الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأعمل الْحِيلَة بِأَن دس الى أَخِيه الْأَمِير أبي عَليّ صَاحب سجلماسة فِي اتِّصَال الْيَد بِهِ والاتفاق مَعَه على أَخِيه أبي الْحسن وَأَن يَأْخُذ كل وَاحِد مِنْهُمَا بحجزته عَن صَاحبه ويشغله عَنهُ حَتَّى يتمكنا مِنْهُ ووعده أَبُو تاشفين ومناه وَلم يزل بِهِ حَتَّى انْتقض على أَخِيه ونهض من سجلماسة إِلَى درعة فَقتل عاملها وَولى عَلَيْهَا عَاملا من قبله ثمَّ سرح العساكر إِلَى جِهَة مراكش وأجلب عَلَيْهَا بخيله وَرجله
واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن وَهُوَ بمعسكره من تاسالت ينْتَظر قدوم الحفصي عَلَيْهِ فانكفأ رَاجعا إِلَى الحضرة مجمعا الانتقام من أَخِيه وَلما انْتهى فِي طَرِيقه إِلَى حصن تاوريرت شحنه بالعسكر وَعقد عَلَيْهِ لِابْنِهِ تاشفين بن أبي الْحسن ووقف أمره على نظر منديل بن حمامة شيخ بني تيربعين ثمَّ أغذ السّير إِلَى سجلماسة فَنزل عَلَيْهَا وَأخذ بمخنقها وَحشر الفعلة والصناع لصنع الْآلَات وَالْبناء بساحتها وَأقَام عَلَيْهَا يغاديها بِالْقِتَالِ ويراوحها حولا كَامِلا ونهض أَبُو تاشفين فِي عساكره من تلمسان يُرِيد الْغَارة على أَطْرَاف الْمغرب كي يشغل أَبَا الْحسن عَن أَخِيه بذلك فَانْتهى إِلَى تاوريرت فبرز إِلَيْهِ تاشفين بن ابي الْحسن فِي عَسَاكِر مرين فهزموه وردوه على عقبه إِلَى تلمسان ثمَّ بعث بِحِصَّة من جنده مدَدا للأمير أبي عَليّ فتسربوا إِلَى سجلماسة جماعات وأفذاذا حَتَّى تكاملوا لَدَيْهِ فَلم يغنوا شَيْئا وطاولهم السُّلْطَان أَبُو الْحسن الْحصار أنزل بهم أَنْوَاع النكال حَتَّى اقتحم الْبَلَد عنْوَة تَاسِع عشر محرم سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وتقبض على الْأَمِير أبي عَليّ عِنْد بَاب قصره وَجِيء بِهِ إِلَى أَخِيه أبي الْحسن وَقد خامره الْجزع فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ تضرع إِلَيْهِ وَقبل حافر فرسه فَأمر أَبُو الْحسن بتثقيفه وَحمله على بغل إِلَى فاس وانكفأ هُوَ رَاجعا إِلَى الحضرة فَلَمَّا دَخلهَا اعتقل أَخَاهُ بِبَعْض حجر الْقصر أشهرا ثمَّ قَتله فصدا وخنقا وَكَانَت سنّ أبي عَليّ يَوْمئِذٍ سبعا وَثَلَاثِينَ سنة وَكَانَت دولته بسجلماسة تسع عشرَة سنة وأشهرا وَكَانَ رَقِيق الْحَاشِيَة ينتمي إِلَى الْأَدَب وَهُوَ الَّذِي استقدم ابا مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ من سبتة واستكتبه أَيَّام أَبِيه وَمن شعر الْأَمِير أبي عَليّ يُخَاطب أَخَاهُ أَبَا الْحسن أَيَّام حصاره لَهُ بسجلماسة وَقد أَيقَن بِزَوَال أمره
(فَلَا يغرنك الدَّهْر الخؤون فكم
…
أباد من كَانَ قبلي يَا أَبَا الْحسن)
(الدَّهْر مذ كَانَ لَا يبْقى على صفة
…
لابد من فَرح فِيهِ وَمن حزن)
(أَيْن الْمُلُوك الَّتِي كَانَت تهابهم
…
أَسد العرين ثووا فِي اللَّحْد والكفن)
(بعد الأسرة والتيجان قد محيت
…
رسومها وعفت عَن كل ذِي حسن)
(فاعمل لأخرى وَكن بِاللَّه مؤتمرا
…
واستغن بِاللَّه فِي سر وَفِي علن)
(واختر لنَفسك أمرا أَنْت آمره
…
كأنني لم أكن يَوْمًا وَلم تكن)
وفادة السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر على السُّلْطَان أبي الْحسن بِحَضْرَة فاس وَفتح جبل طَارق
لما هلك السُّلْطَان أَبُو الْوَلِيد إِسْمَاعِيل بن الرئيس أبي سعيد فرج بن الْأَحْمَر المتغلب على ملك الأندلس من يَد ابْن عَمه أبي الجيوش قَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه مُحَمَّد طفْلا صَغِيرا واستبد عَلَيْهِ وزيره مُحَمَّد بن المحروق فَقتله بَعْدَمَا شب وعقل وَكَانَ الطاغية قد استولى على جبل الْفَتْح وَهُوَ جبل طَارق سنة تسع وَسَبْعمائة وزاحم الفرنج بِهِ ثغور الْمُسلمين وَصَارَ شجى فِي صدر الدولتين المرينية والأحمرية وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك إِلَى أَن بُويِعَ الْأَمِير السُّلْطَان أَبُو الْحسن وَكَانَ لَهُ رَغْبَة فِي الْجِهَاد اقْتِدَاء بِمذهب جده يَعْقُوب بن عبد الْحق فبادر السُّلْطَان مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر إِلَى الْوِفَادَة عَلَيْهِ لإحكام عقد الْمَوَدَّة مَعَه وللمفاوضة فِي أَمر الْجِهَاد وَغير ذَلِك مِمَّا فِيهِ صَلَاح لدولته فَقدم عَلَيْهِ بدار ملكه بفاس سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فأكبر السُّلْطَان أَبُو الْحسن موصله وأركب النَّاس للقائه وأنزله بروض المصارة لصق دَاره واستبلغ فِي إكرامه وفاوضه ابْن الْأَحْمَر فِي شَأْن الْمُسلمين وَرَاء الْبَحْر وَمَا أَهَمَّهُمْ من عدوهم وشكى إِلَيْهِ حَال الْجَبَل واعتراضه شجى فِي صُدُور الثغور قبل وشكى إِلَيْهِ أَمر بني عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء لأَنهم كَانُوا قد استطالوا عَلَيْهِ فِي أرضه فأشكاه أَبُو الْحسن وعامل الله تَعَالَى فِي أَسبَاب الْجِهَاد وَكَانَ يَوْمئِذٍ مَشْغُولًا بفتنة أَخِيه أبي عَليّ وَمَعَ ذَلِك فقد أمده بالجند وَعقد لِابْنِهِ أبي مَالك
على خَمْسَة آلَاف من آنجاد بني مرين وأنفذهم مَعَ ابْن الْأَحْمَر لمنازلة جبل الْفَتْح فاحتل أَبُو مَالك بالجزيرة الخضراء وَتَتَابَعَتْ إِلَيْهِ الأساطيل بالمدد وَأرْسل ابْن الْأَحْمَر فِي الأندلس حاشرين فتسايل النَّاس إِلَيْهِ من كل جِهَة وزحفوا جَمِيعًا إِلَى الْجَبَل وَأَحَاطُوا بِهِ وأبلوا فِي منازلته الْبلَاء الْحسن إِلَى أَن فتحوه سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة واقتحمه الْمُسلمُونَ عنْوَة ونفلهم الله من كَانَ بِهِ من النَّصَارَى بِمَا مَعَهم وَشرع الْمُسلمُونَ فِي شحنه بالأقوات ينقلونها من الجزيرة الخضراء على خيولهم خوفًا من كرة الْعَدو وباشر نقلهَا الأميران أَبُو مَالك وَابْن الْأَحْمَر بأنفسهما ونقلها النَّاس عَامَّة وتحيز الْأَمِير أَبُو مَالك إِلَى الجزيرة الخضراء وَترك بِالْجَبَلِ يحيى بن طَلْحَة بن محلي من وزراء أَبِيه وَوصل الطاغية بعد ثَلَاث من فَتحه فَأَنَاخَ عَلَيْهِ وحاصره وبرز أَبُو مَالك بعساكره من الجزيرة فَنزل بإزائه وزحف ابْن الْأَحْمَر فَنزل بإزائه أَيْضا ثمَّ خَافَ ابْن الْأَحْمَر عَادِية الْعَدو لقرب الْعَهْد بارتجاع الْجَبَل وخفة من بِهِ من الحامية وَالسِّلَاح فبادر إِلَى لِقَاء الطاغية وَسبق النَّاس إِلَى فسطاطة عجلا بَائِعا نَفسه من الله فِي رضَا الْمُسلمين وسد خلتهم فَتَلقاهُ الطاغية رَاجِلا حاسرا إعظاما لَهُ وأجابه إِلَى مَا سَأَلَ من الإفراج عَن هَذَا المعقل وأتحفه بذخائر مِمَّا لَدَيْهِ وارتحل من فوره وَشرع الْأَمِير أَبُو مَالك فِي تحصين ذَلِك الثغر وسد فروجه
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي النفخ ارتجع السطلان أَبُو الْحسن جبل طَارق بعد أَن أنْفق عَلَيْهِ الْأَمْوَال وَصرف إِلَيْهِ الْجنُود والحشود ونازلته جيوشه مَعَ وَلَده وخواصه وضيقوا بِهِ إِلَى أَن استرجعوه ليد الْمُسلمين واهتم ببنائه وتحصينه وَأنْفق عَلَيْهِ أحمال المَال فِي بنائِهِ وحصنه وسوره وَبنى أبراجه وجامعه ودوره ومحاربيه وَلما كَاد يتم ذَلِك نازله الْعَدو برا وبحرا فَصَبر الْمُسلمُونَ وَخيَّب الله سعي الْكَافرين فَأَرَادَ السُّلْطَان الْمَذْكُور أَن يحصن سفح الْجَبَل بسور مُحِيط بِهِ من جَمِيع جهاته حَتَّى لَا يطْمع عَدو فِي منازلته وَلَا يجد سَبِيلا للتضييق عَلَيْهِ بمحاصرته وَرَأى النَّاس ذَلِك من الْمحَال فأنفق الْأَمْوَال وأنصف الْعمَّال فأحاط بمجموعه إحاطة الهالة بالهلال وَكَانَ بَقَاء هَذَا الْجَبَل بيد الْعَدو نيفا وَعشْرين سنة وحاصره السُّلْطَان أَبُو الْحسن سِتَّة
أشهر وَزَاد فِي تحصينه ابْنه السُّلْطَان أَبُو عنان رحمهمَا الله تَعَالَى
وَأما ابْن الْأَحْمَر فَإِن أَوْلَاد عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء شُيُوخ الْغَزْو بالأندلس لما رَأَوْا مَا حصل بَينه وَبَين السُّلْطَان أبي الْحسن من الْوِفَاق واتصال الْيَد خَافُوا أَن تعود موافقتهم بِالضَّرَرِ عَلَيْهِم إِذْ كَانُوا أَعدَاء للدولتين مَعًا أما دولة الْمغرب فبخروجهم عَلَيْهِم ومنابذتهم إيَّاهُم غير مرّة وَأما دولة الأندلس فباستحواذهم على أَهلهَا ومزاحمتهم إيَّاهُم فِي رياستها فتشاوروا فِيمَا بَينهم وفتكوا بِابْن الْأَحْمَر يَوْم رحيله عَن الْجَبَل إِلَى غرناطة فتقاصفوه بِالرِّمَاحِ وَقدمُوا أَخَاهُ ابا الْحجَّاج يُوسُف بن إِسْمَاعِيل مَكَانَهُ فَقَامَ بِالْأَمر بعده وشمر للأخذ بثار أَخِيه فاحتال على بني أبي الْعَلَاء حَتَّى قبض عَلَيْهِم وأودعهم المطبق ثمَّ غربهم إِلَى تونس إِلَى أَن كَانَ من أَمرهم مَا نذكرهُ
فتح تلمسان ومقتل صَاحبهَا أبي تاشفين وانقراض الدولة الأولى لبني زيان بمهلكه
لما استقام ملك الْمغرب للسُّلْطَان أبي الْحسن بمقتل أَخِيه أبي عَليّ صَاحب سجلماسة وَنصر الله جنده على الطاغية بالأندلس تفرغ لشأن تلمسان والانتقام من صَاحبهَا أبي تاشفين الَّذِي ضايق أصهاره من بني أبي حَفْص فِي أَرضهم ونازعهم فِي ملكهم وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن قد بعث لأوّل بيعَته شُفَعَاء إِلَى أبي تاشفين فِي أَن يتخلى عَن عمل الْمُوَحِّدين وَيرجع إِلَى تخوم أَعماله الَّتِي ورثهَا عَن سلفه وَقَالَ لَهُ فِي جملَة ذَلِك كف عَنْهُم وَلَو سنة وَاحِدَة ليسمع النَّاس أَنِّي نافحت عَن صهري ويقدروا قدري فاستنكف أَبُو تاشفين من ذَلِك وَأَغْلظ للرسل فِي القَوْل وأفحش بعض السُّفَهَاء من عبيده فِي الرَّد عَلَيْهِم بمجلسه ونالوا من السُّلْطَان أبي الْحسن بمحضره فَعَادَت الرُّسُل إِلَيْهِ وأعلموه بالقضية على وَجههَا فحمي لذَلِك وَغَضب وتأكد عزمه على النهوض إِلَى تلمسان فَكَانَ من نهوضه أَولا وانتقاض أَخِيه عَلَيْهِ وَعوده إِلَيْهِ من تاسالت مَا قصصناه قبل مُسْتَوفى
ثمَّ عاود السُّلْطَان النهوض إِلَى تلمسان فِي هَذِه الْمرة فَعَسْكَرَ بِظَاهِر فاس الْجَدِيد وَبعث وزراءه ووجوه دولته إِلَى قاصية الْبِلَاد المراكشية لحشد الْقَبَائِل والجموع ثمَّ تعجل وَعرض جُنُوده وأزاح عللهم وعبى مواكبه وَفصل فِي التعبية من فاس أواسط خمس وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فَسَار يجر الشوك والمدر من أُمَم الْمغرب وَجُنُوده وَمر بوجدة فجمر عَلَيْهَا الْكَتَائِب للحصار ثمَّ مر بندرومة فقاتلها بعض يَوْم ثمَّ اقتحمها عنْوَة فاستولى عَلَيْهَا وَقتل حاميتها ثمَّ سَار على التعبية حَتَّى أَنَاخَ على تلمسان ثمَّ بلغه الْخَبَر بتغلب عسكره على وَجدّة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فأوعز إِلَيْهِم بتخريب أسوارها فأضرعوها بِالْأَرْضِ وتوافت لَدَيْهِ أَمْدَاد النواحي وحشودها ووفدت عَلَيْهِ قبائل مغراوة وَبنى توجين فَأتوهُ طاعتهم وسرح كتائبه إِلَى القاصية فتغلب على وهران وهنين ثمَّ على مليانة وتنس والجزائر وَغَيرهَا وَاسْتولى على الضواحي وَنزع إِلَيْهِ يحيى بن مُوسَى كَبِير قواد أبي تاشفين وَصَاحب الثغور الشرقية من أَعماله فلقاه مبرة وكرامة وَرفع بساطه ونظمه فِي طَبَقَات وزرائه وجلسائه وَعقد على فتح الْبِلَاد الشرقية ليحيى بن سُلَيْمَان العسكري شيخ بني عَسْكَر بن مُحَمَّد وصهر السُّلْطَان على ابْنَته فَسَار فِي الألوية والجنود فطوع ضاحية الشرق وافتتح أمصاره حَتَّى انْتهى إِلَى لمدية ونظم الْبِلَاد فِي طَاعَة السُّلْطَان أبي الْحسن واحتشد جموعها فَلَحقُوا بمعسكره وَاسْتعْمل السُّلْطَان أَبُو الْحسن عماله على الْجِهَات
واختط بغربي تلمسان الْبَلَد الْجَدِيد لسكناه ونزول عساكره وَأَحْيَا معالم المنصورة الَّتِي كَانَ اختطها عَمه يُوسُف بن يَعْقُوب وخربها بَنو زيان من بعده فأدار عَلَيْهَا سياجا من السُّور ونطاقا من الخَنْدَق وَنصب المجانيق وآلات من وَرَاء خندقه وَجعلت رماته تنضح رُمَاة الْعَدو بِالنَّبلِ ويشغلونهم بِأَنْفسِهِم حَتَّى شيد برجا آخر يقرب مِنْهُم وترتفع شرفاته فَوق خندقهم وتماصع الْمُقَاتلَة بِالسُّيُوفِ من أعاليه ورتب المجانيق لرجمها وَأحكم عَملهَا لدكها فنالت من ذَلِك فَوق الْغَايَة وَعظم أَثَرهَا فِي الْقُصُور الْعَظِيمَة والقباب الرفيعة الَّتِي تأنق أَبُو تاشفين فِي تشييدها وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن يصبح الْمُقَاتلَة كل يَوْم
قَالَ صَاحب التعريبات الشافية إِن مَسَاجِد الوهابية خَالِيَة عَن المنارات والقباب وَغَيرهَا من الْبدع المستحسنة لَا يعظمون الْأَئِمَّة وَلَا الْأَوْلِيَاء ويدفنون موتاهم من غير مشْهد واحتفال يَأْكُلُون خبز الشّعير وَالتَّمْر وَالْجَرَاد والسمك وَلَا يَأْكُلُون اللَّحْم والأرز إِلَّا نَادرا وَلَا يشربون القهوة وملابسهم ومساكنهم غير مزينة اه
وَلما استولى ابْن سعود على الْحَرَمَيْنِ الشريفين بعث كتبه إِلَى الْآفَاق كالعراق وَالشَّام ومصر وَالْمغْرب يَدْعُو النَّاس إِلَى اتِّبَاع مذْهبه والتمسك بدعوته وَلما وصل كِتَابه إِلَى تونس بعث مفتيها نُسْخَة مِنْهُ إِلَى عُلَمَاء فاس فتصدى للجواب عَنهُ الشَّيْخ الْعَلامَة الأديب أَبُو الْفَيْض حمدون بن الْحَاج
قَالَ صَاحب الْجَيْش كَانَ تصدي الشَّيْخ أبي الْفَيْض لذَلِك الْجَواب بِأَمْر السُّلْطَان وعَلى لِسَانه وَذهب بجوابه وَلَده الْمولى إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان حِين سَافر لِلْحَجِّ قلت وَهَذَا يَقْتَضِي أَن كتاب ابْن سعود ورد عِلّة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بِالْقَصْدِ الأول لَا أَن نُسْخَة مِنْهُ وَردت بِوَاسِطَة عُلَمَاء تونس وَالله تَعَالَى أعلم
حج الْمولى أبي اسحاق إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله
وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَجه السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله وَلَده الْأُسْتَاذ الْأَفْضَل الْمولى أَبَا اسحاق إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان إِلَى الْحجاز لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج مَعَ الركب النَّبَوِيّ الَّذِي جرت الْعَادة بِخُرُوجِهِ من فاس على هَيْئَة بديعة من الاحتفال وإبراز الأخبية لظَاهِر الْبَلَد وقرع الطبول وَإِظْهَار الزِّينَة وَكَانَت الْمُلُوك تعنى بذلك وتختار لَهُ أَصْنَاف النَّاس من الْعلمَاء والأعيان والتجار وَالْقَاضِي وَشَيخ الركب وَغير ذَلِك مِمَّا يضاهي ركب مصر وَالشَّام وَغَيرهمَا فَوجه السُّلْطَان وَلَده الْمَذْكُور فِي جمَاعَة
من عُلَمَاء الْمغرب وأعيانه مثل الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي أبي الْفضل الْعَبَّاس بن كيران والفقيه الشريف الْبركَة الْمولى الْأمين بن جَعْفَر الحسني الرتبي والفقيه الْعَلامَة الشهير أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الساحلي وَغَيرهم من عُلَمَاء الْمغرب وشيوخه فوصلوا إِلَى الْحجاز وقضوا الْمَنَاسِك وزاروا الرَّوْضَة المشرفة على حِين تعذر ذَلِك وَعدم اسْتِيفَائه على مَا يَنْبَغِي لاشتداد شَوْكَة الوهابيين بالحجاز يَوْمئِذٍ ومضايقتهم لحجاج الْآفَاق فِي أُمُور حجهم وزياراتهم إِلَّا على مُقْتَضى مَذْهَبهم
حكى صَاحب الْجَيْش أَن الْمولى إِبْرَاهِيم ذهب إِلَى الْحَج واستصحب مَعَه جَوَاب السُّلْطَان فَكَانَ سَببا لتسهيل الْأَمر عَلَيْهِم وعَلى كل من تعلق بهم من الْحجَّاج شرقا وغربا حَتَّى قضوا مناسكهم وزيارتهم على الْأَمْن والأمان وَالْبر وَالْإِحْسَان قَالَ حَدثنَا جماع وافرة مِمَّن حج مَعَ الْمولى إِبْرَاهِيم فِي تِلْكَ السّنة أَنهم مَا رَأَوْا من ذَلِك السُّلْطَان يَعْنِي ابْن سعود مَا يُخَالف مَا عرفوه من ظَاهر الشَّرِيعَة وَإِنَّمَا شاهدوا مِنْهُ وَمن أَتْبَاعه غَايَة الاسْتقَامَة وَالْقِيَام بشعائر الْإِسْلَام من صَلَاة وطهارة وَصِيَام وَنهي عَن الْمُنكر الْحَرَام وتنقية الْحَرَمَيْنِ الشريفين من القاذورات والآثام الَّتِي كَانَت تفعل بهما جهارا من غير نَكِير وَذكروا أَن حَاله كَحال آحَاد النَّاس لَا يتَمَيَّز عَن غَيره بزِي وَلَا مركوب ولالباس وَأَنه لما اجْتمع بالشريف الْمولى إِبْرَاهِيم أظهر لَهُ التَّعْظِيم الْوَاجِب لأهل الْبَيْت الْكَرِيم وَجلسَ مَعَه كجلوس أحد أَصْحَابه وحاشيته وَكَانَ الَّذِي تولى الْكَلَام مَعَه هُوَ الْفَقِيه القَاضِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم الزداغي فَكَانَ من جملَة مَا قَالَ ابْن سعود لَهُم إِن النَّاس يَزْعمُونَ أننا مخالفون للسّنة المحمدية فَأَي شَيْء رَأَيْتُمُونَا خَالَفنَا من السّنة وَأي شَيْء سمعتموه عَنَّا قبل اجتماعكم بِنَا فَقَالَ لَهُ القَاضِي بلغنَا أَنكُمْ تَقولُونَ بالاستواء الذاتي المستلزم لجسمية المستوى فَقَالَ لَهُم معَاذ الله إِنَّمَا نقُول كَمَا قَالَ مَالك الاسْتوَاء مَعْلُوم والكيف مَجْهُول وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة فَهَل فِي هَذَا من مُخَالفَة فالوا
لَا وبمثل هَذَا نقُول نَحن أَيْضا ثمَّ قَالَ لَهُ القَاضِي وبلغنا عَنْكُم أَنكُمْ تَقولُونَ بِعَدَمِ حَيَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وحياة إخوانه من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي قُبُورهم فَلَمَّا سمع ذكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم ارتعد وَرفع صَوته بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالَ معَاذ الله إِنَّمَا نقُول إِنَّه صلى الله عليه وسلم حَيّ فِي قَبره وَكَذَا غَيره من الآنبياء حَيَاة فَوق حَيَاة الشُّهَدَاء ثمَّ قَالَ لَهُ القَاضِي وبلغنا أَنكُمْ تمْنَعُونَ من زيارته صلى الله عليه وسلم وزيارة سَائِر الْأَمْوَات مَعَ ثُبُوتهَا فِي الصِّحَاح الَّتِي لَا يُمكن إنكارها فَقَالَ معَاذ الله أَن ننكر مَا ثَبت فِي شرعنا وَهل منعناكم أَنْتُم لما عرفنَا أَنكُمْ تعرفُون كيفيتها وآدابها وَإِنَّمَا نمْنَع مِنْهَا الْعَامَّة الَّذين يشركُونَ الْعُبُودِيَّة بالألوهية وَيطْلبُونَ من الْأَمْوَات أَن تقضى لَهُم أغراضهم الَّتِي لَا تقضيها إِلَّا الربوبية وَإِنَّمَا سَبِيل الزِّيَارَة الِاعْتِبَار بِحَال الْمَوْتَى وتذكر مصير الزائر إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ المزور ثمَّ يَدْعُو لَهُ بالمغفرة ويستشفع بِهِ إِلَى الله تَعَالَى وَيسْأل الله تَعَالَى الْمُنْفَرد بالإعطاء وَالْمَنْع بجاه ذَلِك الْمَيِّت إِن كَانَ مِمَّن يَلِيق أَن يتشفع بِهِ هَذَا قَول إمامنا أَحْمد بن حَنْبَل رضي الله عنه وَلما كَانَ الْعَوام فِي غَايَة الْبعد عَن إِدْرَاك هَذَا الْمَعْنى منعناهم سدا للذريعة فَأَي مُخَالفَة للسّنة فِي هَذَا الْقدر أه
ثمَّ قَالَ صَاحب الْجَيْش هَذَا مَا حدث بِهِ أُولَئِكَ المذكورون سمعنَا ذَلِك من بَعضهم جمَاعَة ثمَّ سَأَلنَا الْبَاقِي أفرادا فاتفق خبرهم على ذَلِك اه
قلت مَسْأَلَة زِيَارَة قُبُور الْأَنْبِيَاء والأولياء مَشْهُورَة فِي كتب الْأَئِمَّة وَهِي من الْقرب المرغوب فِيهَا عِنْد الْجُمْهُور ومنعها قوم من الحنابل وشدد تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية مِنْهُم فِيهَا محتجا بقوله عليه الصلاة والسلام لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد مَسْجِدي هَذَا وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى وَهُوَ عِنْد الْجُمْهُور مؤول بِأَن الْمَعْنى لَا تشد الرّحال لصَلَاة فِي مَسْجِد إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد اه وَقد بسط القَوْل فِي هَذَا صَاحب الْمَوَاهِب اللدنية وَالْقَوْل الْفَصْل أَن التَّبَرُّك بآثار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام والأولياء رضي الله عنهم وزيارة مشاهدهم من الْأَمر الْمَعْرُوف عِنْد أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم الْمجمع عَلَيْهِ
خلفا وسلفا لَا يسع إِنْكَاره غير أَن للزيارة آدابا تجب الْمُحَافظَة عَلَيْهَا وشروطا لَا بُد من مراعاتها وَالْوُقُوف لَدَيْهَا ثمَّ القَوْل بمنعها مُطلقًا سدا للذريعة فِي حق الْعَامَّة إِذْ هم أَكثر النَّاس وغولا فِي ذَلِك فِيهِ نظر أما الْأَنْبِيَاء فَلَا يَنْبَغِي لعاقل أَن يحرم نَفسه من الْوُقُوف على مشاهدهم والتبرك بتربتهم والاحتماء بحماهم وَلَا أَن يَقُول بذلك لمزيد ارْتِفَاع درجتهم عِنْد الله تَعَالَى ولندور اتِّفَاق زيارتهم لأكْثر الغرباء وَأما الْأَوْلِيَاء فَالْقَوْل بِمَنْع زيارتهم سدا للذريعة مَعَ بَيَان الْعلَّة وإشهارها بَين النَّاس حَتَّى لَا يلتبس عَلَيْهِم الْمَقْصُود قَول وجيه لَا تأباه قَوَاعِد الشَّرِيعَة بل تَقْتَضِيه وَالله أعلم وَهَذَا القَوْل هُوَ الَّذِي رَآهُ الشَّيْخ الْفَقِيه الصُّوفِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد التجاني رحمه الله حَتَّى نهى أَصْحَابه عَن زِيَارَة الْأَوْلِيَاء
وَأَقُول إِن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله كَانَ يرى شَيْئا من ذَلِك ولأجله كتب رسَالَته الْمَشْهُورَة الَّتِي تكلم فِيهَا على حَال متفقرة الْوَقْت وحذر فِيهَا رضي الله عنه من الْخُرُوج عَن السّنة والتغالي فِي الْبِدْعَة وَبَين فِيهَا بعض آدَاب زِيَارَة الْأَوْلِيَاء وحذر من تغالي الْعَوام فِي ذَلِك وَأَغْلظ فِيهَا مُبَالغَة فِي النصح للْمُسلمين جزاه الله خيرا وَمن كَلَامه فِيهَا مَا نَصه تَنْبِيه من الغلو الْبعيد ابتهال أهل مراكش بِهَذِهِ الْكَلِمَة سَبْعَة رجال فَهَل كَانَ لسبعة رجال شيعَة يطوفون عَلَيْهِم إِلَى أَن قَالَ فعلينا أَن نقتدي بسبعة رجال وَلَا نتخذهم آلِهَة لِئَلَّا يؤول الْحَال فيهم إِلَى مَا آل إِلَيْهِ فِي يَغُوث ويعوق ونسرا إِلَى آخر كَلَامه وَصدق رحمه الله فكم من ضَلَالَة وَكفر أَصْلهَا الغلو فِي التَّعْظِيم وَمَا ضلت النَّصَارَى إِلَّا من غلوهم فِي عِيسَى وَأمه عليهما السلام قَالَ الله تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق} النِّسَاء 17 الْآيَة وَمن ذَلِك قصَّة يَغُوث ويعوق ونسرا الْمشَار إِلَيْهَا وَهِي مَذْكُورَة فِي الصَّحِيح وَفِي كتب التَّفْسِير
وَحكى ابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة أَن أصل حُدُوث عبَادَة الْحجر فِي بِلَاد الْعَرَب أَن آل إِسْمَاعِيل عليه السلام لما كَثُرُوا حول الْحرم وَضَاقَتْ بهم
فجاج مَكَّة تفَرقُوا فِي النواحي وَأخذُوا مَعَهم أحجارا من الْحرم تبركا بهَا فَكَانَ أحدهم يضع الْحجر فِي بَيته فيطوف ويتمسح بِهِ ويعظمه ثمَّ توالت السنون وخلفت الخلوف فعبدوا تِلْكَ الْأَحْجَار ثمَّ عبدُوا غَيرهَا وَذَهَبت مِنْهُم ديانَة إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عليهما السلام إِلَّا يَسِيرا جدا بَقِي فيهم إِلَى أَن صبحهمْ الْإِسْلَام هَذَا معنى مَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَقد تكلم الشاطبي وَغَيره من الْعلمَاء فِيمَا يقرب من هَذَا وَذكروا أَن الغلو فِي التَّعْظِيم أصل من أصُول الضلال وَلَو لم يكن فِي ذَلِك إِلَّا قَضِيَّة الشِّيعَة لَكَانَ كَافِيا فَالْحَاصِل أَن خير الْأُمُور الْوسط وَمن هُنَا أَيْضا كَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله قد أبطل بِدعَة المواسم بالمغرب وَهِي لعمري جديرة بالإبطال فسقى الله ثراه وَجعل فِي عليين مثواه
وَلما كَانَ رَمَضَان من سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف قدم الْمولى إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان الْمَذْكُور من الْحجاز وَنزل بطنجة وَكَانَ قدومه فِي قرصان الإنجليز لِأَن وَالِده رحمه الله كَانَ قد وَجهه إِلَيْهِ مَعَ بضع قراصينه إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فصادفوه قد انحدر إِلَى جَزِيرَة مالطة فَركب الْمولى الْمَذْكُور فِيمَا خف من حَاشِيَته فِي قرصان النجليز وَسبق إِلَى طنجة فاحتل بهَا ثمَّ سَار إِلَى حَضْرَة وَالِده بمكناسة فَأَقَامَ عِنْده ثَلَاثًا ريثما استراح ثمَّ انْفَصل عَنهُ إِلَى دَاره بفاس فَخرج لملاقاته جَيش الودايا وأشراف فاس وأعلامها وَسَائِر عامتها بفرح وسرور وَكَانَ يَوْم دُخُوله يَوْمًا مشهودا وَلما وصل الْقَوْم الَّذين كَانُوا مَعَه نشرُوا محاسنه وفضائله ومكارمه المحمودة وفواضله وَمَا فعله من الْبر فِي طَرِيق الْحَج خُصُوصا فِي مفاوز الْحجاز فقد أنْفق فِيهَا على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين مَا لايحصى وشاع ذكره فِي الْحَرَمَيْنِ الشريفين وتجاوزهما إِلَى مصر وَالشَّام والعراقين وَلما نفذ مَا عِنْده استسلف من التُّجَّار الَّذين كَانُوا مَعَه أَمْوَالًا طائلة أنفقها فِي سَبِيل الله وَلما قدم أَرْبَابهَا على السُّلْطَان عرفوه بِمَا استسلفه مِنْهُم وَلَده وأطلعوه على حساباتهم فَعرف أَن مَا فعله وَلَده صَوَاب فَأمر رحمه الله لأولئك التُّجَّار بِقَضَاء مَا أسلفوه وَأَن يُزَاد لَهُم مِقْدَار ربحه
وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَ الوباء بالمغرب بالقيء والإسهال المفرطين على نَحْو مَا وصفناه فِي السنين الْمَاضِيَة وَفِي زَوَال يَوْم الْأَحَد الْحَادِي عشر من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي قَاضِي سلا الْفَقِيه الْعَلامَة الْوَرع أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد بن مَنْصُور وَدفن بالجبانة الْمُتَّصِلَة بضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس بن عَاشر رضي الله عنه وَكَانَت لهَذَا القَاضِي سيرة حَسَنَة وَعدل فِي الْأَحْكَام وتأن فِيهَا مَعَ سمت ومروءة وانقباض رحمه الله وَبقيت سلا بِلَا قَاض أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى وَقع اخْتِيَار السُّلْطَان على شَيخنَا الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي أبي بكر ابْن الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي مُحَمَّد عواد رحم الله الْجَمِيع
وَفِي هَذِه السّنة أَمر السُّلْطَان رحمه الله بِضَرْب الدِّرْهَم الشَّرْعِيّ وحاول ضبط السِّكَّة بِهِ وَحمل النَّاس على أَن لَا يذكرُوا فِي معاملاتهم وأنكحتهم وَسَائِر عقودهم إِلَّا الدِّرْهَم الشَّرْعِيّ وشدد فِي ذَلِك وَكتب فِيهِ إِلَى وُلَاة الْأَمْصَار يَقُول فِي كِتَابه مَا نَصه وَبعد فَإِن أَمر السِّكَّة من الْأُمُور الْوَاجِبَة الْمُتَعَيّن رد البال إِلَيْهَا والاهتمام بشأنها وَالنَّظَر فِيمَا يصدر بِسَبَبِهَا من النَّفْع وَالضَّرَر للْمُسلمين وَبَيت مَالهم وَقد كَانَ أسلافنا رحمهم الله اعتنوا كثيرا بشأنها وبضبط مصالحها وَدفع مفاسدها وجعلوها على قدر شَرْعِي مَعْلُوم لضبط أمرهَا والتبرك بِتِلْكَ النِّسْبَة إِذْ بذلك يعلم الْمُسلم علم يَقِين كَمَال النّصاب عِنْده فَتجب عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاة الَّتِي هِيَ من دعائم الْإِسْلَام أَو عدم كَمَاله فَلَا يكون مُخَاطبا فِي بِشَيْء وَلما رَأينَا مَا حدث فِيهَا من التَّغَيُّر وَعدم الضَّبْط وَنَشَأ عَن ذَلِك من الضَّرَر للْمُسلمين وَبَيت مَالهم مَا لم يخف على أحد اقْتضى نَظرنَا السديد ردهَا لأصلها الْأَصِيل الَّذِي أسسه أسلافنا الْكِرَام سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف أذلنا فيهم أُسْوَة حَسَنَة فِي الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل فَرددْنَا الدِّرْهَم الْكَبِير المسلوك على وزن الدِّرْهَم الشَّرْعِيّ والمنهاج المرعي كَمَا كَانَ على عهد جدنا سَيِّدي الْكَبِير قدسه الله وجدد عَلَيْهِ وابل رحماه بِحَيْثُ تكون عشرَة دَرَاهِم مِنْهُ هِيَ المثقال كَمَا هُوَ مَعْلُوم إِن عشرَة دَرَاهِم من الدَّرَاهِم الَّتِي كَانَت تروج قبل على عهد أسلاقنا رحمهم الله هِيَ المثقال وَبِهَذَا الْعدَد
الَّذِي هُوَ عشرَة مِنْهُ فِي المثقال تكون جَمِيع الْمُعَامَلَات والمخالطات فِي البيع والابتياع وَغَيرهمَا بَين جَمِيع رعيتنا السعيدة فِي كل الْبَوَادِي والحواضر وَبِه أمرنَا جَمِيع الْعمَّال وَمن هُوَ مُكَلّف بِعَمَل من الْأَعْمَال وإشاعته ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب وَبِه يقبل لجَانب المَال وأمرناهم بِالْعَمَلِ بِهَذَا الْأَمر الَّذِي أصدرناه وأبرمناه بحول الله وأمضيناه وَأَن يعاقبوا كل من عثروا عَلَيْهِ ارْتكب خلاف ذَلِك وَبِأَن يسلكوا بِهِ أضيق المسالك جَزَاء وفَاقا على مُخَالفَته وتعديه الْحَد وافتياته نعم مَا سلف من الْمُعَامَلَات بِجَمِيعِ أَنْوَاعهَا فِيمَا تقدم قبل تَارِيخ هَذَا الْكتاب فَحكمه حكم مَا تقدم فِي السِّكَّة فَلَا يُكَلف أحد بِزِيَادَة وَمن كَانَ بِذِمَّتِهِ شَيْء فِيمَا سلف يُؤَدِّيه بِحِسَاب مَا كَانَت تروج بِهِ السِّكَّة فِي الريال وَالدِّرْهَم وَالْعَمَل بِهَذَا الَّذِي أمرنَا بِهِ هُوَ من الْآن لما يسْتَقْبل إِن شَاءَ الله وَبِهَذَا يَزُول الْإِشْكَال فِيمَا تقدم بَين النَّاس فِي الْمُعَامَلَات ونسأل الله أَن يخلص الْعَمَل فِي سَبيله ومرضاته ويجازي من فَضله وَكَرمه على قَصده وَصَلَاح نياته وَالسَّلَام فِي ثامن شَوَّال عَام خَمْسَة وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس عشر من شَوَّال الْمَذْكُور توفّي الْبركَة الْخَيْر المنتسب سَيِّدي الْحَاج مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ الدلائي الرباطي بِالدَّار الْبَيْضَاء وَدفن يَوْم الْجُمُعَة بالزاوية المنسوبة إِلَيْهِ بهَا رحمه الله ونفعنا بِهِ وَفِي هَذِه السّنة كَانَ سوق دَار البلار بباريس من أَرض افرانسا وَذَلِكَ أَن الطاغية نابليون الثَّالِث لما بلغ من ضخامة الدولة ونفوذ الْكَلِمَة مَا قل اتفاقه لغيره من الْأَجْنَاس حاول أَن يتَجَاوَز ذَلِك إِلَى أَن يجلب إِلَى رَعيته وَدَار ملكه كل أَمر غَرِيب فِي الْعَالم حَتَّى يجْتَمع عِنْده مَا افترق عِنْد غَيره فَكتب إِلَى مُلُوك الْآفَاق يَقُول إِنَّه قد عزم على إِقَامَة سوق بباريس فِي وَقت مَعْلُوم وَطلب مِنْهُم أَن يبعثوا بتجارهم لحضورها وجلب سلعهم وغرائبهم إِلَيْهَا وقصده بذلك عُمُوم النَّفْع وتعدي الصَّنَائِع والحرف من أمة إِلَى أُخْرَى فَأجَاب الْمُلُوك داعيه بِمُقْتَضى الْعرف الْجَارِي بَين الدول وَالْعَادَة المقررة من عهد الْمُلُوك الأول وَلم يبْق إِلَّا من بعث تجاره ونفائسه وغرائبه من الْجَلِيل إِلَى الحقير وَكَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله قد بعث تاجره الْحَاج مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ القباج الفاسي
الْمَعْرُوف بالفرنساوي وَهَذَا الرجل من العارفين بِاللِّسَانِ الفرنجي البصيرين بعوائد ذَلِك الجيل وَلذَا لقب بالفرنساوي وَبعث مَعَه السُّلْطَان رحمه الله كل شَيْء غَرِيب مِمَّا اخْتصَّ بِهِ قطر الْمغرب من سروج مذهبَة ومناطق مزخرفة وقطائف منمقة وَغير ذَلِك من الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى حَتَّى الزليج الفاسي والمعلمين الَّذين يباشرون ترصيعه فِي محاله وَحضر هَذَا السُّوق الْمُلُوك فَمن دونهم من كل إقليم حَتَّى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز العثماني رحمه الله فَكَانَ الْحَال كَمَا قَالَ أَبُو الطّيب المتنبي
(تجمع فِيهِ كل لسن وَأمة
…
فَمَا تفهم الحداث إِلَّا التراجم)
وأقامت عمارتها ثَلَاثَة أشهر ثمَّ انفض النَّاس إِلَى بِلَادهمْ وَلما بلغ نابليون الثَّالِث إِلَى هَذِه الْغَايَة فَجِئْته وقْعَة البروس الَّتِي كسرت من شوكته وفلت من غربه وَقبض عَلَيْهِ بِالْيَدِ وحوصرت دَار ملكه باريس مُدَّة طَوِيلَة فَبلغ فِيهَا لحم الْحمار أَرْبَعَة ريالات افرنك لكل رَطْل على مَا قيل وَلم تغب عَنْهُم محنة وَوَقع الصُّلْح على شُرُوط مِنْهَا ألف مليون من الريال تدفعها دولة افرانسا لدول البروس
وَفِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ عَشِيَّة يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع عشر من شعْبَان مِنْهَا توفّي الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب بن الْيَمَانِيّ الْمَدْعُو بِأبي عشْرين وَكَانَ سَبَب وَفَاته أَنه كَانَ بِهِ دَاء الْحصْر فَدخل الميضأة الَّتِي بمشور أبي الخصيصات من دَار السُّلْطَان بِحَضْرَة مراكش فَيُقَال إِن مثانته تمزقت فَمَاتَ رحمه الله وَحمل إِلَى دَاره وَصلى عَلَيْهِ بعد الْجُمُعَة بِمَسْجِد المواسين وَحضر جنَازَته الجم الْغَفِير وَدفن بضريح الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني من حومة الْقُصُور وَكَانَ رحمه الله ذَا جد فِي الْأُمُور ونصح للسُّلْطَان وللمسلمين
وَفِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ لَيْلَة الْخَمِيس الرَّابِع عشر من ربيع الثَّانِي مِنْهَا خسف الْقَمَر خسوفا كليا بعد الْغُرُوب إِلَى نصف اللَّيْل وَفِي فجر يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الْوَلِيّ الصَّالح الناسك السّني أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب ابْن الشَّيْخ الْأَشْهر مولَايَ
الْعَرَبِيّ الدرقاوي وَدفن بِمحل زاويته بآمجوط من بِلَاد بني زروال وَكَانَ من خِيَار عبد الله على غَايَة من التَّقْوَى والورع والتواضع من النَّاس يركب الْحمار ويلبس الْجُبَّة وَلَا يتَمَيَّز عَن أَصْحَابه بِشَيْء مَعَ السكينَة وَالْوَقار وَعدم الْخَوْض فِيمَا لَا يَعْنِي والإعراض عَن زهرَة الدُّنْيَا وَأَهْلهَا رحمه الله ونفعنا بِهِ وَفِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة انكسفت الشَّمْس وَكَانَ ابْتِدَاء الْكُسُوف على مَا أعطَاهُ التَّعْدِيل بعد الزَّوَال بِنَحْوِ نصف سَاعَة وَكَاد يكون كليا حَتَّى أظلم الجو وَبَقِي من الشَّمْس حَلقَة نورانية يسيرَة وَلم يُمكن تَحْقِيق وَقت التجلي لتراكم السَّحَاب وَفِي هَذِه الْأَيَّام ظَهرت حمرَة فِي السَّمَاء غَرِيبَة أرجوانية مَعَ غَايَة الصحو وَكَانَ ظُهُورهَا يكون فِيمَا بَين العشاءين معظمها فِي جِهَة الشمَال ودامت كَذَلِك نَحْو سَبْعَة أَيَّام وانقطعت وَفِي لَيْلَة السبت الثَّامِن من شَوَّال من السّنة وَذَلِكَ فِي السَّاعَة الثَّالِثَة مِنْهَا زلزلت الأَرْض وَلم يشْعر بهَا كثير من النَّاس لكَوْنهم نياما
وَفِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف غزا السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله قبائل تادلا فَمر على السماعلة منتصف رَجَب ثمَّ مِنْهُم لبني زمور ثمَّ لأبي الْجَعْد ثمَّ مِنْهُ توجه لقصبة تادلا وَعبر القنطرة وَنزل على بني عُمَيْر ثمَّ زحف لبني مُوسَى فأوقع بهم لأَنهم كَانُوا خَارِجين على عاملهم الغزواني ابْن زيدوح فَقطع مِنْهُم خمسين رَأْسا وَقبض على أَرْبَعِينَ مسجونا وَفِي أثْنَاء ذَلِك قدم عَلَيْهِ وَفد أهل مراكش وَكَانُوا قد ثَارُوا على عاملهم أَحْمد بن دَاوُد لكَونه كَانَ يسير فيهم سيرة غير حميدة فقدموا على السُّلْطَان متنصلين مِمَّا فرط مِنْهُم فَأَعْرض السُّلْطَان عَنْهُم وَلم يسمع مِنْهُم كلَاما وَلَا قبل لَهُم عذرا فَرَجَعُوا مخفقين ثمَّ تقدم السُّلْطَان رحمه الله إِلَى مراكش وَهُوَ غَضْبَان على أَهلهَا وَكَانُوا مظلومين فِيمَا قيل إِلَّا أَنه لبس على السُّلْطَان فِي أَمرهم فَلَمَّا شَارف الْمَدِينَة خَرجُوا إِلَيْهِ بالعلماء والقراء وصبيان الْمكَاتب متشفعين فَلم يقف لَهُم وَلَا الْتفت إِلَيْهِم وَكَانَ ابْنه وخليفته الْمولى الْحسن حَاضرا يَوْمئِذٍ فَتقدم إِلَى أهل مراكش ورق لَهُم وَقَالَ لَهُم قولا جميلا وَكَانَ هَذَا الْحَادِث فِي رَمَضَان
من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ لم يلبث ابْن دَاوُد بعد ذَلِك إِلَّا مُدَّة يسيرَة حَتَّى توفّي وتخلصت قائبة من قوب وعفو الله بعد ذَلِك مرقوب
وَفِي سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف كَانَت جَائِحَة النَّار بِكَثِير من بِلَاد الْمغرب أحرقت الزروع وَالثِّمَار وأجيحت الجنات وتراجع النَّاس فِي أَثمَان مَا بيع مِنْهَا بعد إِثْبَات الموجبات وَكَانَت أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله فِي أَولهَا شَدِيدَة بِسَبَب ظُهُور الْعَدو على الْمُسلمين وَمَا عقبه من الغلاء وَالْمَوْت ثمَّ بعد ذَلِك اتَّسع الْحَال وَحصل الْأَمْن وانخضدت شَوْكَة قبائل الْعَرَب بالمغرب وَأمنت الطرقات من عيثهم وازدهت الدُّنْيَا ورخصت الأسعار رخصا يَسِيرا وَكَانَ النَّاس ممعشين فِي أَيَّامه وغلت الدّور والأملاك حَتَّى كَانَت فِي بعض السنين لَا تسمسر وَمن يَشْتَرِي دَارا إِنَّمَا يَشْتَرِيهَا بالتنقير عَنْهَا والطلب من رَبهَا بِالثّمن الجافي وَاتخذ النَّاس ذَوُو الْيَسَار المراكب الفارهة والكسي الرفيعة والذخائر النفسية وتأنقوا فِي الْبُنيان بالزليج والرخام والنقش البديع لَا سِيمَا بفاس ورباط الْفَتْح ولاحت على النَّاس سمة الحضارة الأعجمية وَكَانَ للسُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله فِي كل بلد عُيُون يَكْتُبُونَ لَهُ بِمَا يَقع من الْوُلَاة فَمن دونهم فَكَانَت الرّعية كَأَنَّهَا فِي كف يَده وَكَانَ يخْتَار أُولَئِكَ الْعُيُون من الْعَوام فَكَانُوا يَكْتُبُونَ لَهُ بالغث والسمين فَيسمع ذَلِك كُله فينتقي مِنْهُ الصَّحِيح ويطرح السقيم فاستقامت أَحْوَال الرّعية بذلك
وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله
كَانَت وَفَاة أَمِير الْمُؤمنِينَ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله فِي زَوَال يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن عشر من رَجَب الْفَرد الْحَرَام سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف بداره بِحَضْرَة مراكش فِي الْبُسْتَان الْمُسَمّى بالنيل وَلم يمرض إِلَّا يَوْمًا أَو بعض يَوْم قيل إِنَّه شرب دَوَاء مسهلا فَكَانَ فِيهِ أَجله وَالله أعلم وَدفن لَيْلًا بضريح جده الْمولى عَليّ الشريف قرب ضريح القَاضِي عِيَاض وَكتب على رخامة قَبره أَبْيَات لَيست من جيد الشّعْر وَهِي