الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَرْب بني مرين مَعَ عرب ريَاح ومقتل الْأَمِير عبد الْحق رحمه الله
لما انتصر بَنو مرين على أعدائهم الْمُوَحِّدين حصل فِي نفوس بني عَسْكَر بن مُحَمَّد من عشيرتهم نفاسة عَلَيْهِم وَضَاقَتْ صُدُورهمْ من اسْتِقْلَال بني عمهم حمامة بن مُحَمَّد بالرياسة دونهم فخالفوا الْأَمِير عبد الْحق وعشيرته إِلَى مُظَاهرَة الْمُوَحِّدين وأوليائهم من عرب ريَاح وَكَانَت ريَاح يَوْمئِذٍ أَشد قبائل الْمغرب قُوَّة وَأَقْوَاهُمْ شَوْكَة وَأَكْثَرهم خيلا ورجالا لحدوث عَهدهم بالعز والبداوة فأغراهم الموحدون يَوْمئِذٍ ببني مرين لينتصفوا لَهُم مِنْهُم واتفقت كلمتهم عَلَيْهِم وَسمعت بَنو مرين بإقبال الْعَرَب والموحدين وَبني عَسْكَر إِلَيْهِم فَاجْتمعُوا إِلَى أَمِيرهمْ عبد الْحق فَقَالُوا لَهُ مَا ترى فِي أَمر هَؤُلَاءِ الْعَرَب المقبلين إِلَيْنَا فَقَالَ يَا معشر مرين أما مَا دمتم فِي أَمركُم مُجْتَمعين وَفِي آرائكم متفقين وكنتم على حَرْب عَدوكُمْ أعوانا وَفِي ذَات الله إخْوَانًا فَلَا أخْشَى أَن ألْقى بكم جَمِيع أهل الْمغرب وَإِن اخْتلفت أهواؤكم وتشتت آراؤكم ظفر بكم عَدوكُمْ فَقَالُوا لَهُ إِنَّا نجدد لَك الْآن بيعَة على السّمع وَالطَّاعَة وَأَن لَا نَخْتَلِف عَلَيْك وَلَا نفر عَنْك أَو نموت دُونك فانهض بِنَا إِلَيْهِم على بركَة الله فَنَهَضَ الْأَمِير عبد الْحق فِي جموع بني مرين فَكَانَ اللِّقَاء بمقربة من وَادي سبو على أَمْيَال من تافرطاست فَكَانَت بَينهم حَرْب بعد الْعَهْد بِمِثْلِهَا وَقتل فِيهَا الْأَمِير عبد الْحق وكبير أَوْلَاده إِدْرِيس
وَلما رَأَيْت بَنو مرين مَا وَقع بأميرها وَابْنه حميت وغضبت وَأَقْسَمت بأيمانها أَن لَا يدْفن حَتَّى يَأْخُذُوا بثاره فصمموا الْعَزْم لقِتَال ريَاح واستأنفوا الْجد لقراعهم وصبروا صبرا جميلا فنصرهم الله على عدوهم فهزموا رياحا وَقتلُوا مِنْهُم خلقا كثيرا وشردوهم فِي الشعاب والأودية ورؤوس الهضاب واحتووا على مَا كَانَ فِي محلتهم من السِّلَاح وَالْخَيْل والأثاث وَقَامَ بِأَمْر بني مرين بعد هَلَاك عبد الْحق ابْنه عُثْمَان على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
بَقِيَّة أَخْبَار الْأَمِير عبد الْحق وَسيرَته
قَالُوا كَانَ الْأَمِير عبد الْحق المريني مَشْهُورا فِي قومه بالتقى وَالْفضل وَالدّين موسوما بالصلاح وَصِحَّة الْيَقِين مَعْرُوفا بالورع والعفاف مَوْصُوفا فِي سيرته بِالْعَدْلِ والإنصاف يطعم الطَّعَام ويكفل الْأَيْتَام ويؤثر الْمَسَاكِين ويحنو على الْمُسْتَضْعَفِينَ وَكَانَت لَهُ بركَة مَعْرُوفَة ودعوة مستجابة مَوْصُوفَة وَكَانَت قلنسوته وسراويله يتبرك بهما فِي جَمِيع أَحيَاء زناتة وَكَانُوا يحملون فضلَة وضوئِهِ فيستشفون بهَا لمرضاهم وَكَانَ يسْرد الصَّوْم فَلَا يزَال صَائِما طول عمره فِي الْحر وَالْبرد لَا يرى مُفطرا إِلَّا فِي أَيَّام الأعياد كثير الذّكر والأوراد لَا يفتر عَنْهَا فِي سَائِر الْحَالَات متحريا لأكل الْحَلَال لَا يقتات إِلَّا من لُحُوم إبِله وَأَلْبَانهَا أَو مَا يعانيه من الصَّيْد مُعظما فِي بني مرين مُطَاعًا فيهم يقفون عِنْد أمره وَلَا يصدرون إِلَّا عَن رَأْيه
حكى ابْن أبي زرع عَمَّن حَدثهُ من الثِّقَات أَنه قدم على أَمِير الْمُسلمين يَعْقُوب بن عبد الْحق فِي وَفد من أَعْيَان فاس وفقهائها وَذَلِكَ فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة والأمير يَعْقُوب يَوْمئِذٍ برباط الْفَتْح يُرِيد العبور إِلَى ألأندلس برسم الْجِهَاد قَالَ فَجرى فِي مَجْلِسه ذكر وَالِده الْأَمِير عبد الْحق فَقَالَ الْأَمِير يَعْقُوب كَانَ الْأَمِير عبد الْحق رحمه الله صَادِق القَوْل إِذا قَالَ فعل وَإِذا عَاهَدَ وفى لم يحلف بِاللَّه قطّ بارا وَلَا حانثا وَلم يشرب مُسكرا قطّ وَلَا ارْتكب فَاحِشَة تضع الْحَوَامِل ببركة إزَاره مَتى عسرت عَلَيْهِنَّ الْولادَة وَكَانَ يسْرد الصَّوْم وَيقوم أَكثر اللَّيْل وَإِذا سمع بِخَبَر صَالح أَو عَابِد قصد لزيارته واستوهب مِنْهُ الدُّعَاء شَدِيد الْخَوْف من الصَّالِحين متواضعا لَهُم وَكَانَ مَعَ ذَلِك سما لأعدائه قاهرا لَهُم وَمَا وجدنَا إِلَّا بركته وبركة من دَعَا لَهُ من الصَّالِحين
قَالُوا وَكَانَ الْأَمِير عبد الْحق فِي ابْتِدَاء أمره قَلِيل الْأَوْلَاد فَرَأى ذَات لَيْلَة فِي مَنَامه كَانَ شعلا أَرْبعا من نَار خرجن مِنْهُ فعلون فِي جو الْمغرب ثمَّ احتوين على جَمِيع أقطاره فَكَانَ تَأْوِيلهَا تمْلِيك بنيه الْأَرْبَعَة من بعده وَهَذَا
مثل الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا عبد الْملك بن مَرْوَان من يوله فِي الْمِحْرَاب أَربع مَرَّات فَكَانَ تَأْوِيلهَا أَن ولي الْخلَافَة أَرْبَعَة من بنيه الْوَلِيد وَسليمَان وَيزِيد وَهِشَام
وَكَانَ للأمير عبد الْحق تِسْعَة من الْوَلَد إِدْرِيس وَهُوَ أكبرهم وَقتل مَعَه فِي حَرْب ريَاح وَعُثْمَان وَمُحَمّد وَأَبُو بكر وَيَعْقُوب وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة هم الَّذين ولوا الْأَمر بعده وَعبد الله وَعبد الرَّحْمَن وَيُقَال لَهُ بلسانهم رحو وزيان وَأَبُو عياد وَبنت هِيَ الْعَاشِرَة وَالله أعلم
الْخَبَر عَن رياسة الْأَمِير أبي سعيد عُثْمَان بن عبد الْحق رحمه الله
لما فرغ بَنو مرين من حَرْب ريَاح وَرَجَعُوا من اتباعهم اجْتَمعُوا إِلَى الْأَمِير أبي سعيد عُثْمَان بن عبد الْحق وَكَانَ أكبر بني أَبِيه بعد إِدْرِيس فعزوه بمصاب أَبِيه وأخيه وَبَايَعُوهُ عَن رضى مِنْهُم فاجتمعت عَلَيْهِ كلمتهم وَلما فرغ الْأَمِير أَبُو سعيد من تجهيز أَبِيه وأخيه ودفنهما أقسم أَن لَا يرجع عَن حَرْب ريَاح حَتَّى يثأر بِمِائَة شيخ مِنْهُم فَسَار إِلَيْهِم وأثخن فيهم حَتَّى شفى نَفسه وأذعنوا إِلَى الطَّاعَة ولاذوا بالسلم فسالمهم على إتاوة يؤدونها إِلَيْهِ كل سنة
ثمَّ ضعفت شَوْكَة الْمُوَحِّدين وتداعى أَمرهم إِلَى الاختلال واشرف ملكهم على ربوة الاضمحلال وتقلص ظلّ حكامهم عَن البدو جملَة وفسدت السابلة وَاخْتَلَطَ المرعى بالهمل
فَلَمَّا رأى الْأَمِير أَبُو سعيد مَا عَلَيْهِ أَمر الْمُوَحِّدين من الضعْف وَمَا نزل برغايا الْمغرب من الْجور والعسف جمع أَشْيَاخ مرين وندبهم إِلَى الْقيام بِأَمْر الدّين وَالنَّظَر فِي مصَالح الْمُسلمين فَأَسْرعُوا إِلَى إجَابَته وَبَادرُوا لتلبية دَعوته
فَسَار بهم أَبُو سعيد فِي نواحي الْمغرب يتقرى مسالكه وشعوبه ويتتبع تلوله ودروبه وَيَدْعُو النَّاس إِلَى طَاعَته وَالدُّخُول فِي عَهده وحمايته فَمن أَجَابَهُ مِنْهُم أَمنه وَوضع عَلَيْهِ قدرا مَعْلُوما من الْخراج وَمن أَبى عَلَيْهِ نابذه وأوقع بِهِ فَبَايعهُ من قبائل الْمغرب هوارة وزكارة ثمَّ تسول ومكناسة ثمَّ بطوية وفشتالة ثمَّ
إِحْدَاث المكس بفاس وبسائر أَمْصَار الْمغرب وَمَا قيل فِي ذَلِك
لما بُويِعَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رحمه الله وَقدم حَضْرَة فاس رفع إِلَيْهِ أَهلهَا مَا كَانُوا يؤدونه إِلَى وَالِده الْمولى عبد الله مِمَّا كَانَ موظفا على الموازين كميزان سَيِّدي فرج وميزان قاعة السّمن وميزان قاعة الزَّيْت وَغير ذَلِك وَقدره ثَلَاثمِائَة مِثْقَال فِي كل شهر يجب فِيهَا لكل سنة ثَلَاثَة آلَاف مِثْقَال وسِتمِائَة مِثْقَال
فَلَمَّا حضر فُقَهَاء فاس عِنْد السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد كَلمهمْ فِي شَأْنهَا حَتَّى يكون الْأَمر فِيهَا مُسْندًا إِلَى فَتْوَى الْفُقَهَاء فَقَالُوا إِذا لم يكن للسُّلْطَان مَال جَازَ لَهُ أَن يقبض من الرّعية مَا يستخدم بِهِ الْجند فَأَمرهمْ أَن يكتبوا لَهُ فِي ذَلِك فَكَتَبُوا لَهُ تأليفا اعْتَمدهُ السُّلْطَان ووظف على الْأَبْوَاب والغلات والسلع وَكَانَ مِمَّن كتب لَهُ فِي ذَلِك الْعَلامَة الشَّيْخ التاودي ابْن سَوْدَة والعلامة الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم جسوس وَالْإِمَام أَبُو حَفْص عمر الفاسي والفقيه الشريف أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن المنجرة والفقيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الصَّادِق الطرابلسي والفقيه القَاضِي أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر أَبُو خريص وَغَيرهم فاعتمد السُّلْطَان على فتواهم ووظف مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا
وَاعْلَم أَن أَمر المكس مِمَّا عَمت بِهِ الْبلوى فِي سَائِر الأقطار والدول مُنْذُ الْأَعْصَار المتطاولة والسنين الأول فَلَا بَأْس أَن نذْكر مَا حَرَّره الْعلمَاء فِي ذَلِك فَنَقُول قد تكلم على ذَلِك الإِمَام حجَّة الْإِسْلَام أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ رضي الله عنه فِي كِتَابه شِفَاء الغليل بِمَا نَصه فَإِن قَالَ قَائِل توظيف الْخراج على الأَرْض وَوُجُوب الارتفاقات مصلحَة ظَاهِرَة لَا تنتظم أُمُور الْوُلَاة فِي رِعَايَة الْجند والاستظهار بكثرتهم وَتَحْصِيل شَوْكَة الْإِسْلَام إِلَّا بِهِ وَلذَلِك لم يلف عصر خَالِيا عَنهُ والملوك على تفَاوت سيرهم وَاخْتِلَاف أَخْلَاقهم تطابقوا عَلَيْهِ وَلم يستغنوا عَنهُ فَلَا تنتظم مصلحَة الدّين وَالدُّنْيَا إِلَّا بِإِمَام مُطَاع ووال
مُتبع يجمع شتات الْإِيمَان ويحمي حوزة الدّين وبيضة الْإِسْلَام ويرعى مصلحَة الْمُسلمين وغبطة الْأَنَام وَلَا يستتب ذَلِك إِلَّا بنجدته وشوكته وَجُنُوده وعدته فيهم مجاهدة الْكفَّار وحماية الثغور وكف أَيدي الطغاة المارقين ومنعهم من مد الْأَيْدِي إِلَى الْأَمْوَال وَالْحرم والأزواج فهم الحراس للدّين عَن أَن تنْحَل دعائمه وتتخاذل قواه بتوغل الْكفَّار فِي بِلَاد الْمُسلمين وهم الحماة للدنيا عَن أَن يخْتل نظامها بالتغالب والتسالب والتواثب من طغام النَّاس بِفضل العرامة والباس وَلَا يخفى عَلَيْكُم كَثْرَة مؤنهم واستيعاب حاجاتهم فِي نُفُوسهم وعيالهم والمرصد لَهُم خمس الْخمس من الْغَنَائِم والفيء وَذَلِكَ مِمَّا يضيق فِي غَالب الْأَمر عَن الْوَفَاء بخراجاتهم والكفاية لحاجاتهم وَلَيْسَ يعم ذَلِك الا بتوظيف الْخراج على الْأَغْنِيَاء فَإِن كُنْتُم تتبعون الْمصَالح فَلَا بُد من الترخيص فِي ذَلِك مَعَ ظُهُور الْمصلحَة
قُلْنَا الَّذِي نرَاهُ جَوَاز ذَلِك عِنْد ظُهُور الْمصلحَة وَإِنَّمَا النّظر فِي بَيَان وَجه الْمصلحَة فَنَقُول أَولا التوظيف فِي عصرنا هَذَا مزاجه ومنهاجه ظلم مَحْض لَا رخصَة فِيهِ فَإِن آحَاد الْجند لَو استوفيت جراياتهم ووزعت على الكافة لكفتهم بُرْهَة من الدَّهْر وَقدرا صَالحا من الْوَقْت وَقد شمخوا بتنعمهم وترفههم فِي الْعَيْش وإسرافهم فِي إفَاضَة الْأَمْوَال على العيارة ووجوه التجمل على سَائِر الأكاسرة فَكيف يقدر احتياجهم إِلَى توظيف خراج لإمدادهم وإرفاقهم وكافة أَغْنِيَاء الدَّهْر فُقَرَاء بِالْإِضَافَة إِلَيْهِم فَأَما لَو قَدرنَا إِمَامًا مُطَاعًا مفتقرا إِلَى تَكْثِير الْجند لسد الثغور وحماية الْملك بعد اتساع رقعته وانبساط خطته وَقد خلا بَيت المَال عَن المَال وأرهقت حَاجَة الْجند إِلَى مَا يكفيهم وخلت عَن مِقْدَار كفايتهم أَيْديهم فللإمام أَن يوظف على الْأَغْنِيَاء مَا يرَاهُ كَافِيا لَهُم فِي الْحَال إِلَى أَن يظْهر مَال فِي بَيت المَال ثمَّ إِلَيْهِ النّظر فِي توظيف ذَلِك على وُجُوه الغلات والارتفاقات بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي تَخْصِيص بعض النَّاس بِهِ إِلَى إيغار الصُّدُور وإيحاش الْقُلُوب وَيَقَع ذَلِك
قَلِيلا من كثير وَلَا يجحف بهم وَيحصل بِهِ الْغَرَض ثمَّ اسْتدلَّ الشَّيْخ أَبُو حَامِد رضي الله عنه لذَلِك من النَّقْل وَالْعقل بِمَا يطول جلبه
وَقَالَ فِي كِتَابه الْمُسْتَصْفى مَا نَصه إِن قيل توظيف الْخراج من الْمصَالح فَهَل إِلَيْهِ من سَبِيل قُلْنَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ مَعَ كَثْرَة الْأَمْوَال فِي أَيدي الأجناد أما إِذا خلت الْأَيْدِي وَلم يكن فِي بَيت المَال مَا يَفِي بخراجات الْعَسْكَر وَلَو تفَرقُوا وَاشْتَغلُوا بِالْكَسْبِ لخيف دُخُول الْكفَّار بِلَاد الْإِسْلَام فَيجوز للْإِمَام أَن يوظف على الْأَغْنِيَاء مِقْدَار كِفَايَة الْجند ثمَّ إِن رأى فِي طَرِيق التَّوْزِيع التَّخْصِيص بالأراضي فَلَا حرج لأَنا نعلم أَنه إِذا تعَارض شران وضرران وَجب دفع أَشد الضررين وَأعظم الشرين وَمَا يُؤَدِّيه كل وَاحِد مِنْهُم قَلِيل بِالْإِضَافَة إِلَى مَا يخاطر بِهِ من نَفسه وَمَاله وَلَو خلت خطة الْإِسْلَام عَن ذِي شَوْكَة يحفظ نظام الْأُمُور وَيقطع مَادَّة الشرور لفسدت الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَقَوله على الْأَغْنِيَاء يُرِيد من لَهُ قدرَة وطاقة على دفع شَيْء لَا يجحف بِهِ وَوَقع فِي جَوَاب للْقَاضِي أبي عمر بن مَنْظُور رحمه الله إِن لضرب الْخراج وتوظيفه على الْمرَافِق شُرُوطًا الأول مِنْهَا أَن يعجز بَيت المَال وتتعين حَاجَة الْجند فَلَو كَانَ فِي بَيت المَال مَا يقوم بِهِ لم يجز أَن يفْرض على الرّعية شَيْء قَالَ صلى الله عليه وسلم لَا يدْخل الْجنَّة صَاحب مكس وَهُوَ إغرام المَال ظلما ثَانِيهمَا إِن الإِمَام يتَصَرَّف فِيهِ بِالْعَدْلِ فَلَا يجوز لَهُ أَن يستأثر بِهِ دون الْمُسلمين وَلَا أَن يُنْفِقهُ فِي سرف وَلَا أَن يُعْطي من لَا يسْتَحق وَلَا أَن يُعْطي أحدا أَكثر مِمَّا يسْتَحق ثَالِثهَا أَن يصرفهُ فِي مصروفه بِحَسب الْمصلحَة وَالْحَاجة لَا بِحَسب الشَّهْوَة وَالْغَرَض وَهَذَا يرجع إِلَى الثَّانِي رَابِعهَا أَن يكون الْغرم على من يكون قَادِرًا عَلَيْهِ من غير ضَرَر وَلَا إجحاف وَمن لَا شَيْء لَهُ أَو لَهُ شَيْء قَلِيل فَلَا يغرم شَيْئا خَامِسهَا أَن الإِمَام يتفقد هَذَا فِي كل وَقت فَرُبمَا جَاءَ وَقت لَا يفْتَقر فِيهِ إِلَى زِيَادَة على مَا فِي بَيت المَال وَكَذَلِكَ إِذا تعيّنت الْمصلحَة فِي
إِلَى أَن بُويِعَ الْمولى عبد الرَّحْمَن وَكَانَ ابْن الْغَازِي من أَصْحَاب الشَّيْخ الْمَذْكُور وَمِمَّنْ لَهُ فِيهِ اعْتِقَاد كَبِير فوفد عَلَيْهِ أَوْلَاد الشَّيْخ ونزلوا عَلَيْهِ لكَي يسْعَى فِي تَسْرِيح والدهم وألحوا عَلَيْهِ فَلم يجد بدا من إِظْهَار الطَّاعَة للسُّلْطَان وَالدُّخُول فِي الْجَمَاعَة فوفد على السُّلْطَان فِي جمع من وُجُوه قومه بهديتهم وبيعتهم فَلَمَّا رأى بَاقِي البربر الَّذين حالفوه من آيت أدراسن وجروان أَنه قدم على السُّلْطَان ظهر لَهُم خيانته فنبذوا ذَلِك الْعَهْد وسارعوا إِلَى بيعَة السُّلْطَان وخدمته بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فَقدم عَلَيْهِ الْحسن بن حمو واعزيز كَبِير آيت أدراسن فِي وُجُوه قومه وَأدّى الطَّاعَة وَدخل فِي حزب الْجَمَاعَة وَعَلِيهِ وعَلى ابْن الْغَازِي كَانَ يَدُور أَمر البربر فِي ذَلِك الْوَقْت فخذل الله فِيمَا بَينهم وَجمع كلمتهم على السُّلْطَان من غير ضرب وَلَا طعن وَلَا إيجَاف بخيل وَلَا رجل فقابلهم السُّلْطَان بغاية الْإِحْسَان لَا سِيمَا ابْن الْغَازِي فَإِنَّهُ إستخلصه وَجعله عُمْدَة رَأْيه وعيبة سيره حَتَّى كَانَ لَا يقطع أمرا دونه بعد أَن سرح لَهُ الشَّيْخ أَبَا عبد الله الدرقاوي رحمه الله
ثمَّ إِن السُّلْطَان زوج ابْن الْغَازِي بِإِحْدَى حظايا عَمه السُّلْطَان المرحوم وَهِي ابْنة الْقَائِد عمر بن أبي سِتَّة فعلا قدر ابْن الْغَازِي فِي الدولة بذلك وَاطْمَأَنَّ إِلَى السُّلْطَان بعد أَن كَانَ يسايره على أوفاز وَذهب مَعَه إِلَى مراكش مرَّتَيْنِ حَسْبَمَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله
نهوض السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن لتفقد أَحْوَال الرّعية ووصوله إِلَى رِبَاط الْفَتْح
لما فرغ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رحمه الله من أَمر الْوُفُود والتهاني بِحَضْرَة فاس الْتفت إِلَى النّظر فِي أَحْوَال الرّعية وتثقيف أَطْرَاف المملكة فولى على فاس وصيفه أَبَا جُمُعَة بن سَالم الَّذِي كَانَ بوابا على الدَّار الْكُبْرَى بفاس الْجَدِيد ثمَّ لما عزم على السّفر عَزله وَولى مَكَانَهُ ابْن عَمه سَيِّدي
مُحَمَّد بن الطّيب ثمَّ نَهَضَ من فاس الْجَدِيد بِقصد تفقد الممالك فَجعل طَرِيقه على بِلَاد سُفْيَان وَسَار حَتَّى وصل إِلَى قصر كتامة وعسكر هُنَالك بالكدية الإسماعيلية وَبهَا وَفد عَلَيْهِ الْمولى عبد السَّلَام ابْن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله فِي جمَاعَة من الْأَشْرَاف وَالْكتاب فيهم أَبُو عبد الله أكنسوس وَكَانَ الْمولى عبد السَّلَام الْمَذْكُور قد قدم من تافيلالت إِلَى مراكش عقب وَفَاة وَالِده بِقصد أَخذ الْبيعَة على أهل مراكش لِأَخِيهِ الْمولى عبد الْوَاحِد بن سُلَيْمَان وَكَانَ قد بُويِعَ بتافيلالت وَأَعْطوهُ صَفْقَة أَيْمَانهم فَلَمَّا صَادف الْمولى عبد السَّلَام الْأَمر قد تمّ للسُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وَاجْتمعت كلمة أهل الْمغرب عَلَيْهِ سقط فِي يَده فَأَعْرض عَمَّا جَاءَ لأَجله وتدارك أمره عِنْد السُّلْطَان بالوفادة عَلَيْهِ وَالدُّخُول فِي بيعَته
قَالَ أكنسوس لما قدمنَا على السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن من مراكش إِلَى قصر كتامة أَمر بإدخالي عَلَيْهِ لشدَّة تشوفه إِلَى أَخْبَار السُّلْطَان المرحوم الْمولى سُلَيْمَان فَدخلت عَلَيْهِ وَجَلَست بَين يَدَيْهِ نَحْو ساعتين وسألني عَن كل شَاذَّة وفاذة قَالَ ثمَّ دخلت عَلَيْهِ بعد صَلَاة الْمغرب وسألني عَن بَقِيَّة الْأَخْبَار ثمَّ ذكر أَوْلَاد عَمه السُّلْطَان المرحوم وَقَالَ وَالله لَا يرَوْنَ مني إِلَّا الْخَيْر ثمَّ بعد يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة نَهَضَ إِلَى رِبَاط الْفَتْح فاستقر بهَا ثمَّ وفدت عَلَيْهِ قبائل الْحَوْز ورؤساؤها فعيد هُنَالك عيد الْفطر من سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ رَجَعَ إِلَى فاس وَمَعَهُ أَعْيَان قبائل الْحَوْز الَّذين وفدوا عَلَيْهِ وَلما احتل بفاس قدم عَلَيْهِ عَمه الْمولى مُوسَى بن مُحَمَّد مَعَ جمَاعَة من أهل مراكش وَفِيهِمْ الْمولى عبد الْوَاحِد بن سُلَيْمَان المبايع بسجلماسة فأكرمهم وأجلهم وَلم يلم أحدا من شيعَة الْمولى عبد الْوَاحِد وَلَكِن عَفا وصفح وقابل بِالْإِحْسَانِ ثمَّ ولى على مراكش ابْن عَمه الْمولى مبارك بن عَليّ بن مُحَمَّد وَبَعثه فِي صحبتهم فَقَدمهَا وَتصرف فِي أمرهَا إِلَى أَن كَانَ مِنْهُ مَا نذكرهُ ثمَّ أَمر السُّلْطَان رحمه الله بشرَاء دَار أبي مُحَمَّد عبد السَّلَام شقشاق الفاسي وَكَانَت مجاورة لقبة الْمولى إِدْرِيس رضي الله عنه بَينهَا وَبَين القيسارية ثمَّ
أَمر بهدمها وزيادتها فِي مَسْجِد الْمولى إِدْرِيس رضي الله عنه وَجمع الصناع والعملة على ذَلِك فتأنقوا فِيهِ مَا شاؤوا حَتَّى جَاءَ أحسن من الْمَسْجِد الْقَدِيم وَكَانَ الَّذِي تولى الْقيام على ذَلِك الشريف الْمولى الْهَاشِمِي بن مُلُوك البلغيني فكمل ذَلِك فِي مُدَّة يسيرَة على غَايَة من الإبداع والإتقان وَكتب الله أجر ذَلِك فِي صحيفَة السُّلْطَان وَفِي هَذِه الْمدَّة توفّي الشَّيْخ الْأَكْبَر الْعَارِف الْأَشْهر أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد الدرقاوي رضي الله عنه وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الثُّلَاثَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من صفر سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَدفن يَوْم الثُّلَاثَاء بِأبي برِيح من بِلَاد غمارة وقبره شهير وَكَانَ رضي الله عنه عَجِيب الْحَال كَبِير الشَّأْن ورسائله مَوْجُودَة فِي أَيدي النَّاس وَله فِيهَا نفس مبارك نفعنا الله بِهِ وبأمثاله
خُرُوج السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن إِلَى مكناسة وَنَقله آيت يمور إِلَى الْحَوْز ومسيره إِلَى مراكش
لما سَافر السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن السفرة الأولى إِلَى رِبَاط الْفَتْح كَانَ قَصده أَن ينظر فِي أَحْوَال الرعايا وَمَا هِيَ عَلَيْهِ حَتَّى يكون على بَصِيرَة فِيمَا يَأْتِي ويذر من أمرهَا ثمَّ لما عَاد إِلَى فاس استعد الاستعداد التَّام بِقصد تدويخ الْمغرب وتمهيد أقطاره وَلم شعثه وتدارك رمقه إِذْ كَانَت الْفِتْنَة أَيَّام الفترة قد أحالت حَاله وكسفت باله وَكَانَ الْمولى مبارك بن عَليّ صَاحب مراكش قد استولت عَلَيْهِ بطانة السوء وَكَثُرت بِهِ الشكايات إِلَى السُّلْطَان فعزم السُّلْطَان رحمه الله على إِعْمَال السّفر إِلَى مراكش فَخرج من فاس وَقصد أَولا مكناسة فَلَمَّا دنا مِنْهَا خرج العبيد إِلَى لِقَائِه بالأعلام مَرْفُوعَة على العصي وَكَانُوا جمَاعَة يسيرَة فَقَالَ لَهُم السُّلْطَان رحمه الله أَيْن جند عبيد البُخَارِيّ فَقَالُوا هَذِه الْبركَة الَّتِي أشأرتها الْفِتْنَة وعَلى الله ثمَّ عَلَيْك الْخلف فَدخل السُّلْطَان رحمه الله مكناسة وتفقد بَيت مَالهَا فَأَلْقَاهُ أنقى من الرَّاحَة وَوجد العبيد على غَايَة من الْقلَّة والخصاصة حَتَّى لقد باعوا الْخَيل وَالسِّلَاح وأكلوا