الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتزاحف الْفَرِيقَانِ بوادي تلاغ وعبأ كل مِنْهُمَا كتائبه ورتب مصافه وبرز النِّسَاء فِي القباب سافرات على سَبِيل التحريش والتحريض والتحم الْقِتَال وَطَالَ القراع والنزال وَلما فَاء الْفَيْء وَمَال النَّهَار وَكَثُرت حشود بني مرين جموع بني عبد الواد وَمن إِلَيْهِم انكشفوا ومنحوا الْعَدو أكتافهم وَهلك فِي الحومة أَبُو حَفْص عمر بن يغمراسن بن زيان وَكَانَ كَبِير أَوْلَاده وَولي عَهده وَهلك مَعَه جمَاعَة من عشيرته وَلما انهزم بَنو عبد الواد بَقِي يغمراسن فِي ساقتهم حاميا لَهُم من بني مرين أَن تركبهم من خَلفهم فَكَانَ ردْءًا لَهُم إِلَى أَن وصلوا إِلَى بِلَادهمْ وَكَانَت وقْعَة تلاغ يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عشر من جُمَادَى الْأَخِيرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَرجع السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى مَكَانَهُ من حِصَار مراكش وَالله غَالب على أمره
فتح حَضْرَة مراكش ومقتل أبي دبوس وانقراض دولة الْمُوَحِّدين بهَا
لما قفل السُّلْطَان يَعْقُوب من حَرْب يغمراسن صرف عزمه إِلَى غَزْو مراكش وَالْعود إِلَى حصارها كَمَا كَانَ أول مرّة فَنَهَضَ إِلَيْهَا من فاس فِي شعْبَان سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَلما عبروا وَادي أم الرّبيع بَث السَّرَايَا وَشن الغارات وَأطلق الأعنة وَالْأَيْدِي للنهب والعيث فحطموا زروعها وانتسفوا آثارها وتقرى نَوَاحِيهَا كَذَلِك بَقِيَّة عَامه ثمَّ غزا عرب الْخَلْط من جشم بتادلا فأثخن فيهم واستباحهم ثمَّ نزل وَادي العبيد فَأَقَامَ هُنَالك أَيَّامًا ثمَّ غزا بِلَاد صنهاجة فاستباحها وَلم يزل ينْقل ركابه فِي أحواز مراكش ويجوس خلالها إِلَى آخر ذِي الْقعدَة من سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَاجْتمع أَشْيَاخ الْقَبَائِل من الْعَرَب والمصامدة عِنْد أبي دبوس وَقَالُوا لَهُ يَا مَوْلَانَا كم تقعد عَن حَرْب بني مرين وَقد ترى مَا نزل بِنَا فِي حريمنا وَأَمْوَالنَا مِنْهُم فَاخْرُج بِنَا إِلَيْهِم لَعَلَّ الله يَجعله سَبَب الْفَتْح فَإِنَّهُم قَلِيلُونَ وجمهورهم وذوو الشَّوْكَة مِنْهُم قد بقوا
برباط تازا لحراسة ذَلِك الثغر من بني عبد الواد وَلم يزَالُوا يفتلون لَهُ فِي الذرْوَة وَالْغَارِب حَتَّى أجابهم إِلَى رَأْيهمْ فاستعد للحرب وبرز من حَضْرَة مراكش فِي جيوش ضخمة وجموع وافرة فاستجره السُّلْطَان يَعْقُوب بالفرار أَمَامه ليبعد عَن مدد الصَّرِيخ فيستمكن مِنْهُ فَلم يزل أَبُو دبوس يسْعَى خَلفه حَتَّى نزل ودغفوا فَحِينَئِذٍ كرّ عَلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب فالتحمت الْحَرْب واختل مصَاف أبي دبوس وفر يسابق إِلَى مراكش وَأَيْنَ مِنْهُ مراكش فَأَدْرَكته الْخُيُول وحطمته الرماح فَخر صَرِيعًا واحتز رَأسه وَجِيء بِهِ إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب فَسجدَ شكرا لله تَعَالَى وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد ثَانِي محرم سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة ثمَّ تقدم السُّلْطَان يَعْقُوب نَحْو مراكش وفر من كَانَ بهَا من الْمُوَحِّدين إِلَى تينملل وَبَايَعُوا إِسْحَاق أَخا المرتضى فَبَقيَ ذبالة هُنَالك إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة وَجِيء بِهِ فِي جمَاعَة من قومه إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب فَقتلُوا جَمِيعًا وانقرض أَمر بني عبد الْمُؤمن وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين ثمَّ خرج الْمَلأ وَأهل الشورى من الحضرة إِلَى لِقَاء السُّلْطَان يَعْقُوب ففرح بهم وأمنهم ووصلهم وَدخل مراكش فِي عَسْكَر ضخم وموكب فخم يَوْم الْأَحَد التَّاسِع من محرم الْمَذْكُور وَورث ملك آل عبد الْمُؤمن وتملاه واستوسق أمره بالمغرب وتطامن النَّاس لِبَأْسِهِ وَسَكنُوا لظل سُلْطَانه وَأقَام بمراكش إِلَى رَمَضَان من سنته ثمَّ أغزا ابْنه الْأَمِير أَبَا مَالك عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب بِلَاد السوس فافتتحها وأوغل فِي ديارها ودوخ أقطارها وَرجع إِلَى أَبِيه وَاسْتمرّ السُّلْطَان يَعْقُوب بمراكش يصلح شؤونها إِلَى رَمَضَان من سنة تسع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَخرج بِنَفسِهِ إِلَى بِلَاد درعة فأوقع بعربها الوقيعة الْمَشْهُورَة الَّتِي خضدت من شوكتهم وَرجع لشهرين من غزاته ثمَّ أجمع الرحلة إِلَى دَار ملكه بفاس فعقد على مراكش لمُحَمد بن عَليّ بن يحيى من كبار أَوْلِيَائِهِمْ وَمن أهل خؤلته وَكَانَ من طبقَة الوزراء وأنزله بقصبة مراكش وَجعل المسالح فِي أَعمالهَا لنظره وعهد إِلَيْهِ بتدويخ الأقطار ومحو آثَار بني عبد الْمُؤمن وَفصل من مراكش قَاصِدا حَضْرَة فاس فِي شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَالله تَعَالَى أعلم
مراسلة السُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد الْمُسْتَنْصر بِاللَّه الحفصي للسُّلْطَان الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن عبد الْحق رحمهمَا الله
كَانَت دولة بني أبي حَفْص أَصْحَاب تونس وإفريقية فرعا من دولة بني عبد الْمُؤمن وَشعْبَة مِنْهَا حَسْبَمَا نبهنا عَلَيْهِ غير مرّة وَلما ضعفت دولة بني عبد الْمُؤمن بمراكش وَالْمغْرب كَانَ صَاحب إفريقية أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الْوَاحِد الهنتاني يأمل الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا والتملك لَهَا ويتمنى ذَلِك لَو ساعده الْقدر لِأَنَّهُ كَانَ يرى انه اولى بِتِلْكَ الحضرة من غَيره حَتَّى من بني عبد الْمُؤمن لِأَنَّهَا أَرض سلفه وموطن أَصله وعشيرته لِأَن عمالة مراكش لم تعرف إِلَّا للمصامدة من قديم الزَّمَان وقبيلة هنتانة هِيَ صميمها وذؤابتها فَبِهَذَا وَنَحْوه كَانَ بَنو أبي حَفْص يتطاولون إِلَى ملك مراكش وَلما نبغ بَنو مرين بالمغرب وغلبوا على الْكثير من ضواحيه كَانُوا يدعونَ إِلَى أبي زَكَرِيَّاء الحفصي تأليفا لأهل الْمغرب واستجلابا لمرضاتهم وإتيانا لَهُم من نَاحيَة أهوائهم إِذْ كَانَت صبغة الدعْوَة الموحدية قد رسخت فِي قُلُوبهم فَلَو دعوا إِلَى غَيرهَا من أول الْأَمر لحاصوا عَنْهَا حَيْصَة حمر الْوَحْش وَلما لم يُمكن بني مرين أَن يدعوا إِلَى بني عبد الْمُؤمن لأَنهم أقتالهم وإياهم ينازعون وَلَهُم يُحَاربُونَ ويجالدون دعوا إِلَى طَاعَة الحفصيين الَّذين هم فرع مِنْهُم والدعوة إِلَى الْفَرْع كالدعوة إِلَى أَصله فَلم تنفر نفوس أهل الْمغرب عَنْهَا وَإِنَّمَا كَانَ بَنو مرين يسرون من ذَلِك حسوا فِي ارتغاء وَلِهَذَا لما اسْتَقل السُّلْطَان يَعْقُوب بِالْأَمر وَتمكن لَهُ السُّلْطَان بالمغرب قطع دَعْوَة الحفصيين حَالا بعد أَن كَانَ أَولا يَدْعُو إِلَيْهَا هُوَ وَإِخْوَته من قبله وَكَانَ بَنو أبي حَفْص ينشطون لذَلِك ويهادون بني مرين ويمدونهم بِالْمَالِ وَالسِّلَاح وَغير ذَلِك وَلما عزم السُّلْطَان يَعْقُوب على منازلة مراكش كتب إِلَى أبي عبد الله مُحَمَّد الْمُسْتَنْصر بِاللَّه بن أبي زَكَرِيَّا يحيى بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص يُخبرهُ بذلك ويستمده حَتَّى
كَأَنَّهُ نَائِب عَنهُ لَا غير وَأرْسل بكتابه مَعَ ابْن أَخِيه عَامر بن إِدْرِيس بن عبد لحق فِي جمَاعَة من وُجُوه دولته فَأكْرم الْمُسْتَنْصر وفادتهم ثمَّ لما فتح السُّلْطَان يَعْقُوب مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا بعث إِلَيْهِ الْمُسْتَنْصر بهدية فِيهَا من أَصْنَاف الْخَيل الْجِيَاد وَالسِّلَاح وَالثيَاب الرفيعة مَا اخْتَارَهُ وَاسْتَحْسنهُ وَبعث بذلك مَعَ جمَاعَة من وُجُوه دولته أَيْضا وَفِيهِمْ الْكَاتِب أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْكِنَانِي فتلطف الْكَاتِب الْمَذْكُور فِي ذكر الْمُسْتَنْصر على مِنْبَر مراكش حَتَّى تمّ لَهُ ذَلِك بِمحضر وَفد الْمُوَحِّدين فَعظم سرورهم وانقلبوا إِلَى صَاحبهمْ بالْخبر واتصلت الْمَوَدَّة والمهاداة بَين الْمُسْتَنْصر وَالسُّلْطَان يَعْقُوب سَائِر أيامهم وَلما هلك الْمُسْتَنْصر وبويع ابْنه أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى الْمَدْعُو بالواثق اقتفى سنَن أَبِيه فِي ذَلِك فَبعث إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب بهدية حافلة مَعَ قَاضِي بجاية أبي الْعَبَّاس الغماري سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة فَعظم موقعها من السُّلْطَان يَعْقُوب وَكَانَ لأبي الْعَبَّاس الغماري هَذَا بالمغرب ذكر تحدث النَّاس بِهِ ذهرا وَقطع السُّلْطَان يَعْقُوب لأوّل أمره الدعْوَة إِلَى الحفصيين كَمَا قُلْنَا وَالله تَعَالَى أعلم
عقد السُّلْطَان يَعْقُوب ولَايَة الْعَهْد لِابْنِهِ أبي مَالك بسلا وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من خُرُوج قرَابَته عَلَيْهِ
كَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب حِين خرج من مراكش بعد فتحهَا قَاصِدا حَضْرَة فاس دَار ملك بني مرين اجتاز بِمَدِينَة سلا فأراح بهَا أَيَّامًا فطرقه مرض وعك مِنْهُ وعكا شَدِيدا فَلَمَّا أبل من مَرضه جمع قومه وَعقد الْعَهْد لأكبر أَوْلَاده أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب لما علم من أَهْلِيَّته لذَلِك وَأخذ لَهُ الْبيعَة عليم جَمِيعًا فأعطوها طواعية وَعز ذَلِك على الْقَرَابَة من بني عبد الْحق وهم أَوْلَاد سَوط النِّسَاء بَنو إِدْرِيس بن عبد الْحق وَبَنُو عبد الله بن عبد الْحق وَبَنُو رحو بن عبد الْحق وَإِنَّمَا قيل لَهُم أَوْلَاد سَوط النِّسَاء لِأَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة من بني عبد الْحق كَانُوا أشقاء أمّهم اسْمهَا سَوط النِّسَاء فَلَمَّا بَايع السُّلْطَان
يَعْقُوب لِابْنِهِ أبي مَالك بِولَايَة الْعَهْد آسفهم ذَلِك لأَنهم كَانُوا يرَوْنَ أَنهم أَحَق بِالْأَمر حَسْبَمَا سلف فَارْتَدُّوا على أَعْقَابهم وقلبوا لعمهم ظهر الْمِجَن وعادت هيف إِلَى أديانها وأسروا من ليلتهم من سلا وَلم يصبحوا إِلَّا بجبل علودان من بِلَاد غمارة عش خلافهم ومدرج فتنتهم وَكَانَ ذَلِك فِي عيد الْفطر من سنة تسع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وانضم إِلَيْهِم بَنو أبي عياد بن عبد الْحق وشايعوهم على رَأْيهمْ فَخرج السُّلْطَان يَعْقُوب فِي أَثَرهم وَقدم بَين يَدَيْهِ ابْنه لاأمير يُوسُف بن يَعْقُوب فِي خَمْسَة آلَاف فأحاط بهم وَأخذ بمخنقهم وَلحق بِهِ أَخُوهُ أَبُو مَالك فِي عسكره وَمَعَهُ مَسْعُود بن كانون شيخ سُفْيَان ثمَّ لحق بهم السُّلْطَان يَعْقُوب فِي عساكره فحاصروهم ثَلَاثَة وَلما رَأَوْا أَن قد أحيط بهم سَأَلُوا الْأمان فبذله لَهُم وأنزلهم وَمسح صُدُورهمْ واسترضاهم واستل سخائمهم وَوصل بهم إِلَى حَضرته فسألوا مِنْهُ الْأذن فِي اللحاق بتلمسان حَيَاء مِمَّا ارتكبوه من الْخلاف فَأذن لَهُم فأجازوا الْبَحْر إِلَى الأندلس وَخَالفهُم عَامر بن إِدْرِيس لما آنس من ميل عَمه إِلَيْهِ فَبَقيَ بتلمسان حَتَّى توثق لنَفسِهِ بالعهد وَعَاد إِلَى قومه بعد منازلة السُّلْطَان يَعْقُوب لتلمسان حَسْبَمَا نذكرهُ عَن قريب
قَالَ ابْن خلدون واحتل هَؤُلَاءِ الْقَرَابَة من بني عبد الْحق بِأَرْض الأندلس على حِين أقفر من الحامية جوها واستأسد الْعَدو على ثغورها وتحلبت شفاهه لالتهامها فتبوءوها أسودا ضارية وسيوفا مَاضِيا معودين لِقَاء الْأَبْطَال وقراع الحتوف والنزال مستغلظين بخشونة البداوة وصرامة الْعِزّ وبساله التوحش فعظمت نكايتهم فِي الْعَدو واعترضوا فِي صَدره سجى دون الوطن الَّذِي كَانَ طعمة لَهُ فِي ظَنّه وارتدوه على عقبه ونشطوا من همم الْمُسلمين الْمُسْتَضْعَفِينَ وَرَاء الْبَحْر وبسطوا من آمالهم لمدافعة طاغيتهم وزاحموا أَمِير الأندلس قي رياستها بمنكب قوي فتجافى لَهُم عَن خطة الْحَرْب ورياسة الْغُزَاة من أهل العدوة من أعياصهم وَغَيرهم من أُمَم البربر وثافنوه فِي مُسْتَقر عزه وساهموه فِي الجباية بِفَرْض الْعَطاء والديوان فبذله لَهُم واستعدوا على الْعَدو وَحسن أَثَرهم فِيهِ حَسْبَمَا تلمع بِالْبَعْضِ من ذَلِك إِن شَاءَ الله
هجوم النَّصَارَى على العرائش وتيشمس من ثغور الْمغرب
لما كَانَ الْمحرم من سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة هجم النَّصَارَى على مَدِينَة العرائش وتيشمس من ثغور العدوة المغربية فَقتلُوا رجالها وَسبوا نساءها وانتهبوا أموالها وأضرموها نَارا وَرَجَعُوا عودهم على بدءهم فَرَكبُوا أجفانهم وَلَحِقُوا ببلادهم وَلم تنلهم شَوْكَة السُّلْطَان يَعْقُوب لِأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِفَتْح مراكش فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَلم يبين فِي القرطاس هَؤُلَاءِ النَّصَارَى من هم
وقْعَة إيسلي بَين السُّلْطَان يَعْقُوب ابْن عبد الْحق ويغمراسن بن زيان
لما أنعم الله على السُّلْطَان يَعْقُوب بامتداد ظلّ ملكه فِي أقطار الْمغرب ونواحيه ونفوذ كَلمته فِي حواضره وبواديه وتمم لَهُ الصنع بِفَتْح مراكش ووراثة كرْسِي بني عبد الْمُؤمن بهَا وَعَاد إِلَى فاس كَمَا قُلْنَا تحرّك مَا كَانَ فِي نَفسه من ضغائن يغمراسن بن زيان وَمَا آسفه بِهِ من تخذيل عَزَائِمه ومجاذبته عَن قَصده وَرَأى أَن وقْعَة تلاغ لم تشف صَدره وَلَا أطفأت نَار موجدته فأجمع أمره لغزوة ونشطه لذَلِك مَا صَار إِلَيْهِ من الْملك وسعة السُّلْطَان فحشد جَمِيع أهل الْمغرب وعزم على استئصاله وَقطع دابره فَعَسْكَرَ بفاس وَبعث وَلَده أَبَا مَالك إِلَى مراكش فِي جمَاعَة من خواصة حاشرين فِي مدائنها وضواحيها فَاجْتمع عَلَيْهِ من قبائل الْعَرَب والمصامدة وصنهاجة وبقايا عَسَاكِر الْمُوَحِّدين بالحضرة وحامية الْأَمْصَار من جند الفرنج وناشبة الْغَزْو استكثر من ذَلِك كُله واحتفل السُّلْطَان يَعْقُوب بفاس كَذَلِك ثمَّ نَهَضَ مِنْهَا غرَّة صفر سنة سبعين وسِتمِائَة فَسَار حَتَّى نزل وَادي ملوية فَأَقَامَ عَلَيْهِ أَيَّامًا حَتَّى لحقه ابْنه أَبُو مَالك فِي جموعه وتوافت لَدَيْهِ أَمْدَاد الْعَرَب من قبائل جشم أهل تامسنا الَّذين هم سُفْيَان والخلط والعاصم وَبَنُو جَابر وَمن مَعَهم من الأثبج وقبائل ذَوي حسان والشبانات من معقل أهل السوس الْأَقْصَى وقبائل ريَاح أهل أزغار وبلاد الهبط فَعرض هُنَالك عساكره وميزها ورتبها فَيُقَال إِنَّهَا بلغت ثَلَاثِينَ ألفا
وعادت إِلَى فاس ثمَّ ذهبت إِلَى زِيَارَة الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش رضي الله عنه فصحبها فِي ركابهَا أَعْيَان فاس وأشرافها وعلماؤها وَلما كَانَت بأثناء الطَّرِيق اعترضها قواد الغرب بهداياهم وبشاراتهم وزيهم ووافاها قواد الثغور بضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام فِي مواكبهم وخيلهم ورجلهم وَذَلِكَ عَن أَمر من السُّلْطَان رحمه الله
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ واليا على العرائش فَحَضَرت فِي جُمْلَتهمْ وَلما قَضَت أرب الزِّيَارَة فرقت الْأَمْوَال على الْأَشْرَاف من أهل جبل الْعلم وغمرت النَّاس بالعطايا ثمَّ عَادَتْ إِلَى الْقصر وَمِنْه سَارَتْ إِلَى العرائش فأقامت بهَا ثَلَاثَة أَيَّام وانفض قواد الثغور كل إِلَى مَحَله وسافرت المولاة الْمَذْكُورَة إِلَى مراكش فِي ألف فَارس من العبيد كَانُوا قد قدمُوا مَعهَا من مراكش عَلَيْهِم الْقَائِد مِصْبَاح وَكَانَ فعلهَا هَذَا من الْآثَار الْعَظِيمَة والمناقب الفخيمة رَحمهَا الله
اعتناء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بثغر العرائش وشحنه بِآلَة الْجِهَاد
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمه الله قدم العرائش عقب وقْعَة الفرنسيس فَوقف عَلَيْهَا واعتنى بأمرها وَبنى بهَا الصقائل والأبراج وصونها ثمَّ كَانَ قدوم ابْنه الْمولى يزِيد فِي هَذَا التَّارِيخ إِلَى فاس وَفِي ركابه جمَاعَة من رُؤَسَاء الْبَحْر والطبجية أهل الإجادة فِي الرَّمْي وَكَانَ قدومه بِأَمْر السُّلْطَان لجر المدافع والمهاريس النحاسية الَّتِي كَانَت بفاس الْجَدِيد ومكناسة ونقلها إِلَى ثغر العرائش فَفَعَلُوا وألزم السُّلْطَان الْقَبَائِل الَّذين بِالطَّرِيقِ أَن يتولوا جرها فَكَانَت كل قَبيلَة تجرها إِلَى الَّتِي تَلِيهَا إِلَى أَن وصلوا إِلَى مشرع مسيعيدة من نهر سبو
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان فورد علينا أَمر السُّلْطَان بالعرائش أَن نخرج إِلَى لقائهم فِي الْجند وقبائل الْحَوْز يَعْنِي حوز العرائش قَالَ فوافيناهم على
وَادي سبو فَتَوَلّى أهل الغرب جر تِلْكَ المدافع والمهاريس إِلَى أَن أوصلوها إِلَى وَادي الدردار قرب تاجناوت ثمَّ جرها أهل العرائش وقبائل حوزها إِلَى الْمَدِينَة وَكَانَ يَوْم دُخُولهَا مهرجانا عَظِيما أخرجت فِيهِ المدافع والمهاريس والبارود وتسابقت الْقَبَائِل على الْخُيُول ولعبوا بالبارود إِلَى الْمسَاء ثمَّ رَجَعَ الْمولى يزِيد وَمن مَعَه من الرؤساء والبحرية والطبجية إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان بمكناسة وَقد تمّ الْغَرَض الْمَقْصُود
إِيقَاع السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بآيت يمور أهل تادلا ونقلهم إِلَى سلفات وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما انْقَضى أَمر العرائش تفرغ السُّلْطَان لقَضَاء مَا كَانَ قد بَقِي عَلَيْهِ من أَمر الرّعية فَخرج من مكناسة إِلَى تادلا مضمرا الْإِيقَاع بآيت يمور لما كَانَ يبلغهُ عَنْهُم من الْفساد فِي الأَرْض فَلم بلغَهَا مكر بهم بِأَن أرسل إِلَيْهِم يستنفرهم خيلا ورجلا وأراهم أَنه يُرِيد أَن يذهب بهم فِي سَرِيَّة هيأها لآيت ومالو فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ أَمر بِعرْض العساكر كلهَا ووقف رحمه الله بِإِزَاءِ القصبة ثمَّ عرضت عَلَيْهِ عَسَاكِر الْجند ثمَّ الْقَبَائِل بَعْضهَا إِثْر بعض وَكلما مرت عَلَيْهِ قَبيلَة أوقفها فِي نَاحيَة عينهَا لَهَا وَكلما مر بِهِ جَيش أوقفهُ كَذَلِك حَتَّى غصت الأَرْض بِالْخَيْلِ وَالرجل واستدارت من كل الْجِهَات وَلم يبْق إِلَّا آيت يمور فجاؤوا فِي آخر الْعرض وَلما مثلُوا بَين يَدَيْهِ أَمر أهل رحاه أَن يرموهم بالرصاص على زناد وَاحِد فأطلقوا عَلَيْهِم شؤبوبا مِنْهُ تساقط لَهُ عدد كثير وَكَانَ قد تقدم إِلَى العساكر المستديرة بهم أَن ينفحوهم بالرصاص كلما قصدُوا جِهَة من جهاتهم فَكَانُوا كلما قصدُوا نَاحيَة طَالِبين الْخَلَاص مِنْهَا رماهم أَهلهَا فتتساقط مِنْهُم الْعصبَة الْكَبِيرَة إِلَى أَن خلصوا من نَاحيَة أهل دكالة بعد أَن هلك مِنْهُم مَا ينيف على الثَّمَانمِائَة فَأمر السُّلْطَان برؤوسهم فجزت وَبعث بهَا إِلَى فاس فعلقت على الأسوار وَأمر العساكر بِنَهْب حللهم فانتسفوها وسيقت مَوَاشِيهمْ وخيامهم وأثاثهم وفر من أفلت مِنْهُم إِلَى جبل
آيت يسري ثمَّ رَحل السُّلْطَان عَنْهُم إِلَى مراكش فوفدوا عَلَيْهِ بعد أَيَّام خاضعين تَائِبين فعفى عَنْهُم ونقلهم إِلَى جبل سلفات من أحواز فاس فأوطنوه حينا من الدَّهْر
إغراء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله بآيت أدراسن وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما كَانَ من السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمه الله لآيت أدراسن من الْإِحْسَان مَا كَانَ حَتَّى أوقع بالودايا لأجلهم مَعَ أَنهم صميم الْجند وركن الدولة وَأطَال لَهُم الرسن فِي ذَلِك بِمَا أطغاهم وَحَملهمْ على الدَّالَّة عَلَيْهِ صدرت مِنْهُم هَنَات اعتدها السُّلْطَان عَلَيْهِم فَانْتدبَ لتأديبهم بِأَن كتب وَهُوَ بمراكش إِلَى الودايا لقتالهم وَإِلَى العبيد وجروان يَأْمُرهُم أَن يجتمعوا على حربهم والإيقاع بهم فَكَانَ ذَلِك عِنْد الودايا من أكبر متمناهم فَاجْتمعُوا مَعَ من ذكر ونهدوا إِلَيْهِم فكبسوهم فِي دِيَارهمْ وَجَرت بَينهم حَرْب فظيعة انهزم فِي آخرهَا آيت أدراسن ونهبت حللهم وَقتل مِنْهُم عدد كثير وَأسر مثل ذَلِك ووجهوا فِي السلَاسِل إِلَى السُّلْطَان بمراكش
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة تسع وَسبعين وَمِائَة وَألف أَمر السُّلْطَان بِجمع جند اليكشارية من قبائل الْحَوْز ووكل بِجَمْعِهِمْ الْقَائِد عبد النَّبِي المنبهي وَأَن يثبتهم فِي ديوَان الْعَسْكَر وَأَن كل من كَانَ عزبا وَأَرَادَ الدُّخُول فِي الجندية فليكتبه فَاجْتمع لَهُ من ذَلِك أَرْبَعَة آلَاف وَخَمْسمِائة فَأَعْطَاهُمْ السُّلْطَان الكسي وَالسِّلَاح واستخدمهم مُدَّة ثمَّ كَانَ مآلهم أَن رجعُوا إِلَى إخْوَانهمْ وقبائلهم وَضرب عَلَيْهِم المغرم فِي جُمْلَتهمْ وفيهَا مَاتَ عَامل فاس الْحَاج مُحَمَّد الصفار فولى السُّلْطَان على فاس ابْنه الْعَرَبِيّ بن مُحَمَّد الصفار
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا قدم السُّلْطَان إِلَى مكناسة وَقبض على الْقَائِد عبد الصَّادِق بن أَحْمد الريفي صَاحب طنجة وعَلى مائَة من
قرَابَته وَأهل بَيته فأودعهم السجْن ثمَّ سَار إِلَى طنجة فَدَخلَهَا وَنهب دَار عبد الصَّادِق الْمَذْكُور وَنقل إخوانه بأولادهم إِلَى المهدية وَولى عَلَيْهِم مُحَمَّد بن عبد الْملك من بَيتهمْ وَلم يتْرك بطنجة من أهل الرِّيف إِلَّا أهل الْمُرُوءَة وَالصَّلَاح وَأنزل مَعَهم ألفا وَخَمْسمِائة من عبيد المهدية بعددهم بِحَيْثُ لَا يطمعون فِي قيام وَلَا يحدثُونَ أنفسهم بثورة وَوَقع بِخَط الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد السدراتي أَن انْتِقَال أهل الرِّيف إِلَى المهدية كَانَ بعد هَذَا بِنَحْوِ أَربع سِنِين وَالله أعلم
مقتل عبد الْحق فنيش السلاوي ونكبة أهل بَيته وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد قدمنَا فِي آخر دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الله مَا كَانَ بحواضر الْمغرب وبواديه من الِاضْطِرَاب فسما بعض القواد والعمال بالأمصار إِلَى مرتبه الِاسْتِقْلَال وطرحوا طَاعَة السُّلْطَان فِي زَاوِيَة الإهمال فَمنهمْ صَاحب سلا عبد الْحق بن عبد الْعَزِيز فنيش كَانَ قد استحوذ على مَدِينَة سلا وأعمالها واستبد بأمرها بِمَا كَانَ لَهُ من الْعَشِيرَة والعصبية بهَا وَلما اجتاز سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله من مراكش إِلَى الْقصر أَيَّام وَالِده أغلق عبد الْحق هَذَا أَبْوَاب سلا فِي وَجهه وَلم يحفل بِهِ ذَهَابًا وايابا حَسْبَمَا مر
ثمَّ لما ولى الله السُّلْطَان أَمر الْمُسلمين أعرض عَمَّا أسلفه عبد الْحق من جريرته وأبقاه فِي مدينته على رياسته فاستمر على ذَلِك بُرْهَة من الدَّهْر وَكَانَ فظا غليظا فَقتل رجل من أَعْيَان سلا قيل كَانَ هَذَا الرجل من قرَابَته وَقيل كَانَ من أَوْلَاد زنيبير فَرفع أولياؤه أَمرهم إِلَى السُّلْطَان بمكناسة وَحضر عبد الْحق مَعَهم وَثَبت أَن قَتله للرجل كَانَ على وَجه الظُّلم فحرك ذَلِك من السُّلْطَان مَا كَانَ كامنا فِي صَدره عَلَيْهِ فَقبض عَلَيْهِ وَدفعه إِلَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول ليتولوا قَتله بِأَيْدِيهِم فجبنوا عَنهُ لما كَانَ لَهُ فِي قُلُوبهم من الهيبة فَأمر
السُّلْطَان الوزعة بقتْله بمرأى مِنْهُم فَقَتَلُوهُ فِيمَا قيل بأيدي الفؤوس ثمَّ بعث السُّلْطَان من احتاط على أَمْوَال عبد الْحق والفنانشة أجمع وَأمر بِبيع أصولهم بعد إِعْمَال الموجبات بِأَن الفنانشة مستغرقوا الذِّمَّة وَأَن جَمِيع مَا بِأَيْدِيهِم اكتسبوه من الغصوبات وَغَيرهَا من وُجُوه الظُّلم وَضرب الأتاوات على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين حَتَّى عِنْد نكاحهم فبيعت أصُول عبد الْحق وعشيرته لبني حسن وَكَانَت تنيف على مائَة أصل من بَين ربع وعقار وَكَانَ ذَلِك سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف ثمَّ غربهم السُّلْطَان إِلَى العرائش فسجنوا بهَا مُدَّة وَغرب بَعضهم إِلَى الصويرة ثمَّ عَفا عَنْهُم وقربهم وولاهم رياسة الرماية بالمهراس والمدفع الْمَعْرُوفَة برياسة الطبجية وفرقهم على الثغور فَكَانَ بَعضهم بالعرائش وَبَعْضهمْ بطنجة وَبَعْضهمْ برباط الْفَتْح وَبَعْضهمْ بالصويرة وَأَعْطَاهُمْ الدّور الْمُعْتَبرَة والرباع المغلة ورتب لَهُم الجرايات الْعَظِيمَة حَتَّى بلغُوا من الثروة والعز والجاه مَا لم يبلغهُ أحد فِي دولته رحمه الله كَذَا فِي الْبُسْتَان
وَمن القواد الَّذين كَانُوا فِي حكم الاستبداد أَيَّام السُّلْطَان الْمولى عبد الله ثمَّ نكبهم ابْنه السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بعد حِين الْقَائِد أَبُو الْحسن الْحَاج عَليّ بن العروسي الدكالي البوزراري كَانَ قَائِد الْمولى المستضيء بعد أَيَّام ولَايَته وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد قبض عَلَيْهِ وأودعه المطبق عدَّة أَعْوَام ثمَّ سرحه وولاه مَدِينَة شفشاون وتوارث الرياسة بنوه من بعده وَلَهُم آثَار بثغر الجديدة مِنْهَا مَسْجِدهَا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ اسْم بانيه إِلَى الْآن وَمن القواد المستبدين قَائِد تامسنا الْمَدْعُو ولد المجاطية وقائد تادلا الرضي الورديغي فعزلهم السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد وَولى على تامسنا وتادلا الْقَائِد مُحَمَّد بن حدو الدكالي الْمُتَقَدّم الذّكر وَمِنْهُم أَبُو عريف قَائِد بني حسن فَعَزله السُّلْطَان وَولى مَكَانَهُ أَبَا عبد الله مُحَمَّد القسطالي وَمِنْهُم الباشا حبيب الْمَالِكِي قَائِد الغرب كَانَ رَأس الْأُمَرَاء أَيَّام أَبِيه فَقبض عَلَيْهِ وأودعه
المطبق وَأمر بهدم قصره وَحمل أنقاضه إِلَى العرائش وَنهب مَاله وماشيته وَلما طرح الباشا حبيب بالمطبق منع نَفسه من الطَّعَام وَالشرَاب إِلَى أَن مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة عياذا بِاللَّه فَهَؤُلَاءِ أَنْيَاب الْقَبَائِل وَأهل العصبية مِنْهُم تتبعهم السُّلْطَان وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى أَن أراح الدولة من ضررهم وَالله أعلم
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَبَين جنس الفرنسيس وَهِي عشرُون شرطا مضمنها ومرجعها إِلَى المهادنة وَالصُّلْح والمخالطة بِالْبيعِ وَالشِّرَاء مَعَ التوقير والاحترام من الْجَانِبَيْنِ وَإِذا سَافَرت مراكبهم من مراسيهم إِلَى إيالتنا فتصحب مَعهَا الورقة الْمُسَمَّاة بالباصبورط من عِنْد أَمِير الْبَحْر الْمُرَتّب بِكُل مرسى من مراسيهم فِيهَا اسْم الْمركب ورئيسه وَبَيَان مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الوسق وَمن أَيْن جَاءَ وَإِلَى أَيْن يذهب وَعَلِيهِ طَابع أَمِير الْبَحْر وَهُوَ طَابع الْجِنْس وَإِذا سَافَرت مراكبنا من مراسينا إِلَى إيالتهم فتصحب كَذَلِك خطّ يَد القنصل الْمُرَتّب بمرسانا من ذَلِك الْجِنْس باسم الْمركب ورئيسه وَمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ مَخْتُومًا عَلَيْهِ بِطَابع الْجِنْس أَيْضا وَكَانَ الْقيَاس أَن مراكبهم تحمل طابعنا وخطنا ليحصل لَهَا التوقير كَمَا نحمل نَحن طابعهم وخطهم ليحصل لنا التوقير مِنْهُم وَلَكِن لما لم تجر الْعَادة بترتب متأصلنا بمراسيهم اكْتفي بطابعهم من الْجَانِبَيْنِ إِذْ الْمَقْصُود حَاصِل بذلك وَلَا يلتبس على رُؤَسَاء الْبَحْر طَابع جنس بآخر فَإِذا التقى مركب بمركب وَأخرج كل ورقته عرف من أَي جنس هُوَ وعومل على مُقْتَضى ذَلِك
وُرُود هَدِيَّة السُّلْطَان مصطفى العثماني على السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمهمَا الله
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف بعث السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمه الله خديمه الرئيس عبد الْكَرِيم راغون التطاوني
البحرية وَصَارَ الْغَزْو فِي الْبَحْر يثير الْخُصُومَة والدفاع والتجادل والنزاع ويهيج الضغن بَين الدولة الْعلية ودول الْأَجْنَاس الموالية لَهَا حَتَّى كَاد عقد المهادنة ينفصم وأكد ذَلِك اتِّفَاق اسْتِيلَاء الفرنسيس على ثغر الجزائر وَهُوَ مَا هُوَ فَوَجَمَ السُّلْطَان رحمه الله وأعمل فكره ورويته فَظهر لَهُ التَّوَقُّف عَن أَمر الْبَحْر رعيا للْمصْلحَة الوقتية ولقلة الْمَنْفَعَة العائدة من غَزْو المراكب الإسلامية وانضم إِلَى ذَلِك إعلان الدول الْكِبَار من الفرنج مثل النجليز والفرنسيس بِأَن لَا تكون المراكب إِلَّا لمن يقوم بضبط قوانين الْبَحْر الَّتِي يَسْتَقِيم بهَا أمره وتحمد مَعهَا الْعَاقِبَة وتدوم بحفظها الْمَوَدَّة على مُقْتَضى الشُّرُوط وَمن مهمات ذَلِك تَرْتِيب القناصل بالمراسي الَّتِي تُرِيدُ الدولة دُخُول مراكبها إِلَيْهَا وتجارتها فِيهَا أَي دولة كَانَت وَمن هَذِه الْمُهِمَّات مَا قد لَا يساعد عَلَيْهِ الشَّرْع أَو الطَّبْع مثل الكرنتينات وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا إِلَى غير ذَلِك مِمَّا فِيهِ هوس كَبِير فَاشْتَدَّ عزم السُّلْطَان رحمه الله على ترك مَا يُفْضِي إِلَى ذَلِك وتأكد لَدَيْهِ إهماله لتوفر هَذِه الْأَسْبَاب ولعمري أَن تَركه لمصْلحَة كَبِيرَة لمن أمعن النّظر فِيهَا وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ وَأما فتْنَة النابريال هَذِه فَإِنَّهَا تفاصلت بِوَاسِطَة النجليز حَيْثُ وَجه باشدوره مَعَ باشدور النابريال فَقدما على السُّلْطَان رحمه الله مكناسة فِي شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف
اسْتِيلَاء الفرنسيس على ثغر الجزائر وَمَا ترَتّب على ذَلِك من دُخُول أهل تلمسان فِي بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رحمه الله
كَانَ اسْتِيلَاء طاغية الفرنسيس على ثغر الجزائر فِي آخر الْمحرم فاتح سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن أتراك الجزائر كَانُوا يَوْمئِذٍ مَعَ الفرنسيس على طرفِي نقيض قد تعدّدت بَينهم الوقعات برا وبحرا وَكَثُرت بَينهم الذحول والترات وَكَانَ التّرْك يؤذونهم أَشد الإذاية وأمير
الجزائر يَوْمئِذٍ واسْمه أَحْمد باشا قد أَمر أمره وَأَرَادَ الاستبداد على الدولة العثمانية وَرُبمَا شكا طاغية الفرنسيس إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود العثماني فَقَالَ لَهُ شَأْنك وإياه فهجم الفرنسيس فِي الْعدَد وَالْعدَد على ثغر الجزائر فاستولى عَلَيْهِ بعد مقاتلات ومجاولات فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم وَكَانَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن يَوْمئِذٍ بمراكش فاتصل بِهِ خبر الجزائر فِي أَوَائِل صفر فَنَهَضَ إِلَى مكناسة فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَلما وَقع بِأَهْل الجزائر مَا وَقع اجْتمع أهل تلمسان وتفاوضوا فِي شَأْنهمْ وَاتَّفَقُوا على أَن يدخلُوا فِي بيعَة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رحمه الله فجاؤوا إِلَى عَامله بوجدة الْقَائِد أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن حمان الْجَوَارِي وعرضوا عَلَيْهِ أَن يتوسط لَهُم عِنْد السُّلْطَان فِي قبُول بيعتهم وَالنَّظَر لَهُم بِمَا يصلح شَأْنهمْ ويحفظ من الْعَدو جانبهم ثمَّ عينوا جمَاعَة مِنْهُم للوفادة على السُّلْطَان تَأْكِيدًا للطلب واستعجالا لحُصُول هَذَا الأرب فقدموا على السُّلْطَان بمكناسة غرَّة ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة فَأكْرم السُّلْطَان وفادتهم وَأجل مقدمهم وَلما صَرَّحُوا لَهُ عَن مُرَادهم توقف فِي ذَلِك رحمه الله وَكَانَ هَوَاهُ إِلَى قبولهم أميل إِلَّا أَنه أَرَادَ أَن يَبْنِي ذَلِك على صَرِيح الشَّرْع كَمَا هِيَ عَادَته فاستفتى عُلَمَاء فاس فَأفْتى جلهم بنقيض الْمَقْصُود وَرخّص لَهُ بَعضهم فِي ذَلِك فَأخذ السُّلْطَان رحمه الله بقول المرخص مَعَ أَن أهل تلمسان لما بَلغهُمْ فَتْوَى أهل فاس كتبُوا إِلَى السُّلْطَان فِي الرَّد عَلَيْهِم مَا نَصه
ليعلم سيدنَا قطب الْمجد ومركزه وَمحل الْفَخر ومحرزه أساس الشّرف الباذخ ومنبعه وبساط الْفضل الشامخ ومجمعه السُّلْطَان الْأَعْظَم الأمجد الأفخم نجل الْمُلُوك الْعِظَام سيدنَا ومولانا عبد الرَّحْمَن بن هِشَام أبقى الله سيدنَا للْمُسلمين ذخْرا ومنحه مَوَدَّة وَأَجرا أَن فَتْوَى سَادَاتنَا عُلَمَاء فاس مَبْنِيَّة على غير أساس لأَنهم اعتقدوا أَن فِي عنقنا للْإِمَام العثماني بيعَة وَهَذَا لَو صَحَّ لَكَانَ علينا حجَّة وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك وَإِنَّمَا لَهُ مُجَرّد الِاسْم هُنَالك وعامل الجزائر إِنَّمَا كَانَ متغلبا وبالدين متلاعبا فَأَهْلَكَهُ الله بظلمه وتطاوله على عباد الله وجوره وفسقه إِن الله يُمْهل على الظَّالِم حَتَّى يَأْخُذهُ
فَإِذا أَخذه لم يفلته وَيدل على تغلبه واستقلاله عدم وُقُوفه عِنْد أَمر العثماني وامتثاله بل لَا يكترث بِهِ أصلا وَلَا يتبع لَهُ قولا وَلَا فعلا كَيفَ وَقد أمره أَن يعْقد مَعَ النَّصَارَى صلحا فَلم يقبل لَهُ قولا وَلَا نصحا وَطلب مِنْهُ بعض الْأَمْوَال ليستعين بهَا على مَا حل بِهِ مَعَ النَّصَارَى من الْأَهْوَال فَامْتنعَ غَايَة الِامْتِنَاع وَلم يُمكنهُ من شبر مِنْهَا فضلا عَن الباع حَتَّى أَخذهَا الْعَدو الْكَافِر وَهَذَا جَزَاء كل فَاسق فَاجر مَال جمع من حرَام سلط الله عَلَيْهِ الْأَعْدَاء اللئام وَهَذَا كُله من هَذَا المتغلب متواتر مشَاهد بالعيان مستغن عَن إِقَامَة الدَّلِيل والبرهان النَّاس كلهم عبيد الله وإماؤه وَالسُّلْطَان وَاحِد مِنْهُم ملكه الله أَمرهم ابتلاء وامتحانا فَإِن قَامَ فيهم بِالْعَدْلِ وَالرَّحْمَة والإنصاف وَالصَّلَاح مثل سيدنَا نَصره الله فَهُوَ خَليفَة الله فِي أرضه وظل الله على عبيده وَله الدرجَة عِنْد الله تَعَالَى وَإِن قَامَ فيهم بالجور والعسف والطغيان وَالْفساد مثل هَذَا المتغلب فَهُوَ متجاسر على الله فِي مَمْلَكَته ومتسلط ومتكبر فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق ومتعرض لعقوبة الله الشَّدِيدَة وَسخطه هَذَا وعَلى فرض تَسْلِيم أَن للعثماني فِي عنقنا بيعَة فَلَا تكون علينا حجَّة لِأَنَّهُ تبَاعد علينا قطره فَلم يغن عَنَّا شَيْئا ملكه لما بَيْننَا وَبَينه من المفاوز والقفار والبحار والقرى والمدن والأمصار وَرُبمَا قرب مَحَله من جِهَة الْبَحْر لَكِن مَنعه الْآن من ركُوبه الْكفَّار على أَنه ثَبت بتواتر الْأَخْبَار الْبَالِغَة حد الْكَثْرَة والانتشار أَنه مشتغل لنَفسِهِ ومقره عَاجز عَن الدّفع عَن إيالته الْقَرِيبَة من مَحَله حَتَّى أَنه هادن النَّصَارَى خمس سِنِين على عدد كثير من المئين وَأعْطى فِيهِ مِنْهُم ضَامِنا ليَكُون فِي الْمدَّة الْمَذْكُورَة على نَفسه وحشمه آمنا فَكيف يُمكنهُ مَعَ هَذَا الدفاع عَن قطرنا وناحيتنا وَبَلَدنَا وأدل دَلِيل على بعده عَن هَذَا المرام خبر مصر ونواحي الشَّام فقد استولى عَلَيْهَا أَعدَاء الدّين مُدَّة تزيد على الْخمس سِنِين فَلم يجد لَهُم نفعا وَلَا ملك عَنْهُم دفعا حَتَّى اسْتَعَانَ بالعدو الْكَافِر وَالله تَعَالَى قد يُؤَيّد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر هَذَا وَنَصّ الأبي فِي شرح مُسلم مفصح عَن مثل قَضِيَّتنَا ومعلم على أَن الإِمَام إِذا لم ينفذ فِي نَاحيَة أمره جَازَ إِقَامَة غَيره فِيهَا وَنَصره فانتظار نصرته يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاك كَيفَ وَقد تطاولت
إِلَيْهَا الْأَعْنَاق وتشوفت إِلَيْهَا من كل جَانب الْعُيُون والأحداق فأعرضنا عَن الْكل صفحا وطوينا عَنهُ الجوانب كشحا مُقْبِلين إِلَى عتبَة بَاب سيدنَا نَصره الله وسدته داخلين تَحت طَاعَته ملتزمين لخدمته متوافقين مَعَ الْقَبَائِل والأمصار وَأهل الرَّأْي والاستبصار لعلمنا أَن سيدنَا نَصره الله المتأهل فِي هَذَا الْأَمر العريق الجدير بِالْإِمَامَةِ الْحقيق كَيفَ وَقد ورثهَا كَابِرًا عَن كَابر وإليهم انْتَهَت المآثر والمفاخر فنطلب من سيدنَا نَصره الله أَن يلْتَزم لنا بفضله من هَذِه الْبيعَة الْقبُول مستشفعين بجاه جده الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الطيبين وصحابته المنتخبين وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين اه
وَلما وقف السُّلْطَان رحمه الله على هَذَا الْكَلَام قبل بيعتهم والتزمها وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِ عَمه الْمولى عَليّ بن سُلَيْمَان وأضاف إِلَيْهِ كَتِيبَة من الْجند من أَعْيَان الودايا وَالْعَبِيد وَوجه الْجَمِيع مَعَ أهل تلمسان بعد إكرامهم وَتَمام الْإِحْسَان إِلَيْهِم وَكتب إِلَى عَامله الْقَائِد إِدْرِيس يستوصيه بِالْجَمِيعِ خيرا وَيكون بَصِيرَة عَلَيْهِم وأشركه فِي النّظر والرأي مَعَ الْمولى عَليّ بل الِاعْتِمَاد فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ وَقد وقفت على كتاب الْوَزير أبي عبد الله بن إِدْرِيس بِخَط يَده للقائد الْمَذْكُور فِي هَذِه الْقَضِيَّة يَقُول فِيهِ مَا نَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله محبنا وخال سيدنَا الأرضى السَّيِّد إِدْرِيس بن حمان الجراري سَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته عَن خير سيدنَا أيده الله وَبعد فقد وصلنا كتابك صُحْبَة أَعْيَان تلمسان وقبائل أحوازها فوقفنا مَعَهم كل الْوُقُوف وبذلنا المجهود فَوق الطَّاقَة وقبلهم مَوْلَانَا وقابلهم بِالْإِحْسَانِ وَالْإِكْرَام كَمَا هُوَ شَأْنه ذَهَابًا وإيابا وهاهم وجههم مَوْلَانَا مكرمين وَرشح ابْن عَمه مولَايَ عليا للخلافة عَلَيْهِم لما يعلم من عقله ودرايته وسياسته وَأَنه ذُو نفس أبيَّة لكَون تِلْكَ النواحي لَا يصلح لَهَا إِلَّا من اتّصف بِهَذِهِ الْأَوْصَاف ليميزوا حَالَة السَّاعَة مَعَ مَا كَانُوا فِيهِ وكما رشح مَوْلَانَا ابْن عَمه الْمَذْكُور رشحك لتَكون وَاسِطَة بَينهم وَبَينه لكَون الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة مَوْجُودَة فِيك فَكُن عِنْد الظَّن بك وَإِيَّاك والطمع وازهدوا فِيمَا فِي أَيدي
النَّاس وكل مَا تحتاجون إِلَيْهِ مِمَّا لَا بُد مِنْهُ أخبرونا بِهِ يصلكم وَلَا تكتموا عَنَّا شَاذَّة وَلَا فاذة وَاعْلَم أَن مَوْلَانَا انتخبك من وسط أَبنَاء جنسك وقربك مِنْهُ وَلَا زلت لَدَيْهِ فِي الترقي فَالله الله فَكُن عِنْد الظَّن بك بَارك الله فِيك آمين وَقد أكْرم سيدنَا كل وَاحِد بِمَا يُنَاسِبه من الْكسْوَة وصنع لَهُم فِي كل بلد دَخَلُوهُ مهرجانا وأدخلهم سيدنَا لوسط دَاره وَجَمِيع جناته وأماكن المملكة الَّتِي لَا يدخلهَا إِلَّا الْخَاصَّة غَايَته أَنهم نالوا من الْعِنَايَة فَوق الظَّن ووقفنا مَعَهم فَوق مَا تحب وَفِيهِمْ الْكِفَايَة وَلم يبْق إِلَّا مَا عنْدك فَكُن عِنْد الظَّن بك فَإِن سيدنَا نَصره الله جرب غَيْرك وَطَرحه وَهَذَا معيارك نسْأَل الله أَن يكون معيار التبر الْخَالِص وَمَا وَعدك بِهِ سيدنَا سيرد عَلَيْك حِين تَسْتَقِر بِالْبَلَدِ وَيحسن تصرفك على عين الْحَاضِر والبادي وَفِي وَصِيَّة سيدنَا فِي كِتَابه الشريف مقنع وعَلى الْمحبَّة وَالسَّلَام فِي ثَالِث عشر ربيع الثَّانِي عَام سِتَّة وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف مُحَمَّد بن إِدْرِيس لطف الله بِهِ اه نَص الْكتاب بِحُرُوفِهِ
وَلما وصل الْمولى عَليّ إِلَى تلمسان وَجه السُّلْطَان فِي أَثَره خَمْسمِائَة فَارس وَمِائَة رام وَجَمَاعَة وافرة من حذاق الطبجية من أهل سلا ورباط الْفَتْح فيهم ولد عَامل سلا مُحَمَّد ابْن الْحَاج مُحَمَّد أبي جميعة وَكَانَ من النجباء ثمَّ لما دخل الْمولى عَليّ تلمسان وَاسْتقر بهَا فَرح بِهِ الْحَضَر من أهل تلمسان واغتبطوا بِهِ وقدمت عَلَيْهِ الْوُفُود من كل نَاحيَة وَأخذ عَلَيْهِم الْبيعَة للسُّلْطَان هُوَ والقائد إِدْرِيس وانحرف عَنهُ الكرغلية من التّرْك الَّذين كَانُوا إدالة بقصبة تلمسان من لدن قديم وحاصرهم الْمولى عَليّ وَقَاتلهمْ مُدَّة إِلَى أَن ظفر بهم وَاسْتولى على مَا فِي أَيْديهم وانحرف عَنهُ أَيْضا قبيلتا الدَّوَائِر والزمالة من عرب تِلْكَ النَّاحِيَة وَيُقَال إِن أصلهم من جند كَانَ للْمولى إِسْمَاعِيل رحمه الله بَعثه إدالة بِتِلْكَ النَّاحِيَة واستمروا هُنَالك وتناسلوا إِلَى هَذَا التَّارِيخ فأظفر الله الْمولى عليا بهم وانتهب الْجَيْش مَتَاعهمْ ومتاع الكرغلية من قبلهم وَنَشَأ عَن ذَلِك من الْفساد مَا نذكرهُ بعد هَذَا إِن شَاءَ الله
وَفِي أَوَائِل رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة خرج الْقَائِد إِدْرِيس من تلمسان فِي جمَاعَة من الْجَيْش الَّذين مَعَه بِقصد تدويخ الْقَبَائِل الَّذين هُنَالك وَأخذ الْبيعَة على من لم يكن بَايع مِنْهُم وَكَانَ الَّذين بَايعُوا هم أهل معسكر والحشم والمشاشيل مِنْهُم وَبَنُو شقران والمرابطون أهل غريس وورغية وتحليت وحميان وَغير هَؤُلَاءِ وَنَصّ بيعتهم الْحَمد لله الَّذِي أنار الْخلَافَة وَجه الزَّمَان وأطلع فِي صحيفَة غرته طوالع السعد واليمن والأمان وَهدى من ارْتَضَاهُ من الْأَنَام للدخول تَحت ظلّ راية مَوْلَانَا الإِمَام وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد الْمَبْعُوث رَحْمَة للْعَالمين وعَلى آله وَصَحبه الطيبين وَبعد فَلَمَّا وَفد على حَضْرَة مَوْلَانَا الْخَلِيفَة أبي الْحسن عَليّ ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا سُلَيْمَان أَعلَى الله ثراه فِي عليين جَمِيع الْقَبَائِل المسطرة يمنته وَقَرَأَ عَلَيْهِم كتاب مَوْلَانَا الْمَنْصُور ذِي اللِّوَاء المنشور وَالسيف الْمَشْهُور أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا عبد الرَّحْمَن ابْن مَوْلَانَا هِشَام أدام الله رعيه وَجعل فِيمَا يرضيه سَعْيه بِمحضر خَلِيفَته الطَّالِب الأرشد الْمَاجِد الأسعد الْقَائِد السَّيِّد إِدْرِيس الْجَوَارِي وتلقوه بالإجلال والتعظيم والتبجيل والتكريم أشهدوا على أنفسهم أَنهم عقدوا الْبيعَة لمولانا الإِمَام أيده الله وأدام عزه وعلاه والتزموها بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَفِي جيدهم انتظموها بيعَة تَامَّة مستوفية الشُّرُوط وافية العهود وَثِيقَة الربوط قبلهَا الْكل وارتضاها وَأوجب الْعَمَل بمقتضاها فَمن سمع مَا ذكر مِمَّن ذكر قَيده فِي مهل جُمَادَى الثَّانِيَة عَام سِتَّة وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَبعده عَلامَة العدلين المتلقيين من رُؤَسَاء الْقَبَائِل الْمَذْكُورَة فهولاء الَّذين بَايعُوا وَمن لم يكن بَايع بعد فهم الَّذين خرج الْقَائِد إِدْرِيس الْمَذْكُور لأخذ الْبيعَة عَلَيْهِم كَمَا قُلْنَا
وَالْحَاصِل أَن السُّلْطَان رحمه الله كَانَ قد اعتنى بِأَمْر هَذِه النَّاحِيَة غَايَة الاعتناء وبذل المجهود فِي إمدادها بِالْعدَدِ وَالْعدَد وَالْمَال مرّة بعد أُخْرَى وَبعث الشريف الْبركَة سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني إِلَى أهل تِلْكَ الْبِلَاد يَدعُوهُم إِلَى الطَّاعَة ويحضهم على الدُّخُول فِي أَمر الْجَمَاعَة لكَوْنهم كَانَ لَهُم فِيهِ وَفِي سلفه اعْتِقَاد كَبِير وَبعث الشريف الْأَخير أَبَا مُحَمَّد عبد