الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمَّ عاود السُّلْطَان النهوض إِلَى تلمسان فِي هَذِه الْمرة فَعَسْكَرَ بِظَاهِر فاس الْجَدِيد وَبعث وزراءه ووجوه دولته إِلَى قاصية الْبِلَاد المراكشية لحشد الْقَبَائِل والجموع ثمَّ تعجل وَعرض جُنُوده وأزاح عللهم وعبى مواكبه وَفصل فِي التعبية من فاس أواسط خمس وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فَسَار يجر الشوك والمدر من أُمَم الْمغرب وَجُنُوده وَمر بوجدة فجمر عَلَيْهَا الْكَتَائِب للحصار ثمَّ مر بندرومة فقاتلها بعض يَوْم ثمَّ اقتحمها عنْوَة فاستولى عَلَيْهَا وَقتل حاميتها ثمَّ سَار على التعبية حَتَّى أَنَاخَ على تلمسان ثمَّ بلغه الْخَبَر بتغلب عسكره على وَجدّة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فأوعز إِلَيْهِم بتخريب أسوارها فأضرعوها بِالْأَرْضِ وتوافت لَدَيْهِ أَمْدَاد النواحي وحشودها ووفدت عَلَيْهِ قبائل مغراوة وَبنى توجين فَأتوهُ طاعتهم وسرح كتائبه إِلَى القاصية فتغلب على وهران وهنين ثمَّ على مليانة وتنس والجزائر وَغَيرهَا وَاسْتولى على الضواحي وَنزع إِلَيْهِ يحيى بن مُوسَى كَبِير قواد أبي تاشفين وَصَاحب الثغور الشرقية من أَعماله فلقاه مبرة وكرامة وَرفع بساطه ونظمه فِي طَبَقَات وزرائه وجلسائه وَعقد على فتح الْبِلَاد الشرقية ليحيى بن سُلَيْمَان العسكري شيخ بني عَسْكَر بن مُحَمَّد وصهر السُّلْطَان على ابْنَته فَسَار فِي الألوية والجنود فطوع ضاحية الشرق وافتتح أمصاره حَتَّى انْتهى إِلَى لمدية ونظم الْبِلَاد فِي طَاعَة السُّلْطَان أبي الْحسن واحتشد جموعها فَلَحقُوا بمعسكره وَاسْتعْمل السُّلْطَان أَبُو الْحسن عماله على الْجِهَات
واختط بغربي تلمسان الْبَلَد الْجَدِيد لسكناه ونزول عساكره وَأَحْيَا معالم المنصورة الَّتِي كَانَ اختطها عَمه يُوسُف بن يَعْقُوب وخربها بَنو زيان من بعده فأدار عَلَيْهَا سياجا من السُّور ونطاقا من الخَنْدَق وَنصب المجانيق وآلات من وَرَاء خندقه وَجعلت رماته تنضح رُمَاة الْعَدو بِالنَّبلِ ويشغلونهم بِأَنْفسِهِم حَتَّى شيد برجا آخر يقرب مِنْهُم وترتفع شرفاته فَوق خندقهم وتماصع الْمُقَاتلَة بِالسُّيُوفِ من أعاليه ورتب المجانيق لرجمها وَأحكم عَملهَا لدكها فنالت من ذَلِك فَوق الْغَايَة وَعظم أَثَرهَا فِي الْقُصُور الْعَظِيمَة والقباب الرفيعة الَّتِي تأنق أَبُو تاشفين فِي تشييدها وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن يصبح الْمُقَاتلَة كل يَوْم
فجاج مَكَّة تفَرقُوا فِي النواحي وَأخذُوا مَعَهم أحجارا من الْحرم تبركا بهَا فَكَانَ أحدهم يضع الْحجر فِي بَيته فيطوف ويتمسح بِهِ ويعظمه ثمَّ توالت السنون وخلفت الخلوف فعبدوا تِلْكَ الْأَحْجَار ثمَّ عبدُوا غَيرهَا وَذَهَبت مِنْهُم ديانَة إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عليهما السلام إِلَّا يَسِيرا جدا بَقِي فيهم إِلَى أَن صبحهمْ الْإِسْلَام هَذَا معنى مَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَقد تكلم الشاطبي وَغَيره من الْعلمَاء فِيمَا يقرب من هَذَا وَذكروا أَن الغلو فِي التَّعْظِيم أصل من أصُول الضلال وَلَو لم يكن فِي ذَلِك إِلَّا قَضِيَّة الشِّيعَة لَكَانَ كَافِيا فَالْحَاصِل أَن خير الْأُمُور الْوسط وَمن هُنَا أَيْضا كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله قد أبطل بِدعَة المواسم بالمغرب وَهِي لعمري جديرة بالإبطال فسقى الله ثراه وَجعل فِي عليين مثواه
وَلما كَانَ رَمَضَان من سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف قدم الْمولى إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان الْمَذْكُور من الْحجاز وَنزل بطنجة وَكَانَ قدومه فِي قرصان الإنجليز لِأَن وَالِده رحمه الله كَانَ قد وَجهه إِلَيْهِ مَعَ بضع قراصينه إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فصادفوه قد انحدر إِلَى جَزِيرَة مالطة فَركب الْمولى الْمَذْكُور فِيمَا خف من حَاشِيَته فِي قرصان النجليز وَسبق إِلَى طنجة فاحتل بهَا ثمَّ سَار إِلَى حَضْرَة وَالِده بمكناسة فَأَقَامَ عِنْده ثَلَاثًا ريثما استراح ثمَّ انْفَصل عَنهُ إِلَى دَاره بفاس فَخرج لملاقاته جَيش الودايا وأشراف فاس وأعلامها وَسَائِر عامتها بفرح وسرور وَكَانَ يَوْم دُخُوله يَوْمًا مشهودا وَلما وصل الْقَوْم الَّذين كَانُوا مَعَه نشرُوا محاسنه وفضائله ومكارمه المحمودة وفواضله وَمَا فعله من الْبر فِي طَرِيق الْحَج خُصُوصا فِي مفاوز الْحجاز فقد أنْفق فِيهَا على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين مَا لايحصى وشاع ذكره فِي الْحَرَمَيْنِ الشريفين وتجاوزهما إِلَى مصر وَالشَّام والعراقين وَلما نفذ مَا عِنْده استسلف من التُّجَّار الَّذين كَانُوا مَعَه أَمْوَالًا طائلة أنفقها فِي سَبِيل الله وَلما قدم أَرْبَابهَا على السُّلْطَان عرفوه بِمَا استسلفه مِنْهُم وَلَده وأطلعوه على حساباتهم فَعرف أَن مَا فعله وَلَده صَوَاب فَأمر رحمه الله لأولئك التُّجَّار بِقَضَاء مَا أسلفوه وَأَن يُزَاد لَهُم مِقْدَار ربحه
من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ لم يلبث ابْن دَاوُد بعد ذَلِك إِلَّا مُدَّة يسيرَة حَتَّى توفّي وتخلصت قائبة من قوب وعفو الله بعد ذَلِك مرقوب
وَفِي سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَت جَائِحَة النَّار بِكَثِير من بِلَاد الْمغرب أحرقت الزروع وَالثِّمَار وأجيحت الجنات وتراجع النَّاس فِي أَثمَان مَا بيع مِنْهَا بعد إِثْبَات الموجبات وَكَانَت أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله فِي أَولهَا شَدِيدَة بِسَبَب ظُهُور الْعَدو على الْمُسلمين وَمَا عقبه من الغلاء وَالْمَوْت ثمَّ بعد ذَلِك اتَّسع الْحَال وَحصل الْأَمْن وانخضدت شَوْكَة قبائل الْعَرَب بالمغرب وَأمنت الطرقات من عيثهم وازدهت الدُّنْيَا ورخصت الأسعار رخصا يَسِيرا وَكَانَ النَّاس ممعشين فِي أَيَّامه وغلت الدّور والأملاك حَتَّى كَانَت فِي بعض السنين لَا تسمسر وَمن يَشْتَرِي دَارا إِنَّمَا يَشْتَرِيهَا بالتنقير عَنْهَا والطلب من رَبهَا بِالثّمن الجافي وَاتخذ النَّاس ذَوُو الْيَسَار المراكب الفارهة والكسي الرفيعة والذخائر النفسية وتأنقوا فِي الْبُنيان بالزليج والرخام والنقش البديع لَا سِيمَا بفاس ورباط الْفَتْح ولاحت على النَّاس سمة الحضارة الأعجمية وَكَانَ للسُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله فِي كل بلد عُيُون يَكْتُبُونَ لَهُ بِمَا يَقع من الْوُلَاة فَمن دونهم فَكَانَت الرّعية كَأَنَّهَا فِي كف يَده وَكَانَ يخْتَار أُولَئِكَ الْعُيُون من الْعَوام فَكَانُوا يَكْتُبُونَ لَهُ بالغث والسمين فَيسمع ذَلِك كُله فينتقي مِنْهُ الصَّحِيح ويطرح السقيم فاستقامت أَحْوَال الرّعية بذلك
وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله
كَانَت وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله فِي زَوَال يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن عشر من رَجَب الْفَرد الْحَرَام سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف بداره بِحَضْرَة مراكش فِي الْبُسْتَان الْمُسَمّى بالنيل وَلم يمرض إِلَّا يَوْمًا أَو بعض يَوْم قيل إِنَّه شرب دَوَاء مسهلا فَكَانَ فِيهِ أَجله وَالله أعلم وَدفن لَيْلًا بضريح جده الْمولى عَليّ الشريف قرب ضريح القَاضِي عِيَاض وَكتب على رخامة قَبره أَبْيَات لَيست من جيد الشّعْر وَهِي