الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باحتلال الزقاق والاعتراض دون الفراض فأوعز السُّلْطَان إِلَى جَمِيع سواحله من سبتة وطنجة وبلاد الرِّيف ورباط الْفَتْح والمنكب والجزيرة وطريف بتوجيه أساطيلهم فتوافت مِنْهَا سِتَّة وَثَلَاثُونَ أسطولا متكاملة فِي عدتهَا فأحجمت اساطيل الْعَدو عَنْهَا وارتدت على أعقابها واحتل السُّلْطَان يَعْقُوب بالجزيرة الخضراء وَهِي الْمُسَمَّاة الْيَوْم بخوزيرت غرَّة رَمَضَان من سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَنزل بقصره من الْمَدِينَة الجديدة الَّتِي بناها بإزائها فبرزت أساطيل الْمُسلمين أَمَامه بالمرسى وَهُوَ جَالس بمشور قصره فلعبوا بمرأى مِنْهُ فِي الْبَحْر وتجاولوا وتناطحوا وتطاردوا كفعلهم سَاعَة الْحَرْب فسر بذلك وَأحسن إِلَيْهِم وصرفهم إِلَى حَال سبيلهم
وفادة الطاغية على السُّلْطَان يَعْقُوب بأحواز الجزيرة الخضراء وَعقد الصُّلْح بَينهمَا وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قَالَ ابْن خلدون رحمه الله لما نزل بِبِلَاد النَّصْرَانِيَّة من السُّلْطَان يَعْقُوب مَا نزل من تدمير قراهم واكتساح أَمْوَالهم وَسبي نِسَائِهِم وإبادة مفاتلتهم وتخريب معاقلهم وانتساف عمرانهم زاغت مِنْهُم الْأَبْصَار وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر واستيقنوا أَن لَا عَاصِم لَهُم من أَمِير الْمُسلمين فَاجْتمعُوا إِلَى طاغيتهم سانجة خاشعة أَبْصَارهم ترهقهم ذلة متوجعين مِمَّا أذاقهم جنود الله من سوء الْعَذَاب وأليم النكال وَحَمَلُوهُ على الضراعة لأمير الْمُسلمين فِي السّلم وإيفاد الْمَلأ من كبار النَّصْرَانِيَّة عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَإِلَّا فَلَا تزَال تصيبهم مِنْهُ قَارِعَة أَو تحل قَرِيبا من دَارهم فَأجَاب إِلَى مَا دَعوه إِلَيْهِ من الْخَسْف والهضيمة لدينِهِ وأوفد على أَمِير الْمُسلمين وَهُوَ بالجزيرة الخضراء وَفْدًا من بطارقتهم وشمامستهم يخطبون السّلم ويضرعون فِي المهادنة والإبقاء وَوضع أوزار الْحَرْب فردهم أَمِير الْمُسلمين اعتزازا عَلَيْهِم ثمَّ أعادهم الطاغية بترديد الرَّغْبَة على أَن يشْتَرط مَا شَاءَ من عز دينه وَقَومه فأسعفهم أَمِير الْمُسلمين وجنح إِلَى السّلم لما تَيَقّن من صاغيتهم إِلَيْهِ وذلهم لعز الْإِسْلَام وأجابهم إِلَى مَا سَأَلُوهُ
وَاشْترط عَلَيْهِم مَا تقبلوه من مسالمة الْمُسلمين كَافَّة من قومه وَغير قومه وَالْوُقُوف عِنْد مرضاته فِي ولَايَة جِيرَانه من الْمُلُوك أَو عدواتهم وَرفع الضريبة عَن تجار الْمُسلمين بدار الْحَرْب من بِلَاده وَترك التضريب بَين مُلُوك الْمُسلمين وَالدُّخُول بَينهم فِي فتْنَة واستدعى السُّلْطَان الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الْحق الترجمان وَبَعثه لاشْتِرَاط ذَلِك وإحكام عقده فَسَار عبد الْحق إِلَى الطاغية سانجة وَهُوَ بإشبيلية فعقد مَعَه الصُّلْح واستبلغ وأكد فِي الْوَفَاء بِهَذِهِ الشُّرُوط ووفدت رسل ابْن الْأَحْمَر على الطاغية وَهُوَ عِنْده لعقد السّلم مَعَه على قومه وبلاده دون أَمِير الْمُسلمين وَأَن يكون مَعَه يدا وَاحِدَة عَلَيْهِ فأحضرهم الطاغية بمشهد عبد الْحق وأسمعهم مَا عقد مَعَ أَمِير الْمُسلمين على قومه وَأهل مِلَّته كَافَّة وَقَالَ لَهُم إِنَّمَا أَنْتُم عبيد آبَائِي فلستم معي فِي مقَام السّلم وَالْحَرب وَهَذَا أَمِير الْمُسلمين على الْحَقِيقَة وَلست أُطِيق مقاومته وَلَا دفاعه عَن نَفسِي فَكيف عَنْكُم فانصرفوا وَلما رأى عبد الْحق ميله إِلَى رضَا السُّلْطَان وسوس إِلَيْهِ بالوفادة عَلَيْهِ لتتمكن الألفة وتستحكم الْعقْدَة وَأرَاهُ مغبة ذَلِك فِي سل السخيمة وتسكين الحفيظة فَمَال إِلَى مُوَافَقَته وَسَأَلَهُ لَقِي الْأَمِير يُوسُف ولي عهد السُّلْطَان أَولا لِيَطمَئِن قلبه فوصل إِلَيْهِ ولقيه على فراسخ من شريش وباتا بمعسكر الْمُسلمين هُنَالك ثمَّ ارتحلا من الْغَد للقاء السُّلْطَان يَعْقُوب وَكَانَ قد أَمر النَّاس بالاحتفال للقاء الطاغية وَقَومه وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام وأبهته وَأَن لَا يلبسوا إِلَّا الْبيَاض فاحتفلوا وتأهبوا وأظهروا عز الْملَّة وَشدَّة الشَّوْكَة ووفور الحامية
وَقدم الطاغية فِي جماعته سود اللبَاس خاضعين ذليلين فَاجْتمعُوا بالأمير بحصن الصخرات على مقرب من وَادي لَك وَذَلِكَ يَوْم الْأَحَد الْعشْرين من شعْبَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَتقدم الطاغية فَلَقِيَهُ أَمِير الْمُسلمين بِأَحْسَن مبرة وَأتم كَرَامَة يلقى بهَا مثله من عُظَمَاء الْملَل وَقدم الطاغية بَين يَدَيْهِ هَدِيَّة من طرف بِلَاده أتحف بهَا السُّلْطَان وَولي عَهده كَانَ فِيهَا زوج من الْخُيُول
الوحشي الْمُسَمّى بالفيل وحمارة من حمر الْوَحْش إِلَى غير ذَلِك من الطّرف فقبلها السُّلْطَان وَابْنه وأضعفوا لَهُ الْمُكَافَأَة وكمل عقد السّلم وَقبل الطاغية سَائِر الشُّرُوط وَرَضي بعز الْإِسْلَام عَلَيْهِ وانقلب إِلَى قومه بملء صَدره من الرضى والمسرة وَسَأَلَ مِنْهُ السُّلْطَان أَن يبْعَث إِلَيْهِ بكتب الْعلم الَّتِي بأيدي النَّصَارَى مُنْذُ استيلائهم على مدن الْإِسْلَام فَبعث إِلَيْهِ مِنْهَا ثَلَاثَة عشر حملا فِيهَا جملَة من مصاحف الْقُرْآن الْكَرِيم وتفاسيره كَابْن عَطِيَّة والثعلبي وَمن كتب الحَدِيث وشروحاتها كالتهذيب والاستذكار وَمن كتب الْأُصُول وَالْفُرُوع واللغة والعربية وَالْأَدب وَغير ذَلِك فَأمر السُّلْطَان رحمه الله بحملها إِلَى فاس وتحبيسها على الْمدرسَة الَّتِي أسسها بهَا لطلبة الْعلم وقفل السُّلْطَان فاحتل بقصره من الجزيرة لليلتبن بَقِيَتَا من شعْبَان فَقضى صَوْمه ونسك عيده وَجعل من قيام لَيْلَة جزأ لمحاضرة أهل الْعلم وَأعد الشُّعَرَاء كَلِمَات أنشدوها يَوْم عيد الْفطر بمشهد الْمَلأ فِي مجْلِس السُّلْطَان وَكَانَ من أسبقهم فِي ذَلِك الميدان شَاعِر الدولة أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الملزوزي الأَصْل المكناسي الدَّار وَيعرف بعزوز أَتَى بقصيدة طَوِيلَة من بَحر الوافر على رُوِيَ الْبَاء الْمَفْتُوحَة المردوفة بِالْألف ذكر فِيهَا سيرة السُّلْطَان وغزواته وغزوات بنيه وحفدته وامتدح قبائل مرين ورتبهم على مَنَازِلهمْ وَذكر فَضلهمْ وقيامهم بِالْجِهَادِ وَذكر قبائل الْعَرَب على اختلافها وأنشدت بِمحضر السُّلْطَان والحاشية فَأمر لمنشئها بِأَلف دِينَار وخلعة ولمنشدها بِمِائَتي دِينَار ثمَّ أعمل السُّلْطَان نظره فِي الثغور فرتب بهَا المسالح وَبعث وَلَده الْأَمر أَبَا زيان منديلا ليقف على الْحَد بَين أرضه وَأَرْض ابْن الْأَحْمَر وَعقد لَهُ على تِلْكَ النَّاحِيَة وأنزله بحصن ذكْوَان قرب مالقة وأوصاه أَن لَا يحدث فِي بِلَاد ابْن الْأَحْمَر حَدثا وَعقد لعياد بن أبي عياد العاصمي على مسلحة أُخْرَى وأنزله بأسطبونة وَأَجَازَ ابْنه الْأَمِير يُوسُف إِلَى الْمغرب لتفقد أَحْوَاله ومباشرة أُمُوره وَأمره أَن يَبْنِي على قبر وَالِده أبي الْمُلُوك عبد الْحق بتافر طاست زَاوِيَة فاختط هُنَالك رِبَاطًا حفيلا وَبنى على قبر الْأَمِير
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان قَبيلَة شراقة بأحواز فاس فنهبهم وشردهم فلجؤوا إِلَى ضريح الشَّيْخ أبي الشتَاء بفشتالة فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ سَار إِلَى الحياينة فَأطلق الْجَيْش فِي زُرُوعهمْ فحصدوها ودرسوها واستصفوها عَن آخرهَا ثمَّ جرد الْخَيل فِي طَلَبهمْ فاكتسحوا حللهم وأثاثهم
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ قد تَوَجَّهت بِجَيْش إِلَى عَامل وَجدّة أبلغه إِيَّاه فَلَمَّا رجعت أدْركْت السُّلْطَان بِبِلَاد الحياينة فقلدني ولَايَة تازا وأعمالها فسرت إِلَيْهَا وأقمت بهَا سنة كَامِلَة وَفِي هَذِه السّنة قدم ولد السُّلْطَان الْمولى مسلمه بن مُحَمَّد من الْمشرق مفارقا لِأَخِيهِ الْمولى يزِيد
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا أرسل السُّلْطَان رحمه الله إِلَى آيت عطة يَأْمُرهُم أَن يبعثوا بستمائة رجل مِنْهُم وبأربعمائة من عبيد تافيلالت فالمجموع ألف ليكسوهم ويسلحهم ويستعملهم فِي خدمَة الْبَحْر وجنديته فبعثوا بهم إِلَيْهِ
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلما قدمُوا عَلَيْهِ بمكناسة استدعاني من تازا فَقدمت عَلَيْهِ فَأمرنِي أَن أتوجه بهم إِلَى تطاوين كي يقبضوا السِّلَاح وَالْكِسْوَة بهَا ثمَّ أَسِير بهم إِلَى طنجة يكونُونَ بهَا وَأَمرَنِي أَن أكون أتعاهدهم بركوب الغلائظ الْعشْرين الَّتِي بمرساها وَالْخُرُوج بهَا إِلَى البوغاز وسواحل أسبانبا والتردد فِيهَا بَينهمَا ليتدربوا على الْبَحْر ويتمرنوا بِهِ قَالَ فَذَهَبت بهم إِلَى تطاوين على مَا رسم السُّلْطَان رحمه الله فَأخذُوا السِّلَاح وَالْكِسْوَة ونفذنا إِلَى طنجة فَأَقَمْنَا بهَا شَهْرَيْن وكل يَوْم يركبون السفن ويتطاردون بهَا فِيمَا بَينهم فَتَارَة يخرجُون إِلَى البوغاز وَتارَة يطرقون سواحل أصبانيا وَتارَة يرجعُونَ إِلَى أَن زَالَت عَنْهُم دهشة الْبَحْر وفارقهم ميده وألفوه وَلما أقبل فصل الشتَاء كتب إِلَى السُّلْطَان بالقدوم بهم فَلَمَّا حللنا مكناسة أَمر رحمه الله بعمارة
المشور لدخولنا عَلَيْهِ فَلَمَّا مثلنَا بَين يَدَيْهِ دنا منا إِلَى أَن كَانَ فِي وَسطنَا وكلم البربر بلسانهم وسألهم عَن حَالهم فِي سفرهم فَذكرُوا خيرا فسره ذَلِك مِنْهُم ونشط ثمَّ قَالَ لَهُم هَذَا كاتبي وصاحبي قد وليته عَلَيْكُم وعَلى أَوْلَادِي وَبني عمي وَسَائِر أهل الصَّحرَاء فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطيعُوا قَالَ فَفَزِعت وخرس لساني وَفهم السُّلْطَان عني الْكَرَاهِيَة لذَلِك ثمَّ دخل بستانه وَبعث إِلَى فَدخلت عَلَيْهِ فَقَالَ لي طب نفسا وَلَوْلَا أَنِّي أحبك مَا وليتك على أَوْلَادِي وَأهل بَيْتِي وَإِنِّي لَا أستغني عَنْك وَهَذَا ابْن حميدة الَّذِي وليناه بسجلماسة لم تظهر لَهُ ثَمَرَة وكل يَوْم يأتيني بشكوى بولدي الْحُسَيْن وتطاوله على النَّاس وَلَا يمنعهُ من ذَلِك وَمَا وليتك عَلَيْهِم إِلَّا لهَذَا الْغَرَض فَإِنَّهُم يهابونك لمحلك مني ثمَّ كتب إِلَى جَمِيع أَوْلَاده وأعيان سجلماسة وَأمر لي بِمَال الصائر وَالْبناء وعينه ثمَّ ودعته وانفصلت فَخرجت من مكناسة إِلَى فاس ثمَّ مِنْهَا إِلَى سجلماسة فدخلتها واستوطنتها وَجَاء الْعَامِل الَّذِي كَانَ بهَا قبلي حَتَّى قدم على السُّلْطَان فَقبض عَلَيْهِ ونكبه
قدوم الْمولى يزِيد من الْمشرق واحترامه بضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام ابْن مشيش رضي الله عنه وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما كَانَت سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَألف قدم ولد السُّلْطَان الْمولى يزِيد بن مُحَمَّد من الْمشرق فِي ركب الْحَاج الفيلالي وَقصد سجلماسة فَلَمَّا كَانَ بقرية أبي صمغون لقِيه رفْقَة من أهل سجلماسة فَسَأَلَهُمْ عَن الْبِلَاد وَأَهْلهَا وَمن الْمُتَوَلِي عَلَيْهَا قَالُوا أَبُو الْقَاسِم الصياني فَلَمَّا سمع الْمولى يزِيد ذَلِك سقط فِي يَده ووجم ثمَّ الْتفت إِلَى شيخ الركب الشريف الْمولى عبد الله بن عَليّ وَالِي الْأَشْرَاف الَّذين مَعَه فَقَالَ لَهُم إِنِّي كنت عَازِمًا على الْوُصُول مَعكُمْ إِلَى بلدكم والاستيجار بضريح جدي الْمولي عَليّ الشريف وأبعث مَعَ أَعْيَان بني
عمي وَذَوي أسنانهم من يشفع لي عِنْد أبي والآن حَيْثُ كَانَ الْوَالِي بِهَذِهِ الْبَلدة هُوَ الصياني فَلَا يَسْتَقِيم لي مَعَه أَمر وَلَا يخيط بيني وَبَين وَالِدي بخيط أَبيض وَهَؤُلَاء عيالي فخذوهم بَارك الله فِيكُم واذهبوا بهم مَعَ أَصْحَابِي ينزلون بدار أخي الْمولى سُلَيْمَان وَيَكُونُونَ بهَا وَأما أَنا فسأسير إِلَى ضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام بن مشيش أكون بِهِ حَتَّى يقْضِي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا ثمَّ قدم عِيَاله مَعَ أَصْحَابه فِي جملَة الركب وَكتب إِلَى أَخِيه الْمولى سُلَيْمَان يوصيه بعياله خيرا وَكتب أَيْضا إِلَى شقيقته المولاة حَبِيبَة بالرتب وَإِلَى بني عَمه الَّذين هُنَالك وَبعث بالمكاتيب مَعَ أَصْحَابه وَلما وصل الركب إِلَى بِلَاد القنادسة تقدم أحد أَصْحَابه بالمكاتيب إِلَى الْمولى سُلَيْمَان وَلما قَرَأَهَا توقف وَلم يدر مَا يصنع ثمَّ جَاءَ بهَا إِلَى أبي الْقَاسِم الصياني وَأخْبرهُ الْخَبَر وَقَالَ إِن وَالِدي غاضب عَلَيْهِ وَإِن أَنا قابلت عِيَاله فَرُبمَا ألحقني بِهِ فَمَا الْعَمَل فَكتب أَبُو الْقَاسِم إِلَى شيخ الركب ينهاه عَن اسْتِصْحَاب عِيَال الْمولى يزِيد مَعَه وحذره غضب السُّلْطَان عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ إِن أردْت السَّلامَة لنَفسك فَابْعَثْ بالعيال إِلَى المولاة حَبِيبَة بالرتب وَالسَّلَام وَلما وصل كِتَابه إِلَى شيخ الركب وَكَانَت فِيهِ غَفلَة نجع فِيهِ كَلَامه فحبس الركب إِلَى أَن وصل أَصْحَاب الْمولى يزِيد بعياله فَبعث مَعَهم من يدلهم على طَرِيق الرتب فسلكوا على وَادي كثير ونزلوا عِنْد المولاة حَبِيبَة وَكتب أَبُو الْقَاسِم الصياني بالْخبر إِلَى السُّلْطَان فَزعم أَنه اسْتحْسنَ فعله ثمَّ أمره أَن يهيىء الظّهْر والزاد وَيبْعَث بهما إِلَى عِيَال الْمولى يزِيد مَعَ ثَلَاثِينَ من العبيد ليأتوا بهم إِلَى دَار الدبيبغ يكونُونَ بهَا مَعَ أمه وَكَانَ السُّلْطَان قد أخرجهَا من الدَّار وأسكنها بدار الدبيبغ فَفعل الزياني ذَلِك كُله وبهذه الْقَضِيَّة كَانَ الْمولى يزِيد يعْتد على الصياني حَتَّى أَنه لما أفْضى إِلَيْهِ الْأَمر قبض عَلَيْهِ وضربه وامتحنه
وَلما وصل الْمولى يزِيد إِلَى ضريح الشَّيْخ عبد السَّلَام رضي الله عنه بعث جمَاعَة من أَشْرَاف الْعلم للشفاعة فِيهِ فَأَمرهمْ السُّلْطَان أَن يَأْتُوا بِهِ
حومة بَاب أحسين من الْمَدِينَة الْمَذْكُورَة وَكَانَ رحمه الله عَارِفًا بالفقه والْحَدِيث والنحو قد أفنى عمره فِي جمع الْكتب ونسخها وخطه مُعْتَمد سَالم من التَّصْحِيف وَكَانَت فِيهِ شَفَقَة على الضُّعَفَاء والأشراف وَذَوي البيوتات كثير البرور بهم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم رحمه الله وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء فاتح هَذِه السّنة توفّي الشريف الْبركَة الْأَفْضَل أَبُو عبد الله سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني وَكَانَ جليل الْقدر شهير الذّكر نفعنا الله بِهِ وبأسلافه
وَفِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف هجم الفرنسيس على ثغر سلا وَذَلِكَ بِسَبَب مركبين وردا إِلَى مرسى العدوتين مملوءين قمحا وَكَانَت السّنة سنة مسغبة فنشب المركبان بساحل سلا فتسارعت الْعَامَّة إِلَيْهِمَا وانتهبوهما ثمَّ تجاوزوا ذَلِك إِلَى أَلْوَاح المركبين وآلتهما فتوزعوها وَكَانَ المركبان لتجار الفرنسيس فتكلموا فِي شَأْنهمَا مَعَ السُّلْطَان رحمه الله فَكتب إِلَى عَامل سلا أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْهَادِي زنيبر يستكشفه عَن الْخَبَر فَجحد ذَلِك ظنا مِنْهُ أَنه يدْفع بذلك عَن الْبَلَد وَلما لم يحصل الفرنسيس بالْكلَام مَعَ السُّلْطَان على طائل هجم على سلا يَوْم الثُّلَاثَاء مهل صفر من السّنة الْمَذْكُورَة فِي خَمْسَة بابورات وقاباق كَبِير وَيُقَال لَهُ النابيوس يشْتَمل على نَحْو سِتِّينَ مدفعا أَو أَكثر وَمن الْغَد زحف بمراكبه حَتَّى سامت بهَا الْبَلَد فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة من النَّهَار وَشرع فِي رمي الكور والبنب إِلَّا وَاحِدًا مِنْهَا فَإِنَّهُ تبَاعد قَلِيلا وَبَقِي ينظر قيل هُوَ للنجليز وَكَانَ ترادف الكور والبنب على الْبَلَد على صُورَة فظيعة مثل الرَّعْد القاصف تكَاد تنهد لَهُ الْجبَال وَكَانَ فِي أول النَّهَار لَا يفتر وَبعد الزَّوَال صَار تتخلله فترات يسيرَة وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن غربت الشَّمْس وَمضى نَحْو نصف سَاعَة وَكَانَت مُدَّة الرَّمْي ثَمَانِي سَاعَات وَنصفا وبذل النَّاس مجهودهم فِي مقابلتهم بِالرَّمْي وَفِي آخر النَّهَار عجز النَّاس وَبَقِي يَرْمِي وَحده وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين نَحْو سَبْعَة أنفس وَكَانَ الكور والبنب الَّذِي رمى بِهِ الْعَدو فِي ذَلِك الْيَوْم شَيْئا كثيرا فالمقلل يَقُول سَبْعَة آلَاف وَالْمُكثر يَقُول اثْنَا عشر ألفا وَكَانَ البنب يتفرقع بعد مُدَّة وَقتل أُنَاسًا وَوَقع فِي الْمَسْجِد الْأَعْظَم ومناره كور كثير خرق
السقوف والحيطان وَكَذَا فِي دور أهل الْبَلَد فأنعم السُّلْطَان على النَّاس بإصلاحها من بَيت المَال
وَقد سَاق منويل خبر هَذِه الْقِصَّة وَقَالَ إِنَّه لما انْقَضى للفرنسيس الزَّاد يَعْنِي الكور والبارود أقلع لَيْلًا لِأَنَّهُ خَافَ إِن لم يذهب طَوْعًا ذهب كرها وَلما اتَّصل الْخَبَر بالسلطان رحمه الله وَهُوَ يَوْمئِذٍ بفاس كتب كتابا يَقُول فِيهِ مَا نَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه عبد الرَّحْمَن بن هِشَام الله وليه خديمنا الأرضى الطَّالِب مُحَمَّد بن عبد الْهَادِي زنيبر وفقك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فقد وصلنا كتابك مخبرا بِمَا صدر من مراكب عَدو الله الفرنسيس من استرسال الرَّمْي على الْمَدِينَة من ضحى النَّهَار إِلَى قرب الْعشَاء ثمَّ أقلعوا بالخيبة والهوان وردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا ومنح الله الْمُسلمين من الصَّبْر والثبات وَالْيَقِين ماقرت بِهِ عين الدّين وَكَانَ قذا فِي عين أهل الشّرك الْمُعْتَدِينَ وَاسْتشْهدَ من الْمُجَاهدين من ختم الله لَهُ بالسعادة الأبدية والحياة السرمدية فَالْحَمْد لله على إعزاز دينه وَنصر مِلَّة نبيه وَلَا زَالَت وَالْحَمْد لله مشكاة الْإِسْلَام ساطعة الْأَنْوَار مشيدة الْمنَار {وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} الصَّفّ 8 وَلَا يخفى عَلَيْكُم مَا ورد من اآيات القرآنية وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة فِي فضل الْجِهَاد فِي سَبِيل الله وَالصَّبْر لإعلاء كلمة الله وَقد قُمْتُم بِالْوَاجِبِ عَلَيْكُم فِي ذَلِك وكنتم عَن الظَّن بكم وأتيتم بالمطلوب مِنْكُم أصلحكم الله وَرَضي عَنْكُم وَمن قتل فقد أكْرمه الله بالنعيم الَّذِي لَا نفاد لَهُ وكل مَا تلف يخلفه الله فَمَا كَانَ فِي الله تلفه فَعَلَيهِ سُبْحَانَهُ خَلفه فزيدوا فِي التيقظ وَالصَّبْر أعانكم الله وَقد أمرنَا خدامنا أُمَنَاء العدوتين بتوجبه معلمين للغابة لقطع الكراريط وكتبنا لخديمنا ابْن الحفيان بإنزال خيام بقربهم يأوون إِلَيْهَا حَسْبَمَا طلبت وَلَا تعدمون شَيْئا مِمَّا يخصكم إِن شَاءَ الله وَمَا ذكرت من اجْتِمَاع أهل الْمَدِينَة عنْدك مَعَ القَاضِي والأمين راغبين فِي الْكتب لحضرتنا الْعلية بالإنعام عَلَيْهِم بِمَا يصلحون بِهِ صقالتهم ومساجدهم ودورهم وأسوارهم فها نَحن كتبنَا لأمناء العدوتين بالقدوم عَلَيْكُم والتطواف على الْمحَال المتهدمة دور
وَغَيرهَا بمحضرك مَعَ القَاضِي والعدول وتقويم إصْلَاح كل مَحل بالمناسب وَأما الْجَامِع الْكَبِير وسيدي ابْن عَاشر فييسرون لَهما الْإِقَامَة وَعَن تيسيرها يشرعون فِي إصلاحهما وَأما الصقالة الجديدة والسور فيشرعون الْآن فِي إصلاحهما إصلاحا متقنا بالطابية الجيدة الَّتِي لَا يُؤثر الكور فِيهَا شَيْئا ويجعلون لَهَا ساترا على كَيْفيَّة بِحَيْثُ يكون الضَّارِب فِي أَمَان وَلَا تتراخوا فِي ذَلِك وَنحن على نِيَّة إِحْدَاث بستيون جيد إِن شَاءَ الله عِنْد مُنْتَهى السُّور من جِهَة الصقالة الجديدة فالعزم الْعَزْم والحزم الحزم ويصلك كتاب اقرأه على خداما أهل سلا وَالسَّلَام فِي ثامن صفر عَام ثَمَانِيَة وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف انْتهى نَص الْكتاب الشريف وَقد أحدث السُّلْطَان رحمه الله هَذَا البستيون فجَاء فِي غَايَة الْجَوْدَة والمتانة وَالْحسن وَهُوَ أثر من آثَار الدول الْعِظَام
وَفِي هَذِه السّنة ورد كتاب من السُّلْطَان فِي شَأْن حصر السِّكَّة يَقُول فِيهِ مَا نَصه وَبعد فقد طالما حاولنا حصر الزِّيَادَة فِي السِّكَّة وحذرنا وأنذرنا وأوعدنا من تعدى فِيهَا حدا أَو مد فِيهَا بِغَيْر مَا عينا يدا فَلم يزدْ النَّاس إِلَّا تطاولا فِيهَا وإقداما عَلَيْهَا فاستخرنا الله فِي أمرهَا فَظهر لنا أَن نزيد فِيهَا مَا تواطأ النَّاس على زِيَادَته وَلم يرجِعوا عَنهُ تتميما للأعذار وتكميلا للإنذار فَمن وقف عِنْد مَا حددنا وَلم يحد عَمَّا أبرمنا فقد اخْتَار سَلامَة نَفسه وَمَاله وَمن تعدى وافتات فِي ذَلِك بِأَدْنَى شَيْء فقد سعى فِي هَلَاك نَفسه ويناله من الوبال والنكال مَا يتْركهُ عِبْرَة لمن اعْتبر وَتَذْكِرَة لم تذكر وَقد أعذر من أنذر وَهَا نَحن جعلنَا للبندقي أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة وللضبلون اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِثْقَالا وللريال ذِي المدفع عشْرين أُوقِيَّة وللذي لَا مدفع فِيهِ تسع عشرَة أُوقِيَّة وللبسيطة الَّتِي بالمدفع خمس أَوَاقٍ وللتي لَا مدفع فِيهَا أَربع أَوَاقٍ وللدرهم الرباعي أَربع موزونات وَنصف موزونة وللدرهم السداسي سبع موزونات فعلى هَذَا الْعَمَل فأعلموا بِهِ من إِلَى نظركم وَفِي إيالتكم ومروهم بِالْوُقُوفِ عِنْده وَمن حاد عَنهُ وشممتم عَلَيْهِ رَائِحَة الْخَوْض والتعدي فِيهِ ازجروه زجرا شَدِيدا وأعلمونا وَالسَّلَام فِي رَابِع عشر ربيع الثَّانِي عَام ثَمَانِيَة وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف