله وقوته وسطوته الباهرة وصولته وجيوش الله المظفرة موفورة وَجُنُوده سُبْحَانَهُ مقطورة وأعلامها منشورة منصورة نهضة مُعْتَمد على مَوْلَاهُ متقلد لما قذف فِي قلبه فأبداه متمسك بعروته الوثقى الَّتِي من استمسك بهَا بلغ مناه وانتهينا بمعونة الله لمبدأ هَذِه الأقطار السوسية وامتطينا صهوتها وَهِي ذلولا فِي ربوع الْيمن ساعيه وبنود الله خافقة على مفارق الظفر وبذرى الْمجد سامية تواردت على حضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه الْوُفُود متناسقة متتابعة وانتظمت فِي سلك السّمع وَالطَّاعَة والخدمة الجامعة فتسارعوا إِلَى مَا إِلَيْهِ دعوا وتلقوه تلقي الظمآن فنهلوا وكرعوا وأوقدوا لوفود كبرائهم وأعيانهم وأشياخهم مصباحا واستضاؤوا بضياء نور الله غدوا ورواحا ومدوا أَعْنَاق الإذعان وبسطوا أَيدي المسالمة والإبقاء عَلَيْهِم والامتنان بعد مَا كَانَت قد بلغت مِنْهُم الْقُلُوب الْحَنَاجِر وارتعدت فرائصهم من هَيْبَة الله ثمَّ اطْمَأَن الْبر وشرق الْفَاجِر وانتهبت أجفان المراسم المخزنية الَّتِي عفت بعد نومتها فَانْظُر إِلَى أثر رَحْمَة الله كَيفَ يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا وصرفنا إِلَيْهِم عنان التَّرْتِيب بعد أَن وطأنا لَهُم كنف الترحيب فبوأنا من توسمنا فِيهِ الْأَهْلِيَّة للتولية على إخوانه مهادا وقلدناه أَمرهم جمعا وفرادى وضربنا للْكُلّ فِيهَا على مُقْتَضى السياسة بمعونة الله بِسَهْم مُصِيب وأرعيناه من مربع خدمتنا الشَّرِيفَة المرعى الخصيب حَتَّى وَقع التَّمَكُّن من أزمتهم وأجلسنا خاصتهم وعمالهم على أسرتهم فاتصلت بهم المخزنية اتِّصَال الْأَرْوَاح بالأجساد واستنارت هَذِه الأرجاء بِنور الله اسْتِنَارَة عَمت الْحَاضِر والباد فأدوا من الطّرف والهدايا مَا فِيهِ غنية لمن ركب متن المزايا
مَعَ كَون الْبِلَاد لم تنْكح بالمخزن مُدَّة من السنين تنيف على عدد السِّتين وَلَو لم ننل من هَذ الْفتُوح الباهرة بِفضل الله إِلَّا عشرا لَكَانَ فِي جنب من قدم عَهده بالمخزنية كثرا ولكان مَا عودنا سُبْحَانَهُ إِلَّا الْجَمِيل إِذْ هُوَ الْمُتَصَرف الْغَنِيّ القاهر الْقوي الْكَفِيل وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل ثمَّ ولينا عَلَيْهِم من الْقُضَاة من فيهم الْكِفَايَة لإِقَامَة شرائع الدّين وَلم نأل جهدا فِي انتخابهم من أمثل المقلدين علما بِأَن الشَّرْع عَلَيْهِ المبنى وَبِه يعمر المغنى ويغزر الْحس وَالْمعْنَى ثمَّ تطارح شرفاؤهم ومرابطوهم على أَعلَى جنابنا بإقرارهم على عوائدهم وإبقائهم على أعرافهم ومحاتدهم الَّتِي عِنْدهم عَلَيْهَا ظهائر أسلافنا المقدسين أَئِمَّة الْمُسلمين وأمراء الْمُؤمنِينَ وَكَذَا ظهائر من غبر من الْمُلُوك الْمُتَقَدِّمين رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فانتهجنا نهجهم وسمكنا بحول الله أوجهم وساعدناهم فأقررنا وجددنا لكل ظهيره وأجريناه على مَا أسس لَهُ من الْمجد وجعلناه نجيه وسميره وَحَيْثُ كَانَ الْقَصْد الأهم من هَذِه الوجهة الْمُبَارَكَة هُوَ حماية ذمار هَؤُلَاءِ الْمُسلمين والدفاع عَن بِلَادهمْ ورقابهم وَأَمْوَالهمْ مِمَّا طمحت إِلَيْهِ نفوس المؤملين وَكَانَ ملاك ذَلِك هُوَ فتح المرسى بوادي نول بِمحل يُسمى آساكا بِأَرْض قبيلتي تكنة وآيت باعمران إِذْ بِفَتْحِهَا يَسْتَقِيم أَمر الدفاع ويسهل على أهل ذَلِك الْمحل البيع والابتياع يَقِينا بِأَن سد أَبْوَاب الضَّرَر من الْأَمر المحتوم وإرشاد الضال فِي الشَّرْع من الْمُقَرّر الْمَعْلُوم تسابق القبيلتان المذكورتان اللَّتَان تلقيتا جنابنا العالي حِين عبرنا وَادي والغاس وقصدنا بجيوش الله بِلَادهمْ قصد طَبِيب آس فتلقوا رِكَابنَا السعيد بِمحل يعرف بآمصاو قرب مرسى تسمى باكلو إِذْ هُوَ الطّرف الموَالِي لآيت باعمران الْمُسَمّى بالسَّاحل وَإِلَيْهِ شدت هَذِه المراحل وَبَين آمصاو وَمحل المرسى الَّذِي أُرِيد فَتحه مرحلتان وبثلاث عشرَة سَاعَة ميقاتية مقدرتان فَأتوا بشرفائهم وفقهائهم ومرابطيهم وأعيانهم وأشياخهم المالكين لقيادهم فقوبلوا بِمَا قوبل بِهِ أمثالهم وناسب أَن يَتَّصِف بِهِ حَالهم ثمَّ ولينا عَلَيْهِم عدَّة من الْعمَّال جعلناهم بحول الله عدَّة فِي تِلْكَ الْأَعْمَال وَحِينَئِذٍ وَقع الْكَلَام مَعَهم فِي شَأْن المرسى فامتثلوا مَا أمرناهم بِهِ من فتحهَا امْتِثَال
من أضحى يتقلب فِي رضَا الله وَرَسُوله وَأمسى ثمَّ وجهنا مَعَهم سَرِيَّة من أَعْيَان الْجَيْش مُعْتَبرَة وَمَعَهُمْ من الْفُقَهَاء والمهندسين من يعْتد بهم فِي رسم تِلْكَ المرسى وتخطيطها على نهج الْقَوَاعِد المقررة والأعمال المحررة اقْتضى الْمقَام وَالْحَال تسبيقها رفقا بعباد الله واعتبارا بِأَن الله سُبْحَانَهُ قد قضى الْغَرَض ووهبه وأسداه وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله قل إِن الْفضل بيد الله وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله ثمَّ أَقَمْنَا فِي الْمحل الْمَذْكُور لانتظارهم فِي تشييد منارهم فَإِن انقلبوا بِالْمَقْصُودِ فَالْحَمْد لله الَّذِي بنعمته تتمّ الصَّالِحَات وَإِن لم يشفوا الغليل شددنا بحول الله لذَلِك المرسى عَزمَات الرحيل وقطعنا تِلْكَ المفازات هَذَا وَقد نصبنا قائدا من قواد جيشنا السعيد مُخْتَارًا من ذَوي الرَّأْي السديد وأقمناه بقصبة تيزنيت مَحل المخزن فِي الْقَدِيم بِقصد أَن يكون إِعَانَة لسَائِر عُمَّال الْقطر السُّوسِي من وَادي والغاس إِلَى مُنْتَهى وَادي نول وكليميم يتفاوضون مَعَه فِيمَا عَسى أَن يعرض لَهُم من الْمُهِمَّات وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ المخزن بَعيدا عَن هَذِه الشرفات بعد مَا عرفناهم بِأَنا أقمناه مشرفا للتفاوض مَعَه وبصيرة على مَا قصدنا من فتح ذَلِك المرسى إيثارا للنعمى ودفعا للبؤسى فَفَرِحُوا بذلك فَرح الظمآن الْوَارِد والضال الْوَاجِد وَوَقع الْإِشْهَاد عَلَيْهِم بِكُل مَا فصلناه وأبرم عقده مَعَهم على نَحْو مَا رسمناه فَكَانَ ذَلِك تَمام الْعَمَل الَّذِي قصدناه والمورد الَّذِي أردناه وانتحيناه وَالله تَعَالَى يخلص فِي ذَاته الْعَمَل وَيجْعَل هَذِه الوجهة الْمُبَارَكَة بفضله ومنته من الْجِهَاد المتقبل إِنَّه جواد كريم متفضل غَنِي حَلِيم وَالسَّلَام فِي متم شعْبَان عَام تِسْعَة وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف انْتهى كتاب السُّلْطَان أيده الله
وَفِي أَوَاخِر صفر سنة اثْنَتَيْنِ وثلاثمائة وَألف قَامَ نواب الإصبنيول من مراسي الْمغرب الْأَقْصَى بعد أَن أَقَامُوا بهَا نيفا وَعشْرين سنة لِاسْتِيفَاء مَا وَقع الصُّلْح عَلَيْهِ فِي حَرْب تطاوين وَكَانَ جملَة المَال الْمصَالح عَلَيْهِ عشْرين مليونا من الريال الْكَبِير وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله قد دفع مِنْهُ عشرَة ملايين مُعجلَة وَالْعشرَة الْبَاقِيَة هِيَ الَّتِي استوفاها الإصبنيول فِي الْمدَّة الْمَذْكُورَة أَقَامَ أمناءه مَعَ أُمَنَاء السُّلْطَان بمراسي الْمغرب
فَكَانَ كل فريق يَسْتَوْفِي نصف الدَّاخِل حَتَّى تمّ الْعَمَل وَفِي صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الشَّيْخ الْمنور الذاكر الخاشع أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْهَاشِمِي الطَّالِبِيُّ من صلحاء أهل سلا وَكَانَت وَفَاته فَجْأَة تعشى تِلْكَ اللَّيْلَة عشَاء خَفِيفا على عَادَته وَصلى الْعشَاء وتلا أوراده مُنْفَردا فِي بَيته كَمَا كَانَ يفعل ثمَّ أصبح مَيتا من غير أَن يحضرهُ أحد وَكَانَ قد ناهز الثَّمَانِينَ وشاخ وابيضت لحيته وَرَأسه وَحضر جنَازَته الجم الْغَفِير من أهل العدوتين سلا والرباط وازدحموا على نعشه وتناوبوه تبركا بِهِ وَصلى عَلَيْهِ بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم من سلا عقب صَلَاة الظّهْر وَدفن بِالْبَيْتِ القبلي من دَاره وَتردد الطّلبَة إِلَى قَبره مُدَّة لقِرَاءَة الْقُرْآن والبردة وَغَيرهَا من الأمداح وَعظم مصاب النَّاس بِمَوْتِهِ وَكَيف لَا وَقد كَانَ مِصْبَاح العدوتين بل وَغَيرهمَا فِي زَمَانه مَعَ مَا اكرمه الله تَعَالَى بِهِ من التَّوَاضُع وَحسن الْخلق ولين الْجَانِب مَعَ النَّاس بِحَيْثُ لم يعْهَد ذَلِك وَلم يرو إِلَّا عَن السّلف الصَّالح وَمن سلك سبيلهم من أمثالهم رضي الله عنهم وَكَانَ مَجْلِسه مجْلِس علم وحياء وَوعظ وَذكر للأولياء وَالصَّالِحِينَ وسيرهم وأخبارهم لَا يسمع فِي مَجْلِسه لَغْو وَلَا خوض فِي دنيا إِنَّمَا هُوَ سرد الْأَحَادِيث وأخبار الصَّالِحين وَنَحْو ذَلِك محافظا على الصَّلَوَات وَقيام اللَّيْل والأذكار وبذل الْمَعْرُوف وَالْأَمر بِهِ مَا أمكن وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ فِي سيرته وأخلاقه على مُقْتَضى السّنة النَّبَوِيَّة وآثار السّلف الصَّالح رضي الله عنهم ونفعنا بمحبتهم ومحبة أمثالهم آمين وَبعد غرُوب الشَّمْس من لَيْلَة الْجُمُعَة فاتح ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة البارع أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْمدنِي كنون عَالم فاس وَالْمغْرب وَصلى عَلَيْهِ عقب صَلَاة الْجُمُعَة بِجَامِع الأندلس من فاس حرسها الله وَدفن بالموضع الْمَعْرُوف بالقباب وَكَانَ رحمه الله فَقِيها عَالما متضلعا قولا بِالْحَقِّ صادعا بِهِ لَا يهاب فِي ذَلِك كَبِيرا وَلَا صَغِيرا وَلَقَد امتحن فِي ذَلِك من قبل السُّلْطَان فَلم يفل ذَلِك من غربه وَلم يوه من صرامته وَلَا حَده وَله عدَّة تآليف من أحْسنهَا اخْتِصَار حَاشِيَة الرهوني على مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل جدد الله عَلَيْهِ الرحمات آمين
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وثلاثمائة وَألف فَفِي لَيْلَة الْعشْرين من صفر مِنْهَا وَقع فِي النُّجُوم تناثر كَبِير وَرمي شَدِيد تشريقا وتغريبا وَغير ذَلِك على خلاف الْمُعْتَاد حَتَّى لقد أذكرت قَول بشار بن برد الْأَعْمَى فِي وصف الْحَرْب
(كَأَن مثار النَّقْع فَوق رؤوسنا
…
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه)
ودام ذَلِك من وَقت الْغُرُوب إِلَى نصف اللَّيْل وَفِي هَذِه الْأَيَّام كَانَت بَين جيوش الرجل الْمَنْصُور الْقَائِم بِبِلَاد الْحَبَشَة والنوبة المتسمي بالمهدي وَبَين جَيش النجليز حروب عَظِيمَة بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا وَكَانَ للمهدي الْمَذْكُور على النجليز غَايَة النَّصْر والظهور وَلَوْلَا أَن التَّعَرُّض لخبره لَيْسَ من مَوْضُوع الْكتاب لشرحت ذَلِك فَإِن أمره عَجِيب جدا وَفِي أواسط ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة ورد أَمر السُّلْطَان أيده الله بتسريح مَا كَانَ موظفا على أَبْوَاب المدن والقرى مِمَّا كَانَت تُؤَدِّيه الْعَامَّة على أحمال السّلع والتجارات من المكوس وَكتب فِي ذَلِك إِلَى عَامل سلا وقته بِمَا نَصه بعد الِافْتِتَاح والطابع الْمُشْتَمل على اسْم السُّلْطَان أيده الله خديمنا الأرضى الْحَاج مُحَمَّد بن سعيد السلاوي وفقك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله وَبعد فقد شرح الله صدرنا لرفع الْعَطاء فِي سَائِر الْأَبْوَاب بالمدن والمراسي عَن كل مَا يمر بِهِ عَلَيْهَا دَاخِلا وخارجا وأصدرنا أمرنَا الشريف لأمين المستفادات بثغر سلا المحروس بِاللَّه كَغَيْرِهِ بإنهاض المشترين لأبوابه الجالسين للقبض بهَا والمتصرفين فِي شؤونها لحَال سبيلهم وإعمال الْحساب مَعَ مشتريها الْمَذْكُورين على مَا تصرفوا فِيهِ إِلَى يَوْم الإنهاض وتوجيه الْقَائِمَة بذلك لحضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه وَغير الْأَبْوَاب من الْأَمَاكِن الْمُعْطى فِيهَا وَعَلَيْهَا تبقى على حَالهَا حَتَّى نَنْظُر فِي أمرهَا بحول الله وأعلمناك لتَكون على بَال وَالسَّلَام فِي ثَانِي ربيع الأول عَام ثَلَاثَة وثلاثمائة وَألف وَلما ورد هَذَا الْكتاب فَرح النَّاس بِهِ ودعوا للسُّلْطَان بالنصر والتأييد من خَالص نياتهم نطلب الله تَعَالَى أَن يتمم نعْمَته على الْمُسلمين بتسريح مَا بَقِي موظفا من مبيعات الْأَسْوَاق ويريح النَّاس من شؤمه فَإِنَّهُ لَا شَيْء أشأم من هَذِه المكوس على الدول نسْأَل الله الْعَافِيَة وَفِي عَاشر جُمَادَى الثَّانِيَة من
السّنة الْمَذْكُورَة خرج السُّلْطَان مولَايَ الْحسن أيده الله من حَضْرَة مراكش غازيا بِلَاد السوس الْأَقْصَى وَمَا وَرَاءَهَا من عرب معقل وَسَائِر قبائل الصَّحرَاء لما بلغه من اضْطِرَاب الرعايا بِتِلْكَ الْبِلَاد وخروجهم على ولاتهم وَأَن بعض تجار النجليز قد تسور على مرسى بِتِلْكَ السواحل يُسمى طرفاية وَوصل يَده فِي البيع وَالشِّرَاء بِبَعْض الْقَبَائِل الَّذين هُنَاكَ وَأَرَادَ أَن يَبْنِي بِالْمحل الْمَذْكُور فَنَهَضَ السُّلْطَان أيده الله لحسم مَادَّة هَذَا الْفساد وَلما توَسط بِلَاد السوس وَأصْلح أحوالها وثقف أطرافها كتب كتابا إِلَى وُلَاة الْمغرب يَقُول فِيهِ بعد الِافْتِتَاح مَا نَصه وَبعد فَإنَّا بحول الله الْقوي الْمعِين الفاتح لما اغلق كَمَا يَشَاء فِي الْحِين أَو بعد حِين الْمُؤَيد بعنايته عَبده فِي كل مصدر ومورد وتحريك وتسكين كتبنَا إِلَيْكُم هَذَا يَوْم حلولنا وسط خدامنا قبائل آيت باعمران بحبوحة مجامع قبائل السوس الْأَقْصَى ومناخ الْأَعْيَان نعلمكم بِمَا وَاجَهنَا الْمولى سُبْحَانَهُ فِي هَذِه الْحَرَكَة الْمُبَارَكَة من تعاقب المنن والأيادي وابتسام ثغر الزَّمَان بِمَا أملناه من الْعلي المنان فِي هَذَا النادي لِتَعْلَمُوا أَن الله على كل شَيْء قدير وَبِيَدِهِ مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْوَلِيّ والنصير والسميع والبصير فَكَانَ من أَمر هَذِه الْقَبَائِل السوسية والقساملة الساحلية أَن تلقوا رِكَابنَا السعيد أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا ناشرين أَعْلَام الْفَرح تجاه جيوش الله المظفرة سري وإدلاجا حاشدين جموعهم مصحوبة بأعيانهم وَمن يعْتد بِهِ من فقهائهم وشرفائهم ومرابطيهم من غير أَن يكون جمعهم خداجا مستنتجين للفوز بخاطرنا الشريف مُقَدمَات الِامْتِثَال والسمع وَالطَّاعَة لله وَلِرَسُولِهِ استنتاجا مقدمين بَين يديهم هداياهم متترسين بأبنائهم وإخوانهم وسراياهم مادين أَعْنَاق الِامْتِثَال عاضين بالنواجذ على الْخدمَة وَصَالح الْأَعْمَال فَأتوا بمؤنتهم على قدر الِاسْتِطَاعَة ومهدوا لسلوك الْجَيْش السعيد مَا صَعب من طرقهم حَتَّى صَارَت مسلوكة مشاعة وَنحن فِي كل ذَلِك نعاملهم بالبرور ونبسط الْبشر إِلَيْهِم ونقابلهم بِمَا ارتسم فيهم من السرُور وَهَا نَحن بحول الله جادون فِي الخلوص إِلَى الْمَقْصد الَّذِي لأَجله نقلنا هَذِه الخطوات واستعملنا
فِيهِ الْفِكر وأسهرنا أحداق الاعتبارات من صرف النّظر لفتح مرسى آساكا مَرْكَز سَاحل وَادي نول وَمجمع الْقَبَائِل الْعَرَبيَّة والبربرية ومنتهى ذَلِك المسكون وَلَا سِيمَا من جَاءَت بَينهمَا كالام والعنصر وهما كالتوأمين لَهَا يستمدان مِنْهَا ويرضعان خُلَاصَة لبن ثديها وهما القبيلتان الباعمرانية والتكنة وَمن تراكم عَلَيْهِمَا وارتدف من قبائل الْعَرَب والبربر أَو كَانَ على حكمهمَا فِيمَا ارتضع وارتشف هَذَا إِن كَانَت تصلح لذَلِك وتعود مَنْفَعَتهَا على الْمُسلمين وَالْإِسْلَام بعد الاستخارة مرَارًا فِي اختطاطها وتتحقق بصلاحيتها كشفا واستبصارا ونتوخى فِي الْإِقْدَام على ذَلِك بحول الله الْأسد من الأنظار والمنهاج القويم الْجَارِي على اعْتِرَاف هاتيك الأقطار ثمَّ إِن كَانَت مُوَافقَة للأصلح أقدمنا وَإِن لم يظْهر وَجه الْمصلحَة أعرضنا عَنْهَا إِلَى غَيرهَا قَالَ الله الْعَظِيم {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} الْبَقَرَة 106 وَمَا آل إِلَيْهِ الْأَمر نعلمكم بِهِ ونشنف آذانكم بِمَا سنح من سره فَإِنَّهُ لكل عمل نتيجة بعد العنوان وَالله الْمولى الْمُسْتَعَان وَالْهَادِي إِلَى سَوَاء السَّبِيل وَهُوَ نعم الْمولى وَنعم الْوَكِيل وَالسَّلَام فِي تَاسِع شعْبَان الأبرك عَام ثَلَاثَة وثلاثمائة وَألف ثمَّ تجَاوز السُّلْطَان أيده الله قطر السوس الْأَقْصَى إِلَى صحراء كليميم فوفدت عَلَيْهِ هُنَاكَ أَشْيَاخ عرب معقل وكبراؤها خاضعين مُطِيعِينَ وفرحوا بِمقدم السُّلْطَان ووطئه بِلَادهمْ غَايَة الْفَرح حَتَّى لقد اتَّخذُوا مَوضِع خبائه الَّذِي كَانَ مَضْرُوبا بِهِ مزارا يتبركون بِهِ إِلَى الْآن إِذْ لم يَكُونُوا هم وَلَا آباؤهم من قبل رَأَوْا سُلْطَانا بأرضهم وَلَا سمعُوا بوصوله إِلَيْهَا وأجروا خيولهم وإبلهم بمحضره ولعبوا عَلَيْهَا بالبارود إِذْ عَادَة عرب الصَّحرَاء أَن يسابقوا على الْإِبِل كَمَا يسابقون على الْخَيل وَمن هُنَاكَ وَجه السُّلْطَان أيده الله كَتِيبَة من جَيْشه إِلَى مرسى طرفاية فغيروا مَا كَانَ أحدثه أُولَئِكَ التُّجَّار من النجليز بهَا وطمسوا أَعْلَامه وفر من كَانَ بهَا من النَّصَارَى إِلَى بابوراتهم الَّتِي كَانَت على ذَلِك السَّاحِل وَأمر أيده الله بِبِنَاء مرسى آساكا واتخاذها محلا للوسق والوضع هُنَاكَ ورتب الحامية والعسات بِتِلْكَ
السواحل من آكادير إِلَى كليميم وَكتب بذلك كُله إِلَى وُلَاة الْمغرب وقفل رَاجعا فأوقع فِي رُجُوعه بقبيلة ذاوتنان من أهل السوس الْأَقْصَى ثمَّ كَانَت عَاقِبَة الْقَضِيَّة النجليزية أَن قَامَ فهيا أَرْبَاب دولتهم وقعدوا وخبوا فِي التشغيب على عَادَتهم وَوَضَعُوا حَتَّى وَقع الصُّلْح على مَال دَفعه السُّلْطَان إِلَيْهِم تسكينا لِلْأَمْرِ ودفعا لما هُوَ أعظم وَالْأَمر لله وَحده
وَفِي عَشِيَّة يَوْم الثُّلَاثَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة من السّنة الْمَذْكُورَة غيمت السَّمَاء غيما كثيفا أسود وَذَلِكَ بمراكش ونواحيها وهبت ريح سَوْدَاء مَعَ رعد قاصف ثمَّ نزل برد مثل الْبيض وَأعظم وتهدمت بمراكش دور كَثِيرَة وَمَات تَحت الْهدم خلق كثير نيفوا فِيمَا قيل على الْمِائَة وفر النَّاس إِلَى أضرحة الْأَوْلِيَاء بعد أَن ودعوا عَشَائِرهمْ وأحبتهم ولزموا الاسْتِغْفَار والتضرع إِلَى الله تَعَالَى حَتَّى انجلى الْغَيْم بعد نَحْو ساعتين وَالْحَمْد لله على حلمه بعد علمه وعَلى عَفوه بعد قدرته
وَفِي هَذِه السّنة اشْتَدَّ حرص أَجنَاس الفرنج على تنقيص صاكة الأعشار وطلبوا من السُّلْطَان أيده الله أَن يحط عَنْهُم من صاكة السّلع الموسوقة الَّتِي كَانَت مسرحة من قبل وَأَن يسرح لَهُم مَا كَانَ مثقفا قبل ذَلِك وأبدؤوا فِي ذَلِك وأعادوا وَقَامُوا فِيهِ وقعدوا فَلَمَّا رأى السُّلْطَان أيده الله شدَّة حرصهم وتكالبهم كتب كتابا إِلَى الرّعية يستشيرهم فِيهِ وَيَقُول بعد الِافْتِتَاح أما بعد فقد كَانَ طلب منا بعض نواب الْأَجْنَاس بطنجة على وَجه الْخَيْر والمحبة فِيمَا سلف من أَعْوَام تَجْدِيد شُرُوط التِّجَارَة بِقصد تَسْرِيح الْأَشْيَاء الممنوعة الوسق كالحبوب مُطلقًا والأنعام والبهائم وَنَحْو ذَلِك ونقصان صاكة الْخَارِج ذاكرين أَن تَسْرِيح ذَلِك فَهِيَ النَّفْع لبيت المَال وللرعية وَهَذِه مُدَّة من خَمْسَة أَعْوَام وَنحن ندافع ونسدد ونقارب بِمَا يَقْتَضِيهِ الْوَقْت وَالْحَال عملا بقول سيد الْوُجُود صلى الله عليه وسلم فِي وقائع وقضايا سددوا وقاربوا لإبقاء مَا كَانَ على مَا كَانَ إِذْ لَا أقل من ذَلِك سِيمَا فِي هَذَا الزَّمَان الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بقوله يَأْتِي على النَّاس زمَان يمر فِيهِ الْحَيّ على قبر الْمَيِّت فَيَقُول لَيْتَني مَكَانك وحاشى لله
أَن نتسبب للْمُسلمين فِي غلاء أَو نوافق لَهُم على ضَرَر وَكفى بِاللَّه شَهِيدا وَكَيف وَالله سُبْحَانَهُ قد استرعانا عَلَيْهِم وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُول كلكُمْ رَاع وكل رَاع مسؤول عَن رَعيته والآن قد اشْتَدَّ حرصهم على ذَلِك وتمالؤوا فِيهِ على كلمة وَاحِدَة وصمموا عَلَيْهِ وَلما أفْضى الْحَال إِلَى مَا افضى إِلَيْهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي وَلم يُمكن إِلَّا الإعلان بذلك والمشاورة فِيهِ مَعَ من يعْتد بِهِ استشرنا فِيهِ جَمِيع من يشار إِلَيْهِ بِالْخَيرِ وَالْفضل وَالدّين وَالْعقل والذكاء والدهاء موثوقا بديانته وأمانته فَلم يشيروا فِيهِ بِخَير وَاتَّفَقُوا على أَن لَا مصلحَة فِي تَسْرِيح ذَلِك أصلا وبينوا مَا يَتَرَتَّب على الْكل من الْمَفَاسِد ففصل الْحَيَوَان أول مَا يَتَرَتَّب على تسريحه من الضَّرَر غلاؤه على ضعفاء الرّعية بل يُؤَدِّي إِلَى فَقده بِالْكُلِّيَّةِ من هَذِه الإيالة وَأَشْيَاء أخر لَا يَفِي بهَا التَّعْبِير هُنَا وَفصل النَّقْص من الصاكة يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ضعف الْمَدْخُول الَّذِي مِنْهُ يقوم المخزن الْجَيْش والعسكر ومصالح الرّعية وَأَعْظَمهَا تَضْعِيف الرّعية بِالْقَبْضِ مِنْهُم كتضعيف المكوس وَضرب الْخراج عَلَيْهَا تَقْوِيَة لبيت المَال والجيوش وَمَا أبداه بعض نواب الْأَجْنَاس الراغبون فِي تَسْرِيح ذَلِك من الْمصَالح الْمَالِيَّة العائدة على رعيتنا السعيدة على مُقْتَضى مَا ظهر لَهُم ردُّوهُ بِمَا يطول شَرحه وَلَا يَفِي بِهِ قرطاس وَلما رَأينَا الْأَمر اسْتَحَالَ إِلَى أَسْوَأ حَال أَو كَاد تداركنا هَذَا الْخرق بالرفء وجنحنا إِلَى السّلم امتثالا لقَوْله تَعَالَى {وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا} الْأَنْفَال 61 الْآيَة وارتكبنا أخف الضررين فَاقْتضى نَظرنَا الشريف أَن ظهر لكم درءا لتِلْك الْمَفَاسِد الْمُقدم على جلب الْمصَالح أَن يساعدوا على تَسْرِيح أَشْيَاء بِقصد الاختبار من تِلْكَ الْأُمُور الممنوعة الوسق كالقمح وَالشعِير وذكران الْبَقر وَالْغنم والمعز وَالْحمير ثَلَاث سِنِين فَقَط على شَرط الاختبار فِي الْمَنْفَعَة الَّتِي ذكروها فِي تسريحه الْكل بأعشاره الْمَعْلُومَة فِي مثله على أَن يكون تَسْرِيح ذَلِك فِي وَقت غَلَّته مَعَ وجود الخصب مُدَّة من ثَلَاثَة أشهر وَبعد مضيها يثقف وَلَا يسمع كَلَام من أحد فِي تسريحه وَلَا يقبل مِنْهُ عذر فِيهِ وَفِي الْعَام الْمقبل إِذا كَانَ صَالحا يسرح ثَلَاثَة أشهر بِقصد الاختبار أَيْضا وَإِذا كَانَ نَاقِصا لَا يَقع اختبار بتسريحه الْمدَّة
المحدودة وَيبقى مثقفا على أَن ذَلِك لَيْسَ بِشَرْط وَإِنَّمَا هُوَ على سَبِيل الاختبار حَتَّى يظْهر ولتعلموا أَنكُمْ لن تزالوا فِي سَعَة فَإِن ظهر لكم ذَلِك فَالْأَمْر يبْقى بِحَالهِ وَإِن ظهر لكم مَا هُوَ أَسد وأحوط فِي الدفاع عَن الْمُسلمين فأعلمونا بِهِ إِذْ مَا أَنا إِلَّا وَاحِد من الْمُسلمين وأعلمناكم بِمَا كَانَ امتثالا لقَوْله تَعَالَى {لَهُم وشاورهم فِي} آل عمرَان 159 وَإِلَّا فَمَا {مَا عِنْد الله خير من اللَّهْو وَمن التِّجَارَة وَالله خير الرازقين} الجمعه 11 وَالسَّلَام فِي سَابِع رَجَب الْفَرد الْحَرَام عَام ثَلَاثَة وثلاثمائة وَألف انْتهى كتاب السُّلْطَان أعزه الله وَلما قرىء هَذَا الْكتاب على خَاصَّة النَّاس وعامتهم أجابوا كلهم بِأَن الرَّأْي مَا رَآهُ السُّلْطَان وَفقه الله إِلَّا مَا كَانَ من بعض الْعَامَّة الأغمار الَّذين لم يجربوا الْأُمُور وَلَا اهتدوا إِلَى النّظر فِي العواقب فَإِنَّهُم قَالُوا مَا نعطيهم إِلَّا السَّيْف لَكِن لم يلْتَفت إِلَيْهِم
وَقد كتبت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة جَوَابا مطولا رَأَيْت إثْبَاته هُنَا خشيَة ضيَاعه وَنَصه اعلموا حفظكم الله أَن النّظر فِي هَذِه النَّازِلَة يكون من وُجُوه أَحدهَا من جِهَة الْفِقْه وَالْحكم الشَّرْعِيّ ثَانِيهَا من جِهَة الرَّأْي والسياسة وَهَذَا لَا بُد أَن يجْرِي على ضَابِط الْفِقْه أَيْضا ثَالِثهَا من جِهَة الْفَهم عَن الله تَعَالَى وَالنَّظَر فِي تَصَرُّفَاته سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْوُجُود بِعَين الِاعْتِبَار فَأَما الْوَجْه الأول فَاعْلَم أَن الْفُقَهَاء رضوَان الله عَلَيْهِم قد نصوا على أَنه لَا يجوز بيع آلَة الْحَرْب من السِّلَاح والكراع والسروج والترسة وَنَحْو ذَلِك من الْكفَّار الْحَرْبِيين لما يخْشَى من تقويهم بذلك على الْمُسلمين هَذِه عِلّة الْمَنْع وَهِي تفِيد أَمريْن أَحدهمَا أَن كل ماهو فِي معنى السِّلَاح مِمَّا يفيدهم تَقْوِيَة حكمه حكم السِّلَاح فِي الْمَنْع وَهُوَ مَنْصُوص عَلَيْهِ فَلَا نحتاج إِلَى التَّطْوِيل بجلبه ثَانِيهمَا إِن مَا لَا يتقوون بِهِ وَيجوز بَيْعه مِنْهُم كَيفَ مَا كَانَ وَعدم التقوي يكون بِأحد وَجْهَيْن إِمَّا يكون ذَلِك الْمَبِيع لَيْسَ من شَأْنه التقوي بِهِ فِي الْحَرْب كبعض المأكولات والملبوسات وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مسرح لَهُم الْيَوْم وَقَبله بِزَمَان وَإِمَّا بِكَوْنِهِ من شَأْنه أَن يتقوى بِهِ فِيهَا وَلكنه عديم الْفَائِدَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالهم الْيَوْم لما تقرر من أَنهم صَارُوا من الْقُوَّة والاستعداد والتفنن فِي أَنْوَاع الْآلَات الحربية إِلَى
حَيْثُ صَارَت آلاتنا عِنْدهم هِيَ والحطب سَوَاء وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنهم يبيعوننا أنواعا من الْآلَات الحربية نقضي الْعجب من جودتها وإتقانها وَمَعَ ذَلِك فينقل لنا عَنْهُم أَنهم لَا يبيعوننا مِنْهَا إِلَّا مَا انعدمت فَائِدَته عِنْدهم لكَوْنهم ترقوا عَنْهَا إِلَى مَا هُوَ أَجود مِنْهَا واستنبطوا مَا هُوَ أتقن وأنفع إِلَّا فِيمَا قل وعَلى هَذَا فتنبغي الْيَوْم الْفَتْوَى بِجَوَاز بيع سِلَاحنَا مِنْهُم فضلا عَن غَيره لجزمنا بِأَن ذَلِك لَا يفيدهم فِي معنى التقوي شَيْئا وَإِن كَانَت هُنَاكَ فَائِدَة فَهِيَ كلا فَائِدَة هَذَا إِذا لم نتوقع ضَرَرا مِنْهُم عِنْد امتناعنا من البيع فَأَما إِذا كُنَّا نتوقعه مِنْهُم كَمَا هُوَ حَالنَا الْيَوْم فيرتقي الحكم عَن الْجَوَاز إِلَى مَا هُوَ فَوْقه وللضرورة أَحْكَام تخصها فَإِن قلت فقد أقدمت بِهَذَا الْكَلَام على مَا لم يقدم عَلَيْهِ أحد قبلك فِي استجازتك بيع السِّلَاح من الْحَرْبِيين قلت إِنَّمَا ذكرت السِّلَاح تَوْطِئَة لما الْكَلَام فِيهِ حَتَّى يُؤْخَذ حكمه بالأحرى ثمَّ إِنِّي مَا أقدمت عَلَيْهِ إِلَّا بالقاعدة الْفِقْهِيَّة لَا مجازفة كَمَا أقدم من قبلي على إجَازَة بِنَاء الْكَنَائِس بِأَرْض الْمُسلمين لأجل الضَّرُورَة الداعية إِلَى ذَلِك فقد أفتى عُلَمَاء الأندلس فِي الْقرن الْخَامِس بِالْإِذْنِ لِلنَّصَارَى فِي إِحْدَاث الْكَنَائِس بِأَرْض العنوة وَبِمَا اختطه الْمُسلمُونَ من الْأَمْصَار مَعَ أَن الْمَوْجُود فِي كتب السّلف هُوَ الْمَنْع وَمَا ذَلِك إِلَّا لِأَن الْأَحْكَام الْمرتبَة على الْأَعْرَاف تخْتَلف باخْتلَاف تِلْكَ الْأَعْرَاف قَالَ الْقَرَافِيّ فِي كتاب الْأَحْكَام فِي الْفرق بَين الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَام فِي السُّؤَال التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ مَا نَصه إِن قلت مَا الصَّحِيح فِي هَذِه الْأَحْكَام الْوَاقِعَة فِي مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا الْمرتبَة على الْعَادة وَالْعرْف اللَّذين كَانَا حاصلين حَالَة جزم الْعلمَاء بِهَذِهِ الْأَحْكَام فَهَل إِذا تَغَيَّرت تِلْكَ العوائد وَصَارَت تدل على ضد مَا كَانَت تدل عَلَيْهِ أَولا فَهَل تبطل هَذِه الْفَتَاوَى المسطورة فِي الْكتب ونفتي بِمَا تَقْتَضِيه هَذِه العوائد المتجددة أَو يُقَال نَحن مقلدون وَمَا لنا أَحْدَاث شرع لعدم أهليتنا للِاجْتِهَاد فنفتي بِمَا فِي الْكتب المنقولة عَن الْمُجْتَهدين فَالْجَوَاب إِن إِجْرَاء هَذِه الْأَحْكَام الَّتِي مدركها العوائد مَعَ تغير تِلْكَ العوائد خلاف الْإِجْمَاع وجهالة فِي الدّين بل كل مَا هُوَ فِي الشَّرِيعَة يتبع العوائد يتَغَيَّر الحكم فِيهِ عِنْد تغير الْعَادة إِلَى مَا تَقْتَضِيه الْعَادة
المتجددة وَلَيْسَ ذَلِك تجديدا للِاجْتِهَاد من الْمُقَلّد حَتَّى تشْتَرط فِيهِ أَهْلِيَّة الِاجْتِهَاد بل هَذِه قَاعِدَة اجْتهد فِيهَا الْعلمَاء وَأَجْمعُوا عَلَيْهَا فَنحْن نتبعهم فِيهَا من غير اسْتِئْنَاف اجْتِهَاد اهـ وَنَحْوه لَهُ فِي كتاب الفروق وَنَقله عَنهُ الْأَئِمَّة واعتمدوه فَبَان من هَذَا أَنه لَا معنى للإفتاء الْيَوْم بِمَنْع بيع شَيْء من الْكفَّار أيا كَانَ إِلَّا الْمُصحف وَالْمُسلم وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا لأَنهم بلغُوا الْيَوْم من الْقُوَّة إِلَى الْحَد الَّذِي لم يكن لأحد فِي ظن وَلَا حِسَاب إِلَّا أَن يُرِيد الله كفايتنا إيَّاهُم بِأَمْر من عِنْده فَهُوَ سُبْحَانَهُ ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ وَذَلِكَ ظننا بِهِ تَعَالَى فَإِن قلت هَهُنَا مضرَّة أُخْرَى تمنع من بيع مَا طلبوه وَهِي التَّضْيِيق على الْمُسلمين فِي مَعَايشهمْ ومرافقهم لأَنهم إِذا أَكَبُّوا على شِرَاء هَذِه الْأَشْيَاء فَلَا بُد أَن تغلو وترتفع أثمانها وَفِي ذَلِك من الْإِضْرَار بِالْمُسْلِمين مَا لَا يخفى وَلذَا أفتى الْأَئِمَّة بِمَنْع الحكرة فِي كل مَا للنَّاس بِهِ حَاجَة من طَعَام وأدام وعروض فَإِن كَانَ فِي الْحَال سَعَة وَلم يضر الاحتكار بِالنَّاسِ جَازَ فِي الطَّعَام وَغَيره قلت وَالنَّاس الْيَوْم وَالْحَمْد لله فِي سَعَة وَأما حُصُول التَّضْيِيق عَلَيْهِم فِي مَعَايشهمْ ومرافقهم بِسَبَب تَسْرِيح وسق هَذِه الْأَشْيَاء لِلنَّصَارَى فمشكوك فِيهِ قد يحصل وَقد لَا يحصل وَالشَّكّ مطروح فِي نظر الشَّرْع بِخِلَاف الْمضرَّة المتوقعة مِنْهُم عِنْد الْمَنْع والمحاربة فمقطوع بهَا نظرا للقرائن القوية وَالْعَادَة فَإِن قلت بل الْغَالِب حُصُول التَّضْيِيق لَا أَنه مَشْكُوك فَقَط قلت لَيْسَ بغالب فقد رأيناهم مُنْذُ أزمان وهم مكبون على وسق أَشْيَاء كَثِيرَة مثل القطاني وَغَيرهَا وَمَعَ ذَلِك لم يحصل فِيهَا وَالْحَمْد لله إِلَّا الرخَاء بل الْحق إِن هَذَا من علم الْغَيْب لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يحكم عَلَيْهِ بِغَلَبَة وَلَا قلَّة لِأَن الحكم فِي ذَلِك بالتخمين من بَاب التخرص على الله تَعَالَى فِي غيبه وَهُوَ حرَام على أَن النَّصَارَى إِذا اشْتَروا منا شَيْئا من ذَلِك فَإِنَّمَا يشترونه بِالثّمن الَّذِي لَهُ بَال ويعشرونه بالصاكة الَّتِي لَهَا بَال فَتحصل الأرباح للرعية وللسلطان وَهَذِه مَنْفَعَة مَقْطُوع بهَا وَأما الغلاء فمشكوك كَمَا قُلْنَا وَالْحَاصِل أَن الأبحاث والتفريعات فِي هَذَا الْمَوْضُوع كَثِيرَة وَفِي هَذِه النبذة كِفَايَة لمن استبصر وَالله الْمُوفق وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ النّظر من جِهَة الرَّأْي والسياسة وَلَا بُد فِيهِ من
الْفِقْه أَيْضا إِذْ كل سياسة لَا تستضيء بِنور الشَّرْع فَهِيَ ضلال فَنَقُول لَا يخفى أَن النَّصَارَى الْيَوْم على غَايَة من الْقُوَّة والاستعداد والمسلمون لم الله شعثهم وجبر كسرهم على غَايَة من الضعْف والاختلال وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَكيف يسوغ فِي الرَّأْي والسياسة بل وَفِي الشَّرْع أَيْضا أَن ينابذ الضَّعِيف الْقوي أَو يحارب الأعزل الشاكي السِّلَاح وَكَيف يستجاز فِي الطَّبْع أَن يصارع المقعد الْقَائِم على رجلَيْهِ أَو يعقل فِي النّظر أَن تناطح الشَّاة الْجَمَّاء الشَّاة القرناء كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(أهم بِأَمْر الحزم لَو أستطيعه
…
وَقد حيل بَين العير والنزوان)
فالمحاربة على هَذَا الْوَجْه مِمَّا لم تقل بِهِ سياسة وَلَا وَردت بِهِ شَرِيعَة فَهَذَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خير الْخلق عِنْد ربه وَأكْرمهمْ لَدَيْهِ قد صَالح الْمُشْركين يَوْم الْحُدَيْبِيَة صلحا قَالَ فِيهِ بعض كبار الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم نَحن الْمُسلمُونَ فَكيف نعطي الدنية فِي ديننَا ورد أَبَا جندل رضي الله عنه إِلَى الْمُشْركين وَهُوَ يرسف فِي قيوده ويصرخ بِأَعْلَى صَوته يَا معشر الْمُسلمين كَيفَ أرد إِلَى الْمُشْركين يفتنونني فِي ديني والقصة مَشْهُورَة لَا حَاجَة إِلَى التَّطْوِيل بهَا وَقد عزم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْم الْأَحْزَاب أَن يُعْطي عُيَيْنَة بن حصن والْحَارث بن عَوْف وهما قائدا غطفان ثلث تمر الْمَدِينَة على أَن يرجعا بِمن مَعَهُمَا عَنهُ وَعَن أَصْحَابه حَتَّى رده عَن ذَلِك سعد بن معَاذ وَسعد بن عبَادَة رضي الله عنهما حِين أحسوا من أنفسهم بمقاومة الْعَدو وَأَيْنَ نَحن مِنْهُم دينا ويقينا وبصيرة وثباتا فِي الْحَرْب وَقد أفتى الْفُقَهَاء رضوَان الله عَلَيْهِم لأجل هَذَا الْوَارِد عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِجَوَاز عقد الْهُدْنَة مَعَ الْكفَّار على إِعْطَاء المَال انْظُر الْمُخْتَصر وَغَيره فَإِذا كَانَ إِعْطَاء المَال مجَّانا جَائِزا عِنْد الضَّرُورَة فَكيف لايجوز إِعْطَاء بعض المتمولات بأثمانها الَّتِي لَهَا بَال وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الْأَجْنَاس إِنَّمَا دَعونَا فِي ظَاهر الْأَمر إِلَى السّلم لَا إِلَى الْحَرْب وَغَايَة مطلوبهم فِي هَذِه النَّازِلَة الاستكثار من ضروب المتاجرة الَّتِي ينشأ عَنْهَا فِي الْغَالِب كَثْرَة المازجة بَيْننَا وَبينهمْ ولعمري أَن فِي اختلاطهم بِنَا وممازجتهم لنا لمضرة وَأي مضرَّة وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ وَلكنهَا تستصغر بِالنِّسْبَةِ إِلَى
مضرَّة الْمُحَاربَة وَلَيْسَ من الرَّأْي والسياسة أَن يَدْعُوك خصمك إِلَى السّلم فتدعوه إِلَى الْحَرْب مَا وجدت إِلَى السّلم سَبِيلا وَهَذَا هُوَ الَّذِي فعله رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْم الْحُدَيْبِيَة فَإِنَّهُ قَالَ لأَصْحَابه لما اغتاظوا من ذَلِك الصُّلْح وَقَالَ بَعضهم وَالله مَا هَذَا بِفَتْح لقد صُدِدْنَا عَن الْبَيْت وَصد هدينَا بل هُوَ أعظم الْفتُوح قد رَضِي الْمُشْركُونَ أَن يَدْفَعُوكُمْ بِالرَّاحِ عَن بِلَادهمْ وَيَسْأَلُوكُمْ الْقَضِيَّة وَيرغبُوا إِلَيْكُم من الْأمان إِلَى آخر مَا قَالَه صلى الله عليه وسلم وَإِلَى هَذَا وَنَحْوه الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى {وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا وتوكل على الله} الْأَنْفَال 61 ذكر تَعَالَى ذَلِك عقب قَوْله {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل} الْأَنْفَال 60 إِشَارَة إِلَى أَن الصُّلْح يجوز وَلَو كَانَ بِالْمُسْلِمين قُوَّة واستعداد كَمَا نبه عَلَيْهِ بعض الْمُفَسّرين فَكيف وَلَا قُوَّة وَلَا استعداد إِلَّا أَن يتداركنا الله بلطف من عِنْده وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ هَل الْآيَة مَنْسُوخَة أم لَا وَالصَّحِيح كَمَا فِي الْكَشَّاف وَغَيره إِن الْأَمر مَوْقُوف على مايرى فِيهِ الإِمَام مصلحَة لِلْإِسْلَامِ وَأَهله من حَرْب أَو سلم وَلَيْسَ بحتم أَن يقاتلوا أبدا أَو يجابوا إِلَى الْهُدْنَة أبدا اهـ وهذ مَذْهَبنَا وَمذهب غَيرنَا وَلذَلِك جَازَت عندنَا الْهُدْنَة وَإِن على مَال كَمَا مر فدلت الْآيَة الْكَرِيمَة على أَن السّلم أولى من الْحَرْب وَهَذَا هُوَ الْمَعْلُوم الْمُسلم شرعا وطبعا أما الشَّرْع فَهَذِهِ الْآيَة وقصة الْحُدَيْبِيَة وَقَوله تَعَالَى {وَالصُّلْح خير} النِّسَاء 128 وَقَوله {والفتنة أَشد من الْقَتْل} الْبَقَرَة 191 وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ وَإِن نزلتا فِي شَيْء خَاص لَكِن يجوز الاستشهاد بهما فِيمَا نَحن فِيهِ وَفِي غَيره إِذْ هما من الْكَلَام الْجَامِع الْجَارِي مجْرى الْمثل وَالْحكمَة وَعَن عَليّ رضي الله عنه مَا دَعَوْت إِلَى المبارزة قطّ وَمَا دَعَاني أحد إِلَيْهَا إِلَّا أَجَبْته فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ الدَّاعِي إِلَى الْحَرْب بَاغ والباغي مصروع وَأما الطَّبْع فَلَا يحْتَاج إِلَى شَاهد لِأَن كل عَاقل يعلم أَن السّلم خير من الْحَرْب وَقد قَالَ شريك لمعاوية رضي الله عنهما فِي مقاولة جرت بَينهمَا إِنَّك ابْن حَرْب وَالسّلم خير من الْحَرْب وَقَالَ الْحصين بن نمير السكونِي لِابْنِ الزبير رضي الله عنه يَوْم مَاتَ يزِيد اذْهَبْ معي إِلَى الشَّام لأدعو النَّاس إِلَى بيعتك فَلَا يتَخَلَّف عَنْك أحد فَقَالَ ابْن
الزبير أما دون أَن أقتل بِكُل وَاحِد من أهل الْحجاز عشرَة من أهل الشَّام فَلَا وَجعل ابْن الزبير يجْهر بذلك فَقَالَ لَهُ الْحصين أُكَلِّمك سرا وتكلمني جَهرا وأدعوك إِلَى السّلم والخلافة وتدعوني إِلَى الْحَرْب والمناجزة كذب من زعم أَنَّك داهية الْعَرَب اهـ فقد عَابَ عَلَيْهِ ذَلِك من جِهَة الرَّأْي كَمَا ترى وَأنْشد صَاحب الْكَشَّاف وَغَيره لَدَى قَوْله تَعَالَى {وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا} الْأَنْفَال 61 قَول الْعَبَّاس بن مرداس رضي الله عنه
(السّلم تَأْخُذ مِنْهَا مَا رضيت بِهِ
…
وَالْحَرب يَكْفِيك من أنفاسها جرع)
وَفِي كتاب الْفِتَن من صَحِيح البُخَارِيّ مَا نَصه كَانَ السّلف يستحبون أَن يتمثلوا بِهَذِهِ الأبيات عِنْد الْفِتَن
(الْحَرْب أول مَا تكون فتية
…
تسْعَى بزينتها لكل جهول)
(حَتَّى إِذا اشتعلت وشب ضرامها
…
ولت عجوزا غير ذَات حليل)
(شَمْطَاء ينكسر لَوْنهَا وتغيرت
…
مَكْرُوهَة للشم والتقبيل)
قَالَ الْقُسْطَلَانِيّ المُرَاد أَنهم يتمثلون بِهَذِهِ الأبيات ليستحضروا مَا شاهدوه وسمعوه من حَال الْفِتْنَة فَإِنَّهُم يتذكرون بإنشادها ذَلِك فيصدهم عَن الدُّخُول فِيهَا حَتَّى لَا يغتروا بِظَاهِر أمرهَا أَولا اهـ وَلَا شكّ أَن هَذِه حَالَة الْعَامَّة الأغمار الَّذين لم تضرسهم الحروب وَلَا حنكتهم التجارب تجدهم إِذا ظَهرت مخايل فتْنَة نسْأَل الله الْعَافِيَة استشرفوا إِلَيْهَا وتمنوا خوضها وَرُبمَا تألى بَعضهم وَقَالَ وَالله لَئِن حضرتها لَأَفْعَلَنَّ وأفعلن وَقد قَالَ عليه الصلاة والسلام لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدو وَحَال هَذَا الْغمر المتألي هُوَ الَّذِي أفْصح عَنهُ المتنبي بقوله
(وَإِذا مَا خلا الجبان بِأَرْض
…
طلب الطعْن وَحده والنزالا)
فَهَذَا الْقطر المغربي تدارك الله رمقه على مَا ترى من غَايَة الضعْف وَقلة الاستعداد فَلَا تنبغي لأَهله المسارعة إِلَى الْحَرْب مَعَ الْعَدو الْكَافِر مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ من غَايَة الشَّوْكَة وَالْقُوَّة وَقد تقرر فِي علم الْحِكْمَة أَن المعاندة والمدافعة إِنَّمَا تحصل بَين المتضادين والمتماثلين وَلَا تحصل بَين المتخالفين وحالنا الْيَوْم مَعَ الْعَدو لَيْسَ من بَاب التضاد وَلَا من بَاب التَّمَاثُل وَإِنَّمَا هُوَ من
بَاب التخالف فَافْهَم بل لَو فَرضنَا أَن أهل الْمغرب الْيَوْم مماثلون لِلْعَدو فِي الْقُوَّة والاستعداد لما كَانَ يَنْبَغِي لَهُم ذَلِك لِأَنَّهُ لَيست الْعدة وَحدهَا كَافِيَة فِي الْحَرْب وَلَا كَثْرَة الرِّجَال والمقاتلة وَحدهَا بِالَّذِي يُغني فِيهَا شَيْئا بل لَا بُد مَعَ ذَلِك من اجْتِمَاع الْكَلِمَة وَكَون النَّاس فِيهَا على قلب رجل وَاحِد وَلَا بُد مَعَ ذَلِك من ضَابِط بِجَمْعِهِمْ وقانون يسوسهم حَتَّى تكون الْجَمَاعَة كالبدن الْوَاحِد يقوم جَمِيعًا وَيقْعد جَمِيعًا وَهَذَا معنى مَا صَحَّ فِي الحَدِيث من قَوْله صلى الله عليه وسلم الْمُؤمن لِلْمُؤمنِ كالبنيان المرصوص يشد بعضه بَعْضًا فَإِن لم يكن ضَابِط وقانون فَلَا بُد من نَفاذ البصيرة فِي الدّين وَقُوَّة الْيَقِين والألفة فِيمَا بَين الْمُسلمين والغيرة على الوطن والحريم وجودة الرَّأْي والتمرس بالحروب ومكايد الْمُشْركين وَأهل الْمغرب الْيَوْم إِلَّا الْقَلِيل منسلخون من هَذَا كُله أَو جله فقد توالت عَلَيْهِم الأجيال فِي السّلم والهدنة وَبعد عهد أسلافهم فضلا عَنْهُم بِالْحَرْبِ وشدائدها ومعاناة الْأَعْدَاء ومكايدها وَإِنَّمَا هَمهمْ مأكولهم ومشروبهم وملبوسهم كَمَا لَا يخفى حَتَّى لم يبْق من هَذِه الْحَيْثِيَّة فرق بَينهم وَبَين نِسَائِهِم وَلَيْسَ الْخَبَر كالعيان فَكيف يحسن فِي الرَّأْي المسارعة إِلَى عقد الْحَرْب مَعَ أَجنَاس الفرنج وَمَا مثلنَا وَمثلهمْ إِلَّا كَمثل طائرين أَحدهمَا ذُو جناحين يطير بهما حَيْثُ شَاءَ وَالْآخر مقصوصهما وَاقع على الأَرْض لَا يَسْتَطِيع طيرانا وَلَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ سَبِيلا فَهَل ترى لهَذَا المقصوص الجناحين الَّذِي هُوَ لحم على وَضم أَن يحارب ذَلِك الَّذِي يطير حَيْثُ شَاءَ وَهل يكون فِي ذَلِك إِن كَانَ إِلَّا هَلَاك هَذَا وسلامة ذَاك بل وغنيمته فَإِن ذَاك ينقر هَذَا مَتى وجد فِيهِ فرْصَة للنقر وَيبعد عَنهُ ويطير إِذا لم يجدهَا وَهَكَذَا يسْتَمر حَاله مَعَه حَتَّى يُثبتهُ أَو يملكهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَيْسَ فِي طوق هَذَا إِلَّا أَن يَدْفَعهُ عَن نَفسه فِي بعض الأحيان إِذا تأتى لَهُ ذَلِك وَلَكِن إِلَى مَتى فَهَكَذَا حَالنَا مَعَ عدونا فَإِنَّهُ بقراصينه الحربية ذُو أَجْنِحَة كَثِيرَة فَهُوَ علينا بِالْخِيَارِ يهجم علينا فِي ثغورنا إِذا شَاءَ وَيبعد عَنَّا فَلَا ندركه مَتى شَاءَ وقصارانا مَعَه الدّفع عَن أَنْفُسنَا إِذا اتّفقت كلمتنا وَلم تشغلنا غوغاء الْأَعْرَاب من خلفنا وهيهات فقد جرب ذَلِك مرَارًا فصح وَالْمُؤمن لَا يلْدغ من جُحر مرَّتَيْنِ كَمَا قَالَ عليه السلام وَالْكَلَام فِي
هَذَا الْفَصْل أَيْضا طَوِيل وَفِيمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ كِفَايَة فَإِن قلت أَرَاك قد صيرت الْجِهَاد الَّذِي حث عَلَيْهِ الشَّرْع ووعد عَلَيْهِ بالثواب الْعَظِيم مَحْض فتْنَة وَقد زهدت النَّاس فِيهِ وَقطعت آمالهم مِنْهُ بِهَذَا الْكَلَام قلت أعلمت يَا أخي مَا هُوَ الْجِهَاد الَّذِي حث عَلَيْهِ الشَّرْع ووعد عَلَيْهِ بالثواب الْعَظِيم اعْلَم أَن الْجِهَاد الْمَذْكُور هُوَ قتال أهل الشّرك والطغيان على إعلاء كلمة الرَّحْمَن لينساقوا بذلك إِلَى الدُّخُول فِي دين الله طَوْعًا أَو كرها ولتكون كلمة الله هِيَ الْعليا وَكلمَة الشَّيْطَان هِيَ السُّفْلى مَعَ نَفاذ البصيرة وخلوص النِّيَّة والغيرة على دين الله وكل ذَلِك بِشَرْط الْقُوَّة المكافئة أَو الْقَرِيبَة مِنْهَا وَمهما اخْتَلَّ ركن أَو شَرط مِمَّا ذكرنَا كَانَ إِلَى الْفِتْنَة أقرب مِنْهُ إِلَى الْجِهَاد بل نقُول إِن الْجِهَاد الشَّرْعِيّ قد تعذر مُنْذُ أحقاب فَكيف تطلبه الْيَوْم فَإِن كنت تسارع إِلَى الْحَرْب لتدركه جهلا مِنْك بِحَقِيقَة الْأَمر فَاعْلَم أَنَّك إِنَّمَا تسارع إِلَى إيقاد نَار الْفِتْنَة وايجاد الْعَدو السَّبِيل عَلَيْك وإمكانه من ثغرتك وتسليطه على السَّبي لحريمك وَمَالك ودمك نسْأَل الله الْعَافِيَة اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تكون مِمَّن اخْتَارَهُمْ الله وأهلهم لذَلِك وَكتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ كَمَا نسْمع الْيَوْم عَن أمة الْحَبَشَة والنوبة الَّذين يُقَاتلُون عَسَاكِر النجليز على تخوم صَعِيد مصر وَغَيرهَا فقد تَوَاتر النَّقْل وَصَحَّ الْخَبَر أَن دولة النجليز قد بارت حيلها مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم وَأَنَّهَا وجهت إِلَيْهِم العساكر من الديار المصرية بِكُل قُوَّة وشوكة مرّة بعد أُخْرَى فمحقوهم محقا مَعَ أَنهم لايقاتلونهم فِي الْغَالِب إِلَّا بالحراب على عَادَة السودَان فِي ذَلِك والنصر بيد الله وَأما الْوَجْه الثَّالِث وَهُوَ الْفَهم عَن الله تَعَالَى وَالنَّظَر فِي تَصَرُّفَاته سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْوُجُود بِعَين الِاعْتِبَار فَهَذَا حق الْكَلَام فِيهِ أَن يكون من أَرْبَاب البصائر المتنورة والقلوب المطهرة لَا من أمثالنا الَّذين أَصْبحُوا على أنفسهم مسرفين وَفِي أَوديَة الشَّهَوَات منهمكين تداركنا الله بِلُطْفِهِ لَكنا نقُول وَإِن كَانَ القَوْل من بَاب الفضول إِذا نَظرنَا مَا عَامل الله تَعَالَى بِهِ عَبده أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا الْحسن أيده الله وَجَدْنَاهُ وَالْحَمْد لله مصنوعا لَهُ مصحوبا بالعناية الإلهية مكلوء بِعَين الرِّعَايَة الربانية تصحبه السَّعَادَة أَيْنَمَا توجه ويختار لَهُ فِي جَمِيع مَا يحاوله وَلَا تنجلي مهماته إِلَّا عَن
مَا يسر الصّديق ويسوء الْعَدو فَالْحَمْد لله على ذَلِك حمدا كثيرا وَهُوَ مَعَ ذَلِك جميل الظَّن بربه حسن العقيدة فِي توكله عَلَيْهِ مُفردا وجهته إِلَيْهِ حَرِيصًا على استصلاح رَعيته ذَا غيرَة تَامَّة على الدّين والوطن بِحَيْثُ فاق بذلك وَغَيره من خِصَال الْخَيْر كثيرا من مُلُوك عشيرته الَّذين تقدموه وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمن الرَّأْي الَّذِي لَا رَأْي فَوْقه أَن نفوض إِلَيْهِ فِي ذَلِك ونثق بِحسن رَأْيه ويمن نقيبته ونجاوبه فِي هَذِه النَّازِلَة بِأَن الْأَمر فِي ذَلِك إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيره إِذْ هُوَ الَّذِي طوقه الله أمرنَا وكلفه النّظر لنا والنصح لدينا وَإِن كَانَ لَا بُد من المشورة فَلَيْسَتْ إِلَّا مَعَ أهل الْحل وَالْعقد وَقد قَالَ الْعلمَاء أهل الْحل وَالْعقد هم أهل الْعلم وَالدّين وَالْبَصَر بِهَذَا الْأَمر الْخَاص لِأَنَّهُ يشْتَرط فِي كل من ولي النّظر فِي أَمر مَا من الْأُمُور الْعلم بِهِ فَمَا اخْتَارَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ اخترناه وَمَا انْشَرَحَ لَهُ صَدره وأمضاه أمضيناه وَكَيف لَا وَمَا عوده الله إِلَّا خيرا {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم} الْآيَة وَعَسَى أَن يكون فِيمَا طلبه هَؤُلَاءِ الْأَجْنَاس فَسَاد أَمرهم وَصَلَاح أمرنَا وَذَلِكَ الظَّن بِهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ عَلَيْهِ بعزيز فَيكون تدميرهم فِي تدبيرهم وَقد استروحنا وَالْحَمْد لله نسيم الْفرج مِمَّا كُنَّا فِيهِ قبل الْيَوْم تمم الله علينا نعْمَته آمين وَأَيْضًا فَفِي التَّفْوِيض فِي هَذِه النَّازِلَة ضرب من التبري من الْحول وَالْقُوَّة فَحَيْثُ ساقت الأقدار إِلَيْنَا هَذَا الْأَمر فَيَنْبَغِي أَن نتلقاه بالرضى وَالتَّسْلِيم بِخِلَاف مَا إِذا استعملنا فِيهِ حيلتنا ورأينا فَيكون من بَاب الدُّخُول فِي التَّدْبِير وشتان مَا بَين التَّفْوِيض وَالتَّدْبِير وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته قَالَه وَكتبه أَحْمد بن خَالِد الناصري كَانَ الله لَهُ فِي عَاشر شعْبَان سنة ثَلَاث وثلاثمائة وَألف اهـ ثمَّ إِن الله تَعَالَى لطف فِي هَذِه النَّازِلَة بمنه اللَّطِيف الْجَمِيل وَكفى مؤنتها من ذَلِك الْمَطْلُوب بِشَيْء قَلِيل وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان أيده الله سرح لَهُم وسق الْقَمْح وَالشعِير ثَلَاث سِنِين وَوضع عَنْهُم من صاكتهما نَحْو الرّبع لَا غير وَلم يحصل وَالْحَمْد لله للرعية ضَرَر قطّ
ثمَّ دخلت سنة أَربع وثلاثمائة وَألف فِيهَا كتب السُّلْطَان مولَايَ الْحسن أيده الله إِلَى عُلَمَاء فاس كتابا يستفتيهم فِي حكم التِّجَارَة فِي الأعشاب المرقدة
والمفسدة ويستشيرهم فِي تسريحها وإمساكها وَنَصّ ذَلِك الْكتاب بعد الِافْتِتَاح أحباءنا فُقَهَاء فاس الأجلة المرضيين وعلماءها المرشدين سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فطالما قدمنَا رجلا وأخرنا أُخْرَى فِي تَسْرِيح الصاكة الَّتِي هِيَ الأعشاب المرقدة والمفسدة وَنَحْوهَا وَكَانَ تسريحها من أهم الْأُمُور لدينا وآكد من تَسْرِيح غَيرهَا كالأبواب لما نجده فِي نفسنا لَهَا من الاستقباح ونستقذره من أمرهَا فِي الغدو والرواح مَعَ مزِيد ثقلهَا على فؤادنا وَكَونهَا أحرج فِي روعنا وَكَانَ أسلافنا قدسهم الله اجتهدوا فِي قطعهَا وحسم مادتها بِكُل مَا أمكنهم وأفضى بهم الْحَال إِلَى إحراقها مرَارًا وَلما رَأَوْا تمالؤ الرعاع والسفهاء والمقلين والمعدمين عَلَيْهَا ارتكبوا فِيهَا مَا يحصل بِهِ التَّضْيِيق على مستعمليها وتمنع مِنْهُم فَلَا يلْحقهَا إِلَّا من عِنْده مَا يشريها بِهِ وهم فِي أُولَئِكَ الرعاع قَلِيل مَعَ النّظر لما يحصل لبيت المَال من النَّفْع الْكثير فحيزت لجَانب المخزن لتَحْصِيل المقصدين الْمَذْكُورين وَحَيْثُ قذف الله فِي قلبنا تسريحها ورفض درن مَا يحصل مِنْهَا تعَارض لدينا أَمْرَانِ وهما إبقاؤها بيد المخزن وتسريحها أما الأول فَهُوَ الَّذِي فَرَرْنَا مِنْهُ وَبينا علله وَأما الثَّانِي وَهُوَ التسريح فمقتضاه إغراء الرعاع والسفهاء على اسْتِعْمَالهَا وَلَا سِيمَا مَعَ انحطاط ثمنهَا فيتناولها الْقوي والضعيف فَيصير ذَلِك ذَرِيعَة إِلَى إِبَاحَة مَا كَانُوا ممنوعين مِنْهُ فيتجاهرون بِهِ وَلَا يَخْشونَ رقيبا وَيَأْتِي مِنْهَا من بر النَّصَارَى مَا لَا حصر لَهُ فيعشر كَسَائِر المعشرات الْمُبَاحَة وتنبني على ذَلِك مفاسد هِيَ أعظم من كَونهَا محوزة وأشكل الْأَمر فلتبينوا المخلص من ذَلِك بِمَا تَقْتَضِيه قَوَاعِد الشَّرِيعَة المطهرة حَتَّى نخرج من عُهْدَة ذَلِك فَإِن الْخطب عَظِيم وَالسَّلَام فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من الْمحرم عَام أَرْبَعَة وثلاثمائة وَألف انْتهى كتاب السُّلْطَان أيده الله وَأجَاب عَنهُ عُلَمَاء فاس وفرهم الله بِجَوَاب طَوِيل مرجعه إِلَى حُرْمَة اسْتِعْمَال تِلْكَ الأعشاب وَالتِّجَارَة فِيهَا حَسْبَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء والصوفية رضوَان الله عَلَيْهِم وَلما كَانَ الْمَقْصُود الأهم للسُّلْطَان أيده الله هُوَ الْإِشَارَة بكيفية التَّخَلُّص من ورطة تسريحها والحصول على السَّلامَة مِمَّا عَسى أَن ينشأ عَنهُ من الْمَفَاسِد المرموز إِلَيْهَا فِي الْكتاب الشريف كتب
إِلَى بعض الْأَحِبَّة من فاس بِقصد المذاكرة فِي النَّازِلَة فأجبته عَنْهَا بِمَا نَصه اعْلَم حفظك الله أَن مَا أجَاب بِهِ سادتنا فُقَهَاء فاس من حرمتهَا وَوُجُوب تخلي المخزن عَن بيعهَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا محيد عَنهُ لما اشْتَمَلت عَلَيْهِ تِلْكَ الأعشاب من الْمَفَاسِد العديدة الَّتِي كل وَاحِدَة مِنْهَا كَافِيَة فِي الْجَزْم بحرمتها وَقد بَينا شَيْئا من ذَلِك فِي كتاب الِاسْتِقْصَاء عِنْد الْكَلَام على حدوثها ودخولها لبلاد الْمغرب أَيَّام الْمَنْصُور السَّعْدِيّ فلينظره من أَرَادَهُ فَإِنَّهُ كَاف فِي هَذَا الْبَاب وَأما مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْكتاب الشريف من أَن مصلحَة احتياز المخزن لَهَا واستبداده بِبَيْعِهَا هِيَ التَّضْيِيق على مستعمليها حَتَّى لَا يَتَنَاوَلهَا مِنْهُم إِلَّا الملي بِثمنِهَا دون الْفَقِير الخ فَهِيَ مصلحَة موهوبة أَو مَعْدُومَة لجزمنا بِأَن الْحَامِل لمتعاطيها على اسْتِعْمَالهَا إِنَّمَا هُوَ التبذل وَقلة الْمُرُوءَة ورقة الدّيانَة وخسة النَّفس وَسُقُوط الهمة كَمَا أَن الْوَازِع لمن لم يتعاطاها إِنَّمَا هُوَ كَمَال الْمُرُوءَة ومتانة الدّيانَة وَشرف النَّفس وعلو الهمة لَا فقدان ذَلِك الثّمن التافه كَيفَ لَا وَهِي لَا يتعاطاها فِي الْغَالِب إِلَّا الْفُقَرَاء المقلون فمصلحة التَّضْيِيق عَلَيْهِم فِي ثمنهَا مفقودة كَمَا ترى وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَالْوَاجِب شرعا ومروءة هُوَ تَنْزِيه منصب الْإِمَامَة الإسلامية والخلافة النَّبَوِيَّة الَّتِي هِيَ أهم الخطط الدِّينِيَّة والمناصب الشَّرْعِيَّة عَن التِّجَارَة فِيهَا وتطهير تِلْكَ الساحة الْكَرِيمَة من التلوث بأقذارها إِذْ لَا يُنَاسب ذَلِك حَال مُطلق الْمُسلمين فَكيف بجناب أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَيْضًا فَفِي تنَاول ذَلِك الجناب لَهَا بِالتِّجَارَة والاستبداد بِالرِّبْحِ تهييج للعامة عَلَيْهَا وإغراء لَهُم بتعاطيها كَمَا قَرَّرَهُ عُلَمَاء فاس حفظهم الله وَلَو نهوا عَنْهَا لما انْتَهوا بل رُبمَا احْتَجُّوا بِأَنَّهَا لَو كَانَت حَرَامًا مَا احتازها المخزن واستبد بربحها وَمن الْعَادة المقررة أَنه لَا يمتثل إِلَّا قَول الممتثل وَلَا يؤتمر إِلَّا بِأَمْر المؤتمر وَلما انبرم الصُّلْح بَين رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَبَين قُرَيْش يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَأمر أَصْحَابه أَن ينحروا ويحلقوا أَمْسكُوا وَلم يَفْعَلُوا حَتَّى قَالَ ذَلِك ثَلَاث مَرَّات فَلَمَّا لم يقم مِنْهُم أحد قَامَ صلى الله عليه وسلم فَدخل على أم سَلمَة فَذكر لَهَا مَا لَقِي من النَّاس فَقَالَت أم سَلمَة رضي الله عنها يَا نَبِي الله اخْرُج ثمَّ لَا تكلم مِنْهُم أحدا كلمة حَتَّى تنحر بدنك وَتَدْعُو حالقك فيلحقك فَخرج صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَلم يكلم أحدا مِنْهُم حَتَّى نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك قَامُوا فنحروا وَجعل بَعضهم يحلق بَعْضًا حَتَّى كَادُوا يقتتلون اهـ فَكَذَلِك نقُول هُنَا إِن الْعَامَّة مهما رَأَوْا الْأَمِير تعاطى شَيْئا تعاطوه وَإِذا رَأَوْهُ نبذ أمرا نبذوه لِأَن الْعَامَّة مولعون بالاقتداء بالأمير وَمن فِي مَعْنَاهُ من الكبراء حَسْبَمَا قَرَّرَهُ ابْن خلدون فِي كتاب طبيعة الْعمرَان من تَارِيخه وَأما التخوف من الْإِتْيَان بهَا من بر النَّصَارَى واشتغالهم بِالتِّجَارَة فِيهَا بأسواق الْمُسلمين وَنصب الدكاكين لبيعها وَمَا ينشأ عَن ذَلِك من الْمَفَاسِد فَهُوَ مَأْمُون بِمُقْتَضى الشُّرُوط المنعقدة بَيْننَا وَبينهمْ حَسْبَمَا تضمنه الشَّرْط الثَّانِي وَالْخَامِس وَالسَّابِع من شُرُوط التِّجَارَة المنعقدة مَعَ النجليز خُصُوصا وَغَيره عُمُوما سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فقد صرح فِي الشَّرْط الثَّانِي مِنْهَا بِأَن هَذِه الأعشاب وَنَحْوهَا من جملَة الممنوعات دُخُولا وخروجا ثمَّ نبه على ذَلِك أَيْضا فِي الْخَامِس وَالسَّابِع فلينظره من أَرَادَهُ وَإِنَّمَا يكون لَهُم بعد تخلي السُّلْطَان عَن بيعهَا أَن يجلبوا مِنْهَا مَا يحتاجونه لأَنْفُسِهِمْ فَقَط لَا أَكثر مِنْهُ كَالْخمرِ أَلا ترى أَنهم الْيَوْم إِنَّمَا يجلبون مِنْهَا مَا يشربونه ويتبايعونه فِيمَا بَينهم وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى التِّجَارَة بهَا فِي أسواق الْمُسلمين وَنصب الدكاكين لبيعها فَكَذَلِك هَذِه الأعشاب حكمهَا حكم الْخمر حَذْو النَّعْل بالنعل وَإِذا امْتنع المخزن من التِّجَارَة فِيهَا مَعَ بَقَاء منع الرّعية مِنْهَا أَيْضا فَلَا حجَّة لِلنَّصَارَى فِي ذَلِك وَلَا مُتَكَلم لَهُم فِيهِ إِذْ لَيْسَ فِي امْتنَاع المخزن حِينَئِذٍ إِلَّا تَأْكِيد الْمَنْع الَّذِي كَانَ قبل وَإِنَّمَا تكون لَهُم الْحجَّة إِذا بِيعَتْ لبَعض الرعايا دون بعض لِأَن حَاصِل شُرُوط التِّجَارَة الْخَمْسَة عشر ومدارها على أَن رعايا الْأَجْنَاس يكون لَهَا مَا لرعية الإيالة المغربية من التحجير وَالْإِطْلَاق والتخصيص والتعميم بِحَيْثُ لَا يستبد أحد من الْفَرِيقَيْنِ بِنَوْع من أَنْوَاع التِّجَارَة دون الآخر إِلَّا مَا للمخزن فِيهِ غَرَض ومصلحة فِي تثقيفه من أَشْيَاء مَخْصُوصَة فَإِنَّهُ يثقفه بنظره إِذا شَاءَ ويسرحه كَذَلِك مَتى شَاءَ وَإِن اقْتضى نظره أَن يستبد بأرباح شَيْء من ذَلِك دون رعايا الْفَرِيقَيْنِ فَلهُ ذَلِك وَإِنَّمَا الْمَمْنُوع أَن يُبِيح لرعيته دون رعايا غَيره أَو يُبِيح لبَعض الْأَجْنَاس دون بعض هَذَا هُوَ الْمَمْنُوع فِي الشُّرُوط أما هُوَ فِي خَاصَّة نَفسه ومصلحة ملكه فَلهُ أَن
يستبد من تِلْكَ الممنوعات بِمَا شَاءَ هَذَا حَاصِل تِلْكَ الشُّرُوط وَإِن طَالَتْ وامتدت إِذا علمت هَذَا فَكيف يتخوف عِنْد امْتنَاع السُّلْطَان من بيع تِلْكَ الأعشاب مَعَ اسْتِمْرَار منع الرّعية مِنْهَا أَيْضا الْإِتْيَان بهَا من بر النَّصَارَى ومتاجرتهم بهَا فِي أسواق الْمُسلمين وَنصب الدكاكين لَهَا الخ هَذَا لَا يتَوَهَّم نعم يتخوف من ذَلِك إِذا امْتنع السُّلْطَان من بيعهَا وَأذن للنَّاس فِيهِ وَأطلق لَهُم يَد التَّصَرُّف بِهِ وَلَيْسَ هَذَا مُرَاد السُّلْطَان أيده الله وَإِن أَوْهَمهُ لفظ الْكتاب الشريف حَيْثُ قَالَ طالما قدمنَا رجلا وأخرنا أُخْرَى فِي تَسْرِيح الصاكة الخ وَلَعَلَّ الْكَاتِب أَو المملي عَلَيْهِ لم يحرر مُرَاد السُّلْطَان أيده الله فنسج الْكتاب على ذَلِك المنوال وأوهم أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ أعزه الله يُرِيد أَن يمْتَنع من بيع تِلْكَ الأعشاب تقذرا لَهَا وتأففا مِنْهَا ويبيحها لرعيته من الْمُسلمين وَغَيرهم ومعاذ الله أَن يكون هَذَا مُرَاده كَيفَ وَهُوَ أيده الله من أخْشَى الْمُلُوك وأتقاهم لله وأحبهم لرعاياه وأحدبهم عَلَيْهَا وأحرصهم على جلب النَّفْع لَهَا وَدفع الضّر عَنْهَا وأعلمهم بقول جده عليه الصلاة والسلام لَا يكون الْمُؤمن مُؤمنا حَتَّى يحب لِأَخِيهِ الْمُؤمن مَا يحب لنَفسِهِ فقد بَان لَك من هَذَا التَّقْرِير أَن الْوَاجِب شرعا ومروءة هُوَ الْمُبَادرَة إِلَى رفض التِّجَارَة فِي تِلْكَ الأعشاب وتطهير ساحة الْإِمَامَة الإسلامية من قذرها قَالَ الله تَعَالَى فِي وصف رَسُوله صلوَات الله عَلَيْهِ {وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} الْأَعْرَاف 157 وكما يجب على أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله تَطْهِير ساحة الْخلَافَة مِنْهَا يجب عَلَيْهِ السَّعْي فِي تَطْهِير ساحة الْمُسلمين أَيْضا مِنْهَا لما أسلفناه آنِفا فَإِن قلت أما مَا ذكرته من الْمُبَادرَة إِلَى تَطْهِير ساحة الْخلَافَة مِنْهَا فسهل متيسر إِن شَاءَ الله وَأما تَطْهِير ساحة الْمُسلمين مِنْهَا فَيظْهر أَنه فِي غَايَة الصعوبة لِأَن الْعَامَّة إِذا حملُوا على رفضها كرة وألجئوا إِلَى ترك اسْتِعْمَالهَا بالمرة ضَاقَ بهم المتسع وَسَاءَتْ أَخْلَاقهم وحاصوا حَيْصَة حمر الْوَحْش وَرُبمَا صدر مِنْهُم مَا لَا يَنْبَغِي من الإعلان بِالْخِلَافِ والمجاهرة بالعصيان
وَمن وَصَايَا أرسطوطاليس الْحَكِيم لتلميذه الْإِسْكَنْدَر يَا إسكندر تغافل عَن الْعَامَّة مَا أمكن وَلَا تلجئها أَن تَقول فِيك إِلَّا خيرا فَإِن الْعَامَّة إِذا قدرت
أَن تَقول قدرت أَن تفعل أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَالْحَاصِل أَن فطم الْعَامَّة عَمَّا اعتادوه من بعض الجهالات وصرفهم عَمَّا مرنوا عَلَيْهِ من بعض الضلالات فِي غَايَة الصعوبة وَلَا يَتَيَسَّر ذَلِك إِلَّا لمن هيأه الله لَهُ من نَبِي مُرْسل أَو ولي كَامِل أَو إِمَام عَادل وَإِذا كَانَ صرف الْعَامَّة عَن هَذِه الْمفْسدَة الَّتِي اعتادوها ونشؤوا عَلَيْهَا جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن يُؤَدِّي إِلَى الْهَرج وَالْخلاف جزما أَو ظنا فَالْوَاجِب هُوَ تَركهم على مَا هم عَلَيْهِ لِأَن تَغْيِير الْمُنكر لَهُ شُرُوط مِنْهَا أَن لَا يُؤَدِّي إِلَى مُنكر أعظم كَمَا هُوَ مُقَرر فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع
قُلْنَا كل مَا قَرّرته فِي هَذَا السُّؤَال حق لَا محيد عَنهُ وَلَكِن نَحن لَا نقُول إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله يحمل الْعَامَّة على رفضها كرة ويلجئهم إِلَى تَركهَا بالمرة بل يسْلك مَعَهم فِي ذَلِك سَبِيل التدريج كَمَا سلكه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي تَحْرِيم الْخمر على الْعَرَب فَإِن الله تَعَالَى بعث مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَالْعرب من أعشق الْأُمَم للخمر وأشدهم بهَا ولوعا وَأَكْثَرهم لَهَا حبا حَتَّى كَانَت شَقِيقَة روحهم ومغناطيس أنسهم قد اتَّخذُوا لَهَا الْمجَالِس الحفيلة واختاروا لَهَا الْقَيْنَات الجميلة وضربوا عَلَيْهَا بالمعازف والدفوف وحكموا لَهَا على غَيرهَا من مألوفاتها بغاية الشفوف حَتَّى نسبوا بهَا فِي أشعارهم وتوجوا بهَا بَنَات أفكارهم وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يُؤثر عَن أمة من محبَّة الْخمر ومدحها مَا أثر عَن الْعَرَب فَلذَلِك لما انصرفت عناية الشَّرْع الْكَرِيم إِلَى تَحْرِيمهَا كَانَ ذَلِك على سَبِيل التدريج كَمَا هُوَ مَعْلُوم فِي الْكتاب وَالسّنة حَتَّى تمّ مُرَاد الله وَرَسُوله من الْعَرَب فرفضوها بِالْكُلِّيَّةِ وسماها الشَّارِع أم الْخَبَائِث زِيَادَة فِي التنفير مِنْهَا وَمَا حرمت آلَات اللَّهْو إِلَّا من أجلهَا ومبالغة فِي تَحْرِيمهَا إِذْ هِيَ وَسِيلَة إِلَيْهَا كَمَا حَقَّقَهُ الْغَزالِيّ رحمه الله فِي كتاب السماع من الْإِحْيَاء وَفِي تَفْسِير الخازن بعد سرده كَيْفيَّة التَّحْرِيم مَا نَصه وَالْحكمَة فِي وُقُوع التَّحْرِيم على هَذَا التَّرْتِيب أَن الله تَعَالَى علم أَن الْقَوْم كَانُوا قد ألفوا شرب الْخمر وَكَانَ انتفاعهم بذلك كثيرا فَعلم أَنه لَو مَنعهم من الْخمر دفْعَة وَاحِدَة لشق عَلَيْهِم فَلَا جرم اسْتعْمل هَذَا التدريج وَهَذَا الرِّفْق قَالَ أنس رضي الله عنه حرمت الْخمر وَلم يكن للْعَرَب يَوْمئِذٍ عَيْش أعجب مِنْهَا وَمَا
حرم عَلَيْهِم شَيْء أَشد عَلَيْهِم من الْخمر اهـ إِذا علمت هَذَا فَنَقُول كَذَلِك يَنْبَغِي لأمير الْمُؤمنِينَ أيده الله أَن يسْعَى فِي تَطْهِير رَعيته من خبث هَذِه الأعشاب الَّتِي لَا شَيْء أَخبث مِنْهَا كَمَا أوضحته فِي كتاب الِاسْتِقْصَاء ويسلك مَعَهم فِيهَا سَبِيل التدريج صارفا همته إِلَيْهِ ومستعينا بِاللَّه ومتوكلا فِي ذَلِك عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يصعب ذَلِك عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله
(إِذا كَانَ عون الله للمرء ناصرا
…
تهَيَّأ لَهُ من كل صَعب مُرَاده)
وَقَالَ البوصيري لسَيِّد الْوُجُود صلى الله عليه وسلم أَقُول ولأمير الْمُؤمنِينَ من حَال جده قسط وَالْحَمْد لله
(كل أَمر تعنى بِهِ تغلب الْأَعْيَان
…
فِيهِ ويعجب البصراء)
وَكَيْفِيَّة التدريج فِي ذَلِك أَن يَأْمر أيده الله عُلَمَاء الْمجَالِس وخطباء المنابر ووعاظ الكراسي بالتواطىء على ذمّ تِلْكَ الأعشاب وتقبيحها فِي نفوس الْعَامَّة وإبداء معايبها لَهُم وَشرح مفاسدها لديهم والتغليظ فِي ذَلِك بأبلغ مَا يُمكن وَمن قدر على تأليف أَلفه أَو شعر نظمه أَو رِسَالَة أَنْشَأَهَا ويستمرون على ذَلِك ثَلَاثَة أشهر أَو أَرْبَعَة أَو أَكثر من ذَلِك فَإِن ذَلِك لَا بُد أَن يُؤثر فِي نفوس الْعَامَّة بعض التَّأْثِير فَإِن الهمم إِذا تواطأت على شَيْء أثرت فِيهِ بعون الله لَا سِيمَا همم أهل الْخَيْر وَفِي الحَدِيث يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة ثمَّ بعد مُضِيّ هَذِه الْمدَّة وتقرر قبحها فِي نفوس الْعَامَّة يكْتب أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله إِلَى قُضَاته وَيَأْمُرهُمْ بتفقد الشُّهُود وأئمة الْمَسَاجِد فَمن عثروا عَلَيْهِ أَنه يسْتَعْمل شَيْئا من تِلْكَ الْخَبَائِث أسقطوا شَهَادَته وحظروا إِمَامَته وَأَن لَا يقبلوه وَلَو فِي اللفيف ويوالي الْكِتَابَة والاعتناء بذلك مُدَّة مثل الأولى أَو أَكثر فَيَزْدَاد قبحها فِي نفوس الْعَامَّة وتعزف نفوس كثير مِنْهُم عَنْهَا ثمَّ بعد هَذَا كُله يكْتب لولاة الْأَمْصَار وعمال الْبَوَادِي أَن يتقدموا إِلَى رعاياهم بِمَنْع ازدراعها وادخار شَيْء مِنْهَا أَو التِّجَارَة فِيهِ بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِذا تمّ هَذَا الْغَرَض على هَذَا الْوَجْه تخلى هُوَ حِينَئِذٍ عَن بيعهَا وَأمر بإحراق بَاقِيهَا وسد حاناتها الْمُسَمَّاة فِي عرفنَا بالقهاوي وَيمْنَع النَّاس من اسْتِعْمَالهَا فِي المجامع الْعَامَّة كالأسواق وَنَحْوهَا ويشدد فِي ذَلِك ويعلن بالنداء فِي جَمِيع الإيالة المغربية بِأَن حكم هَذِه
الأعشاب حكم الْخمر فَكَمَا لَا يتجاهر بِالْخمرِ فِي الْأَسْوَاق وَنَحْوهَا كَذَلِك لَا يتجاهر بِاسْتِعْمَال هَذِه الأعشاب فِيهَا وَمن فعل ذَلِك أدب أدبا يَلِيق بِهِ ويرتدع بِهِ غَيره فَهَذَا أقْصَى مَا يَفْعَله السُّلْطَان والتوفيق بعد ذَلِك بيد الله وَإِذا تمّ هَذَا الْعَمَل فِي نَحْو ثَلَاث سِنِين فَهُوَ قريب وَإِذا يسر الله ذَلِك كَانَ فِيهِ بشرى للْمُسلمين وعنوانا لَهُم على تَجْدِيد دينهم ولعمري مَا كَانَ أَمر الْخمر فِي الْعَرَب إِلَّا أرسخ من أَمر هَذِه الأعشاب فِي النَّاس الْيَوْم بِكَثِير وَأَن الشُّبْهَة كَانَت فِيهَا أقوى مِنْهَا فِي هَذِه وَذَلِكَ مَظَنَّة سهولة زَوَالهَا وتطهير الْبِلَاد والعباد مِنْهَا وَمَا ذَلِك على الله بعزيز قَالَه وَكتبه أَحْمد بن خَالِد الناصري لطف الله بِهِ فِي خَامِس عشر ربيع الثَّانِي سنة أَربع وثلاثمائة وَألف
ثمَّ إِن السُّلْطَان أيده الله رفض التِّجَارَة فِيهَا وأحرق مَا كَانَ محوزا لجَانب المخزن مِنْهَا وَمنع تجار الْأَجْنَاس من جلبها إِلَى قطر الْمغرب إِلَّا الْقدر الَّذِي يستعملونه فِي خَاصَّة أنفسهم مِنْهَا بِشَرْط تعشيره وَقصر نُزُوله على مرسى طنجة دون سَائِر المراسي المغربية وَالْحَال على ذَلِك لهَذَا الْعَهْد
وَلما دخلت سنة خمس وثلاثمائة وَألف غزا السُّلْطَان مولَايَ الْحسن أيده الله آيت ومالو من برابرة فازاز وهم بطن من صنهاجة يشْتَمل على أفخاذ كَثِيرَة مثل ظيان وَبني مكيلد وشقيرين وآيت سخمان وآيت يسري وَغَيرهم أُمَم لَا يحصيهم إِلَّا خالقهم قد عمروا جبال فازاز وملؤوا قننها وتحصنوا بأوعارها مُنْذُ تملك البربر الْمغرب قبل الْإِسْلَام بأعصار طَوِيلَة فَلَمَّا كَانَت السّنة الْمَذْكُورَة خرج السُّلْطَان من مكناسة الزَّيْتُون عَاشر رَمَضَان مِنْهَا بِقصد غَزْو هَذِه الْقَبَائِل العاصية وتدويخ بلادها إِذْ لم تكن تبذل الطَّاعَة إِلَّا للْوَاحِد بعد الْوَاحِد من مُلُوك دوَل الْمغرب فِي الْأَعْصَار المتراخية حَسْبَمَا يعلم مِمَّا أسلفناه فِي هَذَا الدِّيوَان من أخبارهم وأخبار غَيرهم فَانْتهى السُّلْطَان إِلَى تِلْكَ الْجبَال ودوخها ثمَّ إِلَى قَصَبَة آدخسان الَّتِي بناها الْمولى إِسْمَاعِيل رحمه الله فوفد عَلَيْهِ هُنَاكَ جلّ تِلْكَ الْقَبَائِل وبذلوا الطَّاعَة وأظهروا الخضوع وبذلوا الْمُؤَن والأنزال للجيش والهدايا للسُّلْطَان إِلَّا مَا كَانَ من آيت سخمان فَإِنَّهُم أظهرُوا الطَّاعَة أَولا كغيرهم وطلبوا من السُّلْطَان أَن يبْعَث مَعَهم طَائِفَة من
الْجَيْش ليدفعوا لَهُم الْمُؤَن وَمَا وظف عَلَيْهِم من الْهَدَايَا والأنزال فَأرْسل مَعَهم السُّلْطَان مِائَتي فَارس وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِ عَمه الشريف الْفَاضِل الناسك مولَايَ سرُور بن إِدْرِيس بن سُلَيْمَان وجده سُلَيْمَان هَذَا هُوَ أحد مُلُوك هَذِه الدولة العلوية حَسْبَمَا تقدم فَلَمَّا توسطوا حلَّة آيت سخمان مَعَ الْعشي تناجوا فِيمَا بَينهم والشيطان لَا يفارقهم فاتفقوا على الْغدر بأصحاب السُّلْطَان وفرقوهم على مداشرهم وحللهم فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعشَاء الْأَخِيرَة أظهرُوا عَلامَة بَينهم وسعت كل طَائِفَة إِلَى من عِنْدهَا من أَصْحَاب السُّلْطَان فأوقعوا بهم فَقتلُوا مِنْهُم نَحْو الْعشْرين على مَا قيل وأفلت الْبَاقُونَ بجريعاء الذقن وَكَانَ فِيمَن قتل مِنْهُم كَبِيرهمْ الشريف مولَايَ سرُور الْمَذْكُور وَكَانَ من خِيَار عشيرته رَحْمَة الله عَلَيْهِ رَمَوْهُ برصاصة وطعنوه بتفالة وَكَانَت هَذِه الفعلة الشنعاء بِإِشَارَة كَبِيرهمْ عَليّ بن الْمَكِّيّ من بَقِيَّة آل مهاوش الَّذين تقدم الْخَبَر عَنْهُم فِي دولة السُّلْطَان مولَايَ سُلَيْمَان رحمه الله ثمَّ أَسرُّوا من ليلتهم تِلْكَ فَلم يصبحوا إِلَّا بآيت حديدو وآيت مرغاد وَغَيرهمَا من قبائل البربر وَتَفَرَّقُوا شذر مذر وَبَقِي مِنْهُم نفر يسير على مَا قيل فَقبض عَلَيْهِم من الْغَد وَضربت أَعْنَاقهم وَقَالَ بعض من حضر الْوَقْعَة إِنَّهُم لما فعلوا فعلتهم هربوا من تَحت اللَّيْل وَتركُوا زُرُوعهمْ وأمتعتهم فِي مداشرهم وَلما انْتهى الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان بعث فِي طَلَبهمْ طَائِفَة من عسكره وَضم إِلَيْهِم خيل شقيرين إخْوَانهمْ وَكَانُوا راكبين مَعَ السُّلْطَان مظهرين للطاعة فانتهبوا أمتعتهم وانتسفوا رزوعهم وهدموا أبنيتهم وحرقوا بُيُوتهم وأبلغوا فِي النكاية وتحامت خيل شقيرين ذَلِك إبْقَاء على إخْوَانهمْ وتعصبا للبربرية وَرُبمَا دسوا إِلَيْهِم من أعلمهم بِالْحَال وَأمرهمْ بالإبعاد فِي الارتحال وَلما اطلع السُّلْطَان على خبيئة شقيرين أَمر بِنَهْب حللهم وَأسر من ظفر بِهِ مِنْهُم وَقَتله فأوقع بهم جَيش السُّلْطَان وقْعَة شنعاء فأسروا مِنْهُم عددا وافرا وضربوا أَعْنَاق نَحْو الثَّلَاثِينَ مِنْهُم وانتهبوا حللهم ومداشرهم حَتَّى كَأَن لم تغن بالْأَمْس وَمن الْغَد جَاءَت نِسَاؤُهُم وأطفالهم فاستجاروا بالمدافع واستغاثوا بالسلطان فرق لَهُم وسرح مساجينهم وكساهم وَعَفا عَنْهُم وَكَانَ هَذَا كُله فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي
سنة خمس وثلاثمائة وَألف ثمَّ قفل السُّلْطَان رَاجعا فَدخل مكناسة الزَّيْتُون أَوَاخِر ذِي الْحجَّة خَاتِمَة السّنة الْمَذْكُورَة
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وثلاثمائة وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان جبال غمارة فَخرج من حَضْرَة فاس عَاشر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة فسلك تِلْكَ الْجبَال ودوخها وزار تربة الشَّيْخ الْأَكْبَر والكبريت الْأَحْمَر أَبَا مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مشيش رضي الله عنه ثمَّ تقدم إِلَى مَدِينَة تطاوين فَدَخلَهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن الْمحرم من السّنة الَّتِي تَلِيهَا أَعنِي سنة سبع وثلاثمائة وَألف فَأَقَامَ بهَا نَحْو الْخَمْسَة عشر يَوْمًا وزار صلحاءها وَتَطوف فِي معالمها وتبارى وُجُوه أهل تطاوين وكبراؤهم فِي الإهداء إِلَيْهِ وبذل المجهود فِي الاعتناء بحاشيته وجيشه وأعجب ذَلِك السُّلْطَان وحاشيته وَرَأَوا مِنْهُم مَا تقر بِهِ أَعينهم وأنعم عَلَيْهِم السُّلْطَان بِعشْرَة آلَاف ريال لبِنَاء قنطرة يرتفقون بهَا فِي وَادِيهمْ الْمُحِيط بمدينتهم لَكِن لم يحصل مَقْصُود من ذَلِك لعدم إتقان بنائها فتهدمت فِي الْحَال وَضاع ذَلِك المَال ثمَّ سَار السُّلْطَان من تطاوين إِلَى طنجة ثمَّ مِنْهَا إِلَى العرائش ثمَّ عَاد إِلَى فاس فَأَقَامَ بهَا إِلَى أواسط شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ غزا آيت سخمان الَّذين قتلوا ابْن عَمه مولَايَ سرُور فأوقع بهم وَقبض على نفر مِنْهُم وَلم يتَمَكَّن مِنْهُم على مَا يَنْبَغِي ثمَّ سَار إِلَى مراكش فأعرس لجَماعَة من بنيه وَبنَاته ووفدت عَلَيْهِ الْوُفُود من أقطار الْمغرب بالتهنئة وتباروا فِي الْهَدَايَا والتحف على مَا يَنْبَغِي وَبَالغ السُّلْطَان فِي إكرامهم وإفاضة الإنعام عَلَيْهِم وَاسْتمرّ أيده الله على كرْسِي ملكه وأريكة عزه وسلطانه وَالْأَيَّام سلم لَهُ وَالدُّنْيَا مهنأة بعزه وَنَصره والرعية طوع نَهْيه وَأمره إِلَّا مَا كَانَ من نواب أَجنَاس الدول فَإِنَّهُم أَكْثرُوا التَّرَدُّد إِلَيْهِ والاقتراحات عَلَيْهِ والتلونات لَدَيْهِ فَمرَّة بالنصائح الفارغة وَمرَّة بالتظلمات الْبَاطِلَة والحجج الْوَاهِيَة وَأُخْرَى بِطَلَب التَّخْفِيف من الأعشار والتنقيص من الصاكات إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا تكَاد تقوم لَهُ الْجبَال الراسية وَهُوَ يدافعهم ويراوغهم وحيدا لَا نَاصِر لَهُ وَلَا معِين إِلَّا الله الَّذِي أيد بِهِ الدّين وعصم بِهِ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين
وَلما كَانَت سنة عشر وثلاثمائة وَألف خرج السُّلْطَان مولَايَ الْحسن أيده
الله غازيا صحراء تافيلالت وقبائلها فَخرج إِلَيْهَا من فاس عقب عيد الْأَضْحَى من السّنة الْمَذْكُورَة فَقضى الأوطار من تمهيد تِلْكَ الأقطار على مَا يَنْبَغِي ثمَّ كتب كتابا إِلَى وُلَاة الْمغرب يصف فِيهِ الْحَال وَمَا قاساه فِي تِلْكَ السفرة من الْحل والارتحال فَقَالَ فِي كِتَابه بعد الِافْتِتَاح والطابع الْمُشْتَمل على اسْمه الْمُبَارك مَا نَصه وَبعد فَإِن الله تَعَالَى لما أَقَامَ عَبده بمحض الْفضل وَالِاخْتِيَار وأورثه الأَرْض وَعمر بِهِ الأقاليم والديار لم تكن لنا همة فِيمَا عدا السَّعْي فِي صَلَاح الْمُسلمين وانتظام أُمُورهم وَجمع كلمة الْمُؤمنِينَ وَلم نأل فِي ذَلِك جهدا حَتَّى يسر الله سُبْحَانَهُ قبل فِي الْوُصُول إِلَى سَائِر قبائل رعيتنا السعيدة وتخللنا أراضيهم كلهَا بجيوش الله المصحوبة بالعناية المزيدة فَلم نَتْرُك من الأقاليم إِلَّا النزر الْغَيْر الْمُعْتَبر أَو مَا كَانَ فِي الْوُصُول إِلَيْهِ إِلَّا مُجَرّد الْمَشَقَّة وَالضَّرَر وتفقدنا من أحوالها الْأُمُور وأجريناها على مَا يُرْضِي الله من الاسْتقَامَة فِي الْوُرُود والصدور وَكَانَ مِمَّا بَقِي علينا الْوُصُول إِلَيْهِ هَذِه الأصقاع الصحراوية والمعاقل البربرية الَّتِي كَانَ يفهم قبل أَنَّهَا صعبة المرتقى عديمة وُجُوه الارتقا فاستخرنا الله تَعَالَى وتوكلنا عَلَيْهِ وفوضنا الْأَمر كُله إِلَيْهِ وَعلمنَا أَنه تَعَالَى إِذا أَرَادَ أمرا هيأ لَهُ الْأَسْبَاب وَفتح إِلَى الْوُصُول إِلَيْهِ المغالق والأبواب وكل شَيْء مِنْهُ وَإِلَيْهِ كَمَا قَالَ ابْن عَطاء الله فِي حكمه إِذا أَرَادَ أَن يظْهر فَضله عَلَيْك خلق وَنسب إِلَيْك وَمَا من نفس تبديه إِلَّا وَله فِيك قدر يمضيه فنهضنا من حضرتنا الْعلية فاس المحمية واستقبلنا هَذِه النواحي البربرية وَنصر الله وفتحه يواليان علينا فِي كل أَوَان ويتجددان مَا تجدّد الملوان وَنعم الله لدينا متسابقة وتدبيرات قدرته الجلية لنا محكمَة العقد متناسقة فجاوزنا بِلَاد آيت يوسي مرورا وعبرنا بِلَاد بني مكيلد عبورا ووجدناهم جَمِيعًا منقادين للطاعة أتم انقياد ملقين لجانبنا العالي بِاللَّه الرسن والمقاد واقفين مَعَ النَّهْي وَالْأَمر لم يتَخَلَّف عَنْهُم فِي ذَلِك زيدهم وَلَا عَمْرو واستقبلنا بجيوش الله المنصورة وَجُنُوده الموفورة قَبيلَة آيت أزدك الَّذين هم بَيت القصيد وَعتبَة القصيد فسيقت إِلَيْهِم من الله الْهِدَايَة وطويت عَنْهُم اعلام الضَّلَالَة والغواية وتلقونا بأوائل بِلَادهمْ خَائِفين وجلين وَمن
سطوة الله فزعين فجنحنا للعفو إيثارا لَهُ وحرصا على حقن الدِّمَاء وعدولا عَن الْقِتَال نظرا للصبيان والعجائز والشيوخ وضعفاء الْحَال ومعاملة بالصفح لمن كَانَ مِنْهُم ضل وغوى أخذا بقول الله تَعَالَى {وَأَن تعفوا أقرب للتقوى} الْبَقَرَة 237 وَبعد أَن تحققت مِنْهُم التَّوْبَة وَسعوا فِي تَحْصِيل مرضات الله وخاطرنا الشريف بِمَا محا عَنْهُم الهفوة والحبوة وصير سيئاتهم حَسَنَات وأبعدهم عَن المثلات فقابلناهم بِمَا أَزَال دهشتهم وفزعهم وكشف جزعهم فانشرحوا وسايروا رِكَابنَا الشريف فِي زيهم وجموعهم بسرور ونشاط مغتبطين بمقدمنا السعيد أتم اغتباط إِلَى أَن خيمنا عَلَيْهِم بأوطاط فأظهروا من حسن الِامْتِثَال وَالطَّاعَة مَا وصلوا بِهِ إِلَى الْغَايَة وَقَامُوا بِوَاجِب الْمحلة السعيدة من الضيافات والمبرة وشرعوا على الْفَوْر فِي دفع مَا وظفناه عَلَيْهِم من الْأَمْوَال متسارعين إِلَى الْأَدَاء فِي الْحَال منقادين لكل مَا أُرِيد مِنْهُم من الْأَعْمَال فنهضنا للتخييم بمركز بِلَادهمْ على وَادي زيز وحادي الميامين يَحْدُو بِالْفَتْح الْمُبين والنصر الْعَزِيز فاستوفينا مِنْهُم فِيهِ مَا بَقِي من المفترض وحصلنا مِنْهُم بعناية الله على غَايَة الْغَرَض ثمَّ ارتحلنا عَنْهُم مصحوبين بكتيبة مِنْهُم مُعْتَبرَة وافرة الْعدَد كَثِيرَة المدد مُشْتَمِلَة على عدد لَهُ بَال من خيولهم وصناديد رِجَالهمْ وحللنا بِبِلَاد آيت مرغاد فتلقوا رِكَابنَا الشريف بِطَاعَة وخضوع وانقياد مظهرين الإذعان فِي كل مَا مِنْهُم يُرَاد وَقَامُوا بأَدَاء الْفَرَائِض والنوافل مبتهجين بطلعتنا الشَّرِيفَة فِي سَائِر الْمنَازل وكل ذَلِك بتيسير الله وتسديده وإرشاده وتوفيقه وإرادته وتسهيله كَمَا قَالَ صَاحب الحكم مَا توقف مطلب أَنْت طَالبه بِرَبِّك وَلَا تيَسّر مطلب أَنْت طَالبه بِنَفْسِك مَعَ سياسة صدقت بهَا أنباء الْكتب وادخرت بهَا المرهفات فِي الحقب وحقنت الدِّمَاء بإراقة مداد الأقلام وصينت الْأَعْرَاض وأغنى الْكَلَام السياسي عَن الْكَلَام ودوخنا بِلَادهمْ كلهَا غورها ونجدها على مَا هِيَ عَلَيْهِ من الوعورة وتعاظم الْجبَال الَّتِي يخال أَنَّهَا تنادم الْقَمَر وتصافح الْكَوْكَب مهما بزغ وَظهر فسبحان الله مَا أعظم شَأْنه وأوضح برهانه إِلَى أَن حللنا بمركز أَرضهم بتادغوست وَبهَا قَرَار قطب رحاهم فِي جاهليتهم الْمُفْسد عَليّ بن
يحيى المرغادي الَّذِي طالما حذره الْإِنْذَار ولسان حَاله يَقُول لَا حَيَاة لمن تنادي فَوَقع الْقَبْض عَلَيْهِ ووجهناه مصفدا إِلَى مراكش على سنة الله فِيمَن زلت بِهِ الْقدَم وَصَارَ حَلِيف التأسف والندم وأراح الله مِنْهُ الْعباد وطهر مِنْهُ الْبِلَاد وَفِيمَا قبل ذَلِك كُنَّا وجهنا من يَسْتَوْفِي من آيت حديدو مَا وظف عَلَيْهِم فِي المغارم وَيَأْتِي من عِنْدهم بِمَا هُوَ لَهُم لَازم فَلم يظْهر مِنْهُم مَا يُفِيد وَرجع الموجهون بِغَيْر طائل وَلَا عتيد فترصدنا من أعيانهم وَأهل الْحل وَالْعقد مِنْهُم جمَاعَة وافرة تقرب من الْمِائَتَيْنِ وقبضنا عَلَيْهِم بأجمعهم جَزَاء وفَاقا حَتَّى يؤدوا جَمِيع مَا فرض عَلَيْهِم بحول الله وتوجهنا والسعادة تقدمنا والميامين تحفنا وصحبة رِكَابنَا الشريف من جَيش آيت مرغاد قدر كثير الْعدَد قوي المدد مُشْتَمل على أُلُوف من الْخَيل والأبطال وليوث الْحَرْب والنزال إِلَى أَن وصلنا إِلَى قصر السُّوق فَوَجَدنَا بِهِ جَيش خدامنا آيت عطة فِي انْتِظَار جانبنا الشريف لمصاحبة رِكَابنَا السعيد المنيف وهم فِي عدد عديد وَقُوَّة مَا عَلَيْهَا من مزِيد يقربون من الْأَرْبَعَة آلَاف فَارس وَكلهمْ لُيُوث عوابس وَمَعَهُمْ من رُمَاة إخْوَانهمْ عدد كثير مُعْتَبر كَأَنَّهُمْ سيل إِذا انحدر فنهضوا مَعَ جانبنا العالي بِاللَّه فِي جموعهم وَكَثْرَة عَددهمْ وعديدهم إِلَى مدغرة فتبركنا مِنْهَا بمواطىء الأسلاف وتعاهدنا أُمُور أَهلهَا بِحسن مُبَاشرَة وإسعاف وأنعمنا على شرفائها بِعشْرين ألفا من الريال ووجهناها إِلَيْهِم صُحْبَة ولدنَا مولَايَ عبد الْعَزِيز أصلحه الله وَفرقت فيهم صلَة لَهُم وَأَدَاء لحقوق الْقَرَابَة والاتصال وتزودنا من دُعَائِهِمْ الصَّالح بمقبول مستجاب يُرْجَى أَن لَا يكون بَينه وَبَين الله حجاب ونهضنا عَنْهُم إِلَى بِلَاد عرب الصَّباح فتلقوا مواكبنا السعيدة فِي زيهم بفرح وانشراح وَقَامُوا بالواجبات من الْميرَة والضيافات ودفعوا فِي الْحِين جَمِيع المفروضات ونهضنا من بِلَادهمْ إِلَى تافيلالت بِقصد زِيَارَة جدنا الْأَكْبَر القطب الْوَاضِح ذِي السِّرّ الْأَظْهر مَوْلَانَا عَليّ الشريف رضي الله عنه ونفعنا بِهِ فَخرج أَهلهَا من جَمِيع الشرفاء والعامة لملاقاتنا رجَالًا وَنسَاء وصبيانا وشيوخا وكهولا أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا جموعا وفرادى وأزواجا وَحصل لَهُم ابتهاج عَظِيم برؤيتنا وامتلؤوا فَرحا وسرورا
بمقدمنا وانشرحت هُنَالك الخواطر وسرت الضمائر وأدينا وَاجِبا بصلَة رحم من هُنَالك من ذَوي الْقَرَابَة وَالرحم وَكَانَ ذَلِك عندنَا من الْأَمر المهم وأنعمنا عَلَيْهِم بِعشْرين ألف ريال أُخْرَى كَأَهل مدغرة وجهناها إِلَيْهِم مَعَ ولدينا مولَايَ عبد الْعَزِيز ومولاي بلغيث حفظهما الله وَقسمت فيهم صلَة وأقمنا هُنَاكَ ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا بِقصد الاسْتِرَاحَة والزيارة ومشاهدة آثَار الأسلاف قدسهم الله وَمَا اجلها مآثر وَأعظم سناها فِي تِلْكَ الْمظَاهر وعاينا مَا لَهُم من الْأَمْلَاك وَالْأُصُول وتفقدناها بِمَا أَحْيَا مواتها كفاحا وازدادت بِهِ بهجة ونجاحا فَللَّه الْحَمد بداية وَنِهَايَة وَله مزِيد الشُّكْر أَولا وَغَايَة نَسْأَلهُ سُبْحَانَهُ أَن يَجْعَل مَا ارتكبناه فِي ذَلِك كُله خَالِصا لوجهه جَارِيا على سَبيله الْمُسْتَقيم ونهجه ويتقبله بِأَحْسَن قبُول ويبلغنا فِي صَلَاح الْمُسلمين غَايَة المأمول وَيجْعَل فِي طَاعَته الْحَرَكَة والسكون وعَلى حوله وقوته الِاعْتِمَاد والركون وَقد نهضنا إِلَى حضرتنا الشَّرِيفَة المراكشية سائلين من الله سُبْحَانَهُ الْإِعَانَة وَالْقُوَّة والتيسير وبلوغ الأمنية وأعلمناكم لِتَكُونُوا مستبصرين بِمَا كَانَ وتفرحوا بِفضل الله وفتحه وَنَصره فِي الْإِسْرَار والإعلان وَهُوَ المسؤول سُبْحَانَهُ أَن يَجْعَل الْبِدَايَة عنوان الاختتام ويبلغنا من كل خير غَايَة المرام وَالسَّلَام فِي خَامِس عشر جُمَادَى الأولى عَام أحد عشر وثلاثمائة وَألف انْتهى كتاب السُّلْطَان أيده الله
وَكَانَ رُجُوعه إِلَى مراكش على طَرِيق الفائجة وَلما انْتهى إِلَى ثنية الكلاوي أصَاب النَّاس ثلج كثير وَبرد شَدِيد تألموا مِنْهُ حَتَّى السُّلْطَان ثمَّ خلصوا مِنْهُ بعد عصب الرِّيق وَفِي مُدَّة غيبَة السُّلْطَان هَذِه حدثت حَرْب شَدِيدَة بَين زناتة الرِّيف وَبَين نَصَارَى الإصبنيول من أهل مليلية وَمَا والاها فمحقتهم زناتة محقا وشردوا بهم من خَلفهم استئصالا وقتلا وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَنهم اقترحوا على السُّلْطَان أَن يزيدهم فِي مساحة أَرض مليلية على عَادَتهم فِي كَثْرَة الاقتراحات والتلونات فأسعفهم وَزَادَهُمْ من أَرض زناتة نَحْو الغلوة وَصَارَ الْحَد الْمُشْتَرك بَين الْفَرِيقَيْنِ قَرِيبا من تربة ولي الله سَيِّدي وارياش وَهُوَ عِنْد أهل تِلْكَ الْبِلَاد عَظِيم الْقدر شهير الذّكر يتناوبونه للزيارة ويتبركون
بِهِ ويدفنون عِنْده موتاهم فَلم يحل لنصارى مليلية بِنَاء العسات وَغَيرهَا إِلَّا بِمحل يشرف على تربة الْوَلِيّ الْمَذْكُور ويكشف عَنْهَا فراودهم أهل الرِّيف عَن التخلي عَن ذَلِك الْموضع وَالْبناء بِغَيْرِهِ فَأَبَوا وأصروا على الِامْتِنَاع وَرُبمَا لسعوهم بِمَا أحفظهم من الْكَلَام المؤلم على عَادَتهم فِي ذَلِك فَإِن هَذَا الإصبنيول مُنْذُ كَانَت لَهُ الْغَلَبَة فِي حَرْب تطاوين وَأهل الْمغرب مَعَه فِي عناء شَدِيد من كَثْرَة مَا يتعنت ويتجنى عَلَيْهِم وَيسْمعهُمْ من محفظات الْكَلَام وصريح الملام لَا سِيمَا أوباشهم ورعاعهم وتالله لقد سَمِعت أذناي من ذَلِك مَا يضيق لَهُ الصَّدْر وَلَا ينْطَلق بِهِ اللِّسَان وَإِذا رفعت الشكاية بهم إِلَى أكابرهم غمصوا الْحق وجادلوا بِالْبَاطِلِ هَذَا دأبهم وديدنهم وَإِلَى الله وَحده المشتكى وَله سُبْحَانَهُ العتبى حَتَّى يرضى وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِهِ فَلَمَّا سلكوا هَذَا المسلك وَنَحْوه مَعَ أهل الرِّيف أذاقوهم من بأسهم شَدِيد الْعقَاب وأليم الْعَذَاب كَمَا هُوَ مَعْلُوم فَلَمَّا احتل السُّلْطَان أيده الله بِحَضْرَة مراكش من هَذِه السفرة قدم عَلَيْهِ وَفد الإصبنيول يطْلبُونَ الْإِنْصَاف من أهل الرِّيف فِي هَذِه النَّازِلَة واستصحبوا مَعَهم سربا من الْحمام الطيار بالمكاتيب وَالْأَخْبَار وَدَار الْكَلَام بَينهم وَبَين السُّلْطَان فِي النَّازِلَة وَحكم فِيهَا من لم يكن ذَا بَصِيرَة بمعضلات النَّوَازِل من غافل أَو متغافل فَوَقع الْفَصْل على أَن يدْفع السُّلْطَان عَن دِمَاء قتلاهم أَرْبَعَة ملايين من الريال وَتمّ الصُّلْح على ذَلِك وَكَانُوا فِي تِلْكَ الْمدَّة كلما دَار بَينهم وَبَين السُّلْطَان كَلَام فِي الْقَضِيَّة أطاروا بِهِ الْحمام إِلَى أَرْبَاب دولتهم بمادريد وَالله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد
وَفِي آخرهذه السّنة كَانَت وَفَاة السُّلْطَان مولَايَ الْحسن بن مُحَمَّد رَحْمَة الله عَلَيْهِ ورضوانه فَإِنَّهُ خرج من مراكش فاتح ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة غازيا قبائل البربر الَّذين بجبال فازاز لَا سِيمَا آيت سخمان الَّذين غدروا بِأَصْحَابِهِ وَابْن عَمه حَسْبَمَا تقدم قَرِيبا وَكَانَ رحمه الله قد قدم من حَرَكَة تافيلالت وَهُوَ مَرِيض مَرضا خَفِيفا فِي الظَّاهِر وَلكنه مزمن فِي الْبَاطِن فَكَانَ يتَكَلَّف مَعَه الْخُرُوج للنَّاس وَينفذ القضايا وَيجْلس للوفود ويجيزهم وَيفْعل جَمِيع الْأُمُور المخزنية ثمَّ خرج من مراكش فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور على مَا بِهِ
من الْأَلَم وَالْمَرَض وتحامل حَتَّى انْتهى إِلَى وَادي العبيد من أَرض تادلا فأدركه أَجله هُنَالك فِي السَّاعَة الْحَادِيَة عشرَة من لَيْلَة الْخَمِيس ثَالِث ذِي الْحجَّة الْحَرَام متم عَام أحد عشر وثلاثمائة وَألف وَحمل فِي تَابُوت إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَدفن بِإِزَاءِ جده الْأَعْلَى سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحْمَة الله على جَمِيعهم آمين
وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته إِحْدَى وَعشْرين سنة وَخَمْسَة أشهر وَكَانَ رحمه الله من خِيَار الْمُلُوك العلوية وأفاضلهم بِمَا نشر من الْعدْل وَأصْلح من الرعايا وَأبقى من الْآثَار بالمغرب وثغوره فَالله تَعَالَى يجْبر كسر الْمُسلمين فِيهِ ويعوضهم أجرا عَن مصابه آمين
وَبَايع أهل العقد والحل نجله الأرضى الأبر المرتضى مَوْلَانَا عبد الْعَزِيز ابْن مَوْلَانَا الْحسن نَصره الله نصرا عَزِيزًا وَفتح لَهُ فتحا مُبينًا آمين وَهُوَ الْآن على كرْسِي ملكه بفاس المحروسة كَمَا يَنْبَغِي وعَلى مَا يَنْبَغِي وَقد تسرب إِلَيْهِ جمَاعَة من نواب الْأَجْنَاس كعادتهم مَعَ وَالِده من قبله فقدموا عَلَيْهِ حَضْرَة فاس مظهرين أَنهم إِنَّمَا قدمُوا للتهنئة ومرادهم خلاف ذَلِك {ويمكرون ويمكر الله وَالله خير الماكرين} الْأَنْفَال 30 وَمَا ظَنك بِمن يزْعم أَنه قدم للتهنئة وَهُوَ مُقيم بالحضرة هَذِه مُدَّة من أَرْبَعَة أشهر يتجسس الْأَخْبَار ويتطلع العورات ويترصد الغفلات ويحصي الأنفاس لَعَلَّه تظهر لَهُ خلة أَو تمكنه فرْصَة نسْأَل الله تَعَالَى أَن يرد كَيده فِي نَحره ويعديه بعاره وعره آمين ولعمري مَا الْحَامِل على هَذَا وَنَحْوه إِلَّا قلَّة الْحيَاء من الله وَمن النَّاس وَإِلَّا فَمَا معنى الْإِقَامَة فِي سَبِيل التهنئة أَرْبَعَة أشهر ثمَّ انْظُر مايزاد مِنْهَا بعد ذَلِك وَكَانَ مِمَّا يُؤثر من كَلَام النُّبُوَّة الأولى إِذا لم تستح فَاصْنَعْ مَا شِئْت وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
وَاعْلَم أَن أَحْوَال هَذَا الجيل الَّذِي نَحن فِيهِ قد باينت أَحْوَال الجيل الَّذِي قبله غَايَة التباين وانعكست عوائد النَّاس فِيهِ غَايَة الانعكاس وانقلبت أطوار أهل التِّجَارَة وَغَيرهَا من الْحَرْف فِي جَمِيع متصرفاتهم لَا فِي سككهم وَلَا فِي
أسعارهم وَلَا فِي سَائِر نفقاتهم بِحَيْثُ ضَاقَتْ وُجُوه الْأَسْبَاب على النَّاس وصعبت عَلَيْهِم سبل جلب الرزق والمعاش حَتَّى لَو نَظرنَا فِي حَال الجيل الَّذِي قبلنَا وَحَال جيلنا الَّذِي نَحن فِيهِ وقايسنا بَينهمَا لوجدناهما كالمتضادين وَالسَّبَب الْأَعْظَم فِي ذَلِك مُلَابسَة الفرنج وَغَيرهم من أهل الأربا للنَّاس وَكَثْرَة مخالطتهم لَهُم وانتشارهم فِي الْآفَاق الإسلامية فَغلبَتْ أَحْوَالهم وعوائدهم على عوائد الجيل وجذبته إِلَيْهَا جذبة قَوِيَّة وَأَنا أحكي لَك حِكَايَة تعْتَبر بهَا وتستدل بهَا على مَا وَرَاءَهَا وَهِي أَنِّي ذاكرت ذَات يَوْم رجلا من أهل جيلنا فِي هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ لي إِن لي راتبا سلطانيا أقبضهُ فِي كل شهر قدره ثَلَاثُونَ أُوقِيَّة قَالَ فَكنت فِي حُدُود السِّتين وَمِائَتَيْنِ وَألف أَقبض فِيهِ عشر بسائط لِأَن صرف البسيطة يَوْمئِذٍ ثَلَاث أَوَاقٍ فَلَمَّا أخذت السِّكَّة فِي الِارْتفَاع بعد السِّتين صرت أَقبض فِيهِ تسع بسائط وفلوسا ثمَّ بعد ذَلِك بِسنة أَو سنتَيْن صرت أَقبض ثَمَان بسائط وفلوسا ثمَّ سبع بسائط وفلوسا وَهَكَذَا إِلَى أَن صرت الْيَوْم فِي أَعْوَام التسعين أَقبض فِي الثَّلَاثِينَ أُوقِيَّة بسيطة وَاحِدَة وشيئا من الْفُلُوس اهـ فَانْظُر إِلَى هَذَا التَّفَاوُت الْعَظِيم الَّذِي حصل فِي الجيل فِي مُدَّة من ثَلَاثِينَ سنة أَو نَحْوهَا فقد زَادَت السكَك والأسعار فِيهَا كَمَا ترى نَحْو تِسْعَة أعشار وَالْعلَّة مَا ذَكرْنَاهُ وَيكثر بِكَثْرَة الِاخْتِلَاط والممازجة مَعَ الفرنج ويقل بقلتها وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن أهل الْمغرب أقل الْأُمَم اختلاطا بهم فهم أرخص النَّاس أسعارا وأرفقهم معاشا وأبعدهم زيا وَعَادَة من هَؤُلَاءِ الفرنج وَفِي ذَلِك من سَلامَة دينهم مَا لَا يخفى بِخِلَاف مصر وَالشَّام وَغَيرهمَا من الْأَمْصَار فَإِنَّهُ يبغلنا عَنْهُم مَا تصم عَنهُ الآذان فَلْيتَأَمَّل هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ وليعرف مِنْهُ سر الله فِي خلقه
وَاعْلَم أَيْضا أَن أَمر هَؤُلَاءِ الفرنج فِي هَذِه السنين قد علا علوا مُنْكرا وَظهر ظهورا لَا كفاء لَهُ وأسرعت أَحْوَاله فِي التَّقَدُّم وَالزِّيَادَة إسراعا متضاعفا كتضاعف حبات الْقَمْح فِي بيُوت الشطرنج حَتَّى كَاد يَسْتَحِيل إِلَى فَسَاد وَعلم عَاقِبَة ذَلِك وغايته إِلَى الله تَعَالَى الْمُنْفَرد بِالْغَيْبِ
(وَأعلم علم الْيَوْم والأمس قبله
…
ولكنني عَن علم مَا فِي غَد عَم)
وَهَذَا مَا قصدنا جمعه من هَذَا الْكتاب وَالله الملهم للصَّوَاب {رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} الْأَعْرَاف 23 وَصلي الله وَسلم وَبَارك على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين