الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مراسلة السُّلْطَان أبي الْحسن لسلطان مصر وَبَعثه الْمَصَاحِف من خطه إِلَى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة شرفها الله
كَانَ للسُّلْطَان أبي الْحسن مَذْهَب وَرَأى فِي ولَايَة مُلُوك الْمشرق والمكلف بالمعاهد الشَّرِيفَة اقْتِدَاء فِي ذَلِك بِعَمِّهِ يُوسُف بن يَعْقُوب وَغَيره من سلفه وضاعف ذَلِك لَدَيْهِ متين ديانته ورفيع همته وَلما قضى من أَمر تلمسان مَا قضى وَاسْتولى على المغربين خَاطب لحينه صَاحب مصر وَالشَّام والحجاز الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وعرفه بِالْفَتْح وارتفاع الْعَوَائِق عَن ركب الْحَاج فِي سابلتهم وَكَانَ سفيره فِي ذَلِك فَارس بن مَيْمُون بن وردار وَعَاد بِجَوَاب الْكتاب وَتَقْرِير الْمَوَدَّة بَين الْخلف كَمَا كَانَت بَين السّلف فأجمع السُّلْطَان أَبُو الْحسن حِينَئِذٍ على كتب نُسْخَة عتيقة من الْمُصحف الْكَرِيم بِخَط يَده ليوقفها بِالْحرم الشريف حرم مَكَّة قربَة إِلَى الله تَعَالَى وابتغاء للمثوبة فانتسخها بِيَدِهِ وَجمع الوراقين لتنميقها وتذهيبها والقراء لضبطها وتهذيبها وصنع لَهَا وعَاء مؤلفا من الآبنوس والعاج والصندل فائق الصَّنْعَة وَغشيَ بصفائح الذَّهَب ورصع بالجوهر والياقوت وَاتخذ لَهُ أصونة الْجلد المحكمة الصَّنْعَة المرقوم أديمها بخطوط الذَّهَب وَمن فَوْقهَا غلائف الْحَرِير والديباج وأغشية الْكَتَّان وَأخرج من خزائنه أملا عينهَا لشراء الضّيَاع بالمشرق لتَكون وَقفا على الْقُرَّاء فِيهَا وأوفد على الْملك النَّاصِر خَواص مَجْلِسه وكبار أهل دولته مثل عريف بني حيى أَمِير بني زغبة من عرب بني هِلَال وَمثل السَّابِق الْمُقدم فِي بساطه على كل خَالِصَة عَطِيَّة بن مهلهل بن يحيى كَبِير أَخْوَاله من عرب الْخَلْط وَبعث كَاتبه أَبَا الْفضل بن مُحَمَّد بن أبي مَدين وعريف الوزعة بِبَابِهِ الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن قَاسم المزوار
واحتفل فِي الْهَدِيَّة للسُّلْطَان صَاحب مصر احتفالا تحدث النَّاس بِهِ دهرا قَالَ ابْن خلدون وقفت على برنامج الْهَدِيَّة بِخَط أبي الْفضل بن أبي مَدين الرَّسُول الْمَذْكُور ووعيته ثمَّ أنسيته وَذكر لي بعض قهارمة الدَّار أَنه كَانَ فِيهَا خَمْسمِائَة من
عتاق الْخَيل المقربات بسروج الذَّهَب وَالْفِضَّة ولجمها خَالِصا ومغشى ومموها وَخَمْسمِائة حمل من مَتَاع الْمغرب وماعونه وأسلحته وَمن نسج الصُّوف الْمُحكم ثيابًا وأكسية وبرانس وعمائم وإزرا معلمة وَغير معلمة وَمن نسج الْحَرِير الْفَائِق الْمعلم بِالذَّهَب ملونا وَغير ملون وساذجا ومنمقا وَمن الدرق المجلوبة من بِلَاد الصَّحرَاء المحكمة الدبغ المنسوبة إِلَى الملط وَمن خرثي الْمغرب وَمَا عونة مَا تستطرف صناعته بالمشرق حَتَّى لقد كَانَ فِيهَا مَكِيل من حَصى الْجَوْهَر والياقوت واعتزمت حظية من حظايا أَبِيه على الْحَج فِي ذَلِك الركب فَأذن لَهَا واستبلغ فِي تكرمتها واستوصى بهَا وفده وسلطان مصر فِي كِتَابه وفصلوا من تلمسان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة ووصلوا إِلَى مصر فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وأدوا رسالتهم إِلَى الْملك النَّاصِر وَقدمُوا هديتهم إِلَيْهِ فقبلها وَحسن موقعها لَدَيْهِ وَكَانَ يَوْم وفادتهم عَلَيْهِ بِمصْر يَوْمًا مشهودا تحدث النَّاس بِهِ دهرا ولقاهم سُلْطَان مصر فِي طريقهم أَنْوَاع الْبر والكرامة حَتَّى قضوا فرضهم وَوَضَعُوا الْمُصحف الْكَرِيم حَيْثُ أَمرهم صَاحبه وأسنى الْملك النَّاصِر هَدِيَّة السُّلْطَان من الفساطيط المشرقية الغريبة الشكل والصنعة بالمغرب وَمن ثِيَاب الْإسْكَنْدَريَّة البديعة النسج المرقومة بِالذَّهَب ورجعهم بهَا إِلَى مرسلهم وَقد استبلغ فِي تكرمتهم وصلتهم وَبَقِي حَدِيث هَذِه الْهَدِيَّة مَذْكُورا بَين النَّاس لهَذَا الْعَهْد اه كَلَام ابْن خلدون بِبَعْض إِيضَاح
وَقد ذكر الإِمَام الْخَطِيب أَبُو عبد الله بن مَرْزُوق فِي كِتَابه الْمسند الصَّحِيح الْحسن من أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن هَذِه الْهَدِيَّة وَفصل مِنْهَا بعض مَا أجمله إِبْنِ خلدون فَقَالَ أرسل السُّلْطَان أَبُو الْحسن للناصر بن قلاوون صَاحب الديار المصرية من أَحْجَار الْيَاقُوت الْعَظِيم الْقدر وَالثمن ثَمَانمِائَة وَخَمْسَة وَعشْرين وَمن الزمرد مائَة وَثَمَانِية وَعشْرين وَمن الزبرجد مائَة وَثَمَانِية وَعشْرين وَمن الْجَوْهَر النفيس الملوكي ثَلَاثمِائَة وَأَرْبَعَة وَسِتِّينَ وَأرْسل حللا كَثِيرَة مِنْهَا مذهبَة ثَلَاثَة عشر وَمن الأنان عشْرين مذهبَة وَمن الخلادي سِتَّة وَأَرْبَعين وَمن القنوع سِتَّة وَعشْرين مذهبَة وَمن المحرارت المختمة ثَمَانمِائَة وَمن الرصان عشْرين شقة وَمن الأكسية المحررة أَرْبَعَة وَعشْرين وَمن
البرانس المحررة ثَمَانِيَة عشر وَمن المشقفات مائَة وَخمسين وَمن أحارم الصُّوف المحررة عشْرين وَمن شقق الملف الرفيع سِتَّة عشر وَمن الفضالي المنوعة والفرش والمخاد المنبوق وَالْحلَل ثَمَانمِائَة وَمن أوجه اللحف المذهبة عشْرين وحائطين حلَّة وحنابل مائَة واثني عشر كلهَا حَرِير وفرش جلد مخروز بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَمن السيوف المحلات بِالذَّهَب المنظم بالجوهر عشرَة والسروج عشرَة بركب الذَّهَب كَذَلِك ومهاميز الذَّهَب وَثَلَاثَة ركب فضَّة وَسِتَّة مزججة ومذهبة ومضمتان من ذهب مِمَّا يَلِيق بالملوك وشاشية حَدِيد بِذَهَب مكلل بالجوهر وَمن لزمات الْفضة عشرَة وسروج مخروزة بِالْفِضَّةِ عشرَة وَعشر عَلَامَات مغشاة مذهبَة وَعشر رايات مذهبَة وَعشر براقع مذهبَة وَعشر أَمْثِلَة مرقومة وَثَلَاثُونَ جلدا شرك وَأَرْبَعَة آلَاف درقة لمط مِنْهَا مِائَتَان بنهود الذَّهَب وَثَمَانمِائَة بنهود الْفضة وخباء قبَّة كَبِيرَة من مائَة بنيقة لَهَا أَرْبَعَة أَبْوَاب وقبة أُخْرَى مضربة من سِتّ وَثَلَاثِينَ بنيقة مبطنة بحلة مذهبية وَهِي من حَرِير أَبيض ومرابطها حَرِير ملون وعمودها عاج وآبنوس وأكبارها من فضَّة مذهبَة وَمن البزات الْأَحْرَار المنتقات أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ وَمن عتاق الْخَيل العراب ثَلَاثمِائَة وخمسا وَثَلَاثِينَ وَمن البغال الذُّكُور وَالْإِنَاث مائَة وَعشْرين وَمن الْجمال سَبْعمِائة وتوجهت مَعَ هَذِه الْهَدِيَّة أُمَم برسم الْحَج مَعَ الربعة المكرمة يَعْنِي ربعَة الْمُصحف الْكَرِيم وَأعْطى السُّلْطَان الْحرَّة أم أُخْته أم ولد أَبِيه مَرْيَم ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة ذَهَبا ولقاضي الركب ثَلَاثمِائَة وَكِسْوَة ولقائد الركب أَرْبَعمِائَة وكساوى مُتعَدِّدَة وبغلات وَلِلرَّسُولِ الْمعِين للهدية ألفا ولشيخ الركب أَحْمد بن يُوسُف بن أبي مُحَمَّد صَالح خَمْسمِائَة ولجماعة الضُّعَفَاء من الْحجَّاج سِتّمائَة وبرسم الْعَطاء للْعَرَب ثَلَاثَة آلَاف وَثَمَانمِائَة ولشراء الرباع سِتَّة عشر ألفا وَخَمْسمِائة ذَهَبا اه وَذكر فِي الْكتاب الْمَذْكُور أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن أهْدى هَدَايَا غير هَذِه لكثير من الْمُلُوك مِنْهَا لصَاحب الأندلس صلَة وَصدقَة وهدية فِي مَرَّات وَمِنْهَا لملوك النَّصَارَى بعد هداياهم وَمِنْهَا لسلاطين السودَان كصاحب مَالِي وَمِنْهَا لصَاحب إفريقية وَمِنْهَا لصَاحب تلمسان اه وَقَالَ الْعَلامَة المقريزي مؤرخ مصر فِي كتاب السلوك مَا نَصه
وَفِي ثَانِي وَعشْرين من رَمَضَان سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة قدمت الْحرَّة من عِنْد السُّلْطَان أبي الْحسن عَليّ بن عُثْمَان بن يَعْقُوب المريني صَاحب فاس تُرِيدُ الْحَج وَمَعَهَا هَدِيَّة جليلة إِلَى الْغَايَة نزل لحملها من الأسطول السلطاني ثَلَاثُونَ قطارا من بغال النَّقْل سوى الْجمال وَكَانَ من جُمْلَتهَا أَرْبَعمِائَة فرس مِنْهَا مائَة حجرَة وَمِائَة فَحل وَمِائَتَا بغل وجميعها بسروج ولجم مسقطة بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَبَعضهَا سُرُوجهَا وركبها ذهب وَكَذَلِكَ لجمها وعدتها اثْنَان وَأَرْبَعُونَ رَأْسا مِنْهَا سرجان من ذهب مرصع بجوهر وفيهَا اثْنَان وَثَلَاثُونَ بازا وفيهَا سيف قرَابه ذهب مرصع وحياصة ذهب مرصع وفيهَا مائَة كسَاء وَغير ذَلِك من القماش العالي وَكَانَ قد خرج المهمندار إِلَى لقائهم وأنزلهم بالقرافة قريب مَسْجِد الْفَتْح وهم جمع كثير جدا وَكَانَ يَوْم طُلُوع الْهَدِيَّة من الْأَيَّام الْمَذْكُورَة فَفرق السُّلْطَان الْهَدِيَّة على الْأُمَرَاء بأسرهم على قدر مَرَاتِبهمْ حَتَّى نفدت كلهَا سوى الْجَوْهَر واللؤلؤ فَإِنَّهُ اخْتصَّ بِهِ فقدرت قيمَة هَذِه الْهَدِيَّة بِمَا يزِيد على مائَة ألف دِينَار ثمَّ نقلت الْحرَّة إِلَى الميدان بِمن مَعهَا ورتب لَهَا من الْغنم والدجاج وَالسكر والجلواء والفاكهة فِي كل يَوْم بكرَة وَعَشِيَّة مَا عمهم وَفضل عَنْهُم فَكَانَ مرتبهم كل يَوْم عدَّة ثَلَاثِينَ رَأْسا من الْغنم وَنصف أردب أرزا وقنطارا حب رمان وَربع قِنْطَار سكرا وثمان فانوسيات شمعا وتوابل الطَّعَام وَحمل إِلَيْهَا برسم النَّفَقَة مبلغ خَمْسَة وَسبعين ألف دِرْهَم وَأُجْرَة حمل أثقالهم مبلغ سِتِّينَ ألف دِرْهَم ثمَّ خلع على جَمِيع من قدم مَعَ الْحرَّة فَكَانَت عدَّة الْخلْع مِائَتَيْنِ وَعشْرين خلعة على قدر طبقاتهم حَتَّى خلع على الرِّجَال الَّذين قادوا الْخُيُول وَحمل إِلَى الْحرَّة من الْكسْوَة مَا يجل قدره وَقيل لَهَا أَن تملي مَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَلَا يعوزها شَيْء وَإِنَّمَا تُرِيدُ عناية السُّلْطَان إكرامها وإكرام من مَعهَا حَيْثُ كَانُوا فَتقدم السُّلْطَان إِلَى النشو وَإِلَى الْأَمِير أَحْمد إِن بغى بتجهيزها اللَّائِق بهَا فقاما بذلك واستخدما لَهَا السقائين والضوئية وهيأ كل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ فِي سفرها من أَصْنَاف الحلاوات وَالسكر والدقيق والبجماط وطلبا الْحمالَة لحمل جهازها وأزودتها وَندب السُّلْطَان للسَّفر مَعهَا جمال الدّين مُتَوَلِّي الجيزة وَأمره أَن يرحل بهَا فِي مركب لَهَا
بمفردها قُدَّام الْمحمل ويمتثل كلما تَأمر بِهِ وَكتب لأميري مَكَّة وَالْمَدينَة بخدمتها أتم خدمَة اه وَفِيه بعض مُخَالفَة لما وَصفه ابْن مَرْزُوق فِي الْهَدِيَّة والخطب سهل
ثمَّ انتسخ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رحمه الله نُسْخَة أُخْرَى من الْمُصحف الْكَرِيم على القانون الأول ووقفها على الْقُرَّاء بِالْمَدِينَةِ وَبعث بهَا من تخيره لذَلِك الْعَهْد من أهل دولته سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة وَفعل مثل ذَلِك بحرم بَيت الْمُقَدّس قَالَ الْعَلامَة أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي نفح الطّيب كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن المريني قد كتب ثَلَاثَة مصاحف شريفة بِخَطِّهِ وأرسلها إِلَى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة الَّتِي تشد إِلَيْهَا الرّحال ووقف عَلَيْهَا أوقافا جليلة كتب سُلْطَان مصر وَالشَّام توقيعه بمسامحتها من إنْشَاء الأديب الشهير جمال الدّين بن نباتة الْمصْرِيّ وَنَصّ مَا يتَعَلَّق بِهِ الْغَرَض مِنْهُ هُنَا قَوْله
وَهُوَ الَّذِي مد يَمِينه بِالسَّيْفِ والقلم فَكتب فِي أَصْحَابهَا وسطر الختمات الشَّرِيفَة فأيد الله حزبه بِمَا سطره من أحزابها واتصلت مَلَائِكَة النَّصْر بلوائه تَغْدُو وَتَروح وَكَثُرت فتوحه لأملياء الغرب فَقَالَت أوقاف الشرق لَا بُد للْفُقَرَاء من فتوح ثمَّ وصلت ختمات شريفة كتبهَا بقلمه الْمجِيد المجدي وَخط سطورها بالعربي وطالما خطّ فِي صُفُوف الْأَعْدَاء بالهندي ورتب عَلَيْهَا أوقافا تجْرِي أَقْلَام الْحساب فِي إِطْلَاقهَا وَطَلقهَا وَحبس أملاكا شامية تحدث بنعم الْأَمْلَاك الَّتِي سرت من مغرب الأَرْض إِلَى مشرقها وَالله تَعَالَى يمتع من وقف هَذِه الختمات بِمَا سطر لَهُ فِي أكْرم الصحائف وينفع الْجَالِس من وُلَاة الْأُمُور فِي تقريرها ويتقبل من الْوَاقِف اه قَالَ الْمقري وَقد رَأَيْت أحد الْمَصَاحِف الْمَذْكُورَة وَهُوَ الَّذِي بِبَيْت الْمُقَدّس وربعته فِي غَايَة الصَّنْعَة اه وَالله تَعَالَى أعلم
واتصلت الْولَايَة بَين السُّلْطَان أبي الْحسن وَبَين الْملك النَّاصِر إِلَى أَن هلك سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَولي أَمر مصر من بعده ابْنه أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن قلاوون فخاطبه السُّلْطَان أَبُو الْحسن أَيْضا على مَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله
(ذَاك الرّبيع أَبُو الرّبيع وَمن بِهِ
…
حيى الْهدى وَشَرَائِع الأفضال)
(كل الْكَمَال لَهُ وَأَنت مقره
…
وَالْفرع عين الأَصْل عِنْد مَال)
(يَا ابْن المليك ابْن المليك ابْن المليك
…
ابْن المليك سلالة الْأَقْيَال)
(أنسيتم ذكر العباسية الأولى
…
زَالُوا وَمَا زَالُوا بِعَين جلال)
(لكم الفخار بِذَاتِهِ وسواكم
…
مستمسك من فخركم بظلال)
(ولي الفخار بِأَن نسجت مديحكم
…
حللا تَجِد وكل شَيْء بَال)
(أملي مَعَانِيهَا على ودادكم
…
فَجرى بِهِ طبع كَمَا السلسال)
(وَلَو أنني حاولت مدح سواكم
…
عقل القريحة عَنهُ أَي عقال)
(فَكَأَنَّمَا طبعي شرِيف حَيْثُمَا
…
لَا يَهْتَدِي لسوى مديح الْآل)
(أَو قد درى أَن المديح تعرض
…
وسواكم لَا يرتضي لسؤال)
(أبقاكم كهفا يلاذ بمجدكم
…
مختاركم لإنالة الآمال))
(وأدام لِلْإِسْلَامِ والدك الَّذِي
…
هُوَ رَحْمَة وسعت بِغَيْر جِدَال)
(وَعَلَيْكُم وعَلى الَّذِي يهواكم
…
أزكى الرضى من حَضْرَة المتعال)
(مَا دَامَ ذكركُمْ بِكُل صحيفَة
…
تبعا لِأَحْمَد سيد الْإِرْسَال)
(صلى عَلَيْهِ مُسلما رب الورى
…
وعَلى مقدم حزبه والتالي)
وعزز هَذِه القصيدة بِمِثْلِهَا بحرا وقافية ورويا الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب أَبُو الْفَيْض حمدون بن الْحَاج الفاسي يَقُول فِي مطْلعهَا
(بِشِرَاك إِبْرَاهِيم بالإقبال
…
إقبال عز لم يكن بالبال)
وَهِي طَوِيلَة تركناها اختصارا وَفِي هَذِه السّنة توفّي الشريف الْبركَة الْمولى عَليّ ابْن الْمولى أَحْمد الوزاني وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء آخر يَوْم ربيع الأول سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف
غَزْو السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بِلَاد الرِّيف وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما كَانَت سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف بلغ السُّلْطَان أَن قبائل الرِّيف من قلعية وَغَيرهم صَارُوا يبيعون الزَّرْع لِلنَّصَارَى ويسوقونه من بِلَادهمْ فعقد لعامله على الثغور أبي عبد الله مُحَمَّد السلاوي على جَيش كثيف وأنفذه إِلَيْهِم
فَسَار الْعَامِل الْمَذْكُور وَقصد قلعية عش الْفساد وَلما شارفها سرب إِلَيْهِم العساكر فنهبوا أَمْوَالهم وحرقوا مداشرهم وانتسفوا أَرضهم وديارهم وتركوهم أفقر من ابْن المدلق ثمَّ بَث عماله فِي تِلْكَ الْقَبَائِل فجبوها واستوفوا زكواتها وأعشارها وَعَاد ظافرا وَفِي هَذِه السّنة وَذَلِكَ صباح يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع عشر من محرم مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الإِمَام خَاتِمَة الْمُحَقِّقين بالمغرب سَيِّدي مُحَمَّد الطّيب بن عبد الْمجِيد بن عبد السَّلَام ابْن كيران الفاسي صَاحب التآليف البديعة والحواشي المحررة مثل شرح الحكم العطائية وَشرح السِّيرَة النَّبَوِيَّة وَغير ذَلِك من التآليف الْمَعْرُوفَة والموجودة بأيدي النَّاس
ثمَّ لما دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف بلغ السُّلْطَان ثَانِيًا أَن أهل الرِّيف لَا زَالُوا مقيمين على بيع الزَّرْع لِلنَّصَارَى وَأَنَّهُمْ أضافوا إِلَى بيع الزَّرْع بيع الْمَاشِيَة وَقد كَانَ السُّلْطَان منع النَّصَارَى من وسق ذَلِك بالمراسي فافتات هَؤُلَاءِ الْقَوْم على السُّلْطَان وأعطوهم من ذَلِك مَا أَرَادوا طَمَعا فِي الرِّبْح وَكَانَ السُّلْطَان قد تقدم إِلَى الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي فِي كفهم عَن ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ قد ولاه عَلَيْهِم وأضافهم إِلَى من كَانَ إِلَى نظره من أهل الْجَبَل والثغور فَكَانَ لَا يلْتَفت إِلَيْهِم وَرُبمَا قبض أهل الْمُرُوءَة مِنْهُم على سفلتهم مِمَّن يتعاطى ذَلِك ويبعثون بهم إِلَيْهِ فيسرحهم على طمع فاتسع الْخرق وَصَارَ كلهم يفعل ذَلِك وَلما تحقق السُّلْطَان بفعلهم أَمر رُؤَسَاء قراصينه أَن يذهبوا إِلَى جِهَة الرِّيف ومراسيها وكل من عثروا عَلَيْهِ بهَا من مراكب النَّصَارَى فليأخذوه فَسَارُوا وقبضوا على بعض النَّصَارَى فأسروهم وَلم يقنعه ذَلِك حَتَّى أَمر بغزو الرِّيف وعزم على النهوض إِلَيْهِم بِنَفسِهِ وَأذن فِي النَّاس بذلك وجهز العساكر مَعَ الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي وَوجه مَعَه وَلَده الْمولى إلراهيم بعساكر الثغور وعرب سُفْيَان وَبني مَالك فَسَارُوا على طَرِيق الْجَبَل وَخرج السُّلْطَان من فاس فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَمَعَهُ السوَاد الْأَعْظَم فسلك الجادة إِلَى تازا وكارت حَتَّى نفذ إِلَى بِلَاد الرِّيف فَلم يرعهم إِلَّا العساكر مُحِيطَة بهم من كل وَجه فنهبوهم وحرقوا مداشرهم وَاسْتَخْرَجُوا
أمراسهم ودفائنهم وَولى السُّلْطَان عَلَيْهِم أَحْمد بن عبد الصَّادِق الريفي وَتَركه فِي بِلَادهمْ فِي حِصَّة من الْعَسْكَر يستخلص مِنْهُم الْأَمْوَال وَعَاد السُّلْطَان إِلَى دَار ملكه مؤيدا منصورا
خُرُوج السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى بِلَاد الْحَوْز وتمهيدها ثمَّ دُخُوله مراكش
كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله قد ولى على قبائل تامسنا الْقَائِد كريران الحريزي فَيُقَال إِنَّه أَسَاءَ السِّيرَة فيهم فنبذوا طَاعَته وَخَرجُوا عَلَيْهِ فَقدم على السُّلْطَان مستصرخا عَلَيْهِم فَخرج إِلَيْهِم فِي العساكر سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَتقدم إِلَى جيرانهم من الْقَبَائِل بِأَن يزحفوا إِلَيْهِم من خَلفهم فَفَعَلُوا وهجم هُوَ عَلَيْهِم من أمامهم وأوقع بهم وقْعَة شنعاء أتلفت موجودهم وأباحت نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ وفر مِنْهُم طَائِفَة فعبروا وَادي أم الرّبيع زمَان مُدَّة فَهَلَك جلهم ثمَّ ترك فيهم عَامله فِي حِصَّة من الْجند وَأمره باستخلاص الْأَمْوَال مِنْهُم وَتقدم هُوَ إِلَى نَاحيَة مراكش لقمع أهل الْفساد من قبائل الْحَوْز مثل دكالة وَعَبدَة والشياظمة الَّذين خَرجُوا أَيْضا على عاملهم الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الصَّادِق صَاحب الصويرة فَأصْلح من شَأْنهمْ وعزله عَنْهُم لما علمه من سوء سيرته فيهم وَنَقله من الصويرة إِلَى مراكش ثمَّ مِنْهَا إِلَى فاس فولى أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد على عَسْكَر القلعة بمراكش وَعَاد رحمه الله إِلَى الغرب
وَفِي هَذِه السّنة فِي الثَّالِث عشر من رَمَضَان مِنْهَا توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الْفَقِيه الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْحَاج الرهوني صَاحب الْحَاشِيَة الْكَبِيرَة على مُخْتَصر الشَّيْخ خَلِيل وَغَيرهَا من التآليف النافعة والخطب البارعة وَبَاعه فِي الْعُلُوم خُصُوصا الْفِقْه مُقَرر مَعْلُوم رحمه الله ونفعنا بِهِ وَفِي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ الْخَامِس عشر من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الشَّيْخ الْعَالم الْعَارِف الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التجاني
شيخ الطَّائِفَة التجانية وَكَانَت وَفَاته بفاس المحروسة وضريحه بهَا شهير عَلَيْهِ بِنَاء حفيل رحمه الله ونفعنا بِهِ
غَزْو السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان قبائل الصَّحرَاء وإيقاعة بآيت عطة وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما كَانَت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف بلغ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان أَن بعض قبائل الصَّحرَاء كعرب الصَّباح وبرابرة آيت عطه اشتغلوا بِالْفَسَادِ وَعظم ضررهم واستولوا على قُصُور المخزن الَّتِي هُنَالك من عهد السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل فعقد لِابْنِهِ الْمولى إِبْرَاهِيم على جَيش كثيف وَوَجهه إِلَيْهِم فَسَار وَنزل أَولا على قُصُور الْعَرَب وَنصب عَلَيْهِم آلَة الْحَرْب فبددهم ثمَّ زَاد إِلَى قُصُور آيت عطه فنصب عَلَيْهِم الْآلَة كَذَلِك وضيق عَلَيْهِم إِلَى أَن طلبُوا الْأمان فَأَمنَهُمْ فطلبوا أَن يفرج بالجيش عَنْهُم قَلِيلا حَتَّى يخرجُوا بعيالهم خوفًا من معرة الْجَيْش فأشفق لَهُم وَأَفْرج عَنْهُم وَكَانَ ذَلِك مكيدة مِنْهُم فَلَمَّا نفس عَن مخنقهم أدخلُوا مَعَهم مَا شاؤوا من رجال وَسلَاح وقوت وتمادوا على الْحَرْب فَسقط فِي يَد الْمولى إِبْرَاهِيم وَحمى أَنفه وَكَانَ مَعَه جمَاعَة وافرة من أعيانهم رهنا عِنْده فَقتل طَائِفَة مِنْهُم وسَاق نَحْو الْمِائَة إِلَى فاس فَقَتلهُمْ بِبَاب المحروق وَلما أنهى خبر فعلة البربر إِلَى السُّلْطَان عَابَ على ابْنه إفراجه عَنْهُم أَولا وَقتل الرهائن ثَانِيًا ثمَّ أَنهم أوفدوا جمَاعَة مِنْهُم على السُّلْطَان راغبين إلية أَن يبقيهم بالقصور فردهم بالخيبة وَقَالَ لَهُم لَا بُد لي من الْوُصُول إِلَى تِلْكَ الْقُصُور إِن شَاءَ الله حَتَّى تكون لي أولكم وَلما انْسَلَخَ رَمَضَان من السّنة وَأقَام سنة عيد الْفطر شرع فِي تجهيز العساكر إِلَى الصَّحرَاء وقمع ظلمَة آيت عطه ثمَّ بعث فِي مقدمته السوَاد الاعظم من جَيش العبيد وَعقد عَلَيْهِم لوصيفه الأنجب الْقَائِد أَحْمد بن مبارك صَاحب الحاتم وَبعث مَعَه الطبجية بالمدافع والمهاريس وَآلَة الْحصار وَالْهدم فَخَرجُوا من فاس فِي
زِيّ فاخر وشوكة تَامَّة وَبعد انفصالهم عَنْهَا طَرَأَ على السُّلْطَان من بعض الثغور البحرية خبر بِأَن عمَارَة الْعَدو تروج بالبحر وتجتمع عِنْد جبل طَارق وَلم ندر إِلَى أَيْن تُرِيدُ فَتَأَخر السُّلْطَان عَن الْخُرُوج حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ أَمر هَذِه الْعِمَارَة ثمَّ ورد الْخَبَر الْيَقِين بِأَنَّهَا قد قصدت ثغر الجزائر وَأصَاب الفرنج من هدم الأبراج وتخريب الدّور والمساجد وَحرق الْأَشْجَار شَيْئا كثيرا لَكِن لما رجعُوا مفلولين مقتولين هان الْأَمر وصغرت الْمُصِيبَة وَلما جَاءَ البشير بانهزام الفرنج عَن الجزائر قوي عزم السُّلْطَان على مُتَابعَة من وَجه من عسكره إِلَى الصَّحرَاء فَخرج فِي غرَّة ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فِيمَن تخلف مَعَه من الْعَسْكَر وقبائل الْعَرَب والبربر وجد السيرإلى أَن عمر وَادي ملوية فَلَقِيَهُ البشير هُنَالك بِخَبَر الْفَتْح والاستيلاء على الْقُصُور وَقتل أَهلهَا وَسَبْيهمْ وَنهب بضائعهم وأمتعتهم فجد السّير إِلَى أَن خيم بأغريس وَمِنْهَا كتب إِلَى الْقَائِد أَحْمد أَن يوافيه بالجيش لبلاد فركلة للنزول على الْقُصُور الخربات الَّتِي بهَا آيت عطة فَاجْتمعُوا مَعَ السُّلْطَان بهَا ونصبوا عَلَيْهَا المدافع والمهاريس ودام الرَّمْي عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى كثر الْهدم وَالْقَتْل وعاينوا الْمَوْت الْأَحْمَر فأرسلوا إِلَى السُّلْطَان النِّسَاء وَالصبيان للشفاعة فِي الْخُرُوج بؤوسهم فَأَمنَهُمْ وَلما جن اللَّيْل خَرجُوا حاملين أَوْلَادهم على ظُهُورهمْ خوفًا من معرة الْجَيْش وَلما أصبح السُّلْطَان أَمر بِنَهْب مَا فِي الْقُصُور من الْقُوت وَالْمَتَاع والكراع وكمل فتح هَذِه الْأَمَاكِن الَّتِي كَانَت نقمة لأهل ذَلِك الْقطر الصحراوي وَلما من الله على السُّلْطَان بِهَذَا الْفَتْح شكر صنع الله لَهُ بِأَن فرق على الْعَسْكَر وقبائل تِلْكَ الأقطار مَا وسعهم من الْخيرَات
قَالَ صَاحب الْجَيْش أعْطى الشرفاء مائَة ألف مِثْقَال غير مَا كَانَ يعطيهم فِي كل سنة وَقسم رحمه الله ذَلِك بِخَط يَده فَكتب لدار مولَايَ عبد الله كَذَا ولشريفات حموبكة كَذَا ولشرفاء تافيلالت كَذَا ولشرفاء تيزيمي وَأَوْلَاد الزهراء كَذَا ولشرفاء الرتب كَذَا ولشرفاء مدغرة كَذَا ولشرفاء زيز
ذَات أزهار مفترة وَبنى رحمه الله فِيهَا قَصَبَة عامرة يأوي إِلَيْهَا الوكلاء والفلاحون وَصَارَت آهلة بعد أَن كَانَت بائدة غامرة
وَمن آثاره بعد ولَايَته أَمر الْمُؤمنِينَ دَاره الْكُبْرَى بآجدال رِبَاط الْفَتْح والسور الْكَبِير الْمُحِيط ببسيطها وجلب المَاء إِلَيْهَا بعد أَن صير عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَة وأحيى جَامع السّنة قربهَا وَكَانَ بائدا يعشش فِيهِ الصدى والبوم وَأقَام فِيهِ الصَّلَوَات الْخمس وَالْخطْبَة كل جُمُعَة وَأَحْيَا الْمَسْجِد الصَّغِير هُنَالك الْمُسَمّى بِمَسْجِد أهل فاس واعتنى بِهِ وزخرف سقوفه وانتهج الطَّرِيق من الدَّار الْمَذْكُورَة إِلَى الْوَادي أَسْفَل من حسان تسهيلا على الْمَارَّة وتقريبا عَلَيْهِم وَمِنْهَا أَنه نقل طَائِفَة من الْجَيْش السُّوسِي الَّذِي بالمنشية وأوطنها حول الدَّار الْمَذْكُورَة بآجدال فاستطابوا الْمقَام هُنَاكَ وَحسنت حَالهم وانعمرت بهم تِلْكَ النَّاحِيَة وهم الْآن بِهَذَا الْحَال وَمِنْهَا بِالدَّار الْبَيْضَاء الْمَسْجِد الْجَامِع بِالسوقِ وَكَانَ الصائر عَلَيْهِ من أحباس الْمَسْجِد الْقَدِيم وَإِنَّمَا السُّلْطَان رحمه الله أذن فِي بنائِهِ بِإِشَارَة عاملها يَوْمئِذٍ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري وَمِنْهَا الْحمام الْقَدِيم الَّذِي بهَا وَكَانَ الصائر عَلَيْهِ من بَيت المَال وَأصْلح رحمه الله أسوار الجديدة وأبراجها واعتنى بشأن الثغور وَبعث من نوابه من يتفقد أحوالها وَمِنْهَا بمراكش دَار فابريكة السكر بآجدال مِنْهَا صير عَلَيْهَا أَمْوَالًا طائلة وَجَاءَت على عمل متقن وهيئة ضخمة إِلَّا أَنَّهَا الْيَوْم معطلة لقلَّة الْمَادَّة وَمِنْهَا دَار فابريكة تزديج البارود بِالْمحل الْمَعْرُوف بالسجينة من مراكش أَيْضا وَمن ذَلِك برج الفنار الَّذِي على سَاحل الْبَحْر بأشقار قرب طنجة يسرج فِيهِ ضوء كثير يظْهر للسيارة فِي الْبَحْر لَيْلًا من مَسَافَة بعيدَة وصير عَلَيْهِ مَالا لَهُ بَال وَكَانَت المراكب تنشب بذلك السَّاحِل كثيرا إِذْ لم يكن لَهَا عَلامَة تهتدي بهَا فِي الْبَحْر وَلما اتخذ السُّلْطَان رحمه الله هَذَا الفنار أمنت من تِلْكَ الآفة وَله رحمه الله آثَار كَثِيرَة يطول ذكرهَا جعلهَا الله فِي ميزَان حَسَنَاته وَرفع بهَا فِي عليين درجاته
الْخَبَر عَن دولة ملك الزَّمن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى حسن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن خلد الله ملكه
لما توفّي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله اجْتمع أهل الْحل وَالْعقد من كبار الدولة وقواد الْجَيْش والقضاة وَالْعُلَمَاء والأشراف وأعيان مراكش وأحوازها على بيعَة نجله أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى أبي عَليّ حسن بن مُحَمَّد لما توفر فِيهِ من شُرُوط الْإِمَامَة وتكامل فِيهِ من النجدة والشهامة والزعامة وَلما اتّصف بِهِ من الْفضل وَالدّين وَسَائِر خِصَال الْخَيْر وَأَسْبَاب الْيَقِين وَلِأَن وَالِده رحمه الله كَانَ اسْتَخْلَفَهُ فِي حَيَاته وَألقى عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مهماته فَنَهَضَ بأعبائها وتقلب من مغاني السَّعَادَة فِي ظلالها وأفيائها
قَالَ أَبُو عبد الله أكنسوس لما اسْتخْلف الْمولى الْحسن حفظه الله لم تشغله شؤون الْخلَافَة المترادفة آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَلَا فِي قصوره السُّلْطَانِيَّة من الحدائق والأزهار عَن وظائف الدّين وَأَسْبَاب الْيَقِين من نوافل الْخَيْر من صَلَاة وَصِيَام وتلاوة كَمَا حَدثنِي بذلك بعض بطائنه وَأَنه يجد لَهَا فِي خلواته لَذَّة وحلاوة فَلَمَّا توفّي السُّلْطَان كَمَا قُلْنَا كَانَ الْمولى حسن أيده الله غَائِبا عَن الحضرة بِأبي ريقي من بِلَاد حَاجَة فَكتب إِلَيْهِ رُؤَسَاء الدولة بِمَا حدث من موت السُّلْطَان واجتماع النَّاس على بيعَته فَقدم مراكش فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما دنا مِنْهَا خرج للقائه الوزراء والقضاة والأشراف والأعيان وَسَائِر أهل مراكش برجالهم وَنِسَائِهِمْ وصبيانهم فملؤوا تِلْكَ البطاح وَضَاقَتْ بهم الأَرْض وَأخذُوا يعزونه ويهنئونه وَهُوَ أيده الله يقف لكل جمَاعَة مِنْهُم عل حدتها حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان إشفاقا عَلَيْهِم وتطييبا لنفوسهم وَكَانَ يَوْم دُخُوله لحضرة مراكش يَوْمًا مشهودا وموسما من مواسم الْخيرَات معدودا وَلما اسْتَقر بدار الْملك قدمت عَلَيْهِ الْوُفُود من جَمِيع الْأَمْصَار ونسلوا إِلَيْهِ من سَائِر النواحي والأقطار وكل وَفد يَأْتِي ببيعته وهديته واغتبط النَّاس بولايته وتيمنوا بطلعته فقابل أيده الله كلا
بِمَا يسْتَحقّهُ من الْإِكْرَام وأفاض على الرّعية جلائل الإنعام وَشرع فِي تجهيز الجيوش وَفتح بيُوت الْأَمْوَال فغمر النَّاس بالعطاء وكسا وأركب ونهض من مراكش يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة قَاصِدا حَضْرَة فاس وَالْوُقُوف على الرِّعَايَة وَالنَّظَر فِيهَا بِمَا يصلحها فَمر على بِلَاد السراغنة وَخرج مِنْهَا إِلَى البروج وَمِنْهَا إِلَى كيسر من بِلَاد تامسنا فاتصل بِهِ هُنَالك خبر فتْنَة أهل فاس وإيقاعهم بالأمين الْحَاج مُحَمَّد بن الْمدنِي بنيس وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك على مَا قيل أَنه لما وصل خبر وَفَاة السُّلْطَان إِلَى فاس وَأَن النَّاس اجْتَمعُوا على بيعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى حسن أعزه الله وَاجْتمعَ أهل فاس لعقد الْبيعَة أَيْضا اشْترط عامتهم لَا سِيمَا الدباغون أَن يزَال عَنْهُم المكس فَيُقَال إِن بعض من أَرَادَ جمع الْكَلِمَة من الْعلمَاء والأعيان تكفل لَهُم بذلك عَن السُّلْطَان وَلما تمت الْبيعَة أصبح الْأمين بنيس غاديا على عمله من تَرْتِيب وكلائه لقبض الوظيف فِي الْأَسْوَاق والأبواب وَغَيرهَا فَكَلمهُ بعض أَعْيَان فاس فِي التَّأَخُّر عَن هَذَا الْأَمر قَلِيلا حَتَّى تطمئِن النُّفُوس وَيثبت الْحق فِي نصابه وَحِينَئِذٍ يُؤْتى الْأَمر من بَابه فَأبى وأصر على مَا هُوَ بصدده فثار بِهِ الْعَامَّة وهدموا دَاره وانتهبوا أثاثه واستصفوا موجوده وَأَرَادُوا قَتله فاختفى بِبَعْض الْأَمَاكِن حَتَّى سكنت الهيعة ثمَّ تسرب إِلَى حرم الْمولى إِدْرِيس رضي الله عنه فَأَقَامَ بِهِ وَأمن على نَفسه وَكَانَت فتْنَة عَظِيمَة يطول شرحها واتصل بالسلطان وَهُوَ بكيسر أَيْضا خبر فتْنَة أهل آزمور وقتلهم لنائب عاملهم وَكَانَ عاملهم يَوْمئِذٍ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عمر بن أبي سِتَّة المراكشي ونائبه هُوَ أَحْمد بن الْمُؤَذّن الْفَرَجِيِّ من سكان آزمور وَكَانَ قَتلهمْ لَهُ تَاسِع عشر رَمَضَان من السّنة ثمَّ أَن أهل فاس كتبُوا إِلَى السُّلْطَان أعزه الله وَهُوَ بِبِلَاد تامسنا رِسَالَة بليغة يتنصلون فِيهَا من فعلة بنيس ويرمون بهَا الْعَامَّة والغوغاء وَمن لَا خلاق لَهُم وَنَصهَا
الْحَمد لله وَحده الْكَرِيم الَّذِي لَا يعجل بعقوبة من ارْتكب الذَّنب وتعمده وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد صَاحب الشَّفَاعَة الْكُبْرَى والجاه الْعَظِيم الْمُخَاطب بقول مَوْلَانَا فِي كِتَابه الْحَكِيم {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم}
الْقَلَم 4 وعَلى آله الَّذين أوجب الله لَهُم مَوَدَّة وحبا وَأنزل فيهم {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} الشورى 23 وَأَصْحَابه الَّذين كَانُوا أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم فَكَانَت الْمَلَائِكَة يَوْم حنين نَصرهم وعونهم هَذَا ونخص الْمقَام الَّذِي علا قدره واستنار ضوءه وفجره وجلله الفخار وَالْوَقار وعلاه الْبَهَاء وكساه وَألبسهُ الرَّسُول من رِدَاء الشّرف يَوْم كَانَ عَليّ وَفَاطِمَة والحسنان فِي دَاخل كَسَاه من ارْتقى وفَاق وساد ومهد بِهِ للخلافة المهاد والوساد وتزينت بمدائحه الطروس العاطلة وخجلت لسماحته الغيوث الهاطلة من ضربت المفاخر رواقها بناديه وَلم تزل الْمَعَالِي تَدعُوهُ لنَفسهَا وتناديه واتخذت بيعَته جلبابا للأجياد والاعناق وأغضت مهابته الجفون والأحداق عين أَعْيَان الدولة الشَّرِيفَة المولوية وَصدر المملكة العلوية الَّذين لم تزل سيرتهم فِي سجلات الْآثَار المحمودة مرسومة ومآثرهم فِي الدَّوَاوِين مرقومة وَألقى إِلَيْهِ هَذَا الْقطر المغربي الرسن وَحل مِنْهُ مَحل الوسن السُّلْطَان الْمُؤَيد مَوْلَانَا الْحسن سلالة الْقَوْم الَّذين زكتْ نُفُوسهم وأينعت فِي حدائق المزايا غروسهم ويسير الْمجد تَحت أَلْوِيَتهم وتتعطر الْمجَالِس بِطيب أفنيتهم لَا زَالَ السعد يراوحك ويغاديك والعز نَائِما بواديك والطعن فِي عين حاسديك والقذى فِي عين أعاديك وجعلك الله من صروف الزَّمَان فِي أَمَان وَلَا قطع الله عَن جمَاعَة الْعلمَاء جميل عادتكم وَلَا سلب الْمُسلمين ملابس سعادتكم وَرفع فِي بروج السَّعَادَة أعلامك وَمكن من رِقَاب الْأَعْدَاء حسامك وَجعل الْفَتْح أَيْنَمَا تَوَجَّهت قبالتك وأمامك وَشَرِيعَة جدك مقلدك وأمامك فِي نعْمَة طَوِيلَة الْأَعْمَار وروضة حلوة الثِّمَار أما بعد أبعد الله عَن ساحة سيدنَا كل شَرّ وَقرب مِنْهَا المحسن وَالْبر وأبقاها ملْجأ للمحتاج والمضطر فَإِنَّهُ لما ورد علينا من حَضْرَة سيدنَا الْعُظْمَى ومكانته الشما كتاب سنى مُعظم الصِّفَات والأسما بديع الْمعَانِي رائق المباني غمر ببلاغته البلغا ورقي ببراعته أَعلَى المنابر فَمن تكلم دونه فقد لَغَا بادرناه بالتقبيل وأحللناه مَحل التَّاج والإكليل فقرىء على الجم الْغَفِير وَفَرح بوروده الْكَبِير وَالصَّغِير واطمأنت بنشره النُّفُوس وارتفع بِهِ كل كدر وبوس وَتَشَوُّقِ الْحَاضِرُونَ
لسَمَاع مَا فِيهِ وأنصت لقرَاءَته ذُو الْمُرُوءَة وَالسَّفِيه وَالْجَامِع غاص بأَهْله وكل حَال بمحله فَلَمَّا قرىء الْكتاب تبين أَن صَدره مدح وعجزه لوم وعتاب فَاشْتَمَلَ على بسط وجمال وَقبض وجلال وَجمع بَين ترغيب وترهيب فارتاب مِنْهُ كل مريب فَلَمَّا تمّ وَختم وتقرر كل مَا فِيهِ وَعلم تَفَرَّقت الْجَمَاعَات أَفْوَاجًا وارتجت الْمَدِينَة ارتجاجا وَحصل للنَّاس بذلك الْجزع وعمهم الْخَوْف والفزع وَالَّذِي أوقع النَّاس فِي ذَلِك مَا فِي الْكتاب من الْأَمر بتدارك مَا وَقع ففهموا أَن ذَلِك برد مَا ضَاعَ وَقد تفرق فِي الْآفَاق وَمَا اجْتمع وَذَلِكَ غير مُمكن كَمَا سيتبين وَالْحق أوضح وَأبين من أَن يبين على أَن الْمَقْصُود بذلك وَالْمرَاد حسم مَادَّة الْفساد لينقطع من جمَاعَة السُّفَهَاء عداؤها وَلِئَلَّا تتقد نَار الْفِتْنَة فيتعذر إطفاؤها أما مَا وَقع فِي قَضِيَّة الْحَاج مُحَمَّد بنيس حَتَّى أفْضى بِهِ الْحَال إِلَى الاحترام بمولانا إِدْرِيس وَفعل بأمكنته الْفِعْل الخسيس وليم بِسَبَبِهِ المرؤوس والرئيس حَتَّى تَوَجَّهت الْحجَّة على مسموع الْكَلِمَات إِذْ هِيَ متوجهة من جِهَات فقد تنْدَفع الْحجَّة بشرح الْقَضِيَّة على وَجههَا وإيرادها على مُقْتَضى كنهها من غير قلب للْحَقِيقَة وَلَا خُرُوج عَن متن الطَّرِيقَة وَفِي كريم علم سيدنَا أَن للْإنْسَان أعذارا يرْتَفع عَنهُ بهَا الملام وَلَا يُعَاتب مَعهَا وَلَا يلام وَذَلِكَ أَن مَا وَقع من النهب وَقع بَغْتَة فِي يَوْم يستعظم شَاهده وَصفه ونعته وَالْمَدينَة وقتئذ عامرة بالبادية والحاضرة وَلَا معرفَة لنا بِمن نهب وَلَا بِمن أَتَى وَلَا بِمن ذهب أَمر أبرزته الْقُدْرَة لم يمكنا تلافيه وَلم يفد فِيهِ نهي سَفِيه فَلَو صدر ذَلِك من آحَاد مُعينين وأفراد مخصوصين لأمكن الانتصاف وانتزع مِنْهُم مَا أَخَذُوهُ من غير اعتساف لَكِن الْأَمر برز وَصدر من قوم مختلطين من بَدو وَحضر فيهم الْأَبْيَض وَالْأسود والأحمر وَمَا مِنْهُم إِلَّا من أستأسد وتنمر وَلَيْسَ فِي وُجُوههم من الْحيَاء عَلامَة وَلَا أثر لَا يقلبون موعظة إِذْ لَيْسُوا من أهل الْفِكر فَلَا يُمكن دفعهم إِلَّا بِجَيْش عَظِيم وعسكر يصاح فيهم بِالنَّهْي وهم فِي طغيانهم يعمهون وَلَا يلتفتون إِلَى من نَهَاهُم بل لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يسمع الصم الدُّعَاء إِذا مَا ينذرون ثمَّ لما كَانَ الْيَوْم الْعَاشِر من شهر تَارِيخه وَقع