الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَطوف على الْبَلَد من جَمِيع جهاته لتفقد رُؤَسَاء الْعَسْكَر فِي مراكزهم وَرُبمَا انْفَرد فِي طَوَافه فَطَافَ فِي بعض الْأَيَّام منتبذا عَن الْحَاشِيَة فاهتبل بَنو عبد الواد غرته حَتَّى إِذا سلك مَا بَين الْجَبَل والبلد فتحُوا أَبْوَابهَا وَأَرْسلُوا عَلَيْهِ عقبان جنودهم يحسبونها فرْصَة كَالَّتِي كَانَت ليغمراسن بن زيان فِي السعيد الموحدي واضطروه إِلَى سفح الْجَبَل حَتَّى لحق بأوعاره وَكَاد ينزل عَن فرسه هُوَ ووليه عريف بن يحيى أَمِير عرب سُوَيْد وأحس أهل المعسكر بذلك فَرَكبُوا زرافات ووحدانا وَركب ابناه الأميران أَبُو عبد الرَّحْمَن وَأَبُو مَالك وهما جنَاحا عسكره وعقابا جحافله وتهاوت إِلَيْهِم صقور بني مرين من كل جو فَانْكَشَفَتْ عَسَاكِر بني عبد الواد وولوا الأدبار منهزمين لَا يلوي أحد مِنْهُم على أحد واعترضهم مهوى الخَنْدَق فتطارحوا فِيهِ وتهافتوا على ردمه فَكَانَ الْهَالِك يَوْمئِذٍ فِيهِ أَكثر من الْهَالِك بِالسِّلَاحِ وَهلك من بني توجين يَوْمئِذٍ عمر بن عُثْمَان كَبِير الحشم وعامل جبل وانشريس وَمُحَمّد بن سَلامَة بن عَليّ كَبِير بني يدللتن وَصَاحب قلعة تاوغروت وهما مَا هما فِي زناتة إِلَى أشباه لَهما استلحموا فِي هَذِه الْوَقْعَة فحص هَذَا الْيَوْم من جناج دولة بني زيان وحطم مِنْهَا واتصل الْحصار مُدَّة من ثَلَاث سِنِين حَتَّى إِذا كَانَ السَّابِع وَالْعشْرُونَ من رَمَضَان من سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة اقتحم السُّلْطَان أَبُو الْحسن مَدِينَة تلمسان عنْوَة ووقف أَبُو تاشفين رحمه الله عِنْد بَاب قصره فِي جمَاعَة من أَصْحَابه مِنْهُم ولداه عُثْمَان ومسعود ووزيره مُوسَى بن عَليّ ووليه عبد الْحق بن عُثْمَان وَهُوَ الَّذِي كَانَ خرج على السُّلْطَان أبي الرّبيع وَبَايَعَهُ عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب الوطاسي حَسْبَمَا مر فَإِنَّهُ لحق بِهِ بعد تِلْكَ الْوَقْعَة بتلمسان ثمَّ مِنْهَا إِلَى الأندلس ثمَّ حضر انْتِقَاض العزفي بسبتة سنة سِتّ عشرَة كَمَا مر ثمَّ لحق بِأبي بكر الحفصي ثمَّ نزع عَنهُ إِلَى أبي تاشفين وَاسْتمرّ عِنْده إِلَى هَذَا الْيَوْم فشهده فِي جمَاعَة من بنيه وَبني أَخِيه وَكَانُوا أحلاس حَرْب وفتيان كريهة فمانعوا دون الْقصر واستماتوا عَلَيْهِ إِلَى أَن استلحموا وَرفعت رؤوسهم على عَصا الرماح فطيف بهَا وغصت سِكَك الْبَلَد من داخلها وخارجها بالعساكر وكظت أَبْوَابهَا بالزحام حَتَّى لقد كب النَّاس على أذقانهم
وتواقعوا على مساربهم فوطئوا بالحوافر وتراكمت أشلاؤهم مَا بَين الْبَابَيْنِ حَتَّى ضَاقَ المسلك مَا بَين السّقف ورحبة الْبَاب وَانْطَلَقت الْأَيْدِي على الْمنَازل نهبا واكتساحا
وَأما أَبُو تاشفين فَإِنَّهُ قَاتل حَتَّى قتل ابناه عُثْمَان ومسعود أَمَامه وخلصت إِلَيْهِ جراحات فأثخنته وتقبض عَلَيْهِ بعض الفرسان فساقه إِلَى السُّلْطَان فَلَقِيَهُ ابْنه الْأَمِير أَبُو عبد الرَّحْمَن فَأمر بِهِ فَقتل فِي الْحِين واحتز رَأسه وَسخط السُّلْطَان ذَلِك من فعله لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا على توبيخه وتقريعه وَقَالَ ابْن الْخَطِيب وقف أَبُو تاشفين وَبَنوهُ بِإِزَاءِ الْقصر مدافعين عَن أنفسهم وَقَامُوا مقَام الصَّبْر والإستجماع وَصَدقُوا عَن أنفسهم الدفاع إِلَى أَن كوثروا وأعجلتهم ميتَة الْعِزّ عَن شدّ الوثاق وَإِمْكَان الشمات فَكَانَ فِي شَأْنهمْ عِبْرَة رحمهم الله
وخلص السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى الْمَسْجِد الْجَامِع بحاشيته واستدعى شُيُوخ الْفتيا بتلمسان وهما الإمامان الشهيران أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن وَأَبُو مُوسَى عِيسَى ابْنا الإِمَام فخلصوا إِلَيْهِ بعد الْجهد ووعظوه وذكروه بِمَا نَالَ النَّاس من النهب والعيث فَركب لذَلِك بِنَفسِهِ وَسكن النَّاس وَقبض أَيدي الْجند عَن الْفساد وَعَاد إِلَى مُعَسْكَره بِالْبَلَدِ الْجَدِيد وَقد كمل الْفَتْح وَعز النَّصْر وَاسْتولى السُّلْطَان أَبُو الْحسن على تِلْكَ الْإِمَارَة المؤثلة بِمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من نَفِيس الحلى وثمين الذَّخِيرَة وفاخر الْمَتَاع وخطير الْعدة وبديعة الْآلَة وصامت المَال وضروب الرَّقِيق وصنوف الأثاث والماعون وَرفع الْقَتْل عَن بني عبد الواد أعدائه وشفا نَفسه بقتل سلطانهم وَعَفا عَنْهُم وأثبتهم فِي الدِّيوَان وَفرض لَهُم الْعَطاء واستتبعهم على راياتهم ومراكزهم وَجمع كلمة بني واسين من بني مرين وَبني عبد الواد وَبني توجين وَسَائِر زناتة وصاروا عصبا تَحت لوائه وسد بِكُل طَائِفَة مِنْهُم ثغرا من أَعماله فَأنْزل مِنْهُم بقاصية السوس وبلاد غمارة وَأَجَازَ مِنْهُم إِلَى ثغور عمله بالأندلس حامية ومرابطين واندرجوا فِي جملَته واتسع نطاق مَمْلَكَته وَأصْبح أَبُو الْحسن ملك زناتة بعد أَن كَانَ ملك بني مرين وسلطان العدوتين بعد أَن كَانَ سُلْطَان الْمغرب فَقَط {إِن الأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين}
مراسلة السُّلْطَان أبي الْحسن لسلطان مصر وَبَعثه الْمَصَاحِف من خطه إِلَى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة شرفها الله
كَانَ للسُّلْطَان أبي الْحسن مَذْهَب وَرَأى فِي ولَايَة مُلُوك الْمشرق والمكلف بالمعاهد الشَّرِيفَة اقْتِدَاء فِي ذَلِك بِعَمِّهِ يُوسُف بن يَعْقُوب وَغَيره من سلفه وضاعف ذَلِك لَدَيْهِ متين ديانته ورفيع همته وَلما قضى من أَمر تلمسان مَا قضى وَاسْتولى على المغربين خَاطب لحينه صَاحب مصر وَالشَّام والحجاز الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وعرفه بِالْفَتْح وارتفاع الْعَوَائِق عَن ركب الْحَاج فِي سابلتهم وَكَانَ سفيره فِي ذَلِك فَارس بن مَيْمُون بن وردار وَعَاد بِجَوَاب الْكتاب وَتَقْرِير الْمَوَدَّة بَين الْخلف كَمَا كَانَت بَين السّلف فأجمع السُّلْطَان أَبُو الْحسن حِينَئِذٍ على كتب نُسْخَة عتيقة من الْمُصحف الْكَرِيم بِخَط يَده ليوقفها بِالْحرم الشريف حرم مَكَّة قربَة إِلَى الله تَعَالَى وابتغاء للمثوبة فانتسخها بِيَدِهِ وَجمع الوراقين لتنميقها وتذهيبها والقراء لضبطها وتهذيبها وصنع لَهَا وعَاء مؤلفا من الآبنوس والعاج والصندل فائق الصَّنْعَة وَغشيَ بصفائح الذَّهَب ورصع بالجوهر والياقوت وَاتخذ لَهُ أصونة الْجلد المحكمة الصَّنْعَة المرقوم أديمها بخطوط الذَّهَب وَمن فَوْقهَا غلائف الْحَرِير والديباج وأغشية الْكَتَّان وَأخرج من خزائنه أملا عينهَا لشراء الضّيَاع بالمشرق لتَكون وَقفا على الْقُرَّاء فِيهَا وأوفد على الْملك النَّاصِر خَواص مَجْلِسه وكبار أهل دولته مثل عريف بني حيى أَمِير بني زغبة من عرب بني هِلَال وَمثل السَّابِق الْمُقدم فِي بساطه على كل خَالِصَة عَطِيَّة بن مهلهل بن يحيى كَبِير أَخْوَاله من عرب الْخَلْط وَبعث كَاتبه أَبَا الْفضل بن مُحَمَّد بن أبي مَدين وعريف الوزعة بِبَابِهِ الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن قَاسم المزوار
واحتفل فِي الْهَدِيَّة للسُّلْطَان صَاحب مصر احتفالا تحدث النَّاس بِهِ دهرا قَالَ ابْن خلدون وقفت على برنامج الْهَدِيَّة بِخَط أبي الْفضل بن أبي مَدين الرَّسُول الْمَذْكُور ووعيته ثمَّ أنسيته وَذكر لي بعض قهارمة الدَّار أَنه كَانَ فِيهَا خَمْسمِائَة من
تطييبا لنفوسهم وَقَالَ إِنَّمَا تتعاطون التِّجَارَة لتنموا أَمْوَالكُم وتربحوا فَلَا يَنْبَغِي أَن ننقصكم من ربحكم شَيْئا فَأَما نَحن فربحنا هُوَ مَا أنفقهُ ولدنَا قي سَبِيل الله
وَقد مدح هَذَا النجل الأرضي جمَاعَة من أدباء مصر وَغَيرهَا بقصائد نفيسة وَمن جملَة من مدحه الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم عبد الْقَادِر الريَاحي التّونسِيّ فَإِنَّهُ بعث بقصيدة رائقة إِلَى وَالِده السُّلْطَان المرحوم يمدح النجل الْمَذْكُور ويهنئه بالقدوم وألم فِيهَا بِذكر
السُّلْطَان فَأَعْجَبتهُ وهزت من عطفه وَأمر كتاب دولته أَن يَأْخُذُوا مِنْهَا نسخا وَشَرحهَا بَعضهم وَنَصهَا
(هذي المنى فأنعم بِطيب وصال
…
فلطالما أضناك طول مطال)
(مَاذَا وَكم أوليتني يَا مخبري
…
بقدومه من منَّة ونوالي)
(بشرتني بحياتي الْعُظْمَى الَّتِي
…
قد كنت أحسبها حَدِيث خيال)
(بشرتني بِابْن الرَّسُول لَو إِنَّمَا
…
روحي ملكت بذلتها فِي الْحَال)
(بشرتني بسلالة الْخُلَفَاء من
…
أمداحهم تثنى بِكُل مقَال)
(من حبهم فرض الْكتاب أما ترى
…
إِلَّا الْمَوَدَّة حِين يَتْلُو التَّالِي)
(من ضمهم شَمل العباء وأذهبوا
…
رجسا فيالك من مقَام عالي)
(من قومُوا أود المكارم بعد مَا
…
شادوا الْهدى بمعارف ونصال)
(لولاهم كَانَ الورى فِي ظلمَة
…
مدت غياهبها بِكُل ضلال)
(آباءك الْأَطْهَار فاقصد يَا أَبَا
…
إِسْحَاق يَا نجل المليك العالي)
(يَا حبه وَصفيه من قومه
…
وخياره من سَائِر الأنجال)
(لَو لم تكن أَهلا لصفو وداده
…
لم يستنبك لجدك المفضال)
(لَكِن توسم فِيك كل فَضِيلَة
…
فحبى يَمِينك راية الإقبال)
(وَأقَام جودك بل وجودك زَاد من
…
يَبْغِي بِبَيْت الله حط رحال)
(أَنْت استطاعتهم فَمَا عذر الَّذِي
…
ترك الزِّيَارَة خيفة الإقلال)
(وَبِك المشاعر أطربت طرب الَّتِي
…
وجدت على وَله فقيد فصَال)
(ووصلتها رحما هُنَاكَ قطيعة
…
دهرا وَلم تبلل بِهِ ببلال)
(وتأنس الحرمان مِنْك بطلعة
…
أغنتهما عَن وابل هطال)
(كرم لكم أدريه يَوْم أفاضه
…
عني سُلَيْمَان باي سِجَال)
(وهب الألوف وَكَانَ أكْرم منزل
…
يسلى الْغَرِيب ببره المتوال)
(يَوْم التشرف لي بلثم يَمِينه
…
وتمتعي من وَجهه بِجَمَال)
(وتلذذي بخطابه المعسول إِذْ
…
حفت بِهِ للدرس أَي رجال)
(لم أنسه يَوْمًا حسبت نعيمه
…
بلذائذ الجنات ضرب مِثَال)
(عجبا لَهُ يحيي الْقُلُوب بِعِلْمِهِ
…
وَيُمِيت جند الْفقر مِنْهُ بِمَال)
(وَإِذا تقلد للوغي فحسامه
…
تعنو الرّقاب لَهُ بِدُونِ قتال)
(تتلوه بِالْفَتْح الْمُبين عَسَاكِر
…
قد أرهفت بالنصر حد نصال)
(تخشى الْمُلُوك مقَامه ولذكره
…
رعْبًا تطير فرائص الْأَبْطَال)
(وينال آمله بخفض جنَاحه
…
ماليس يخْطر قطّ مِنْهُ ببال)
(حَتَّى سعى لصفي منهله الَّذِي
…
يسْعَى لمروته ذَوُو الأثقال)
(وَأَتَتْ لمغربه الشريف مَشَارِق
…
وَالشَّمْس تغرب لاقْتِضَاء كَمَال)
(لما تكدر صفوها بضلاله
…
جَاءَتْهُ كَيْمَا ترتوي بزلال)
(وَمَتى تخلف عَاجز فبقلبه
…
يسْعَى لفعل شَعَائِر الإجلال)
(أُمْنِية وَقعت أَشرت لذكرها
…
فِي مدحه قدما بِصدق مقَال)
(تهوى الْمَشَارِق أَن تكون مغاربا
…
لتنال من جدواه كل منال)
(يَا فَخر دين الله مِنْهُ بناصر
…
وسعادة الدُّنْيَا بِهِ من وَال)
(لَا تفتخر فاس وَلَا مراكش
…
بولائه كل الْأَنَام موَالٍ)
(أَو لَيْسَ فِي كل الْبِقَاع ثَنَاؤُهُ
…
ورد البكور وسحة الآصال)
(أَو لم يشد للدّين وَالْعُلَمَاء
…
والأشراف والصلحاء أَي جلال)
(أَو لم يعم بجوده أقطارها
…
لَا فرق بَين جنوبها وشمال)
(أَو لم يسر ركبانها بمحاسن
…
ضاءت لَهَا سرج بجنح لَيَال)
(أَو لَيْسَ أَحْيَا سنة العمرين فِي
…
زمن إِلَى بدع الْهوى ميال)
(شيم يهز الراسيات سماعهَا
…
ويعجن فِي أنف الزَّمَان غوال)
(أَوْصَاف والدك الإِمَام المرتضى
…
للدّين وَالدُّنْيَا بِحسن خلال)
(ذَاك الرّبيع أَبُو الرّبيع وَمن بِهِ
…
حيى الْهدى وَشَرَائِع الأفضال)
(كل الْكَمَال لَهُ وَأَنت مقره
…
وَالْفرع عين الأَصْل عِنْد مَال)
(يَا ابْن المليك ابْن المليك ابْن المليك
…
ابْن المليك سلالة الْأَقْيَال)
(أنسيتم ذكر العباسية الأولى
…
زَالُوا وَمَا زَالُوا بِعَين جلال)
(لكم الفخار بِذَاتِهِ وسواكم
…
مستمسك من فخركم بظلال)
(ولي الفخار بِأَن نسجت مديحكم
…
حللا تَجِد وكل شَيْء بَال)
(أملي مَعَانِيهَا على ودادكم
…
فَجرى بِهِ طبع كَمَا السلسال)
(وَلَو أنني حاولت مدح سواكم
…
عقل القريحة عَنهُ أَي عقال)
(فَكَأَنَّمَا طبعي شرِيف حَيْثُمَا
…
لَا يَهْتَدِي لسوى مديح الْآل)
(أَو قد درى أَن المديح تعرض
…
وسواكم لَا يرتضي لسؤال)
(أبقاكم كهفا يلاذ بمجدكم
…
مختاركم لإنالة الآمال))
(وأدام لِلْإِسْلَامِ والدك الَّذِي
…
هُوَ رَحْمَة وسعت بِغَيْر جِدَال)
(وَعَلَيْكُم وعَلى الَّذِي يهواكم
…
أزكى الرضى من حَضْرَة المتعال)
(مَا دَامَ ذكركُمْ بِكُل صحيفَة
…
تبعا لِأَحْمَد سيد الْإِرْسَال)
(صلى عَلَيْهِ مُسلما رب الورى
…
وعَلى مقدم حزبه والتالي)
وعزز هَذِه القصيدة بِمِثْلِهَا بحرا وقافية ورويا الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب أَبُو الْفَيْض حمدون بن الْحَاج الفاسي يَقُول فِي مطْلعهَا
(بِشِرَاك إِبْرَاهِيم بالإقبال
…
إقبال عز لم يكن بالبال)
وَهِي طَوِيلَة تركناها اختصارا وَفِي هَذِه السّنة توفّي الشريف الْبركَة الْمولى عَليّ ابْن الْمولى أَحْمد الوزاني وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء آخر يَوْم ربيع الأول سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف
غَزْو السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بِلَاد الرِّيف وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما كَانَت سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف بلغ السُّلْطَان أَن قبائل الرِّيف من قلعية وَغَيرهم صَارُوا يبيعون الزَّرْع لِلنَّصَارَى ويسوقونه من بِلَادهمْ فعقد لعامله على الثغور أبي عبد الله مُحَمَّد السلاوي على جَيش كثيف وأنفذه إِلَيْهِم
(أمستعبرا حَولي رويدك إِنَّنِي
…
ضريح سعيد حل فِيهِ سعيد)
(هُوَ الْعلوِي الْهَاشِمِي مُحَمَّد
…
إِمَام لَهُ فِي الْملك سعي حميد)
(أَبوهُ أَبُو زيد وَقدس ذكره
…
فقد كَانَ يُبْدِي فِي العلى وَيُعِيد)
(ترحم عَلَيْهِ وَاعْتبر بمصابه
…
فعقد نَفِيس قد أُصِيب فريد)
(وَمن رام تَارِيخ الْوَفَاة فَقل لَهُ
…
بشعرك أرخ مَا عَلَيْهِ مزِيد)
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله ومآثره وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله متقيا لله تَعَالَى بانيا أمره على الشَّرْع لَا يشذ عَنهُ طرفَة عين حَتَّى أَنه لما عزم على بِنَاء دَاره الَّتِي برباط الْفَتْح قَامَ جمَاعَة من أهل الْبَلَد يطْلبُونَ مِنْهُ النصفة فِي جناتهم الَّتِي هُنَالك فأذعن رحمه الله لإعمال الشَّرْع مَعَهم واستناب وَكيلا عَنهُ واستنابوا هم وكيلهم أَيْضا وتحاكموا لَدَى قَاضِي سلا الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد بن مَنْصُور ثمَّ انفصلت الْقَضِيَّة عَن ضرب من الصُّلْح بِأَن أَعْطَاهُم أَثمَان جناتهم أَو بَعْضهَا وذهبوا بِسَلام وَكَانَ رحمه الله حازما فِي أمره عالي الهمة راميا بهَا الْغَرَض الْأَقْصَى إِلَّا أَن الزَّمَان لم يساعده كل المساعدة فَكَانَت همته أجل من دهره وَكَانَ ذَا سياسة وسكينة وتأن فِي الْأُمُور وتبصر بالعواقب كثير الْحيَاء بعيد الْغَضَب سريع الرضى مشفقا على الرّعية متوقفا فِي الدِّمَاء لَا يزايل خوف الله قلبه رحمه الله ونفعنا بِهِ وبأسلافه وَله آثَار بالمغرب مِنْهَا مَا خلده أَيَّام خِلَافَته فِي حَيَاة وَالِده وَمِنْهَا مَا فعله بعد ولَايَته
فَمن آثاره فِي أَيَّام أَبِيه كَمَا قَالَ أكنسوس إِجْرَاء الْأَنْهَار وتفجير الْعُيُون الَّتِي عجز الْمُلُوك المتقدمون عَنْهَا وتكملة غرس آجدال بِحَضْرَة مراكش وَكَانَ فِي زمَان الصَّيف يَنَالهُ الجدب من قلَّة المَاء لِأَن بركه الَّتِي كَانَ يختزن بهَا المَاء كَانَت قد تعطلت بامتلائها بِالتُّرَابِ والطين الَّذِي
تجلبه السُّيُول إِلَيْهَا وَأَعْظَمهَا الْبركَة الْكُبْرَى الَّتِي بدار الهناء وَكَانَ يُقَال لَهَا الْبَحْر الْأَصْغَر وطولها اثْنَتَا عشرَة مائَة قدم وعرضها تِسْعمائَة قدم حَسْبَمَا أخبر من قاسها وَكَانَ تربيعها بِمَنْزِلَة سور قَصَبَة فجَاء من بني فِي وَسطهَا قَرْيَة بدورها وأزقتها وأسواقها فجَاء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله أَيَّام خِلَافَته فَأمر بِإِخْرَاج مَا فِي تِلْكَ البرك والصهاريج كلهَا وتنقيتها من الطيون المتحجرة فَاجْتمع على ذَلِك عَالم من النَّاس فكنسوها وعادت إِلَى حَالهَا الَّذِي بنيت لأَجله وَهُوَ اختزان المَاء لوقت المصيف وَبِذَلِك كمل المُرَاد من آجدال وَصَارَ آمنا من الْعَطش والأمحال وَمن ذَلِك أَيْضا إحْيَاء عين أبي عكاز خَارج بَاب الطبول من مراكش وَكَانَت لَهَا بركَة بائدة على الْوَصْف الَّذِي ذكرنَا فَعمد إِلَيْهَا سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله وفجر لَهَا عينا ثرة وَمَاء غدقا وأجراه إِلَى الْبركَة الْمَذْكُورَة بعد أَن أَمر بتنقيتها وإصلاحها فَعَاد ذَلِك الْبَسِيط الَّذِي حولهَا مزارع نفاعة تغني الزارعين وتبهج الناظرين وَبنى رحمه الله حولهَا قلعة يأوي إِلَيْهَا الأكرة والحراثون بأنعامهم ومواشيهم وَاتخذ هُنَالك من إناث الْخَيل الْمعدة للنتاج عددا كثيرا وَمن ذَلِك إحْيَاء عين المنارة وبركتها الْعُظْمَى الَّتِي تقرب من الْبَحْر الْأَصْغَر بدار الهناء وَكَانَت قد عطلت مُنْذُ زمَان فقيض الله لَهَا هَذَا السُّلْطَان فَجمع الْأَيْدِي عَلَيْهَا حَتَّى أخرج مَا فِي جوفها من جبال الطين وَأصْلح مَا تشعث من حيطانها وأجرى إِلَيْهَا الْعُيُون والأنهار وَأمر بغرس مَا حولهَا من الفضاء بأنواع الْأَشْجَار وضاهى بهَا جنَّة آجدال وَمن ذَلِك أَيْضا إِجْرَاء النَّهر الْمُسَمّى بتاركي المستمد من وَادي نَفِيس فَإِنَّهُ ضاهى بِهِ النَّهر الْقَدِيم الَّذِي هُنَاكَ وَهَذَا النَّهر الْجَدِيد أَنْفَع مِنْهُ وأوسع أحيى الله بِهِ تِلْكَ البسائط الَّتِي بَين مراكش ووادي نَفِيس وَمن ذَلِك أَيْضا إِجْرَاء النَّهر الَّذِي جلبه من تاستاوت إِلَى الْبَسِيط الَّذِي بَين بِلَاد زمران والرحامنة والسراغنة وَهُوَ الْمُسَمّى بفيطوط فَصَارَ ذَلِك كُله رياضا مخضرة وبساتين
ذَات أزهار مفترة وَبنى رحمه الله فِيهَا قَصَبَة عامرة يأوي إِلَيْهَا الوكلاء والفلاحون وَصَارَت آهلة بعد أَن كَانَت بائدة غامرة
وَمن آثاره بعد ولَايَته أَمر الْمُؤمنِينَ دَاره الْكُبْرَى بآجدال رِبَاط الْفَتْح والسور الْكَبِير الْمُحِيط ببسيطها وجلب المَاء إِلَيْهَا بعد أَن صير عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَة وأحيى جَامع السّنة قربهَا وَكَانَ بائدا يعشش فِيهِ الصدى والبوم وَأقَام فِيهِ الصَّلَوَات الْخمس وَالْخطْبَة كل جُمُعَة وَأَحْيَا الْمَسْجِد الصَّغِير هُنَالك الْمُسَمّى بِمَسْجِد أهل فاس واعتنى بِهِ وزخرف سقوفه وانتهج الطَّرِيق من الدَّار الْمَذْكُورَة إِلَى الْوَادي أَسْفَل من حسان تسهيلا على الْمَارَّة وتقريبا عَلَيْهِم وَمِنْهَا أَنه نقل طَائِفَة من الْجَيْش السُّوسِي الَّذِي بالمنشية وأوطنها حول الدَّار الْمَذْكُورَة بآجدال فاستطابوا الْمقَام هُنَاكَ وَحسنت حَالهم وانعمرت بهم تِلْكَ النَّاحِيَة وهم الْآن بِهَذَا الْحَال وَمِنْهَا بِالدَّار الْبَيْضَاء الْمَسْجِد الْجَامِع بِالسوقِ وَكَانَ الصائر عَلَيْهِ من أحباس الْمَسْجِد الْقَدِيم وَإِنَّمَا السُّلْطَان رحمه الله أذن فِي بنائِهِ بِإِشَارَة عاملها يَوْمئِذٍ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري وَمِنْهَا الْحمام الْقَدِيم الَّذِي بهَا وَكَانَ الصائر عَلَيْهِ من بَيت المَال وَأصْلح رحمه الله أسوار الجديدة وأبراجها واعتنى بشأن الثغور وَبعث من نوابه من يتفقد أحوالها وَمِنْهَا بمراكش دَار فابريكة السكر بآجدال مِنْهَا صير عَلَيْهَا أَمْوَالًا طائلة وَجَاءَت على عمل متقن وهيئة ضخمة إِلَّا أَنَّهَا الْيَوْم معطلة لقلَّة الْمَادَّة وَمِنْهَا دَار فابريكة تزديج البارود بِالْمحل الْمَعْرُوف بالسجينة من مراكش أَيْضا وَمن ذَلِك برج الفنار الَّذِي على سَاحل الْبَحْر بأشقار قرب طنجة يسرج فِيهِ ضوء كثير يظْهر للسيارة فِي الْبَحْر لَيْلًا من مَسَافَة بعيدَة وصير عَلَيْهِ مَالا لَهُ بَال وَكَانَت المراكب تنشب بذلك السَّاحِل كثيرا إِذْ لم يكن لَهَا عَلامَة تهتدي بهَا فِي الْبَحْر وَلما اتخذ السُّلْطَان رحمه الله هَذَا الفنار أمنت من تِلْكَ الآفة وَله رحمه الله آثَار كَثِيرَة يطول ذكرهَا جعلهَا الله فِي ميزَان حَسَنَاته وَرفع بهَا فِي عليين درجاته