الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَسَبْعمائة فَاجْتمع شَمله واستتب أمره وَكتب إِلَى صَاحب مصر فِي التقبض على ابْن تافراجين فأجاره بعض الْأُمَرَاء وَانْصَرف لقَضَاء فَرِيضَة الْحَج واعتمل السُّلْطَان أَبُو الْحسن فِي إصْلَاح أسوار تونس وإدارة الخَنْدَق عَلَيْهَا وَأقَام لَهَا من الصيانة والحصانة رسما دفع بِهِ فِي نحر عدوه وَبَقِي لَهُ ذكره من بعده ثمَّ أجلب الْعَرَب وسلطانهم ابْن أبي دبوس على تونس ونازلوا أَبَا الْحسن بهَا واستبلغوا فِي حصاره وخلصت ولَايَة أَوْلَاد مهلهل للسُّلْطَان فعول عَلَيْهِم ثمَّ رَاجع بَنو حَمْزَة بصائرهم وصاروا إِلَى مهادنته فعقد لَهُم السّلم وَدخل عَلَيْهِ عمر بن حَمْزَة وافدا فحبسه حَتَّى قبض إخوانه على أَمِيرهمْ ابْن أبي دبوس وقادوه إِلَيْهِ استبلاغا فِي الطَّاعَة وإمحاضا للولاية فَتقبل فئتهم وأودع ابْن أبي دبوس السجْن وَعقد الصهر بَينه وَبَين عمر بن حَمْزَة فزوج ابْنه عمر بِابْنِهِ أبي الْفضل وَاخْتلفت أَحْوَال هَؤُلَاءِ الْعَرَب على السُّلْطَان أبي الْحسن فِي الطَّاعَة تَارَة والانحراف أُخْرَى مُدَّة إِقَامَته بتونس إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ وَالله غَالب على أمره
انْتِقَاض الْأَطْرَاف وثورة أبي عنان ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن واستيلاؤه على الْمغرب
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان أَبَا بكر الحفصي رحمه الله لما زوج ابْنَته من السُّلْطَان أبي الْحسن بعث مَعَهُمَا فِي زفافها شقيقها أَبَا الْعَبَّاس الْفضل بن أبي بكر وَأَن خبر وَفَاة وَالِده أدْركهُ وَهُوَ بِالطَّرِيقِ وَلما وصل إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن عزاهُ عَن مصاب أَبِيه ووعده بالمظاهرة على ملكه فَبَقيَ عِنْده بتلمسان إِلَى أَن نَهَضَ فِي صحبته إِلَى إفريقية فَلَمَّا غلب السُّلْطَان أَبُو الْحسن على بجاية وقسنطينة وارتحل إِلَى تونس عقد لَهُ على بونة الَّتِي كَانَ يَلِي عَملهَا أَيَّام أَبِيه فَانْقَطع أمله وَفَسَد ضَمِيره وطوى على البث حَتَّى إِذا كَانَت نكبة القيروان سما إِلَى التوثب على ملك سلفه وَكَانَ أهل قسنطينة وبجاية قد سئموا ملكة بني مرين وبرموا بولايتهم لمخالفتهم بعض العوائد الَّتِي كَانَت لَهُم مَعَ الْمُلُوك
الحفصيين وَلِأَن الصبغة الحفصية كَانَت قد رسخت فِي نُفُوسهم جيلا بعد جيل فصعب عَلَيْهِم نَزعهَا
(نقل فُؤَادك حَيْثُ شِئْت من الْهوى
…
مَا الْحبّ إِلَّا للحبيب الأول)
(كم منزل فِي الأَرْض يألفه الْفَتى
…
وحنينه أبدا لأوّل منزل)
فأشرأبوا إِلَى الثورة على المرينيين لما سمعُوا بنكبة القيروان وَاتفقَ أَن قدم قسنطينة ركب من أهل الْمغرب قَاصِدين إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ فيهم عُمَّال الجباية قدمُوا بجبايتهم عِنْد راس الْحول كَمَا جرت بِهِ عَادَتهم فِي ذَلِك وَمَعَهُمْ ابْن صَغِير للسُّلْطَان اسْمه عبد الله وَفِيهِمْ وَفد من رُؤَسَاء الفرنج بَعثهمْ طاغيتهم بِقصد التهنئة بِفَتْح إفريقية وَمَعَهُمْ تاشفين ابْن السُّلْطَان الَّذِي أسر يَوْم طريف أطلقهُ الطاغية بعد أَن أَصَابَهُ خبال فِي عقله وَأرْسل مَعَه بهدية نفيسة وَفِيهِمْ وَفد من أهل مَالِي بَعثهمْ السُّلْطَان منسا سُلَيْمَان بِقصد التهنئة أَيْضا فتوافت هَؤُلَاءِ الْوُفُود بقسنطينة وَقد طم عباب الْفِتْنَة على إفريقية فَأَرَادَ غوغاؤها وانتهاب مَا مَعَهم ثمَّ تخلصوا مِنْهُم فِي خبر طَوِيل
وَفِي أثْنَاء ذَلِك ثار الْفضل بن السُّلْطَان أبي بكر صَاحب بونة فراسله أهل قسنطينة فِي الْقدوم عَلَيْهِم وَالْقِيَام بأمرهم فَقَدمهَا وَجَرت خطوب واتصل بِأَهْل بجاية مَا فعله أهل قسنطينة فتبعوهم على رَأْيهمْ من الانتقاض ووثبوا على من كَانَ عِنْدهم من حامية بني مرين فاستلبوهم وأخرجوهم عُرَاة واستدعوا الْفضل بن أبي بكر من قسنطينة فبادر إِلَيْهِم وَاسْتولى على بجاية واستتب أمره بهَا وَأعَاد ألقاب الْخلَافَة وبينما هُوَ يحدث نَفسه بغزو تونس ثار عَلَيْهِ أَبنَاء أَخِيه أبي عبد الله بن أبي بكر فانتزعوا مِنْهُ بجاية وردوه إِلَى عمله الأول وانتقض على السُّلْطَان أبي الْحسن أَيْضا سَائِر زناتة من بني عبد الواد ومغراوة وَبني توجين وَبَايع بَنو عبد الواد لعُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان وَسَارُوا إِلَى تلمسان فاستجدوا بهَا ملك سلفهم فِي أَخْبَار طَوِيلَة
وَجَرت هَذِه الخطوب وَالسُّلْطَان أَبُو الْحسن مُقيم بتونس تغاديه الْعَرَب
بِالْقِتَالِ وترواحه وتعوج عَلَيْهِ تَارَة وتستقيم أُخْرَى وَطَالَ مقَامه بهَا وعميت أنباؤه على أهل الْمغرب وَحدث فِي الْخلق الوباء الْعَظِيم الَّذِي عَم الْمشرق وَالْمغْرب فَأَرْجَفَ بِمَوْتِهِ واضطربت الْأَحْوَال بالمغارب الثَّلَاثَة الْأَدْنَى والأوسط والأقصى واتصل ذَلِك بالأمير أبي عنان وَهُوَ يَوْمئِذٍ بتلمسان كَانَ أَبوهُ قد ولاه عَلَيْهَا عِنْد ذَهَابه إِلَى إفريقية حَسْبَمَا مر فَلَمَّا أرجف بمهلك أَبِيه وتساقط إِلَيْهِ الفل من عسكره عُرَاة زرافات ووحدانا تطاول إِلَى الاستئثار بِملك أَبِيه دون سَائِر إخْوَته وَكَانَ مرشحا عِنْده لذَلِك لمزيد فَضله عَلَيْهِ فِي غير وصف وَاتفقَ أَن كَانَ عِنْده رجل من بني عبد الواد اسْمه عُثْمَان بن يحيى بن مُحَمَّد بن جرار وَكَانَ ينْسب إِلَى علم الْحدثَان وَلما سَافر السُّلْطَان إِلَى إفريقية كَانَ هَذَا الرجل أول المرجفين بِهِ وَأَنه لَا يرجع من سفرته وَأَن الْأَمر صائر إِلَى أبي عنان ونجع ذَلِك فِي أبي عنان لموافقته هَوَاهُ فَاشْتَمَلَ على ابْن جرار وخلطه بِنَفسِهِ فَلَمَّا ورد الْخَبَر بنكبة السُّلْطَان وانحصاره أَولا بالقيروان ثمَّ بتونس لم يستزب أَبُو عنان فِي صدق ابْن جرار وَأَنه على بَصِيرَة من أمره فتحفز للوثبة وصمم على الثورة ثمَّ أكد عزمه على ذَلِك مَا اتَّصل بِهِ من خبر ابْن أَخِيه مَنْصُور بن أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن أبي الْحسن بفاس الْجَدِيد وَأَنه ثار بهَا وَفتح ديوَان الْعَطاء واستلحق واستركب ورام التغلب على الْمغرب واحتياز الْأَمر لنَفسِهِ دون غَيره وروى فِي ذَلِك بِأَنَّهُ إِنَّمَا عزم على الذّهاب إِلَى إفريقية لاستنفاذ السُّلْطَان من هوة الْحصار يسر من ذَلِك حسوا فِي ارتغاء وتفطن لشأنه الْحسن بن سُلَيْمَان بن يزريكن عَامل القصبة بفاس وَصَاحب الشرطة بالضواحي فاستأذنه فِي اللحاق بالسلطان فَأذن لَهُ رَاحَة مِنْهُ فلحق بِأبي عنان على حِين أمضى عزيمته على التوثب فَأخْرج مَا كَانَ بقصر السُّلْطَان بالمنصورة من المَال والذخيرة وجاهر بِالدُّعَاءِ لنَفسِهِ وَجلسَ لِلْبيعَةِ بِمَجْلِس السُّلْطَان من قصره فِي ربيع الثَّانِي من سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فَبَايعهُ الْمَلأ وَقَرَأَ كتاب بيعتهم على الأشهاد ثمَّ بَايعه الْعَامَّة وانفض الْمجْلس وَقد استتب سُلْطَانه ورست قَوَاعِد ملكه وَركب فِي التعبية والآلة حَتَّى نزل بقبة الملعب وَطعم النَّاس وانتشروا وَعقد على وزارته لِلْحسنِ بن سُلَيْمَان بن
يرزيكن القادم عَلَيْهِ ثمَّ لفارس بن مَيْمُون بن وردار وَجعله رديفا لَهُ وَرفع مَكَان ابْن جرار عَلَيْهِم كلهم واختص لمناجاته كَاتبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي عَمْرو ثمَّ فتح الدِّيوَان وَجعل يستركب كل من تساقط إِلَيْهِ من قبل أَبِيه ويخلع عَلَيْهِم وارتحل إِلَى الْمغرب وَعقد على تلمسان لِابْنِ جرار وأنزله بِالْقصرِ الْقَدِيم مِنْهَا فاستمر بهَا واستبد إِلَى أَن قدم عَلَيْهِ بَنو عبد الواد مُجْتَمعين على سلطانهم عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن فَقَتَلُوهُ غرقا فِي خبر طَوِيل وَلما انْتهى الْأَمِير أَبُو عنان إِلَى وَادي الزَّيْتُون وشى إِلَيْهِ بالوزير الْحسن بن سُلَيْمَان وَأَنه عازم على الفتك بِهِ بتازا تقربا إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن ووفاء بِطَاعَتِهِ وَأَنه قد دَاخل فِي ذَلِك حافده مَنْصُور بن أبي مَالك الثائر بفاس وأطلعه هَذَا الواشي على كتاب الْوَزير فِي ذَلِك فَلَمَّا قَرَأَهُ تقبض عَلَيْهِ ثمَّ قَتله خنقا فِي مسَاء ذَلِك الْيَوْم وأغذ السّير إِلَى الْمغرب
وانْتهى الْخَبَر إِلَى مَنْصُور صَاحب فاس فزحف للقائه والتقى الْجَمْعَانِ بوادي أبي الأجراف من نَاحيَة تازا فاختل مصَاف مَنْصُور وانهزمت جموعه وَلحق بفاس الْجَدِيد فتحصن بهَا وَتَبعهُ أَبُو عنان فَأَنَاخَ عَلَيْهِ خَارِجهَا وَقد تسايل النَّاس على طبقاتهم إِلَيْهِ وآتوه طاعتهم وَكَانَ قد سلك مَعَ الرّعية والجند من الْبَذْل والاستيلاف طَرِيقا لم يسْبق إِلَيْهِ وَكَانَت منازلته لفاس الْجَدِيد فِي ربيع الآخر من السّنة الْمَذْكُورَة فَأخذ بمخنقها وَأجْمع الْأَيْدِي والفعلة على الْآلَات لحصارها ثمَّ أرسل إِلَى مكناسة بِإِطْلَاق أَوْلَاد أبي الْعَلَاء المعتقلين بالقصبة مِنْهَا فأطلقوا وَلَحِقُوا بِهِ وحاصروا مَعَه فاس الْجَدِيد وضيقوا عَلَيْهَا إِلَى أَن ضَاقَتْ أَحْوَال أَهلهَا وَاخْتلفت أهواؤهم وَنزع إِلَى أبي عنان أهل الشَّوْكَة مِنْهُم ثمَّ إِن إِدْرِيس بن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء احتال فِي فتح الْبَلَد بِأَن أظهر النُّزُوع عَن أبي عنان إِلَى مَنْصُور المحصور فَدخل الْبَلَد وَتمكن مِنْهُ وثار بِهِ فِيمَن مَعَه من حَاشِيَته واقتحمه الْأَمِير أَبُو عنان عَلَيْهِم وَنزل مَنْصُور على حكمه فاعتقله إِلَى أَن قَتله بمحبسه وَاسْتولى على ذَلِك الْملك وتسابقت إِلَيْهِ وُفُود الْأَمْصَار للتهنئة بالبيعة وَتمسك أهل سبتة بِطَاعَة السُّلْطَان
أبي الْحسن ثمَّ رجعُوا عَن ذَلِك وثاروا على عاملهم عبد الله بن عَليّ بن سعيد من طبقَة الوزراء فقبضوا عَلَيْهِ وقادوه إِلَى أبي عنان مبايعين لَهُ متقربين بِهِ إِلَيْهِ وَتَوَلَّى كبر ذَلِك فيهم زعيمهم الشريف أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن رَافع الصّقليّ من آل الْحُسَيْن السبط رضي الله عنه كَانَ سلفه قد انتقلوا من صقلية إِلَى سبتة فاستوطنوها ثمَّ استوطنوا بعْدهَا حَضْرَة فاس واستوسق للأمير أبي عنان ملك الْمغرب وَاجْتمعَ إِلَيْهِ قومه من بني مرين إِلَّا من أَقَامَ مَعَ أَبِيه بتونس وَفَاء بِحقِّهِ وحص جنَاح أَبِيه عَن الكرة على بني كَعْب النَّاكِثِينَ لعهده الناكبين عَن طَاعَته فَأَقَامَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رحمه الله بتونس يَرْجُو الْأَيَّام ويأمل الكرة والأطراف تنْتَقض والخوارج تتجدد وَقَنطَ من كَانَ مَعَه من حَاشِيَته وسئموا الْمقَام بِأَرْض لَيست لَهُم بدار مقَام فحسنوا لَهُ النهوض إِلَى الْمغرب فأسعفهم وعزم على الرحلة كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله وَفِي هَذِه الْمدَّة كتب إِلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن الْأَحْمَر كتابا من إنْشَاء وزيره لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب يسائله عَن أَحْوَاله ويعزيه عَن مصابه ويتأسف لَهُ وَنَصّ الْكتاب الْمقَام الَّذِي أقمار أسعده فِي انتظام واتساق وجياد عزه الى الْغَايَة القصوى ذَات استباق والقلوب على حبه ذَات اتِّفَاق وعناية الله تَعَالَى عَلَيْهِ مديدة الرواق وأياديه الجمة فِي الْأَعْنَاق ألزم من الأطواق وَأَحَادِيث مجده سمر النوادي وَحَدِيث الرفاق مقَام مَحل أَبينَا الَّذِي شَأْن قُلُوبنَا الاهتمام بِشَأْنِهِ وَأعظم مطلوبنا من الله تَعَالَى سَعَادَة سُلْطَانه السُّلْطَان الكذا ابْن السُّلْطَان الكذا إِبْنِ السُّلْطَان الكذا أبقاه الله تَعَالَى والصنائع الإلهية تحط بِبَابِهِ والألطاف الْخفية تعرس فِي جنابه والنصر الْعَزِيز يحف بركابه وَأَسْبَاب التَّوْفِيق مُتَّصِلَة بأسبابه والقلوب الشجية لفراقه مسرورة باقترابه مُعظم سُلْطَانه الَّذِي لَهُ الْحُقُوق المحتومة والفواضل الْمَشْهُورَة الْمَعْلُومَة والمكارم المسطورة المرسومة والمفاخر المنسوقة الْمَنْظُومَة الدَّاعِي إِلَى الله تَعَالَى فِي وقاية ذَاته المعصومة وحفظها على هَذِه الْأمة المرحومة الْأَمِير عبد الله يُوسُف بن أَمِير الْمُسلمين أبي الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن فرج بن نصر سَلام كريم طيب عميم
كَمَا سطعت فِي غياهب الشدَّة أنوار الْفرج وهبت نواسم ألطاف الله عاطة الأرج يخص مقامكم الْأَعْلَى وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد حمد اله جالي الظُّلم بعد اعتكارها ومقيل الْأَيَّام من عثارها ومزين سَمَاء الْملك بشموسها المحتجبة وأقمارها ومريح الْقُلُوب من وَحْشَة أفكارها ومنشئ سَحَاب الرَّحْمَة على هَذِه الْأمة بعد افتقارها وَشدَّة اضطرابها ومتداكها باللطف الْكَفِيل بتمهيد أوطانها وتيسير أوطارها وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد رَسُوله صفوة النُّبُوَّة ومختارها ولباب مجدها السَّامِي ونجارها نَبِي الْمَلَاحِم وخائض تيارها وَمذهب رسوم الْفِتَن ومطفئ نارها الَّذِي لم ترعه الشدائد باضطراب بحارها حَتَّى بلغت كلمة الله مَا شَاءَت من سطوع أنوارها ووضوح أثارها وَالرِّضَا عَن آله وَأَصْحَابه الَّذين تمسكوا بعهده على إجلاء الْحَوَادِث وإمرارها وَبَاعُوا نُفُوسهم فِي إعلاء دَعوته الحنيفية وإظهارها وَالدُّعَاء لمقامكم الْأَعْلَى باتصال السَّعَادَة واستمرارها وانسحاب الْعِنَايَة الإلهية وإسدال أستارها حَتَّى تقف الْأَيَّام بباكم موقف اعتذارها وَتعرض على مثابتكم ذنوبها راغبة فِي اغتفارها فَإنَّا كتبناه إِلَيْكُم كتب الله تَعَالَى لكم أوفى مَا كتب لصالحي الْمُلُوك من مواهب السَّعَادَة وعرفكم عوارف الآلاء فِي إصدار أَمركُم الرفيع وإيراده وأجرى الْفلك الدوار بِحكم مُرَاده وَجعل لكم الْعَاقِبَة الْحسنى كَمَا وعد بِهِ فِي مُحكم كِتَابه الْمُبين للصالحين من عباده من حَمْرَاء غرناطة حرسها الله تَعَالَى وَلَيْسَ بِفضل الله الَّذِي عَلَيْهِ فِي الشدائد الِاعْتِمَاد وَإِلَى كنف فَضله الِاسْتِنَاد ثمَّ ببركة جاه نَبينَا الَّذِي وضح بهدايته سَبِيل الرشاد إِلَّا الصَّنَائِع الَّتِي تشام بوراق اللطف من خلالها وتخبر سيماها بِطُلُوع السُّعُود واستقبالها وتدل مخايل يمنها على حسن مآلها لله الْحَمد على نعمه الَّتِي نرغب فِي كمالها ونستدر عذب زلالها وَعِنْدنَا من الاستبشار باتساق أَمركُم وانتظامه وَالسُّرُور بسعادة أَيَّامه وَالدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى فِي إِظْهَاره وإتمامه مَا لَا تفي الْعبارَة بأحكامه وَلَا تتعاطى حصر أَحْكَامه وَإِلَى هَذَا أيد الله تَعَالَى أَمركُم وعلاه وصان سلطانكم وتولاه فقد علم
الْحَاضِر وَالْغَائِب وخلص الخلوص الَّذِي لَا تغيره الشوائب مَا عندنَا من الْحبّ الَّذِي وضحت مِنْهُ الْمذَاهب وَإنَّهُ لما اتَّصل بِنَا مَا جرت بِهِ الْأَحْكَام من الْأُمُور الَّتِي صَحِبت مقامكم فِيهَا الْعِنَايَة من الله والعصمة وَجعل على الْعباد والبلاد الْوِقَايَة وَالنعْمَة لَا يسْتَقرّ بقلوبنا الْقَرار وَلَا تتأتى بأوطاننا الأوطار تشوفا لما تتيحه لكم الأقدار ويبرزه من سعادتكم اللَّيْل وَالنَّهَار ورجاؤنا فِي اسْتِئْنَاف سعادتكم يشْتَد على الْأَوْقَات وَيُقَوِّي علما بِأَن الْعَاقِبَة للتقوى وَفِي هَذِه الْأَيَّام عميت الأنباء وتكالبت فِي الْبر وَالْبَحْر الْأَعْدَاء وَاخْتلفت الْفُصُول والأهواء وعاقت الْوَارِد الأنواء وعَلى ذَلِك من فضل الله الرَّجَاء وَلَو كُنَّا نجد للاتصال بكم سَببا أَو نلقي لإعانتكم مذهبا لما شغلنا الْبعد الَّذِي بَيْننَا اعْترض والعدو بساحتنا فِي هَذِه الْأَيَّام ربض وَكَانَ خديمكم الَّذِي رفع من الْوَفَاء راية خافقة واقتنى مِنْهُ فِي سوق الكساد بضَاعَة نافقة الشَّيْخ الْأَجَل الأوفى الأود الأخلص الأصفى على أَبُو مُحَمَّد بن آجانا سنى الله مأموله وبلغه من سَعَادَة أَمركُم سؤله وَقد ورد على بابنا وتحيز إِلَى اللحاق بجانبنا ليتيسر لَهُ من جهتنا الْقدوم ويتأتى لَهُ بإعانتنا الْغَرَض المروم فَبَيْنَمَا نَحن نَنْظُر فِي تتميم غَرَضه وإعانته على الْوَفَاء الَّذِي قَامَ بمفترضه إِذا اتَّصل بِنَا خبر قرقورتين من الأجفان الَّتِي استعنتم بهَا على الْحَرَكَة والعزمة المقترنة بِالْبركَةِ حطت إِحْدَاهمَا بمرسى الْمنْكب وَالْأُخْرَى بمرسى المرية فِي كنف الْعِنَايَة الإلهية فتلقينا من الواصلين فِيهَا الأنباء المحققة بعد التباسها وَالْأَخْبَار الَّتِي يُغني نَصهَا عَن قياسها وتعرفنا مَا كَانَ من عزمكم على السّفر وحركتكم المقرونة بِالْيمن وَالظفر وَإِنَّكُمْ استخرتم الله تَعَالَى فِي اللحاق بالأوطان الَّتِي يُؤمن قدومكم خائفها ويؤلف طوائفها ويسكن راجفها وَيصْلح أحوالها وَيذْهب أهوالها وَإِنَّكُمْ سبقتم حركتها بِعشْرَة أَيَّام مستظهرين بالعزم المبرور والسعد الموفور واليمن الرَّائِق السفور والأسطول الْمَنْصُور فَلَا تسألوا عَن انبعاث الآمال بعد سكونها ونهوض طيور الرَّجَاء من وَكَونهَا واستبشار الْأمة المحمدية مِنْكُم بقرة عيونها وَتحقّق ظنونها وارتياح الْبِلَاد إِلَى دعوتكم الَّتِي ألبستها ملابس الْعدْل وَالْإِحْسَان وقلدتها
قلائد السّير الحسان وَمَا مِنْهَا إِلَّا من باح بِمَا يخفيه من وجده وجهر بشكر الله تَعَالَى وحمده وابتهل إِلَيْهِ فِي تيسير غَرَض مقامكم الشهير وتتميم قَصده واستئناس نور سعده وَكم مطل الِانْتِظَار بديون آمالها والمطاولة من اعتلالها وَأما نَحن فَلَا تسألوا عَمَّن استشعر دنو حَبِيبه بعد طول مغيبه إِنَّمَا هُوَ صدر رَاجعه فُؤَاده وطرف أَلفه رقاده وفكر ساعده مُرَاده فَلَمَّا بلغنَا هَذَا الْخَبَر بادرنا إِلَى إنجاز مَا بذلنا لخديمكم الْمَذْكُور من الْوَعْد واغتنمنا مِيقَات هَذَا السعد ليصل سَببه بأسبابكم ويسرع لحاقه بجنابكم فَعنده خدم نرجو أَن ييسر الله تَعَالَى بحوله أَسبَابهَا وَيفتح بنيتكم الصَّالِحَة أَبْوَابهَا وَقد شَاهد من امتعاضنا لذَلِك الْمقَام الَّذِي ندين لَهُ بالتشيع الْكَرِيم الوداد ونصل لَهُ على بعد المزار ونزوح الأقطار سَبَب الِاعْتِدَاد مَا يُغني عَن الْقَلَم والمداد وَقد القينا إِلَيْهِ من ذَلِك كُله مَا يلقيه إِلَى مقامكم الرفيع الْعِمَاد وكتبنا إِلَى من بالسواحل من ولاتنا نحد لَهُم مَا يكون عَلَيْهِ عَمَلهم فِي بر من يرد عَلَيْهِم من جِهَة أبوتكم الكرمية ذَات الْحُقُوق الْعَظِيمَة والأيادي الحديثة والقديمة وهم يعْملُونَ فِي ذَلِك بِحَسب المُرَاد وعَلى شاكلة جميل الِاعْتِقَاد وَيعلم الله تَعَالَى أننا لَو لم تعق الْعَوَائِق الْكَبِيرَة والموانع الْكَثِيرَة والأعداء الَّذين غصت بهم فِي الْوَقْت هَذِه الجزيرة مَا قدمنَا عملا على اللحاق لكم والاتصال بسببكم حَتَّى نوفي لأبوتكم الْكَرِيمَة حَقّهَا ونوضح من المسرة طرقها لَكِن الْأَعْذَار وَاضِحَة وضوح الْمثل السائر وَإِلَى الله تَعَالَى نبتهل فِي أَن يُوضح لكم من التَّيْسِير طَرِيقا وَيجْعَل لكم السعد مصباحا ورفيقا وَلَا يعدمكم عناية مِنْهُ وتوفيقا وَيتم سرورنا عَن قريب بتعريف أنبائكم السارة وسعودكم الدارة فَذَلِك مِنْهُ سُبْحَانَهُ غَايَة آمالنا وَفِيه أَعمال ضراعتنا وابتهالنا هَذَا مَا عندنَا بادرنا لإعلامكم بِهِ أسْرع البدار وَالله تَعَالَى يوفد علينا أكْرم الْأَخْبَار بسعادة ملككم السَّامِي الْمِقْدَار وييسر مَا لَهُ من الأوطار ويصل سعدكم ويحرس مجدكم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته اه
عَلَيْهِم فَقبض عَلَيْهِم وحيزت خيلهم وسلاحهم فشرى الدَّاء وأعوز الدَّوَاء ثمَّ زحف السُّلْطَان وانتشبت الْحَرْب أول النَّهَار وَلما اشْتَدَّ الْحر وَكَانَ الزَّمَان زمَان مصيف تحاجزوا ثمَّ عَاد قَاسم الرحماني فأنشب الْحَرْب مَعَ الْعشي فَكَانَت الدبرة عَلَيْهِ وَقتل وَحمل رَأسه على رمح وَانْهَزَمَ جَيش المخزن وَوَقع الفشل فِي الْمحلة فتفرقت الْقَبَائِل وَبَاتُوا لَا يلوون على شَيْء وَلما طلع النَّهَار لم يبْق مَعَ السُّلْطَان إِلَّا جَيش المخزن فزحف الشراردة إِلَى الْمحلة وَرَأَوا السُّلْطَان قد بَقِي فِي قلَّة فطمعوا فِيهِ وأنشبوا الْحَرْب فَانْهَزَمَ الْجَيْش الَّذين كَانُوا مَعَ السُّلْطَان وَتركُوا الْمحلة بِمَا فِيهَا فتوزعتها الشراردة شذر مذر وانحاز السُّلْطَان فِي حَاشِيَته وَقصد مراكش فلقيتهم فِي طريقهم ساقية مَاء حبستهم عَن الْمُرُور وخالط الشراردة الْقَوْم الَّذين كَانُوا مَعَ السُّلْطَان وَجعلُوا يستلبون من ظفروا بِهِ مِنْهُم وتراكم المنهزمة على السُّلْطَان ولجؤوا إِلَيْهِ وَقتل الشراردة عمر بن أبي سِتَّة خلف ظَهره
وَلما رأى السُّلْطَان رحمه الله ذَلِك نَادَى فِي النَّاس أَن لَا يقتل أحد نَفسه على وَلَا على هَذِه الأسلاب أعطوهم مِنْهَا مَا شاؤوا وَاجْتمعَ نَحْو الْعشْرين من كبار الشراردة وتقدموا إِلَى السُّلْطَان فَقَالُوا يَا مَوْلَانَا تحيز إِلَيْنَا لِئَلَّا تصيبك الْعَامَّة فانحاز إِلَيْهِم وَكَانَ رَاكِبًا على بغلته فالتفوا عَلَيْهِ وَسَارُوا بِهِ إِلَى زاويتهم وأنزلوه بِالدَّار الْمَعْرُوفَة عِنْدهم بدار الْمَوْسِم واحترموه وغدوا وراحوا فِي خدمته وَكَانَ مَعَ وصيفه فرجى صَبيا صَغِيرا وَهُوَ الَّذِي ولي إِمَارَة فاس الْجَدِيد فِي دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَكَانَ مَعَه أَيْضا عبد الْخَالِق بن كريران الحريزي شَابًّا كَمَا بقل عذاره وَبَقِي عِنْدهم ثَلَاثَة أَيَّام وَحَضَرت الْجُمُعَة فَصلاهَا عِنْدهم وخطبوا بِهِ وَمن الْغَد ركبُوا مَعَه وصحبوه إِلَى مراكش إِلَى أَن وصلوا إِلَى عين أبي عكاز فودعوه وَرَجَعُوا وَمِمَّا قَالَ لَهُم عِنْد الْوَدَاع إِن الَّذين أَرَادوا أَن يفتحوا بَاب الْفِتْنَة على النَّاس قد سد الله أَبْوَابهَا برؤوسهم يَعْنِي الرحامنة وَبعد وُصُول السُّلْطَان إِلَى مراكش
بِيَوْم أَو نَحوه عدا الرحامنة على مُحَمَّد بن أبي سِتَّة فَقَتَلُوهُ بِسَبَب أَن الشراردة كَانُوا قد أسروه ثمَّ استحيوه وَاتَّخذُوا عِنْده عهدا ويدا بِأَنَّهُ إِذا أفضت إِلَيْهِ ولَايَة مراكش بعد أَخِيه عمر الْمَقْتُول يحسن فِي إدارة أَمرهم عِنْد السُّلْطَان فَسمع الرحامنة بذلك فَقَتَلُوهُ
قَالَ صَاحب الْجَيْش لما عزم السُّلْطَان على الْخُرُوج إِلَى زَاوِيَة الشرادي بَعَثَنِي قبل ذَلِك بِثَلَاث إِلَى السوس فِي شَأْن ابْن أَخِيه الْمولى بناصر بن عبد الرَّحْمَن وَكَانَ عَاملا عَلَيْهَا فكثرت الشكايات بِهِ إِلَى السُّلْطَان فَبَعَثَنِي فِي شَأْنه فَلَمَّا جِئْت تارودانت تربصت قَلِيلا فَلم يفجأنا إِلَّا خبر الْهَزِيمَة على السُّلْطَان بالروايات الْمُخْتَلفَة فَقَائِل يَقُول إِنَّه قد قتل وَآخر يَقُول إِنَّه قد مَاتَ حتف أَنفه وَآخر يَقُول لَا بَأْس عَلَيْهِ ثمَّ ورد علينا كِتَابَانِ من عِنْد السُّلْطَان أَحدهمَا بِخَط الْكَاتِب مطبوعا وَالْآخر بِخَط يَده تَحْقِيقا لسلامته يَقُول فِيهِ إِن هَذِه الْحَرَكَة مَا وَقعت إِلَّا لهلاك الظلمَة والملبسين علينا المظهرين للمحبة لنا وهم فِي الْبَاطِن أعدى الأعادي مثل قَاسم الرحماني وَفُلَان وَفُلَان وَأما أَوْلَاد أبي سِتَّة فقد قتل زُرَارَة عمر على رَائِحَة الرحامنة وَقتل الرحامنة مُحَمَّدًا على رَائِحَة أهل السوس والشريف سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الْجَلِيل الوزاني أَصَابَته رصاصة رِعَايَة رحمه الله عَلَيْهِ وَالْحَاصِل هان علينا كسر الخابية بِمَوْت الفار وَقد أَحْسَنت فِي التَّرَبُّص فاترك الْأَمر على طيته واصحب مَعَك أَشْيَاخ السوس وعدهم منا بِالْإِحْسَانِ ومساعدتهم على مَا يطلبونه منا وَالسَّلَام اه
وَلما دخل السُّلْطَان مراكش رَاجع الْقَوْم الَّذين انْهَزمُوا عَنهُ بصائرهم وَأَقْبلُوا إِلَيْهِ خاضعين تَائِبين وعَلى أبوابه فِي الْعَفو راغبين فَمَا وَسعه إِلَّا الْإِعْرَاض عَن أفعالهم الذميمة وطاعتهم السقيمة وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه ثمَّ أَمرهم بالتهيىء لغزو برابرة الغرب فتوجهوا إِلَى بِلَادهمْ ليأتوا بحصصهم إِلَى عيد المولد الْكَرِيم فانقضى أَجله رَحمَه الله
وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رحمه الله
كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله فِي هَذِه الْمدَّة قد سئم الْحَيَاة ومل الْعَيْش وَأَرَادَ أَن يتْرك أَمر النَّاس لِابْنِ أَخِيه الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام ويتخلى هُوَ لعبادة ربه إِلَى أَن يَأْتِيهِ الْيَقِين قَالَ ذَلِك غير مرّة وتعددت فِيهِ رسائله ومكاتيبه فمما كتبه فِي ذَلِك هَذِه الْوَصِيَّة الَّتِي يَقُول فِيهَا الْحَمد لله لما رَأَيْت مَا وَقع من الْإِلْحَاد فِي الدّين واستيلاء الفسقة والجهلة على أَمر الْمُسلمين وَقد قَالَ عمر إِن تابعناهم تابعناهم على مَا لَا نرضى وَإِلَّا وَقع الْخلاف وَأُولَئِكَ عدُول وَهَؤُلَاء كلهم فساق وَقَالَ عمر فَبَايعْنَا أَبَا بكر فَكَانَ وَالله خير وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي حق أبي بكر يَأْبَى الله وَيدْفَع الْمُسلمُونَ ورشحه بتقديمه للصَّلَاة إِذْ هِيَ عماد الدّين وَقَالَ أَبُو بكر للْمُسلمين بَايعُوا عمر وَأخذ لَهُ الْبيعَة فِي حَيَاته فلزمت وَصحت بعد مَوته وَقَالَ عمر هَؤُلَاءِ السِّتَّة أفضل الْمُسلمين وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نعم العَبْد صُهَيْب وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة أَمِين هَذِه الْأمة وَقَالَ مَا أظلت الخضراء وَلَا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذَر وَقَالَ فِي أبي بكر وَعمر أَكثر من هَذَا فَصَارَ الْمَدْح للتعريف وَاجِبا ولإظهار حَال الرجل لينْتَفع بِهِ فَأَقُول جعله الله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم مَا أَظن فِي أَوْلَاد مَوْلَانَا الْجد عبد الله وَلَا فِي أَوْلَاد سَيِّدي مُحَمَّد وَالِدي رحمه الله وَلَا أَوْلَاد أَوْلَاده أفضل من مولَايَ عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَلَا أصلح لهَذَا الْأَمر مِنْهُ لِأَنَّهُ إِن شَاءَ الله حفظه الله لَا يشرب الْخمر ويزني ولايكذب وَلَا يخون وَلَا يقدم على الدِّمَاء وَالْأَمْوَال بِلَا مُوجب وَلَو ملك ملك المشرقين لِأَنَّهَا عبَادَة صهيبية ويصوم الْفَرْض وَالنَّفْل وَيُصلي الْفَرْض وَالنَّفْل وَإِنَّمَا أتيت بِهِ من الصويرة ليراه النَّاس ويعرفوه وأخرجته من تافيلالت لأظهره لَهُم لِأَن الدّين النَّصِيحَة فَإِن اتبعهُ أهل الْحق صلح أَمرهم كَمَا صلح سَيِّدي مُحَمَّد جده وَأَبوهُ حَيّ وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَيّ أبدا ويغبطه أهل الْمغرب ويتبعونه إِن شَاءَ الله
وَكَانَ من اتبعهُ اتبع الْهدى والنور وَمن اتبع غَيره اتبع الْفِتْنَة والضلال وَاحْذَرْ النَّاس أَوْلَاد يزِيد كَمَا حذر وَالِدي وَقد رأى من اتبعهُ أَو اتبع أَوْلَاده كَيفَ خَاضَ الظلمَة ونالته دَعْوَة وَالِده وَخرج على الْأمة وَأما أَنا فقد خفت قواي ووهن الْعظم مني واشتعل الرَّأْس شيبا حفظني الله فِي أَوْلَادِي وَالْمُسْلِمين آمين نصيحة وَصِيَّة سُلَيْمَان بن مُحَمَّد لطف الله بِهِ اه
وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة وَقعت غدرة ذَوي بِلَال فِي انتهابهم الصاكة الْوَارِدَة من مرسى الصويرة وَكَانَ انتهابهم إِيَّاهَا بِاتِّفَاق من الشياظمة الَّذين جاؤوا مَعهَا وَقَائِدهمْ عَليّ بن مُحَمَّد الشيظمي هُوَ الَّذِي انتهب أَكْثَرهَا وَكَانَ فِيهَا من الذَّخَائِر النفيسة وَالْأَمْوَال الثَّقِيلَة شَيْء كثير وَهَذِه الْوَقْعَة هِيَ الَّتِي هدت أَرْكَان السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله فاعتراه مَرضه الَّذِي كَانَ سَبَب وَفَاته وَلما أثقله الْمَرَض أعَاد الْعَهْد للْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَبعث بِهِ إِلَى فاس إِذْ كَانَ خَليفَة بهَا كَمَا مر فَدَعَا رحمه الله بِصَحِيفَة بَيْضَاء ودعا بالطابع الْكَبِير فجيء بِهِ وَلم يحضرهُ إِلَّا أَهله من النِّسَاء فطبع الصَّحِيفَة بِيَدِهِ وَكتب بعض الْكتاب وأكملته بعض حظاياه مِمَّن كَانَت تحسن الْكِتَابَة ثمَّ طواه وَختم عَلَيْهِ ودعا الْقَائِد الجيلاني الرحماني الحويوي وَكَانَ قَائِد المشور وَقَالَ لَهُ ادْع لي فارسين يذهبان بِهَذَا الْكتاب إِلَى فاس وَقد عينت لَهما سخرة كَبِيرَة يقبضانها هُنَاكَ إِذا أَسْرعَا السّير فَكَانَ ذَلِك الْكتاب هُوَ الْعَهْد الَّذِي قرىء بفاس وَنَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم أخوالنا الودايا ورماة فاس وأعيانها ورؤساءها سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وعَلى ابْن عمنَا الْفَقِيه القَاضِي مولَايَ أَحْمد والفقيهين ابْن إِبْرَاهِيم والآزمي وَبعد فقد وجدت من نَفسِي مَا لَيْسَ بتارك أحدا فِي الدُّنْيَا وَهَذِه وَصِيَّة أقدمها بَين يَدي أَجلي وَالله مَا بَقِي فِي قلبِي مِثْقَال ذرة على أحد من خلق الله لِأَن ذَلِك أَمر قد قدره الله وَسبق علمه بِهِ وَلست فِيهِ بأوحد وَمَا وَقع لمن قبلي أشنع وأقطع وَإِنِّي قد عقدت
بَين أخوالي وَأهل فاس أخوة بحول الله لَا تنفصم يَرِثهَا الْأَبْنَاء عَن الْآبَاء وأوصي الْجَمِيع بِمَا أوصى الله بِهِ الْأَوَّلين {وَلَقَد وصينا الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَإِيَّاكُم أَن اتَّقوا} النِّسَاء 131 {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا وَاتَّقوا الله} الْحَشْر 7 وبسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ وَلنْ تزَال هَذِه الْأمة بِخَير مَا أخذُوا بِكِتَاب الله وَقد عهِدت لِابْنِ أخي مولَايَ عبد الرَّحْمَن بن هِشَام ورجوت الله أَن يكون لي فِي هَذَا الْأَمر مثل مَا لِسُلَيْمَان بن عبد الْملك فِي عَهده لعمر بن عبد الْعَزِيز {إِنَّا نَحن نحيي الْمَوْتَى ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} يس 12 من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقد انْعَقَد الْإِجْمَاع على عقد الْبيعَة بالعهد وَالْقَاضِي والفقيهان يبينون لكم هَذَا {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} النِّسَاء 59 وَإِنِّي أشهد الله أَنِّي مقرّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة لعبد الله عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وببيعته أَلْقَاهُ وَقد أدّيت لأمة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا عَليّ من النَّصِيحَة وأرجوا الله أَن يثيبني بِهَذِهِ النِّيَّة الصَّحِيحَة وَهُوَ المطلع على مَا فِي الضمائر والعالم بالسرائر وَالسَّلَام وَفِي رَابِع ربيع النَّبَوِيّ عَام ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اه
ثمَّ تَمَادى بالسلطان رحمه الله مَرضه إِلَى أَن توفّي ثَالِث عشر ربيع الأول وَهُوَ الثَّانِي من عيد المولد الْكَرِيم من السّنة الْمَذْكُورَة وَمَات رحمه الله ثَابت الذِّهْن صَحِيح الميز على غَايَة من الْيَقِين والفرح بلقاء ربه وَدفن بضريح جده الْمولى عَليّ الشريف بِبَاب آيلان من مراكش وَقد رثاه جمَاعَة من أدباء الْعَصْر من ذَلِك قَول الْفَقِيه الأديب الْكَاتِب البليغ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الفاسي
(نبأ عرى أَوْهَى عرى الْإِيمَان
…
وَأَبَان حسن الصَّبْر عَن إِمْكَان)
(شقَّتْ لموقعه الْقُلُوب وزلزلت
…
أَرض النُّفُوس ورج كل مَكَان)
(فقد الإِمَام أبي الرّبيع المرتضى
…
جزعت لعظم مصابه الثَّقَلَان)
(وبكت عُيُون الدّين مَاء جفونها
…
وجدا عَلَيْهِ وكل ذِي إِيمَان)
(لم نعى الناعون خير خَليفَة
…
وعرا الْفُؤَاد طوارق الأحزان)
(مزقت ثوب تجلدي من فَقده
…
وَنَثَرت در الدمع من أجفاني)
(عجبا لمَوْت غاله إِذْ لم يخف
…
فتك الْمُلُوك وسطوة السُّلْطَان)
(وسما لمنصبه المنيف وَلم يهب
…
غضب الْجنُود وغيرة الأعوان)
(لَو كَانَ ينفع خَاضَ فرسَان الوغا
…
حرصا عَلَيْهِ مواقد النيرَان)
(وحموه بِالنَّفسِ النفيسة إِنَّمَا
…
يحْمُونَ روح الْعدْل وَالْإِحْسَان)
(لَكِن قَضَاء الله حم فَلَا يرى
…
للمرء فِي دفع الْقَضَاء يدان)
(وَالْمَوْت مورد كل حَيّ كأسه
…
وَسوى الْمُهَيْمِن فِي الْحَقِيقَة فان)
(إِن غَابَ عَنَّا شخصه فَلَقَد ثوى
…
فِينَا الثَّنَاء لَهُ بِكُل لِسَان)
(ومناقب ومفاخر ومآثر
…
شاعت لَهُ فِي سَائِر الأوطان)
(ومعارف وعوارف ووسائل
…
ومسائل قد أوضحت ومعاني)
(وبدور أَوْلَاد وَآل قد قفوا
…
آثاره فِي الْعلم والعرفان)
(تخذوا الدّيانَة والصيانة شرعة
…
وتقلدوا بصوارم الإيقان)
(أَخْلَاقهم ووجوههم وأكفهم
…
كالزهر والأزهار والأمزان)
(إِن حَاربُوا أبدوا شجاعة جدهم
…
أَو خاطبوا أزروا على سحبان)
(من كل من جعل الْقُرْآن سميره
…
وسما بِوَصْف الْعلم والتبيان))
(كم آيَة ظَهرت لَهُ وكرامة
…
دَامَت دلائلها مدى الْأَزْمَان)
(قد كَانَ أوحد دهره ولذاته
…
فِي الْعدْل والتمكين وَالْإِحْسَان)
(قد كَانَ عَالم عصره وفريده
…
فِي الْفَهم وَالتَّحْقِيق والإتقان)
(قد كَانَ فَردا فِي البلاغة إِن جرت
…
أقلامه بهرت بِسحر بَيَان)
(من للعلى من بعده من للنَّهْي
…
من للتقى وتلاوة الْقُرْآن)
(يَا رمسه مَاذَا حويت من العلى
…
وطويت من علم وَمن عرفان)
(يَا رمس كم واريت من كرم وَمن
…
جود وَمن فضل وَمن إِحْسَان)
(يَا رمس كم حجبت عَنَّا شمسه
…
وضياؤها فِي سَائِر الْبلدَانِ)
(ووسعت بَحر علومه وسخائه
…
فطمى بِضيق بَطْنك البحران)
(فَلَو اسْتَطَعْت جعلت قلبِي قَبره
…
حبا وأحشائي من الأكفان)
(وَلَو أَن عمري فِي يَدي لوهبته
…
وفديته بالأهل والإخوان)
(لَكِن يُخَفف بعض أثقال الأسى
…
علمي بِهِ فِي جنَّة الرضْوَان)
(فسقى ثراه من الْمَوَاهِب دِيمَة
…
وهمت عَلَيْهِ سحائب الغفران)
(ورد الرَّسُول بِمَوْت خير خَليفَة
…
وَولَايَة الْعَهْد الرفيع الشَّأْن)
(فَجَزِعت من حزن لما قد نابني
…
وطربت من فَرح بِمَا أولاني)
(مَا مَاتَ من ترك الْخَلِيفَة بعده
…
مثل الْمُؤَيد عَابِد الرَّحْمَن)
(ملك تسربل بالتقى حَتَّى ارْتقى
…
من نهجه الأتقى على كيوان)
(يَا وَاحِدًا فِي الْفضل غير مشارك
…
أَقْسَمت مَا لَك فِي الْبَريَّة ثَان)
(لله بيعتك الَّتِي قد أشبهت
…
فِيمَا تَوَاتر بيعَة الرضْوَان)
(قد أحكمتها يَد الشَّرِيعَة والتقى
…
بعرى النُّصُوص وواضح الْبُرْهَان)
(سعد الَّذِي أضحى بهَا متمسكا
…
وَهوى العنيد بهوة الخسران)
(وَجرى على التَّيْسِير أَمرك فَاسْتَوَى
…
ملك الورى لَك فِي أقل زمَان)
(وَأَتَتْ لنصرتك المغارب كلهَا
…
فبعيدها لَك فِي الْحَقِيقَة داني)
(عقدوا على النصح الْقُلُوب وَإِنَّمَا
…
عقدوا بنصرك رايه الْإِيمَان)
(لَو شِئْت من أهل الْمَشَارِق طَاعَة
…
لأتوك من يمن وَمن بغدان)
(هابتك أَصْنَاف الطغاة بزعمهم
…
لما وثقت بنصرة الرَّحْمَن)
(وَبسطت عدلك فِي الورى فَكَأَنَّمَا
…
قد عَاشَ فِي أيامك الْعمرَان)
(يَا أهل بَيت الْمُصْطَفى أوصافكم
…
جلت عَن الإحصاء والحسبان)
(طَابَ المديح مَعَ الرثاء بذكركم
…
فنظمته كقلائد العقيان)
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله ومآثره وَسيرَته
لما بُويِعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله رد الْفُرُوع إِلَى أُصُولهَا وأجرى الْخلَافَة على قوانينها بِإِقَامَة الْعدْل والرفق بالرعية والضعفاء وَالْمَسَاكِين وَمن وفور عقله وعدله إِسْقَاط المكوس الَّتِي كَانَت موظفة على حواضر الْمغرب فِي الْأَبْوَاب والأسواق وعَلى السّلع والغلل وعَلى الْجلد وعشبة الدُّخان فقد كَانَ يقبض فِي ذَلِك أَيَّام وَالِده رحمه الله خَمْسمِائَة ألف مِثْقَال مَعْلُومَة مثبتة فِي الدفاتر مبيعة فِي ذمم عُمَّال الْبلدَانِ وقواد الْقَبَائِل كل مَدِينَة وَمَا عَلَيْهَا وَمن ذَلِك المكس كَانَ صائر الْعَسْكَر فِي الْكسْوَة والسروج وَالسِّلَاح وَالْعدة وَالْإِقَامَة والخياطة والتنافيذ لوفود الْقَبَائِل والعفاة والمؤنة للعسكر ولدور السُّلْطَان وَسَائِر تعلقاته فَكَانَ ذَلِك المكس كَافِيا لصوائر الدولة كلهَا وَلَا يدْخل بَيت المَال إِلَّا مَال المراسي وأعشار الْقَبَائِل وزكواتهم وَكَانَ مُسْتَفَاد هَذَا المكس يعادل مَال المراسي وأعشار الْقَبَائِل فزهد فِيهِ هَذَا السُّلْطَان الْعَادِل فَعوضهُ الله أَكثر مِنْهُ من الْحَلَال الْمَحْض الَّذِي هُوَ الزكوات والأعشار من الْقَبَائِل وزكوات أَمْوَال التُّجَّار وَالْعشر الْمَأْخُوذ من تجار النَّصَارَى وَأهل الذِّمَّة بالمراسي وَأما الْمُسلمُونَ فقد مَنعهم من التِّجَارَة بِأَرْض الْعَدو لِئَلَّا يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى تعشير مَا بِأَيْدِيهِم أَو المشاجرة مَعَ الْأَجْنَاس هَكَذَا بلغنَا وَالله أعلم
وَكَانَت الْقَبَائِل فِي دولته قد تمولت ونمت مواشيها وَكَثُرت الْخيرَات لَدَيْهَا من عدله وَحسن سيرته فَصَارَت الْقَبِيلَة الَّتِي كَانَت تُعْطِي عشرَة آلَاف مِثْقَال مُضَارَبَة أَيَّام وَالِده يسْتَخْرج مِنْهَا على النّصاب الشَّرْعِيّ عشرُون وَثَلَاثُونَ ألف مِثْقَال وَذَلِكَ من توفيق الله لَهُ وتمسكه بِالْعَدْلِ والحلم والجود وَالْحيَاء وَجَمِيل الصَّبْر وَحسن السياسة والتأني فِي الْأُمُور واجتنابه لما هُوَ بضد ذَلِك
فَأَما الْحلم فَهُوَ دأبه وطبعه وَقد اتّفق أهل عصره على أَنه كَانَ أحلم النَّاس فِي زَمَانه وأملك لنَفسِهِ عِنْد الْغَضَب من أَن يَقع فِي الْخَطَأ ومذهبه
وفرت عرب عَامر من بني حسن إِلَى زمور الشلح وَكَانَ النَّاس يظنون أَن السُّلْطَان يَغْزُو فِي هَذِه السّنة برابرة الْجبَال والصحراء فَخرج الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك
وَفِي هَذِه الْمدَّة وَفد على السُّلْطَان أيده الله عدَّة باشدورات للآجناس مثل باشدور الفرنسيس والإصبنيول والبرتغال وَتكلم الفرنسيس فِي شَأْن بابور الْبر والتلغراف وإجرائهما بالمغرب كَمَا هما بِسَائِر بِلَاد الْمَعْمُور وَزعم أَن فِي ذَلِك نفعا كَبِيرا للْمُسلمين وَالنَّصَارَى وَهُوَ الله عين الضَّرَر وَإِنَّمَا النَّصَارَى أجربوا سَائِر الْبِلَاد فأرادوا أَن يجربوا هَذَا الْقطر السعيد الَّذِي طهره الله من دنسهم نَسْأَلهُ سُبْحَانَهُ أَن يكْتب كيدهم ويحفظ الْمُسلمين من شرهم ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان نَصره الله من مكناسة فِي أواسط رَجَب فِي جمع وافر وعدة كَامِلَة فاجتاز بِبِلَاد زمور الشلح فأظهروا لَهُ غَايَة الطَّاعَة والخضوع وقدمت عَلَيْهِ وفودهم من كل جَانب رافعين أعلامهم وشارتهم وزينتهم الَّتِي يستعملونها فِي مواسمهم وأعيادهم وأدوا لَهُ من المَال والمؤن والضيافات مَا استكثر النَّاس ذَلِك وتحدثوا بِهِ ثمَّ زحف إِلَى عرب السهول من أَعمال سلا فأوقع بهم وشرد بهم من خَلفهم وَكتب أعزه الله فِي الْعشْرين من رَمَضَان إِلَى الْآفَاق يعلمهُمْ بِمَا أتاح الله لَهُ من الظُّهُور والنصر والسعادة وخضوع قبائل البربر لَهُ وتباريهم فِي طَاعَته وخدمته وبذلهم من الجباية مَا لم يَكُونُوا يبذلون الْقَلِيل مِنْهُ لغيره وَذكر فِي كِتَابه أَن ذَلِك كُله بمحض فضل الله ومجاري السَّعَادَة وَحسن السياسة من غير ضرب وَلَا طعن وَلَا سفك دم حَتَّى أَن قَبيلَة بني حكم قد أظهرُوا بعض الاعوجاج فَقَامَ إِلَيْهِم إخْوَانهمْ من زمور فَقومُوا اعوجاجهم حَتَّى فاؤوا إِلَى أَمر الله وَكفى الله السُّلْطَان أَمرهم ثمَّ ذكر فِي كِتَابه أعزه الله أَمر السهول وَأَنه بعد أَن أوقع بهم أَمر بِجمع فَلهم وَرَأى استصلاح كلهم تَأْمِين جلهم لعمارة بِلَادهمْ بهم رَجَاء نفع مَا تقدم من أدبهم
وَفِي لَيْلَة الْجُمُعَة الرَّابِع عشر من شعْبَان من السّنة خسف الْقَمَر خسوفا
كليا بِحَيْثُ ذهب نوره واختفى شخصه حَتَّى لم ير مِنْهُ شَيْء وَبَقِي كَذَلِك نَحْو ساعتين ثمَّ أَخذ فِي التجلي شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن عَاد إِلَى امتلائه وَفِي هَذِه الْمدَّة قلت فلوس النّحاس بمراكش وأعمالها حَتَّى كَادَت تنعدم وَذَلِكَ بِسَبَب غلاء الريال الإفرنجي بمراكش ورخصه بفاس فَكَانَ صرفه بمراكش يَوْمئِذٍ بِثَلَاث وَسِتِّينَ أُوقِيَّة وَصَرفه بفاس بِثَلَاث وَخمسين أُوقِيَّة فَصَارَ التُّجَّار يجلبون فلوس النّحاس من مراكش إِلَى فاس ويصرفونها بالريال فيربحون فِي كل ريال نَحْو مِثْقَال وتمالؤوا على ذَلِك وتوفرت دواعيهم عَلَيْهِ حَتَّى قلت الْفُلُوس بمراكش وتقاعد النَّاس عَلَيْهَا لما فِيهَا من الرِّبْح وتعطل معاش الضُّعَفَاء بذلك وَلحق النَّاس ضَرَر كثير فَكَانَ الرجل يطوف بالبسيطة والريال فِي الْأَسْوَاق فَلَا يجد من يصرفهُ لَهُ وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ أَن يَشْتَرِي من ضروريات معاشه مَا قِيمَته أقل من بسيطة واتصل الْخَبَر بالسلطان أعزه الله فَكتب فِي الْآفَاق يَأْمر النَّاس برد صرف الريال إِلَى الثَّلَاثَة مَثَاقِيل وَربع مِثْقَال فامتثل النَّاس ذَلِك وَنُودِيَ بِهِ فِي الْأَسْوَاق فانعكس الْحَال على التُّجَّار وتقاعدوا على الريال والبسيطة وفاضت الْفُلُوس فِي الْأَسْوَاق حَتَّى صَارَت مُعَاملَة النَّاس لَيست إِلَّا بهَا وَحصل للتجار من الضَّرَر فِي رخص الريال مَا كَانَ حصل للضعفاء فِي قلَّة الْفُلُوس لِأَن التُّجَّار حِينَئِذٍ صَارُوا يبيعون سلعهم الَّتِي بذلوا فِيهَا الريال الغالي بالقراريط النحاسية الَّتِي صَار صرف الريال فِيهَا على النّصْف فَأمْسك النَّاس سلعهم وامتنعوا من بيعهَا وتعطلت الْمرَافِق أَو كَادَت فَكتب السُّلْطَان ثَانِيًا برد أسعار السّلع والأقوات على النّصْف مِمَّا كَانَت حَتَّى تحصل الْمُسَاوَاة بَين الْأَثْمَان والمثمنات فَنَشَأَ بذلك هرج كَبِير وضرر للنَّاس فِي معاشهم وأبى الله إِلَّا أَن تعود السِّكَّة إِلَى حالتها الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا وَقد بَينا الْعلَّة فِي ذَلِك قبل هَذَا وَأَن السكَك والأسعار لَا تزَال فِي الزِّيَادَة مَا دَامَت المخالطة مَعَ الفرنج تكْثر بكثرتها وتقل بقلتها
وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث رَمَضَان من السّنة توفّي عَالم الْمغرب السَّيِّد الْمهْدي بن الطَّالِب ابْن سَوْدَة الفاسي كَانَ عَلامَة متقنا فصيحا عَارِفًا بصناعة الدَّرْس حسن الْإِيرَاد فِيهِ بِحَيْثُ فاق أهل زَمَانه يُقَال إِن لَهُ تآليف لَكِن لم
نقف على شَيْء مِنْهَا رحمه الله ثمَّ عيد السُّلْطَان عيد الْفطر من هَذِه السّنة بزبيدة من بِلَاد زعير وَلم يدْخل رِبَاط الْفَتْح على قربه مِنْهَا ووفدت عَلَيْهِ هُنَالك قبائل الْمغرب وَأهل الْأَمْصَار فَشَهِدُوا الْعِيد مَعَه وَأَجَازَهُمْ وكساهم على الْعَادة وَلما فرغ من أَمر الْعِيد عين عَامل رِبَاط الْفَتْح وَهُوَ الْقَائِد أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مُحَمَّد السُّوسِي وَعين الْحَاج عبد الْكَرِيم بن أَحْمد بريشاء التطاوني والحاج مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق ابْن شقرون الفاسي للذهاب إِلَى مادريد دَار ملك الإصبنيول بِقصد السفارة عَنهُ إِلَى دولتهم والمكافأة لَهُم على مَجِيء باشدورهم حَسْبَمَا مر التَّنْبِيه عَلَيْهِ فَفَعَلُوا وعادوا بِحَيْثُ أدركوا عيد الْأَضْحَى من السّنة مَعَ السُّلْطَان أعزه الله بمراكش ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان بعد عيد الْفطر من زبيدة يؤم الْبِلَاد المراكشية فاجتاز بتادلا وَسكن قبائلها وأوقع ببني عُمَيْر وَقبض مِنْهُم على مَا يناهز أَرْبَعمِائَة مسجون سيقت فِي السلَاسِل والأغلال إِلَى السجْن وفر بَنو مُوسَى إِلَى رُؤُوس الْجبَال حَتَّى اسْتَنْزَلَهُمْ السُّلْطَان على الْأمان ودخلوا فِي الطَّاعَة والتزموا الْخدمَة ثمَّ نَهَضَ السُّلْطَان أيده الله إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي عشر ذِي الْحجَّة من السّنة فَكَانَ بهَا عيد لم يعْهَد النَّاس مثله مُنْذُ قديم وَكتب إِلَى الْآفَاق يعلم النَّاس بِمَا من الله بِهِ من النَّصْر والتأييد وَالْفَتْح والعز المديد وَأقَام السُّلْطَان بمراكش فِي هَذِه الْمرة مُدَّة طَوِيلَة إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا نذكرهُ
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَكَانَت هَذِه السّنة من أَشد السنين على الْمُسلمين قد تعدّدت فِيهَا المصائب والكروب وتلونت فِيهَا النوائب والخطوب لَا أَعَادَهَا الله عَلَيْهِم فَكَانَ فِيهَا أَولا غلاء الأسعار وَكَانَ منشأه وابتداؤه من تثقيف السِّكَّة فِي آخر السّنة الْمَاضِيَة ثمَّ عقب ذَلِك انحباس الْمَطَر لم تنزل من السَّمَاء قَطْرَة وأجيحت النَّاس وَهَلَكت الدَّوَابّ والأنعام وعقب ذَلِك الْجُوع ثمَّ الوباء على ثَلَاثَة أَصْنَاف كَانَت أَولا بالإسهال والقيء فِي أوساط النَّاس بادية وحاضرة ثمَّ كَانَ الْمَوْت بِالْجُوعِ فِي أهل الْبَادِيَة خَاصَّة هلك مِنْهُم الجم الْغَفِير وَكَانَ إخْوَانهمْ يحفرون على من دفن مِنْهُم لَيْلًا ويستلبونهم من أكفانهم عثر بسلا على عدد مِنْهُم وَأمر
السُّلْطَان أعزه الله عُمَّال الْأَمْصَار وأمناءها أَن يرتبوا للنَّاس من الأقوات مَا ينتعشون بِهِ فَفَعَلُوا وَبعد هَذَا كُله حدث الوباء بالحمى فِي أَعْيَان النَّاس وأماثلهم فَهَلَك مِنْهُم عدد كثير وَفِي هَذِه المسغبة مد النَّصَارَى أَيْديهم إِلَى الرَّقِيق فاشتروه وَكَانَ ابْتِدَاء ذَلِك أَنهم كَانُوا يعاملون ضعفاء الْمُسلمين وصبيانهم بالصدقات والإرفاقات ثمَّ تجاوزوا ذَلِك إِلَى شِرَاء الرَّقِيق مِنْهُم وَالْأَمر لله وَحده يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَكَانَ فِي أوائلها موت النَّاس بالحمى كَمَا قُلْنَا فَمَاتَ فِي الْمحرم مِنْهَا الْوَزير الْأَعْظَم أَبُو عمرَان مُوسَى بن أَحْمد وَكَانَ شعلة ذكاء وتمثال فطنة ودهاء غفر الله لنا وَله واستوزر السُّلْطَان مَكَانَهُ الْفَقِيه الْأَخير أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ بن الْمُخْتَار بن عبد الْملك الجامعي من بَيت الوزارة وَأهل العراقة فِيهَا ويبلغنا عَنهُ أَنه يحب أهل الْخَيْر ويلين جَانِبه للضعفاء وَالْمَسَاكِين وَيُحب السُّلْطَان وَينْصَح لَهُ ويغار على جَانِبه الْمُعظم وحماه الْمُحْتَرَم ويتجافى عَن الطمع الَّذِي هُوَ أصل كل مفْسدَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا سدده الله وَفِي ظهر يَوْم الْأَحَد عَاشر صفر من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي شَيخنَا الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي أَبُو بكر ابْن الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي مُحَمَّد عواد كَانَ رحمه الله من أهل الْمُشَاركَة فِي الْعلم والاعتناء بِهِ كثير الدَّرْس كثير التَّقْيِيد ختمنا عَلَيْهِ رحمه الله عدَّة كتب كبار جعلهَا الله فِي ميزَان حَسَنَاته مِنْهَا صَحِيح البُخَارِيّ نَحْو عشر مَرَّات وصحيح مُسلم ثَلَاث مَرَّات وشفاء القَاضِي عِيَاض مرَارًا وَكتاب الاكتفا لأبي الرّبيع الكلَاعِي مرّة وَأُخْرَى إِلَى غَزْوَة خَيْبَر وشمائل التِّرْمِذِيّ مرَّتَيْنِ بشرح أبي عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم جسوس وإحياء الْغَزالِيّ رضي الله عنه وعوارف المعارف للسهروردي وتآليف غَيرهَا من كتب النَّحْو وَالْفِقْه وَالْبَيَان وَالْكَلَام وَغير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَبِالْجُمْلَةِ فقد انتفعنا عَلَيْهِ واستفدنا مِنْهُ رحمه الله ونفعنا بِهِ وَولي الْقَضَاء بعده الْفَقِيه الْعَالم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْجريرِي عرف بِابْن الْفَقِيه من بَيت الْعلم وَالدّين والصون وَهُوَ رحمه الله يتحَرَّى المعدلة فِي أَحْكَامه وينتهج صَرِيح الشَّرْع فِي جَمِيع أُمُوره سدده الله وكلاه وَتَوَلَّى
الخطابة بِالْمَسْجِدِ بعد شَيخنَا الْمَذْكُور شقيقه الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد عواد وَهُوَ مجيد فِي الخطابة وَمن أهل الْمُرُوءَة وَالدّين وَالْعلم وفقنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين لما يُحِبهُ ويرضاه وَفِي هَذِه الْأَيَّام استدعى السُّلْطَان أيده الله خديمه الْأمين الأرضى السَّيِّد مُحَمَّد بن الْحَاج مُحَمَّد التازي الرباطي إِلَى حَضرته الْعَالِيَة بِاللَّه بمراكش فَقدم عَلَيْهِ الْأمين الْمَذْكُور وَأجل السُّلْطَان مقدمه وَأسْندَ إِلَيْهِ أَمر خراج الْمغرب ومراسيه ومستفاداتها وَمَا يتبع ذَلِك من صوائرها وفوض إِلَيْهِ فِي ذَلِك تفويضا تَاما لعلمه بنصحه وأمانته وَضَبطه وَهَذَا الرجل من أمثل أهل الْمغرب وأصدقهم وأنصحهم للسُّلْطَان وأشدهم غيرَة على الدّين والوطن حَتَّى لَو كَانَ فِي الدولة عشرَة رجال على شاكلته ومذهبه لَكَانَ يظنّ أَن يكون لَهَا بذلك النجاح التَّام نسْأَل الله تَعَالَى أَن يصلح أمرهَا ويشيد بمنه عزها وَفَخْرهَا وَفِي ربيع الثَّانِي من السّنة ورد أَمر السُّلْطَان أعزه الله على وُلَاة العدوتين أَن يوجهوا عددا من أمنائهم وعدولهم للْخدمَة السُّلْطَانِيَّة بالمراسي المغربية فقدموا عَلَيْهِ بمراكش وَكَانَ فِي جُمْلَتهمْ أخونا فِي الله الْفَقِيه الْعَلامَة الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْهَاشِمِي بن خضراء السلاوي فَقَالَ قصيدة فِي مدح السُّلْطَان نَصره الله نَصهَا
(لبيْك لبيْك يَا خير السلاطين
…
أدامك الله فِي عز وتمكين)
(دَعَوْت عَبدك فَاسْتَجَاب مبتدرا
…
وَقد اناخ على الطير الميامين)
(يهدي إِلَيْك تَحِيَّة مباركة
…
أذكى وَأطيب من مسك ونسرين)
(ممرغا وجنتيه فارحا جذلا
…
إِذا فَازَ مِنْك بتخصيص وَتَعْيِين)
(مؤملا راجيا بُلُوغ مقْصده
…
مُسْتَبْشِرًا برضى بالنجح مقرون)
(يَا نجح سعيي وَيَا بشراي قد سعدت
…
حَالي وفزت بتقريب وتأمين)
(من مبلغ معشري أَنِّي أويت إِلَى
…
ظلّ مديد يُظِلنِي ويؤويني)
(ظلّ الْإِلَه على عباده وَكفى
…
بِهِ كَفِيلا وذخرا للْمَسَاكِين)
(رب السماح فَمَا معن بن زَائِدَة
…
وَأَيْنَ من راحتيه نهر سيحون)
(لله من ملك جلت مآثره
…
عَن أَن يُحِيط بهَا حصر بتدوين)
(دَعَا الْمَعَالِي فانقادت ملبية
…
يضيق عَن وصفهَا بطن الدَّوَاوِين)
(لَهُ السَّعَادَة قد أَلْقَت أزمتها
…
وَالْفَتْح رائده فِي كل مَا حِين)
(وَبشر طلعته يسر ذَا حزن
…
وَأَيْنَ مَا حل كَانَ خير مَيْمُون)
(حامي الشَّرِيعَة والرحمن ناصره
…
ماضي الْعَزِيمَة لَا يرضى بتوهين)
(فِي كل قطر ثَنَاء عَنهُ منتشر
…
أَي انتشار يفوق مسك دارين)
(سَاس الْعباد بتدبير ومعدلة
…
وَأحسن الْأَمر فِي الدُّنْيَا وَفِي الدّين)
(وَلَيْسَ يعبأ بالدنيا وَزينتهَا
…
لكنه بَين مَفْرُوض ومسنون)
(وطبق الأَرْض عدله وَنعمته
…
مجاله بَين تسكين وتحسين)
(بسعده الغرب قد بَدَت محاسنه
…
فجر ذيلا على بَغْدَاد والصين)
(وتاه مزدريا بِكُل مملكة
…
يميس فِي حلل ذَوَات تلوين)
(نعم الإِمَام الْهمام المرتضى حسن
…
فَخر الْمُلُوك سلالة السلاطين)
(السَّيِّد الْملك ابْن السَّيِّد الْملك ابْن
…
السَّيِّد الْملك الْمَعْرُوف باللين)
(بَحر خضم مغيث سيد بَطل
…
بُد الليوث وفرسان الميادين)
(دَانَتْ بِطَاعَتِهِ العدا بأجمعها
…
مذ البست ملبس الصغار والهون)
(وفَاق من قبله حلما ومكرمة
…
وسطوة بهرت أهل الأواوين)
(لَا غرو إِن نَالَ مَا فَاتَ الألى غبروا
…
وشاد مَا عجزوا عَنهُ بتحصين)
(قد يدْرك الآخر الشأو الَّذِي قصرت
…
عَنهُ الْأَوَائِل فِي ماضي الْأَحَايِين)
(تبَارك الله مَا أسمى مفاخره
…
كسبا وَارِثا من الشم العرانين)
(وَلَا ترى الْغَرْس قد زكتْ أرومنه
…
إِلَّا أَتَى الْفَرْع مِنْهُ فِي أفانين)
(يَا خير من أمه الراجي وَأكْرم من
…
يثني عَلَيْهِ بمعرب وملحون)
(وَيَا ابْن خير الْأَنَام من نبوته
…
لَهُ وآدَم بَين المَاء والطين)
(وَيَا ملاذ الورى يَا من سما كرما
…
يَا نعْمَة عظمت يَا كنز مِسْكين)
(يَا منبع الْجُود يَا تَاج الفخار وَيَا
…
مأوى العفاة وَيَا سلوان محزون)
(يَا من روى عَن أَبِيه رفع سؤدده
…
يَا من أوامره إِلَيْهِ تَدعُونِي)
(وفدت ملتمسا رضاك يَا سندي
…
وَلَيْسَ شَيْء سوى رضاك يرضيني)
(فأمنن عَليّ بعطفة تُصَاحِبنِي
…
مدى الدهور وللعلى ترقيني)
(بقيت مَا شِئْت فِي عز ومقدرة
…
ودمت فِي نعم بِحَق جبرين)
وَلما وقف السُّلْطَان أعزه الله على هَذِه القصيدة هزت من عطفه وَأمر أَن يسْأَل منشئها عَن مطلبه فاقترح أَن يُؤذن لَهُ فِي الْإِفْتَاء وَأَن يعْطى ظهيرا بالتوقير والاحترام وَأَن ينعم عَلَيْهِ بِمَا يَقْتَضِي الاعتناء بِهِ فأنعم عَلَيْهِ السُّلْطَان أعزه الله بِالْإِذْنِ فِي الْإِفْتَاء وبظهير الاحترام وَنفذ لَهُ راتبا من أحباس جَامع ابْن يُوسُف إِعَانَة لَهُ على الدَّرْس بِهِ ثمَّ كَانَ نهوض السُّلْطَان أيده الله من مراكش قَاصِدا بِلَاد الغرب غرَّة جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فاجتاز فِي طَرِيقه بتادلا وأناخ على قَبيلَة آيت أعتاب فأوقع بهم فِي أوعارهم وأعز معاقلهم وأوكارهم وَقطع مِنْهُم وَاحِدًا وَعشْرين رَأْسا ثمَّ زحف إِلَى بني مُوسَى فأدوا الطَّاعَة وَقَامُوا بواجبها ثمَّ سَار محفوفا بالنصر واليمن إِلَى أَن دنا من مكناسة الزَّيْتُون فزحف إِلَى بني مطير وَكَانَ شررهم قد استطار فِي تِلْكَ النواحي كل مطير فَإِنَّهُ لما سَافر السُّلْطَان نَصره الله عَن مكناسة سنة أَربع وَتِسْعين كَمَا مر زحف بَنو مطير هَؤُلَاءِ إِلَى عرب دخيسة وَأَوْلَاد نصير الَّذين أنزلهم السُّلْطَان بسايس وبوأهم إِيَّاه عوض مجاط وأوقعوا بهم وقْعَة شنعاء وَقد صبرت الْعَرَب فِي ذَلِك الْيَوْم صبرا جميلا حَتَّى أَن جمَاعَة مِنْهُم قد عقلوا أنفسهم فِي حومة الْحَرْب لِئَلَّا يَفروا وَقَاتل إخْوَانهمْ دونهم حَتَّى كثرهم البربر فقبضوا عَلَيْهِم بِالْيَدِ وضربوا أَعْنَاقهم وَقتلُوا مِنْهُم نَحْو مِائَتَيْنِ وَهلك من البربر مثل ذَلِك أَو أَكثر وَلما انْهَزَمت الْعَرَب عمد بَنو مطير إِلَى مجاط فأنزلوهم بسائس على مَا كَانُوا عَلَيْهِ قبل ثمَّ انْطَلقُوا فِي الطرقات بالعيث والإفساد فِيهَا والنهب للمارة وَلم يدخروا شَيْئا من الشيطنة ليَوْم آخر وَكَثُرت الشكايات بهم على السُّلْطَان وَهُوَ بمراكش فَلَمَّا قدم أعزه الله قَدمته هَذِه لم يقدم شَيْئا على تأديبهم فَنَهَضَ إِلَى رَأس بِلَادهمْ ومزرعة فسادهم آكراي والحاجب وَغَيرهمَا وتقرى آثَارهم فِي تِلْكَ الْجِهَات حَتَّى جَاوَزت عساكره الْحَاجِب بمسايف كَثِيرَة وتوغلت البربر فِي قنن الْجبَال فَأمر السُّلْطَان أدام الله علاهُ بني مكيلد أَن يزحفوا إِلَيْهِم من نَاحيَة قبْلَة آكراي فزحفوا وانبثوا على حدودهم إِلَى غابة افقفاق الَّتِي هِيَ الْحَد بَين بني مكيلد وآيت شغروسن وآيت يوسي فحصروهم من تِلْكَ الْجِهَات ثمَّ نزل بإزائهم
آيت يوسي وآيت شغروسن وآيت عَيَّاش وآيت والان من جِهَة الشمَال وامتدوا امتدوا إِلَى حُدُود وَادي النجَاة وربط حذوهم من جِهَة الغرب وَرَاء وَادي النجَاة الْقَائِد الْعَرَبِيّ بن مُحَمَّد الشَّرْقِي الْمَدْعُو بَابا مُحَمَّد وَوصل جنَاحه عَلَيْهِم قبائل الغرب والحوز وَصَارَ بَنو مطير فِي مثل أفحوص القطاة وضاق بهم رحب الفضاء وأيقنوا بِالْهَلَاكِ والبوار ولفظتهم السهول والأوعار ونهبت الْجنُود زُرُوعهمْ الْقَائِم والحصيد واستخرجت من مخزونهم الْكثير والعتيد وَلما انْتهى الْحَال بهم إِلَى هَذِه الْغَايَة تطارحوا على السُّلْطَان بالشفاعات وَأَكْثرُوا من التوسل بالذبائح والعارات فرق لَهُم وأقلع عَنْهُم بعد أَن ألزمهم إِعْطَاء خَمْسمِائَة مَرْهُون ووظف عَلَيْهِم مائَة وَخمسين ألف ريال بعد أَدَاء الْحُقُوق ورد الْمَظَالِم وَشرط عَلَيْهِم إِخْرَاج قَبيلَة مجاط من بَين أظهرهم وضمنهم طَرِيق مكناسة وفاس وَجعل الْعهْدَة فِيهَا عَلَيْهِم جَريا على عَادَتهم الْقَدِيمَة من جعلهم النزائل بهَا والحراس فالتزموا ذَلِك كُله وأدوه وَبعد ذَلِك نَهَضَ السُّلْطَان عَنْهُم إِلَى مكناسة فَدَخلَهَا أَوَاخِر رَجَب الْفَرد من السّنة وَاسْتمرّ بهَا إِلَى أَن دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَنَهَضَ إِلَى فاس وَلما احتل بهَا فرق الجيوش فِي النواحي لجباية الزكوات والأعشار والوظائف المخزنية فانتهت السَّرَايَا والبعوث إِلَى آيت يزدق من برابرة الصَّحرَاء فأذعنوا وأدوا مَا كلفوا بِهِ من الزكوات والأعشار وَغَيرهَا وَإِلَى آيت يوسي وَغَيرهم فأطاعوا وأذعنوا إِلَّا آيت حلى وهم بطن من آيت يوسي فَإِنَّهُم انحرفوا عَن عاملهم وأبوا من أَدَاء مَا وظف عَلَيْهِم فأوقع بهم جَيش السُّلْطَان وَقَطعُوا مِنْهُم عددا من الرؤوس وَسَاقُوا مثلهَا من المساجين فعلقت الرؤوس بأسوار فاس وَبعد ذَلِك أذعن آيت حلى للطاعة فقبلهم السُّلْطَان أيده الله وألزمهم ولَايَة عاملهم الَّذِي كَانُوا منحرفين عَنهُ وَكَانَ ذَلِك فِي أَوَاخِر صفر من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ كَانَ عيد المولد الْكَرِيم فاحتفل لَهُ السُّلْطَان على الْعَادة وَبعث إِلَى حَضرته صاحبنا الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن خضراء بقصيدة ميلادية يَقُول فِيهَا
(أمل المديح محبرا يَا منشد
…
وأعده تطريبا فَذَلِك أَحْمد)
(هَذَا أَوَان مَسَرَّة وسعادة
…
هذي اللَّيَالِي الغر هَذَا الْموعد)