الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعملها فَأَعْجَبتهُ وَكَانَت تحمل على أحد عشر بغلا وَلما امْتنعت تلمسان عَلَيْهِ أفرج عَنْهَا فاتح سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة وَمر فِي عوده إِلَى الْمغرب بوجدة فَأنْزل بهَا الحامية من بني عَسْكَر بن مُحَمَّد لنظر أَخِيه الْأَمِير أبي بكر بن يَعْقُوب كَمَا كَانُوا بتاوريرت وَأمرهمْ بشن الغارات على أَعمال تلمسان مَعَ السَّاعَات والأحيان فَفَعَلُوا وَاسْتولى الْأَمِير أَبُو بكر بذلك على أَكثر تِلْكَ الْجِهَات وَالله تَعَالَى أعلم
فتكة ابْن الملياني بشيوخ المصامدة وتزويره الْكتاب بهم وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد تقدم لنا عِنْد الْكَلَام على فتح جبل تنيملل أَن أَبَا عَليّ الملياني كَانَ قد سعى فِي نبش قُبُور بني عبد الْمُؤمن والعبث بأشلائهم وَأَن النَّاس قد غاظهم ذَلِك لَا سِيمَا المصامدة مِنْهُم وَلما هلك السُّلْطَان يَعْقُوب وَولي بعده ابْنه يُوسُف اسْتعْمل أَبَا عَليّ الملياني على جباية المصامدة فباشرها مُدَّة ثمَّ سعى بِهِ شُيُوخ المصامدة عِنْد السُّلْطَان بِأَنَّهُ احتجن المَال لنَفسِهِ فَأمر السُّلْطَان بمحاسبته فحوسب وَظَهَرت مخايل صدقهم عَلَيْهِ فنكبه السُّلْطَان يُوسُف أَولا ثمَّ قَتله ثَانِيًا واصطنع ابْن أَخِيه أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ الملياني وَاسْتَعْملهُ فِي كِتَابَته وأقامه بِبَابِهِ فِي جملَة كِتَابه وَكَانَ السُّلْطَان يُوسُف قد سخط على بعض شُيُوخ المصامدة مِنْهُم عَليّ بن مُحَمَّد كَبِير هنتانة وَعبد الْكَرِيم بن عِيسَى كَبِير قدميوة وأوعز إِلَى ابْنه الْأَمِير عَليّ بن يُوسُف بمراكش باعتقالهما فاعتقلهما فِيمَن لَهما من الْوَلَد والحاشية وأحس بذلك أَحْمد بن الملياني فاستعجل الثأر الَّذِي كَانَ يعتده عَلَيْهِم فِي عَمه أبي عَليّ
وَكَانَت الْعَلامَة السُّلْطَانِيَّة يَوْمئِذٍ موكولة إِلَى كتاب الدولة لم تخْتَص بِوَاحِد مِنْهُم لما كَانُوا كلهم ثِقَات أُمَنَاء وَكَانُوا عِنْد السُّلْطَان كأسنان الْمشْط فَكتب أَحْمد بن الملياني إِلَى الْأَمِير أبي عَليّ كتابا على لِسَان وَالِده يَأْمُرهُ فِيهِ أمرا جزما
بقتل مشيخة المصامدة وَلَا يمهلهم طرفَة عين وَوضع عَلَيْهِ الْعَلامَة الَّتِي تنفذ بهَا الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة وَختم الْكتاب وَبعث بِهِ مَعَ الْبَرِيد قَالَ ابْن الْخَطِيب وَلما أكد على حامله فِي الْعجل وضايقه فِي تَقْدِير الْأَجَل تأنى حَتَّى إِذا علم أَنه قد وصل وَأَن غَرَضه قد حصل فر الى تلمسان وَهِي بِحَال حصارها فاتصل بأنصارها حَالا بَين أنوفها وأبصارها وتعجب النَّاس من فراره وَسُوء اغتراره ورجمت الظنون فِي آثاره ثمَّ وصلت الْأَخْبَار بِتمَام الْحِيلَة واستيلاء الْقَتْل على أَعْلَام تِلْكَ الْقَبِيلَة فَتَركهَا شنعاء على الْأَيَّام وعارا فِي الأقاليم على حَملَة الأقلام اه وَلما وصل الْكتاب إِلَى ولد السُّلْطَان أخرج أُولَئِكَ الرَّهْط المعتقلين إِلَى مصَارِعهمْ وَحكم السَّيْف فِي رِقَاب جَمِيعهم فَقتل عَليّ بن مُحَمَّد الهنتاني وَولده وَعبد الْكَرِيم بن عِيسَى القدميوي وَبَنوهُ الثَّلَاثَة عِيسَى وَعلي مَنْصُور وَابْن أَخِيه عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد وطير الْأَمِير عَليّ بالأعلام إِلَى وَالِده مَعَ بعض وزرائه وَهُوَ يرى أَنه قد امتثل الْأَمر واستوجب الشُّكْر
فَلَمَّا وصل الرَّسُول بالْخبر إِلَى السُّلْطَان يُوسُف بَطش بِهِ فَقتله غيظا عَلَيْهِ وأنفذ الْبَرِيد فِي الْحَال باعتقال وَلَده وَقَامَ وَقعد لذك وَمن ذَلِك الْوَقْت قصر السُّلْطَان علامته على من يختاره من ثِقَات الْكتاب وعدولهم وَجعلهَا يَوْمئِذٍ للفقيه الْكَاتِب أبي مُحَمَّد عبد الله بن أبي مَدين وَكَانَ من الكفاة المضطلعين بِأُمُور الدولة المتحملين للكثير من أعبائها وَأما ابْن الملياني فَإِنَّهُ فر إِلَى تلمسان وَالسُّلْطَان يُوسُف محاصر لَهَا وَلما وَقع الإفراج عَنْهَا بعد حِين انْتقل إِلَى الأندلس فَبَقيَ هُنَالك إِلَى أَن توفّي بغرناطة سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة وَمن شعره يفخر بِهَذِهِ الفعلة وَغَيرهَا قَوْله
(الْعِزّ مَا ضربت عَلَيْهِ قبابي
…
وَالْفضل مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ ثِيَابِي)
(والزهر مَا أهداه غُصْن يراعتي
…
والمسك مَا أبداه نقس كتابي)
فالمجد يمْنَع أَن يزاحم موردي
…
والعزم يَأْبَى أَن يضام جنابي)
(فَإِذا بلوت صَنِيعَة جَازَيْتهَا
…
بجميل شكري أَو جزيل ثوابي)
(وَإِذا عقدت مَوَدَّة أجريتها
…
مجْرى طَعَامي من دمي وشرابي)
(وَإِذا طلبت من الفراقد والسهى
…
ثارا فَأوشك أَن أنال طلابي)
الْحصار الطَّوِيل وَمَا تخَلّل ذَلِك من الْأَحْدَاث على تلمسان
تقدم لنا أَن السُّلْطَان يُوسُف لما رَجَعَ من محاصرة تلمسان فاتح سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة مر فِي طَرِيقه بوجدة فَأنْزل بهَا الحامية من بني عَسْكَر إِلَى نظر أَخِيه الْأَمِير أبي بكر وَأمره بشن الغارات على أَعمال بني زيان فامتثل الْأَمِير أَبُو بكر أمره وألح على النواحي بالغارات وإفساد السابلة فَضَاقَ أهل ندرومة بذلك ذرعا وأوفدوا وَفْدًا مِنْهُم على الْأَمِير أبي بكر يسألونه الْأمان لَهُم وَلمن وَرَاءَهُمْ من قَومهمْ على أَن يمكنوه من قياد بلدهم ويدينوا بِطَاعَة السُّلْطَان يُوسُف فبذل لَهُم من ذَلِك مَا ارضاهم ونهض الى الْبَلَد فدخله بعسكره وتبعهم على ذَلِك أهل تاونت فأوفد الْأَمِير أَبُو بكر جمَاعَة من أهل البلدين على أَخِيه السُّلْطَان يُوسُف فقدموا عَلَيْهِ منتصف رَجَب من سنة ثَمَان وَتِسْعين الْمَذْكُورَة فادوا طاعتهم فقبلها وَرَغبُوا إِلَيْهِ فِي الْحَرَكَة إِلَى بِلَادهمْ ليريحهم من ملكة عدوه وعدوهم عُثْمَان بن يغمراسن ووصفوا لَهُ من عسفه وجورة وَضَعفه عَن الحماية مَا أكد عزمه على النهوض فَنَهَضَ لحينه من فاس فِي رَجَب الْمَذْكُور بعد أَن اسْتكْمل حشده ونادى فِي قومه وَعرض عسكره وأجزل أعطياتهم وأزاح عللهم وَسَار فِي التعبية حَتَّى نزل بِسَاحَة تلمسان ثَانِي شعْبَان سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة فَأَنَاخَ عَلَيْهَا بككله وربض قبالتها على ترائبه وَأنزل محلته بفنائها وأحاط بِجَمِيعِ جهاتها وتحصن يغمراسن وَقَومه بالجدران وعولوا على الْحصار
وَلما رأى السُّلْطَان يُوسُف ذَلِك أدَار سورا عَظِيما جعله سياجا على تلمسان وَمَا اتَّصل بهَا من الْعمرَان وصيرها فِي وَسطه ثمَّ أرْدف ذَلِك السُّور من وَرَائه بحفير بعيد المهوى وَفتح فِيهِ مدَاخِل لحربها ورتب على ابواب تِلْكَ المداخل مسالح تحرسه وأوعد بالعقاب من يخْتَلف إِلَى تلمسان بِرِفْق أَو يتسلل إِلَيْهَا بقوت وَأخذ بمخنقها من بَين يَديهَا وَمن خلفهَا حَتَّى لم يخلص
الْمُدبر الْقَدِير جَاعل الْمُلُوك كفا للأكف العادية وولايتهم مرتعا للعباد فِي ظلّ الْأَمْن والعافية وبيعتهم أمنا من الْهَرج وَالْفساد وقمعا لأهل الشَّرّ والعناد فهم ظلّ الله على الْأَنَام وحصن حُصَيْن للخاص وَالْعَام حَسْبَمَا أفْصح بذلك سيد الْأَنَام عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وأزكى السَّلَام فَتَبَارَكَ الله رَبنَا الَّذِي شرف هَذَا الْوُجُود وزين هَذَا الْعَالم الْمَوْجُود بِهَذِهِ الْخلَافَة الْمُبَارَكَة والإمامة الحسنية الهاشمية العلوية والطلعة القرشية المحمدية الَّتِي انصرفت الْوُجُوه إِلَى قبلتها الْمَشْرُوعَة واستبان الْحق عِنْد مبايعتها والانقياد لدعوتها المسموعة نحمده تَعَالَى على مَا من بِهِ علينا من هَؤُلَاءِ الْإِمَامَة السعيدة ونشكره جل جلاله شكرا نستوجب بِهِ من الهنا أفضاله ومزيده ونشهد أَنه الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَحده لَا شريك لَهُ لَيْسَ فِي الْوُجُود إِلَّا فعله أجْرى الأقدار على حسب مَا افتضاه حكمه وعدله ونشهد أَن سيدنَا وَنَبِينَا ومولانا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله ومصطفاه من خلقه وخليله سيد الْمَخْلُوقَات كلهَا من إنس وجان الْمُصَفّى من ذؤابة معد بن عدنان صَاحب الشَّرِيعَة المطهرة الَّتِي لَا يخْتَلف فِي فَضلهَا اثْنَان وَالدّين القويم الَّذِي هُوَ أفضل الْأَدْيَان الَّذِي اختصه الله مَا بَين الْأَنْبِيَاء بمزية التَّفْضِيل والتقديم وافترض على أمته الغراء فَرِيضَة الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم وَأثْنى عَلَيْهِ فِي كِتَابه الْحَكِيم فَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ وتقدست صِفَاته وأسماؤه {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} الْقَلَم 4 صلى الله عَلَيْهِ صَلَاة مُتَّصِلَة الدَّوَام متعاقبة بتعاقب اللَّيَالِي وَالْأَيَّام وعَلى آله الْكِرَام الْأَطْهَار وصحابته النجباء البررة الأخيار الَّذين أوضحُوا لنا الْحق تبيانا وأسسوا لهَذِهِ الْملَّة السمحة قَوَاعِد وأركانا وعَلى من اقتفى أَثَرهم القويم واهتدى بهديهم الْمُسْتَقيم إِلَى يَوْم الدّين أما بعد فَإِن الله تَعَالَى جعل صَلَاح هَذَا الْعَالم وأقطاره المعمورة ببني آدم مَنُوطًا بالأئمة الْأَعْلَام محوطا بالملوك الَّذين هم ظلّ الله على الْأَنَام فطاعتهم مَا داموا على الْحق وَاتَّقوا الله سَعَادَة والاعتصام بحبلهم إِذْ ذَاك وَاجِب وَعبادَة قَالَ عز من قَائِل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ل}
أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن) النِّسَاء 59 وَقَالَ عليه السلام إِن أَمر عَلَيْكُم عبد مجدع أسود يقودكم بِكِتَاب الله فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطيعُوا وَقَالَ عليه السلام على الْمَرْء الْمُسلم السّمع وَالطَّاعَة فِيمَا أحب وَكره إِلَّا أَن يُؤمر بِمَعْصِيَة فَلَا سمع وَلَا طَاعَة وَقَالَ عليه السلام من خرج عَن الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة فَمَاتَ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة وَمن قَاتل تَحت راية عمية يغْضب لعصبية أَو يَدْعُو إِلَى عصبية أَو ينصر عصبية فَقتل فَقتلته جَاهِلِيَّة وَمن خرج على أمتِي يضْرب برهَا وفاجرها وَلَا يتحاشى مؤمنها وَلَا يَفِي لذِي عهدها فَلَيْسَ مني وَلست مِنْهُ أخرجهَا مُسلم كلهَا وَقَالَ عليه السلام السُّلْطَان ظلّ الله فِي الأَرْض يأوي إِلَيْهِ الضَّعِيف وَبِه ينتصر الْمَظْلُوم وَمن أكْرم سُلْطَان الله فِي الدُّنْيَا أكْرمه الله يَوْم الْقِيَامَة أَو كَمَا قَالَ وَقَالَ عليه السلام السُّلْطَان الْعدْل المتواضع ظلّ الله وَرمحه فِي الأَرْض يرفع الله لَهُ عمل سبعين صديقا وَلما كَانَ أهل بَيت سيد الْمُرْسلين أعظم قُرَيْش فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ وَأكْرمهمْ منزلَة عِنْد رب الْعَالمين أنالهم الله تَعَالَى فِي خلقه فضلا كَبِيرا ومنحهم إجلالا ورفعة وتعظيما وتكبيرا قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} الْأَحْزَاب 33 وَقَالَ عليه الصلاة والسلام النُّجُوم أَمَان لأهل السَّمَاء وَأهل بَيْتِي أَمَان لأمتي وَإِن مِمَّن امتن الله بِهِ علينا من أهل هَذَا الْبَيْت الشريف الَّذِي أولاه الله أشرف التَّعْظِيم وَأعظم التشريف وَقدمه تَعَالَى لسلطانه الْعَزِيز وَرَفعه جلّ وَعلا على منصة التبريز عميد الْمجد الَّذِي لَا يتناهى فخره ووحيد الْحسب جلّ منصبه وَقدره الإِمَام الَّذِي أَلْقَت لَهُ الْإِمَامَة زمامها وقدمته الأفاضل لفضله إمامها من جَاءَت لَهُ الْخلَافَة تجر أذيالها وَأَخذهَا دون بني أَبِيه وَلم تَكُ تصلح إِلَّا لَهُ وَلم يَك يصلح إِلَّا لَهَا وَمن جبلت قُلُوب الْخَلَائق على محبته وَألقى لَهُ الْقبُول فِي الأَرْض لمجده ولعلو همته السُّلْطَان السعيد الواثق بربه الْمعِين الرشيد أَبَا المكارم والمفاخر سيدنَا ومولانا يزِيد ابْن مَوْلَانَا الإِمَام السُّلْطَان
الْهمام المرحوم بِاللَّه سَيِّدي مُحَمَّد ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ سيدنَا ومولانا عبد الله ابْن السُّلْطَان الْجَلِيل أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا إِسْمَاعِيل ابْن موالينا السَّادة الْأَشْرَاف ذَوي الْفضل وَالْكَرم والإنصاف قدس الله أَرْوَاحهم فِي أَعلَى الْجنان ومنحهم بفضله الرِّضَا والرضوان أيد الله بِبَقَائِهِ الدّين وطوق بِسَيْفِهِ الْمُلْحِدِينَ وَكتب تَحت لوائه الْمُعْتَدِينَ وَكتب لَهُ النَّصْر إِلَى يَوْم الدّين وأعاذ بِهِ الأَرْض من لايدين بدين وَأعَاد بعدله أَيَّام آبَائِهِ الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وأسكن فِي الْقُلُوب سكينته ووقاره وَمكن لَهُ فِي الْوُجُود وَجمع لَهُ أقطاره هُوَ وَالله مِمَّن فِيهِ اسْتِحْقَاق مِيرَاث آبَائِهِ الْأَعْلَام وتراث أجداده الْكِرَام الْمجمع عَلَيْهِ أَنه فِي هَذِه الْأَيَّام فَرد هُوَ الأنان وَوَاحِد وَهَكَذَا فِي الْوُجُود الإِمَام الراقي فِي صبح سَمَاء هَذِه الذرْوَة المنيفة الْبَاقِي بعد الْأَئِمَّة الماضين نعم الإِمَام وَنعم الْخَلِيفَة سلالة الأخيار وخلاصة أَبنَاء النَّبِي الْمُخْتَار أسمى الله إيالته الشَّرِيفَة وأنار البسيطة بأنوار مَمْلَكَته الشامخة المنيفة انْعَقَد الْإِجْمَاع من أهل هَذِه الحضرة المراكشية حاطها الله وَمَا حولهَا من أهل السوس وكافة الرحامنة وَغَيرهم من قبائل عديدة حَسْبَمَا تضمنته أَسمَاء من يكْتب اسْمه مِنْهُم عقبه بِخَط من يكْتب مِنْهُم أَو خطوط الْعُدُول الثِّقَات عَمَّن لم يكن يحسن الْكِتَابَة وأذنوا لمن يكْتب عَنْهُم بيعَة تمّ بِمَشِيئَة الله تَمامهَا وَعم بالصوب المغدق غمامها سعيدة مَيْمُونَة شريفة لَهَا السَّلامَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا مَضْمُونَة صَحِيحَة شَرْعِيَّة ملحوظة مرعية دائبة دائمة لَازِمَة جازمة صَحِيحَة صَرِيحَة متعبة مريحة على الْأَمْن وَالْأَمَانَة والعفاف والديانة وعَلى مَا بُويِعَ بِهِ مَوْلَانَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاء الراشدون من بعده وَالْأَئِمَّة المهتدون الموفون بعهده وعَلى السّمع وَالطَّاعَة وملازمة السّنة وَالْجَمَاعَة قرت بهَا نواظرهم وَشهِدت بذلك على صفاء بواطنهم ظواهرهم وأعطوا بهَا صَفْقَة أَيْديهم وأمضوها إِمْضَاء يدينون بِهِ فِي السِّرّ والجهر والمنشط وَالْمكْره واليسر والعسكر أجمع عَلَيْهَا أَرْبَاب العقد
الأحيان إِلَى فاس إِلَى أَن دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَمَرض مرض مَوته وَقد كَانَ ابْتَدَأَ بِهِ وَهُوَ منَازِل لزمور فَنَهَضَ عَنْهَا إِلَى مكناسة وَتَمَادَى بِهِ مَرضه إِلَى أَن توفّي يَوْم الِاثْنَيْنِ التَّاسِع وَالْعِشْرين من محرم فاتح سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَدفن بَين العشاءين أول لَيْلَة من صفر بضريح السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى إِسْمَاعِيل رحم الله الْجَمِيع بمنه وَقد كنت رثيته بقصيدة شذت عني الْآن وأولها
(أَمن طيف ذَات الْخَال قَلْبك هائم
…
ودمعك هام واكتئابك دَائِم)
(وَهل أذكرتك النائبات عشائرا
…
عفت مِنْهُم بعد الْمَعَالِي معالم)
ورثاه الْفَقِيه أَبُو عبد الله أكنسوس بقوله
(هذي الْحَيَاة شَبيهَة الأحلام
…
مَا النَّاس إِن حققت غير نيام)
(حسب الْفَتى إِن كَانَ يعقل أَن يرى
…
مِنْهُ لآدام رُؤْيَة استعلام)
(فَيرى بداية كل حَيّ تَنْتَهِي
…
أبدا وَإِن طَال المدا لتَمام)
(وَالنَّفس من حجب الْهوى فِي غَفلَة
…
عَمَّا يُرَاد بهَا من الْأَحْكَام)
(أوليس يَكْفِي مَا يرى متعاقبا
…
بَين الورى من سطوة الْأَيَّام)
(من لم يصب فِي نَفسه فمصابه
…
بحبيبه حكما على إِلْزَام)
(بعد الشبيبة شيبَة يخْشَى لَهَا
…
ذُو صِحَة أَن يبتلى بسقام)
(دَار أُرِيد بهَا العبور لغَيْرهَا
…
ويظنها الْمَغْرُور دَار مقَام)
(منع الْبَقَاء بهَا تخَالف حَالهَا
…
وتكرر الْإِشْرَاق والإظلام)
(لَو كَانَ ينجو من رداها مَالك
…
فِي كَثْرَة الْأَنْصَار والخدام)
(لنجا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمن غَدا
…
أَعلَى مُلُوك الأَرْض نجل هِشَام)
(خير السلاطين الَّذين تقدمُوا
…
فِي الغرب أوفي الشرق أَو فِي الشَّام)
(سر الْإِلَه وَرَحْمَة منشورة
…
كَانَت سرادق مِلَّة الْإِسْلَام)
(قصدته عَادِية الْحمام فَمَا عدت
…
إِن هددت علما من الْأَعْلَام)
(لم تحجب الْحجاب مِنْهَا طَارِقًا
…
كلا وَلَا دفعت يَد الأقوام)
(وَالْملك فِي عز مهيب شامخ
…
وإمامه فِي جرْأَة الضرغام)
(عجبا لَهَا لم تخش من فتكاته
…
والأسد تزأر حوله وتحامي)
(عجبا لَهَا لم تستح من وَجهه
…
وَالْوَجْه أبهج من بدور تَمام)
(عجبا لَهَا لم ترع طول قِيَامه
…
متهجدا لله خير قيام)
(تَبًّا لَهَا لم تدر من فجعت بِهِ
…
من مُعتق وأرامل الْأَيْتَام)
(أسفا على ذَات الْجلَال وَأَنه
…
لأجل من أَسف وفرط هيام)
(يَا مَالِكًا كَانَت لنا أَيَّامه
…
ظلا ظليلا دَائِم الإنعام)
(لَا ضير أَنَّك قد رحلت ميمما
…
دَار الهناء وجنة الْإِكْرَام)
(فِي حَضْرَة تَغْدُو عَلَيْك بشائر
…
من حورها بِتَحِيَّة وَسَلام)
(ضاجعت فِي تِلْكَ الْقُصُور كواعبا
…
درية الألوان والأجسام)
(تسقيك صرف السلسبيل مروقا
…
وتدير كأسا من مدام مدام)
(فلك الرضى فانعم بِمَا أَعْطيته
…
وَلَك الهناء بنيل كل مرام)
بَقِيَّة أَخْبَار أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى عبد الرَّحْمَن وَسيرَته ومآثره
يَكْفِيك أَيهَا الْوَاقِف على أَخْبَار هَذَا الإِمَام الْجَلِيل السّري النَّبِيل من مناقبه خصلتان إِحْدَاهمَا شَهَادَة عَمه السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان لَهُ بالتقوى وَالْعَدَالَة والمحافظة على خِصَال الْخَيْر ونوافله حَتَّى قدمه على بنيه حَسْبَمَا مر ذَلِك كُله مُسْتَوفى وَالثَّانيَِة إِقَامَته صلب هَذِه الدولة الشَّرِيفَة بعد إشرافها على الاختلال وردهَا إِلَى شبابها بعد أَن حَان مِنْهَا الزَّوَال والارتحال كَمَا رَأَيْته أَيْضا فعلى التَّحْقِيق أَن الْمولى عبد الرَّحْمَن رحمه الله هُوَ الْمولى إِسْمَاعِيل الثَّانِي وَأما حزمه وَضَبطه وَكَمَال عقله وتأنيه فِي الْأُمُور وَوَضعه الْأَشْيَاء موَاضعهَا وتبصره فِي مبادئها وعواقبها وإجراؤها على قوانينها فَمَا أَظُنك تجْهَل مِنْهُ شَيْئا بعد أَن قَصَصنَا عَلَيْك مَا مضى من أخباره رحمه الله وَقد رَأَيْت كَيفَ نزلت بِهِ النَّوَازِل وترادفت عَلَيْهِ الهزاهز من غير معِين يذكر أَو وَزِير يعْتَبر إِلَّا فِي الْقَلِيل النَّادِر فَقَامَ رحمه الله بأعباء ذَلِك كُله وعالج حلوه ومره حَتَّى رد النّصاب الملكي
إِلَى أَصله وَأحل عزه فِي مَحَله وَأما ورعه وَصَبره وحياؤه وتوقفه فِي الدِّمَاء توقفا تَاما إِلَّا إِذا حصحص الْحق وَصرح الشَّرْع فَكل ذَلِك أَمر مَعْلُوم يُعلمهُ الْخُصُوص والعموم وَأما آثاره بالمغرب فشيء كثير من ذَلِك مَا افْتتح بِهِ ولَايَته من بِنَاء مَا تهدم من مرسى طنجة وصير عَلَيْهِ مَالا عَظِيما حَتَّى أَعَادَهُ أحسن وَأحْصن مِمَّا كَانَ وَمن ذَلِك تَجْدِيد الْحرم الإدريسي بفاس وَبِنَاء مَسْجده وتوسعته وتنميقه حَسْبَمَا مر وَمن ذَلِك البرجان العظيمان بسلا وأشبار الْكَبِير المواجه للبحر مِنْهَا والمارستان الْكَبِير بضريح الشَّيْخ ابْن عَاشر والمنار الشهير بِالْمَسْجِدِ الْأَعْظَم مِنْهَا وخزين البارود بالقليعة وَغير ذَلِك وأشبار الْكَبِير برباط الْفَتْح وَبنى بأعمالها لحفظها وتأمين طرقها قصبتين كبيرتين إِحْدَاهمَا الصخيرات وَالْأُخْرَى قَصَبَة أبي زنيقة فأمن النَّاس بهما وارتفقوا بالتردد إِلَيْهِمَا وجدد مَا تهدم من أبراج الصويرة واعتنى بهَا وصير عَلَيْهَا أَمْوَالًا ثقالا فَجَاءَت فِي غَايَة الإتقان والحصانة وَمن آثاره بمراكش آجدال الشهير وتجديد جَامع الْمَنْصُور بالقصبة بعد أَن لم يبْق مِنْهُ إِلَّا الِاسْم فَأَعَادَهُ إِلَى حَالَته الأولى على ضخامته وانفساحه وعلو بنائِهِ وتجديد جَامع الكتبيين مرَّتَيْنِ وَإِصْلَاح قبَّة الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السبتي رضي الله عنه وَالزِّيَادَة فِي جَامع الشَّيْخ أبي إِسْحَاق البلفيقي بسوق الدقاقين مِنْهَا وَهدم جَامع الْوُسْطَى وإعادته على شكل بديع وهيئة حَسَنَة وَبِنَاء جَامع أبي حسون وَإِقَامَة الْجُمُعَة بِهِ كَمَا كَانَت أَولا وَبِنَاء جَامع القنارية وَالزِّيَادَة فِيهِ وَمن آثاره بِحَضْرَة فاس الْعليا تَجْدِيد بُسْتَان آمِنَة المرينية
قَالَ أكنسوس وَكَانَ هَذَا الْبُسْتَان خرابا تألفه الوحوش مَعَ أَنه بِبَاب دَار السُّلْطَان وَفِي سرة الحضرة وَقد كَانَ فِي الدول المرينية على هَيْئَة بهية فِيهِ ظَهرت زِينَة تِلْكَ الدولة وضخامتها وَفِيه مَقَاعِدهمْ ومنازلهم الْعَالِيَة ومجالسهم المشرفة على بساتين المستقى إِلَى أَن قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَت تِلْكَ الْعَرَصَة منية من زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا وجنة حائزة من الْبَهْجَة الْمرتبَة الْعليا ثمَّ أخنت عَلَيْهَا الْأَيَّام بصروفها ومحت من تِلْكَ الرسوم جَمِيع حروفها فرآها