الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أشهر وَزَاد فِي تحصينه ابْنه السُّلْطَان أَبُو عنان رحمهمَا الله تَعَالَى
وَأما ابْن الْأَحْمَر فَإِن أَوْلَاد عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء شُيُوخ الْغَزْو بالأندلس لما رَأَوْا مَا حصل بَينه وَبَين السُّلْطَان أبي الْحسن من الْوِفَاق واتصال الْيَد خَافُوا أَن تعود موافقتهم بِالضَّرَرِ عَلَيْهِم إِذْ كَانُوا أَعدَاء للدولتين مَعًا أما دولة الْمغرب فبخروجهم عَلَيْهِم ومنابذتهم إيَّاهُم غير مرّة وَأما دولة الأندلس فباستحواذهم على أَهلهَا ومزاحمتهم إيَّاهُم فِي رياستها فتشاوروا فِيمَا بَينهم وفتكوا بِابْن الْأَحْمَر يَوْم رحيله عَن الْجَبَل إِلَى غرناطة فتقاصفوه بِالرِّمَاحِ وَقدمُوا أَخَاهُ ابا الْحجَّاج يُوسُف بن إِسْمَاعِيل مَكَانَهُ فَقَامَ بِالْأَمر بعده وشمر للأخذ بثار أَخِيه فاحتال على بني أبي الْعَلَاء حَتَّى قبض عَلَيْهِم وأودعهم المطبق ثمَّ غربهم إِلَى تونس إِلَى أَن كَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ
فتح تلمسان ومقتل صَاحبهَا أبي تاشفين وانقراض الدولة الأولى لبني زيان بمهلكه
لما استقام ملك الْمغرب للسُّلْطَان أبي الْحسن بمقتل أَخِيه أبي عَليّ صَاحب سجلماسة وَنصر الله جنده على الطاغية بالأندلس تفرغ لشأن تلمسان والانتقام من صَاحبهَا أبي تاشفين الَّذِي ضايق أصهاره من بني أبي حَفْص فِي أَرضهم ونازعهم فِي ملكهم وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن قد بعث لأوّل بيعَته شُفَعَاء إِلَى أبي تاشفين فِي أَن يتخلى عَن عمل الْمُوَحِّدين وَيرجع إِلَى تخوم أَعماله الَّتِي ورثهَا عَن سلفه وَقَالَ لَهُ فِي جملَة ذَلِك كف عَنْهُم وَلَو سنة وَاحِدَة ليسمع النَّاس أَنِّي نافحت عَن صهري ويقدروا قدري فاستنكف أَبُو تاشفين من ذَلِك وَأَغْلظ للرسل فِي القَوْل وأفحش بعض السُّفَهَاء من عبيده فِي الرَّد عَلَيْهِم بمجلسه ونالوا من السُّلْطَان أبي الْحسن بمحضره فَعَادَت الرُّسُل إِلَيْهِ وأعلموه بالقضية على وَجههَا فحمي لذَلِك وَغَضب وتأكد عزمه على النهوض إِلَى تلمسان فَكَانَ من نهوضه أَولا وانتقاض أَخِيه عَلَيْهِ وَعوده إِلَيْهِ من تاسالت مَا قصصناه قبل مُسْتَوفى
ثمَّ عاود السُّلْطَان النهوض إِلَى تلمسان فِي هَذِه الْمرة فَعَسْكَرَ بِظَاهِر فاس الْجَدِيد وَبعث وزراءه ووجوه دولته إِلَى قاصية الْبِلَاد المراكشية لحشد الْقَبَائِل والجموع ثمَّ تعجل وَعرض جُنُوده وأزاح عللهم وعبى مواكبه وَفصل فِي التعبية من فاس أواسط خمس وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فَسَار يجر الشوك والمدر من أُمَم الْمغرب وَجُنُوده وَمر بوجدة فجمر عَلَيْهَا الْكَتَائِب للحصار ثمَّ مر بندرومة فقاتلها بعض يَوْم ثمَّ اقتحمها عنْوَة فاستولى عَلَيْهَا وَقتل حاميتها ثمَّ سَار على التعبية حَتَّى أَنَاخَ على تلمسان ثمَّ بلغه الْخَبَر بتغلب عسكره على وَجدّة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فأوعز إِلَيْهِم بتخريب أسوارها فأضرعوها بِالْأَرْضِ وتوافت لَدَيْهِ أَمْدَاد النواحي وحشودها ووفدت عَلَيْهِ قبائل مغراوة وَبنى توجين فَأتوهُ طاعتهم وسرح كتائبه إِلَى القاصية فتغلب على وهران وهنين ثمَّ على مليانة وتنس والجزائر وَغَيرهَا وَاسْتولى على الضواحي وَنزع إِلَيْهِ يحيى بن مُوسَى كَبِير قواد أبي تاشفين وَصَاحب الثغور الشرقية من أَعماله فلقاه مبرة وكرامة وَرفع بساطه ونظمه فِي طَبَقَات وزرائه وجلسائه وَعقد على فتح الْبِلَاد الشرقية ليحيى بن سُلَيْمَان العسكري شيخ بني عَسْكَر بن مُحَمَّد وصهر السُّلْطَان على ابْنَته فَسَار فِي الألوية والجنود فطوع ضاحية الشرق وافتتح أمصاره حَتَّى انْتهى إِلَى لمدية ونظم الْبِلَاد فِي طَاعَة السُّلْطَان أبي الْحسن واحتشد جموعها فَلَحقُوا بمعسكره وَاسْتعْمل السُّلْطَان أَبُو الْحسن عماله على الْجِهَات
واختط بغربي تلمسان الْبَلَد الْجَدِيد لسكناه ونزول عساكره وَأَحْيَا معالم المنصورة الَّتِي كَانَ اختطها عَمه يُوسُف بن يَعْقُوب وخربها بَنو زيان من بعده فأدار عَلَيْهَا سياجا من السُّور ونطاقا من الخَنْدَق وَنصب المجانيق وآلات من وَرَاء خندقه وَجعلت رماته تنضح رُمَاة الْعَدو بِالنَّبلِ ويشغلونهم بِأَنْفسِهِم حَتَّى شيد برجا آخر يقرب مِنْهُم وترتفع شرفاته فَوق خندقهم وتماصع الْمُقَاتلَة بِالسُّيُوفِ من أعاليه ورتب المجانيق لرجمها وَأحكم عَملهَا لدكها فنالت من ذَلِك فَوق الْغَايَة وَعظم أَثَرهَا فِي الْقُصُور الْعَظِيمَة والقباب الرفيعة الَّتِي تأنق أَبُو تاشفين فِي تشييدها وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن يصبح الْمُقَاتلَة كل يَوْم
وَيَطوف على الْبَلَد من جَمِيع جهاته لتفقد رُؤَسَاء الْعَسْكَر فِي مراكزهم وَرُبمَا انْفَرد فِي طَوَافه فَطَافَ فِي بعض الْأَيَّام منتبذا عَن الْحَاشِيَة فاهتبل بَنو عبد الواد غرته حَتَّى إِذا سلك مَا بَين الْجَبَل والبلد فتحُوا أَبْوَابهَا وَأَرْسلُوا عَلَيْهِ عقبان جنودهم يحسبونها فرْصَة كَالَّتِي كَانَت ليغمراسن بن زيان فِي السعيد الموحدي واضطروه إِلَى سفح الْجَبَل حَتَّى لحق بأوعاره وَكَاد ينزل عَن فرسه هُوَ ووليه عريف بن يحيى أَمِير عرب سُوَيْد وأحس أهل المعسكر بذلك فَرَكبُوا زرافات ووحدانا وَركب ابناه الأميران أَبُو عبد الرَّحْمَن وَأَبُو مَالك وهما جنَاحا عسكره وعقابا جحافله وتهاوت إِلَيْهِم صقور بني مرين من كل جو فَانْكَشَفَتْ عَسَاكِر بني عبد الواد وولوا الأدبار منهزمين لَا يلوي أحد مِنْهُم على أحد واعترضهم مهوى الخَنْدَق فتطارحوا فِيهِ وتهافتوا على ردمه فَكَانَ الْهَالِك يَوْمئِذٍ فِيهِ أَكثر من الْهَالِك بِالسِّلَاحِ وَهلك من بني توجين يَوْمئِذٍ عمر بن عُثْمَان كَبِير الحشم وعامل جبل وانشريس وَمُحَمّد بن سَلامَة بن عَليّ كَبِير بني يدللتن وَصَاحب قلعة تاوغروت وهما مَا هما فِي زناتة إِلَى أشباه لَهما استلحموا فِي هَذِه الْوَقْعَة فحص هَذَا الْيَوْم من جناج دولة بني زيان وحطم مِنْهَا واتصل الْحصار مُدَّة من ثَلَاث سِنِين حَتَّى إِذا كَانَ السَّابِع وَالْعشْرُونَ من رَمَضَان من سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة اقتحم السُّلْطَان أَبُو الْحسن مَدِينَة تلمسان عنْوَة ووقف أَبُو تاشفين رحمه الله عِنْد بَاب قصره فِي جمَاعَة من أَصْحَابه مِنْهُم ولداه عُثْمَان ومسعود ووزيره مُوسَى بن عَليّ ووليه عبد الْحق بن عُثْمَان وَهُوَ الَّذِي كَانَ خرج على السُّلْطَان أبي الرّبيع وَبَايَعَهُ عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب الوطاسي حَسْبَمَا مر فَإِنَّهُ لحق بِهِ بعد تِلْكَ الْوَقْعَة بتلمسان ثمَّ مِنْهَا إِلَى الأندلس ثمَّ حضر انْتِقَاض العزفي بسبتة سنة سِتّ عشرَة كَمَا مر ثمَّ لحق بِأبي بكر الحفصي ثمَّ نزع عَنهُ إِلَى أبي تاشفين وَاسْتمرّ عِنْده إِلَى هَذَا الْيَوْم فشهده فِي جمَاعَة من بنيه وَبني أَخِيه وَكَانُوا أحلاس حَرْب وفتيان كريهة فمانعوا دون الْقصر واستماتوا عَلَيْهِ إِلَى أَن استلحموا وَرفعت رؤوسهم على عَصا الرماح فطيف بهَا وغصت سِكَك الْبَلَد من داخلها وخارجها بالعساكر وكظت أَبْوَابهَا بالزحام حَتَّى لقد كب النَّاس على أذقانهم
وتواقعوا على مساربهم فوطئوا بالحوافر وتراكمت أشلاؤهم مَا بَين الْبَابَيْنِ حَتَّى ضَاقَ المسلك مَا بَين السّقف ورحبة الْبَاب وَانْطَلَقت الْأَيْدِي على الْمنَازل نهبا واكتساحا
وَأما أَبُو تاشفين فَإِنَّهُ قَاتل حَتَّى قتل ابناه عُثْمَان ومسعود أَمَامه وخلصت إِلَيْهِ جراحات فأثخنته وتقبض عَلَيْهِ بعض الفرسان فساقه إِلَى السُّلْطَان فَلَقِيَهُ ابْنه الْأَمِير أَبُو عبد الرَّحْمَن فَأمر بِهِ فَقتل فِي الْحِين واحتز رَأسه وَسخط السُّلْطَان ذَلِك من فعله لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا على توبيخه وتقريعه وَقَالَ ابْن الْخَطِيب وقف أَبُو تاشفين وَبَنوهُ بِإِزَاءِ الْقصر مدافعين عَن أنفسهم وَقَامُوا مقَام الصَّبْر والإستجماع وَصَدقُوا عَن أنفسهم الدفاع إِلَى أَن كوثروا وأعجلتهم ميتَة الْعِزّ عَن شدّ الوثاق وَإِمْكَان الشمات فَكَانَ فِي شَأْنهمْ عِبْرَة رحمهم الله
وخلص السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى الْمَسْجِد الْجَامِع بحاشيته واستدعى شُيُوخ الْفتيا بتلمسان وهما الإمامان الشهيران أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن وَأَبُو مُوسَى عِيسَى ابْنا الإِمَام فخلصوا إِلَيْهِ بعد الْجهد ووعظوه وذكروه بِمَا نَالَ النَّاس من النهب والعيث فَركب لذَلِك بِنَفسِهِ وَسكن النَّاس وَقبض أَيدي الْجند عَن الْفساد وَعَاد إِلَى مُعَسْكَره بِالْبَلَدِ الْجَدِيد وَقد كمل الْفَتْح وَعز النَّصْر وَاسْتولى السُّلْطَان أَبُو الْحسن على تِلْكَ الْإِمَارَة المؤثلة بِمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من نَفِيس الحلى وثمين الذَّخِيرَة وفاخر الْمَتَاع وخطير الْعدة وبديعة الْآلَة وصامت المَال وضروب الرَّقِيق وصنوف الأثاث والماعون وَرفع الْقَتْل عَن بني عبد الواد أعدائه وشفا نَفسه بقتل سلطانهم وَعَفا عَنْهُم وأثبتهم فِي الدِّيوَان وَفرض لَهُم الْعَطاء واستتبعهم على راياتهم ومراكزهم وَجمع كلمة بني واسين من بني مرين وَبني عبد الواد وَبني توجين وَسَائِر زناتة وصاروا عصبا تَحت لوائه وسد بِكُل طَائِفَة مِنْهُم ثغرا من أَعماله فَأنْزل مِنْهُم بقاصية السوس وبلاد غمارة وَأَجَازَ مِنْهُم إِلَى ثغور عمله بالأندلس حامية ومرابطين واندرجوا فِي جملَته واتسع نطاق مَمْلَكَته وَأصْبح أَبُو الْحسن ملك زناتة بعد أَن كَانَ ملك بني مرين وسلطان العدوتين بعد أَن كَانَ سُلْطَان الْمغرب فَقَط {إِن الأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين}
خلفا وسلفا لَا يسع إِنْكَاره غير أَن للزيارة آدابا تجب الْمُحَافظَة عَلَيْهَا وشروطا لَا بُد من مراعاتها وَالْوُقُوف لَدَيْهَا ثمَّ القَوْل بمنعها مُطلقًا سدا للذريعة فِي حق الْعَامَّة إِذْ هم أَكثر النَّاس وغولا فِي ذَلِك فِيهِ نظر أما الْأَنْبِيَاء فَلَا يَنْبَغِي لعاقل أَن يحرم نَفسه من الْوُقُوف على مشاهدهم والتبرك بتربتهم والاحتماء بحماهم وَلَا أَن يَقُول بذلك لمزيد ارْتِفَاع درجتهم عِنْد الله تَعَالَى ولندور اتِّفَاق زيارتهم لأكْثر الغرباء وَأما الْأَوْلِيَاء فَالْقَوْل بِمَنْع زيارتهم سدا للذريعة مَعَ بَيَان الْعلَّة وإشهارها بَين النَّاس حَتَّى لَا يلتبس عَلَيْهِم الْمَقْصُود قَول وجيه لَا تأباه قَوَاعِد الشَّرِيعَة بل تَقْتَضِيه وَالله أعلم وَهَذَا القَوْل هُوَ الَّذِي رَآهُ الشَّيْخ الْفَقِيه الصُّوفِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التجاني رحمه الله حَتَّى نهى أَصْحَابه عَن زِيَارَة الْأَوْلِيَاء
وَأَقُول إِن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله كَانَ يرى شَيْئا من ذَلِك ولأجله كتب رسَالَته الْمَشْهُورَة الَّتِي تكلم فِيهَا على حَال متفقرة الْوَقْت وحذر فِيهَا رضي الله عنه من الْخُرُوج عَن السّنة والتغالي فِي الْبِدْعَة وَبَين فِيهَا بعض آدَاب زِيَارَة الْأَوْلِيَاء وحذر من تغالي الْعَوام فِي ذَلِك وَأَغْلظ فِيهَا مُبَالغَة فِي النصح للْمُسلمين جزاه الله خيرا وَمن كَلَامه فِيهَا مَا نَصه تَنْبِيه من الغلو الْبعيد ابتهال أهل مراكش بِهَذِهِ الْكَلِمَة سَبْعَة رجال فَهَل كَانَ لسبعة رجال شيعَة يطوفون عَلَيْهِم إِلَى أَن قَالَ فعلينا أَن نقتدي بسبعة رجال وَلَا نتخذهم آلِهَة لِئَلَّا يؤول الْحَال فيهم إِلَى مَا آل إِلَيْهِ فِي يَغُوث ويعوق ونسرا إِلَى آخر كَلَامه وَصدق رحمه الله فكم من ضَلَالَة وَكفر أَصْلهَا الغلو فِي التَّعْظِيم وَمَا ضلت النَّصَارَى إِلَّا من غلوهم فِي عِيسَى وَأمه عليهما السلام قَالَ الله تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق} النِّسَاء 17 الْآيَة وَمن ذَلِك قصَّة يَغُوث ويعوق ونسرا الْمشَار إِلَيْهَا وَهِي مَذْكُورَة فِي الصَّحِيح وَفِي كتب التَّفْسِير
وَحكى ابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة أَن أصل حُدُوث عبَادَة الْحجر فِي بِلَاد الْعَرَب أَن آل إِسْمَاعِيل عليه السلام لما كَثُرُوا حول الْحرم وَضَاقَتْ بهم
فجاج مَكَّة تفَرقُوا فِي النواحي وَأخذُوا مَعَهم أحجارا من الْحرم تبركا بهَا فَكَانَ أحدهم يضع الْحجر فِي بَيته فيطوف ويتمسح بِهِ ويعظمه ثمَّ توالت السنون وخلفت الخلوف فعبدوا تِلْكَ الْأَحْجَار ثمَّ عبدُوا غَيرهَا وَذَهَبت مِنْهُم ديانَة إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عليهما السلام إِلَّا يَسِيرا جدا بَقِي فيهم إِلَى أَن صبحهمْ الْإِسْلَام هَذَا معنى مَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَقد تكلم الشاطبي وَغَيره من الْعلمَاء فِيمَا يقرب من هَذَا وَذكروا أَن الغلو فِي التَّعْظِيم أصل من أصُول الضلال وَلَو لم يكن فِي ذَلِك إِلَّا قَضِيَّة الشِّيعَة لَكَانَ كَافِيا فَالْحَاصِل أَن خير الْأُمُور الْوسط وَمن هُنَا أَيْضا كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله قد أبطل بِدعَة المواسم بالمغرب وَهِي لعمري جديرة بالإبطال فسقى الله ثراه وَجعل فِي عليين مثواه
وَلما كَانَ رَمَضَان من سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف قدم الْمولى إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان الْمَذْكُور من الْحجاز وَنزل بطنجة وَكَانَ قدومه فِي قرصان الإنجليز لِأَن وَالِده رحمه الله كَانَ قد وَجهه إِلَيْهِ مَعَ بضع قراصينه إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فصادفوه قد انحدر إِلَى جَزِيرَة مالطة فَركب الْمولى الْمَذْكُور فِيمَا خف من حَاشِيَته فِي قرصان النجليز وَسبق إِلَى طنجة فاحتل بهَا ثمَّ سَار إِلَى حَضْرَة وَالِده بمكناسة فَأَقَامَ عِنْده ثَلَاثًا ريثما استراح ثمَّ انْفَصل عَنهُ إِلَى دَاره بفاس فَخرج لملاقاته جَيش الودايا وأشراف فاس وأعلامها وَسَائِر عامتها بفرح وسرور وَكَانَ يَوْم دُخُوله يَوْمًا مشهودا وَلما وصل الْقَوْم الَّذين كَانُوا مَعَه نشرُوا محاسنه وفضائله ومكارمه المحمودة وفواضله وَمَا فعله من الْبر فِي طَرِيق الْحَج خُصُوصا فِي مفاوز الْحجاز فقد أنْفق فِيهَا على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين مَا لايحصى وشاع ذكره فِي الْحَرَمَيْنِ الشريفين وتجاوزهما إِلَى مصر وَالشَّام والعراقين وَلما نفذ مَا عِنْده استسلف من التُّجَّار الَّذين كَانُوا مَعَه أَمْوَالًا طائلة أنفقها فِي سَبِيل الله وَلما قدم أَرْبَابهَا على السُّلْطَان عرفوه بِمَا استسلفه مِنْهُم وَلَده وأطلعوه على حساباتهم فَعرف أَن مَا فعله وَلَده صَوَاب فَأمر رحمه الله لأولئك التُّجَّار بِقَضَاء مَا أسلفوه وَأَن يُزَاد لَهُم مِقْدَار ربحه
تطييبا لنفوسهم وَقَالَ إِنَّمَا تتعاطون التِّجَارَة لتنموا أَمْوَالكُم وتربحوا فَلَا يَنْبَغِي أَن ننقصكم من ربحكم شَيْئا فَأَما نَحن فربحنا هُوَ مَا أنفقهُ ولدنَا قي سَبِيل الله
وَقد مدح هَذَا النجل الأرضي جمَاعَة من أدباء مصر وَغَيرهَا بقصائد نفيسة وَمن جملَة من مدحه الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم عبد الْقَادِر الريَاحي التّونسِيّ فَإِنَّهُ بعث بقصيدة رائقة إِلَى وَالِده السُّلْطَان المرحوم يمدح النجل الْمَذْكُور ويهنئه بالقدوم وألم فِيهَا بِذكر
السُّلْطَان فَأَعْجَبتهُ وهزت من عطفه وَأمر كتاب دولته أَن يَأْخُذُوا مِنْهَا نسخا وَشَرحهَا بَعضهم وَنَصهَا
(هذي المنى فأنعم بِطيب وصال
…
فلطالما أضناك طول مطال)
(مَاذَا وَكم أوليتني يَا مخبري
…
بقدومه من منَّة ونوالي)
(بشرتني بحياتي الْعُظْمَى الَّتِي
…
قد كنت أحسبها حَدِيث خيال)
(بشرتني بِابْن الرَّسُول لَو إِنَّمَا
…
روحي ملكت بذلتها فِي الْحَال)
(بشرتني بسلالة الْخُلَفَاء من
…
أمداحهم تثنى بِكُل مقَال)
(من حبهم فرض الْكتاب أما ترى
…
إِلَّا الْمَوَدَّة حِين يَتْلُو التَّالِي)
(من ضمهم شَمل العباء وأذهبوا
…
رجسا فيالك من مقَام عالي)
(من قومُوا أود المكارم بعد مَا
…
شادوا الْهدى بمعارف ونصال)
(لولاهم كَانَ الورى فِي ظلمَة
…
مدت غياهبها بِكُل ضلال)
(آباءك الْأَطْهَار فاقصد يَا أَبَا
…
إِسْحَاق يَا نجل المليك العالي)
(يَا حبه وَصفيه من قومه
…
وخياره من سَائِر الأنجال)
(لَو لم تكن أَهلا لصفو وداده
…
لم يستنبك لجدك المفضال)
(لَكِن توسم فِيك كل فَضِيلَة
…
فحبى يَمِينك راية الإقبال)
(وَأقَام جودك بل وجودك زَاد من
…
يَبْغِي بِبَيْت الله حط رحال)
(أَنْت استطاعتهم فَمَا عذر الَّذِي
…
ترك الزِّيَارَة خيفة الإقلال)
(وَبِك المشاعر أطربت طرب الَّتِي
…
وجدت على وَله فقيد فصَال)
(ووصلتها رحما هُنَاكَ قطيعة
…
دهرا وَلم تبلل بِهِ ببلال)
(وتأنس الحرمان مِنْك بطلعة
…
أغنتهما عَن وابل هطال)
(كرم لكم أدريه يَوْم أفاضه
…
عني سُلَيْمَان باي سِجَال)
(وهب الألوف وَكَانَ أكْرم منزل
…
يسلى الْغَرِيب ببره المتوال)
(يَوْم التشرف لي بلثم يَمِينه
…
وتمتعي من وَجهه بِجَمَال)
(وتلذذي بخطابه المعسول إِذْ
…
حفت بِهِ للدرس أَي رجال)
(لم أنسه يَوْمًا حسبت نعيمه
…
بلذائذ الجنات ضرب مِثَال)
(عجبا لَهُ يحيي الْقُلُوب بِعِلْمِهِ
…
وَيُمِيت جند الْفقر مِنْهُ بِمَال)
(وَإِذا تقلد للوغي فحسامه
…
تعنو الرّقاب لَهُ بِدُونِ قتال)
(تتلوه بِالْفَتْح الْمُبين عَسَاكِر
…
قد أرهفت بالنصر حد نصال)
(تخشى الْمُلُوك مقَامه ولذكره
…
رعْبًا تطير فرائص الْأَبْطَال)
(وينال آمله بخفض جنَاحه
…
ماليس يخْطر قطّ مِنْهُ ببال)
(حَتَّى سعى لصفي منهله الَّذِي
…
يسْعَى لمروته ذَوُو الأثقال)
(وَأَتَتْ لمغربه الشريف مَشَارِق
…
وَالشَّمْس تغرب لاقْتِضَاء كَمَال)
(لما تكدر صفوها بضلاله
…
جَاءَتْهُ كَيْمَا ترتوي بزلال)
(وَمَتى تخلف عَاجز فبقلبه
…
يسْعَى لفعل شَعَائِر الإجلال)
(أُمْنِية وَقعت أَشرت لذكرها
…
فِي مدحه قدما بِصدق مقَال)
(تهوى الْمَشَارِق أَن تكون مغاربا
…
لتنال من جدواه كل منال)
(يَا فَخر دين الله مِنْهُ بناصر
…
وسعادة الدُّنْيَا بِهِ من وَال)
(لَا تفتخر فاس وَلَا مراكش
…
بولائه كل الْأَنَام موَالٍ)
(أَو لَيْسَ فِي كل الْبِقَاع ثَنَاؤُهُ
…
ورد البكور وسحة الآصال)
(أَو لم يشد للدّين وَالْعُلَمَاء
…
والأشراف والصلحاء أَي جلال)
(أَو لم يعم بجوده أقطارها
…
لَا فرق بَين جنوبها وشمال)
(أَو لم يسر ركبانها بمحاسن
…
ضاءت لَهَا سرج بجنح لَيَال)
(أَو لَيْسَ أَحْيَا سنة العمرين فِي
…
زمن إِلَى بدع الْهوى ميال)
(شيم يهز الراسيات سماعهَا
…
ويعجن فِي أنف الزَّمَان غوال)
(أَوْصَاف والدك الإِمَام المرتضى
…
للدّين وَالدُّنْيَا بِحسن خلال)
الْعَرَبِيّ الدرقاوي وَدفن بِمحل زاويته بآمجوط من بِلَاد بني زروال وَكَانَ من خِيَار عبد الله على غَايَة من التَّقْوَى والورع والتواضع من النَّاس يركب الْحمار ويلبس الْجُبَّة وَلَا يتَمَيَّز عَن أَصْحَابه بِشَيْء مَعَ السكينَة وَالْوَقار وَعدم الْخَوْض فِيمَا لَا يَعْنِي والإعراض عَن زهرَة الدُّنْيَا وَأَهْلهَا رحمه الله ونفعنا بِهِ وَفِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة انكسفت الشَّمْس وَكَانَ ابْتِدَاء الْكُسُوف على مَا أعطَاهُ التَّعْدِيل بعد الزَّوَال بِنَحْوِ نصف سَاعَة وَكَاد يكون كليا حَتَّى أظلم الجو وَبَقِي من الشَّمْس حَلقَة نورانية يسيرَة وَلم يُمكن تَحْقِيق وَقت التجلي لتراكم السَّحَاب وَفِي هَذِه الْأَيَّام ظَهرت حمرَة فِي السَّمَاء غَرِيبَة أرجوانية مَعَ غَايَة الصحو وَكَانَ ظُهُورهَا يكون فِيمَا بَين العشاءين معظمها فِي جِهَة الشمَال ودامت كَذَلِك نَحْو سَبْعَة أَيَّام وانقطعت وَفِي لَيْلَة السبت الثَّامِن من شَوَّال من السّنة وَذَلِكَ فِي السَّاعَة الثَّالِثَة مِنْهَا زلزلت الأَرْض وَلم يشْعر بهَا كثير من النَّاس لكَوْنهم نياما
وَفِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف غزا السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله قبائل تادلا فَمر على السماعلة منتصف رَجَب ثمَّ مِنْهُم لبني زمور ثمَّ لأبي الْجَعْد ثمَّ مِنْهُ توجه لقصبة تادلا وَعبر القنطرة وَنزل على بني عُمَيْر ثمَّ زحف لبني مُوسَى فأوقع بهم لأَنهم كَانُوا خَارِجين على عاملهم الغزواني ابْن زيدوح فَقطع مِنْهُم خمسين رَأْسا وَقبض على أَرْبَعِينَ مسجونا وَفِي أثْنَاء ذَلِك قدم عَلَيْهِ وَفد أهل مراكش وَكَانُوا قد ثَارُوا على عاملهم أَحْمد بن دَاوُد لكَونه كَانَ يسير فيهم سيرة غير حميدة فقدموا على السُّلْطَان متنصلين مِمَّا فرط مِنْهُم فَأَعْرض السُّلْطَان عَنْهُم وَلم يسمع مِنْهُم كلَاما وَلَا قبل لَهُم عذرا فَرَجَعُوا مخفقين ثمَّ تقدم السُّلْطَان رحمه الله إِلَى مراكش وَهُوَ غَضْبَان على أَهلهَا وَكَانُوا مظلومين فِيمَا قيل إِلَّا أَنه لبس على السُّلْطَان فِي أَمرهم فَلَمَّا شَارف الْمَدِينَة خَرجُوا إِلَيْهِ بالعلماء والقراء وصبيان الْمكَاتب متشفعين فَلم يقف لَهُم وَلَا الْتفت إِلَيْهِم وَكَانَ ابْنه وخليفته الْمولى الْحسن حَاضرا يَوْمئِذٍ فَتقدم إِلَى أهل مراكش ورق لَهُم وَقَالَ لَهُم قولا جميلا وَكَانَ هَذَا الْحَادِث فِي رَمَضَان
من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ لم يلبث ابْن دَاوُد بعد ذَلِك إِلَّا مُدَّة يسيرَة حَتَّى توفّي وتخلصت قائبة من قوب وعفو الله بعد ذَلِك مرقوب
وَفِي سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَت جَائِحَة النَّار بِكَثِير من بِلَاد الْمغرب أحرقت الزروع وَالثِّمَار وأجيحت الجنات وتراجع النَّاس فِي أَثمَان مَا بيع مِنْهَا بعد إِثْبَات الموجبات وَكَانَت أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله فِي أَولهَا شَدِيدَة بِسَبَب ظُهُور الْعَدو على الْمُسلمين وَمَا عقبه من الغلاء وَالْمَوْت ثمَّ بعد ذَلِك اتَّسع الْحَال وَحصل الْأَمْن وانخضدت شَوْكَة قبائل الْعَرَب بالمغرب وَأمنت الطرقات من عيثهم وازدهت الدُّنْيَا ورخصت الأسعار رخصا يَسِيرا وَكَانَ النَّاس ممعشين فِي أَيَّامه وغلت الدّور والأملاك حَتَّى كَانَت فِي بعض السنين لَا تسمسر وَمن يَشْتَرِي دَارا إِنَّمَا يَشْتَرِيهَا بالتنقير عَنْهَا والطلب من رَبهَا بِالثّمن الجافي وَاتخذ النَّاس ذَوُو الْيَسَار المراكب الفارهة والكسي الرفيعة والذخائر النفسية وتأنقوا فِي الْبُنيان بالزليج والرخام والنقش البديع لَا سِيمَا بفاس ورباط الْفَتْح ولاحت على النَّاس سمة الحضارة الأعجمية وَكَانَ للسُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله فِي كل بلد عُيُون يَكْتُبُونَ لَهُ بِمَا يَقع من الْوُلَاة فَمن دونهم فَكَانَت الرّعية كَأَنَّهَا فِي كف يَده وَكَانَ يخْتَار أُولَئِكَ الْعُيُون من الْعَوام فَكَانُوا يَكْتُبُونَ لَهُ بالغث والسمين فَيسمع ذَلِك كُله فينتقي مِنْهُ الصَّحِيح ويطرح السقيم فاستقامت أَحْوَال الرّعية بذلك
وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله
كَانَت وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله فِي زَوَال يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن عشر من رَجَب الْفَرد الْحَرَام سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف بداره بِحَضْرَة مراكش فِي الْبُسْتَان الْمُسَمّى بالنيل وَلم يمرض إِلَّا يَوْمًا أَو بعض يَوْم قيل إِنَّه شرب دَوَاء مسهلا فَكَانَ فِيهِ أَجله وَالله أعلم وَدفن لَيْلًا بضريح جده الْمولى عَليّ الشريف قرب ضريح القَاضِي عِيَاض وَكتب على رخامة قَبره أَبْيَات لَيست من جيد الشّعْر وَهِي
(أمستعبرا حَولي رويدك إِنَّنِي
…
ضريح سعيد حل فِيهِ سعيد)
(هُوَ الْعلوِي الْهَاشِمِي مُحَمَّد
…
إِمَام لَهُ فِي الْملك سعي حميد)
(أَبوهُ أَبُو زيد وَقدس ذكره
…
فقد كَانَ يُبْدِي فِي العلى وَيُعِيد)
(ترحم عَلَيْهِ وَاعْتبر بمصابه
…
فعقد نَفِيس قد أُصِيب فريد)
(وَمن رام تَارِيخ الْوَفَاة فَقل لَهُ
…
بشعرك أرخ مَا عَلَيْهِ مزِيد)
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله ومآثره وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله متقيا لله تَعَالَى بانيا أمره على الشَّرْع لَا يشذ عَنهُ طرفَة عين حَتَّى أَنه لما عزم على بِنَاء دَاره الَّتِي برباط الْفَتْح قَامَ جمَاعَة من أهل الْبَلَد يطْلبُونَ مِنْهُ النصفة فِي جناتهم الَّتِي هُنَالك فأذعن رحمه الله لإعمال الشَّرْع مَعَهم واستناب وَكيلا عَنهُ واستنابوا هم وكيلهم أَيْضا وتحاكموا لَدَى قَاضِي سلا الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد بن مَنْصُور ثمَّ انفصلت الْقَضِيَّة عَن ضرب من الصُّلْح بِأَن أَعْطَاهُم أَثمَان جناتهم أَو بَعْضهَا وذهبوا بِسَلام وَكَانَ رحمه الله حازما فِي أمره عالي الهمة راميا بهَا الْغَرَض الْأَقْصَى إِلَّا أَن الزَّمَان لم يساعده كل المساعدة فَكَانَت همته أجل من دهره وَكَانَ ذَا سياسة وسكينة وتأن فِي الْأُمُور وتبصر بالعواقب كثير الْحيَاء بعيد الْغَضَب سريع الرضى مشفقا على الرّعية متوقفا فِي الدِّمَاء لَا يزايل خوف الله قلبه رحمه الله ونفعنا بِهِ وبأسلافه وَله آثَار بالمغرب مِنْهَا مَا خلده أَيَّام خِلَافَته فِي حَيَاة وَالِده وَمِنْهَا مَا فعله بعد ولَايَته
فَمن آثاره فِي أَيَّام أَبِيه كَمَا قَالَ أكنسوس إِجْرَاء الْأَنْهَار وتفجير الْعُيُون الَّتِي عجز الْمُلُوك المتقدمون عَنْهَا وتكملة غرس آجدال بِحَضْرَة مراكش وَكَانَ فِي زمَان الصَّيف يَنَالهُ الجدب من قلَّة المَاء لِأَن بركه الَّتِي كَانَ يختزن بهَا المَاء كَانَت قد تعطلت بامتلائها بِالتُّرَابِ والطين الَّذِي
تجلبه السُّيُول إِلَيْهَا وَأَعْظَمهَا الْبركَة الْكُبْرَى الَّتِي بدار الهناء وَكَانَ يُقَال لَهَا الْبَحْر الْأَصْغَر وطولها اثْنَتَا عشرَة مائَة قدم وعرضها تِسْعمائَة قدم حَسْبَمَا أخبر من قاسها وَكَانَ تربيعها بِمَنْزِلَة سور قَصَبَة فجَاء من بني فِي وَسطهَا قَرْيَة بدورها وأزقتها وأسواقها فجَاء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله أَيَّام خِلَافَته فَأمر بِإِخْرَاج مَا فِي تِلْكَ البرك والصهاريج كلهَا وتنقيتها من الطيون المتحجرة فَاجْتمع على ذَلِك عَالم من النَّاس فكنسوها وعادت إِلَى حَالهَا الَّذِي بنيت لأَجله وَهُوَ اختزان المَاء لوقت المصيف وَبِذَلِك كمل المُرَاد من آجدال وَصَارَ آمنا من الْعَطش والأمحال وَمن ذَلِك أَيْضا إحْيَاء عين أبي عكاز خَارج بَاب الطبول من مراكش وَكَانَت لَهَا بركَة بائدة على الْوَصْف الَّذِي ذكرنَا فَعمد إِلَيْهَا سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله وفجر لَهَا عينا ثرة وَمَاء غدقا وأجراه إِلَى الْبركَة الْمَذْكُورَة بعد أَن أَمر بتنقيتها وإصلاحها فَعَاد ذَلِك الْبَسِيط الَّذِي حولهَا مزارع نفاعة تغني الزارعين وتبهج الناظرين وَبنى رحمه الله حولهَا قلعة يأوي إِلَيْهَا الأكرة والحراثون بأنعامهم ومواشيهم وَاتخذ هُنَالك من إناث الْخَيل الْمعدة للنتاج عددا كثيرا وَمن ذَلِك إحْيَاء عين المنارة وبركتها الْعُظْمَى الَّتِي تقرب من الْبَحْر الْأَصْغَر بدار الهناء وَكَانَت قد عطلت مُنْذُ زمَان فقيض الله لَهَا هَذَا السُّلْطَان فَجمع الْأَيْدِي عَلَيْهَا حَتَّى أخرج مَا فِي جوفها من جبال الطين وَأصْلح مَا تشعث من حيطانها وأجرى إِلَيْهَا الْعُيُون والأنهار وَأمر بغرس مَا حولهَا من الفضاء بأنواع الْأَشْجَار وضاهى بهَا جنَّة آجدال وَمن ذَلِك أَيْضا إِجْرَاء النَّهر الْمُسَمّى بتاركي المستمد من وَادي نَفِيس فَإِنَّهُ ضاهى بِهِ النَّهر الْقَدِيم الَّذِي هُنَاكَ وَهَذَا النَّهر الْجَدِيد أَنْفَع مِنْهُ وأوسع أحيى الله بِهِ تِلْكَ البسائط الَّتِي بَين مراكش ووادي نَفِيس وَمن ذَلِك أَيْضا إِجْرَاء النَّهر الَّذِي جلبه من تاستاوت إِلَى الْبَسِيط الَّذِي بَين بِلَاد زمران والرحامنة والسراغنة وَهُوَ الْمُسَمّى بفيطوط فَصَارَ ذَلِك كُله رياضا مخضرة وبساتين