الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الصَّمد مِنْهُم وَكَانَت هَذِه الْمَرْأَة قد ملكتهم وغلبت عَلَيْهِم بقومها ورجالها وَكَانَ لَهَا بنُون عشرَة فاستفحل أمرهَا بهم وَلما نزل عَلَيْهَا الجزار الْمَذْكُور وانتسب لَهَا إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن قَامَت بأَمْره وشمرت عزائمها لإجارته وحملت قَومهَا على طَاعَته وشاع فِي النَّاس خَبره فَمن مُصدق وَمن مكذب وسرب السُّلْطَان أَبُو الْحسن الْأَمْوَال فِي قَومهَا وبنيها على إِسْلَامه إِلَيْهِ فَأَبت ثمَّ نمى إِلَيْهَا الْخَبَر بكذبه وتمويهه فنبذت إِلَيْهِ عَهده وَخرج عَنْهَا إِلَى بِلَاد الْعَرَب فلحق بالذواودة أُمَرَاء ريَاح من بني هِلَال وَنزل على سيدهم يَعْقُوب بن عَليّ وانتسب لَهُ فِي مصل ذَلِك فأجاروه إِن صدق نسبه وأوعز السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى صهره أبي بكر الحفصي فِي شَأْن الجزار فَبعث الحفصي إِلَى يَعْقُوب بن عَليّ فِي ذَلِك فأشخصه إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن مَعَ بعض حَاشِيَته فلحق بِهِ بمكانه بسبتة يُرِيد الْجِهَاد فامتحنه وقطعه من خلاف وانحسم داؤه وَبَقِي الْمغرب تَحت جراية من الدولة إِلَى أَن هلك فِي بعض السنين وَأما الْأَمِير أَبُو عبد الرَّحْمَن فَإِنَّهُ لما سجن بوجدة بَقِي هُنَالك إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فَوَثَبَ ذَات يَوْم بالسجان فَقتله واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن فأنفذ حَاجِبه عَلان بن مُحَمَّد فَقضى عَلَيْهِ رحم الله الْجَمِيع
أَخْبَار السُّلْطَان أبي الْحسن فِي الْجِهَاد وَمَا كَانَ من وقْعَة طريف الَّتِي محص الله فِيهَا الْمُسلمين وَغير ذَلِك
لما فرغ السُّلْطَان أَبُو الْحسن من شَأْن عدوه وعلت على الْأَيْدِي يَده وَانْفَسَحَ نطاق ملكه دَعَتْهُ همته إِلَى الْجِهَاد وَكَانَ كلفا بِهِ فأوعز إِلَى ابْنه الْأَمِير أبي مَالك أَمِير الثغور الأندلسية سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة بِالدُّخُولِ إِلَى دَار الْحَرْب وجهز إِلَيْهِ العساكر من حَضرته وأنفذ إِلَيْهِ الوزراء فشخص أَبُو مَالك غازيا وتوغل فِي بِلَاد النَّصْرَانِيَّة واكتسحها وَخرج بِالسَّبْيِ والغنائم إِلَى أدنى صدر من أَرضهم وأناخ بهَا فاتصل بِهِ الْخَبَر أَن النَّصَارَى قد جمعُوا لَهُ وَأَنَّهُمْ
أغذو السّير فِي اتِّبَاعه فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْمَلأ بِالْخرُوجِ من أَرضهم وعبور الْوَادي الَّذِي كَانَ تخما بَين أَرض الْمُسلمين وَدَار الْحَرْب ويتحيز إِلَى مدن الْمُسلمين فَيمْتَنع بهَا فلج فِي إبايته وصمم على التَّعْرِيس وَكَانَ قرما ثبتا إِلَّا أَنه غير بَصِير بِالْحَرْبِ لصِغَر سنه فصحبتهم عَسَاكِر النَّصْرَانِيَّة فِي مضاجعهم قبل أَن يركبُوا وخالطوهم فِي بياتهم وأدركوا الْأَمِير أَبَا مَالك بِالْأَرْضِ قبل أَن يَسْتَوِي على فرسه فجدلوه واستلحموا الْكثير من قومه واحتووا على المعسكر بِمَا فِيهِ من أَمْوَال الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ وَرَجَعُوا على اعقابهم واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي الْحسن فتفجع لهلاك ابْنه واسترحم لَهُ واحتسب عِنْد الله أجره ثمَّ أنفذ وزراءه إِلَى سواحل الْمغرب لتجهيز الأساطيل وَفتح ديوَان الْعَطاء وَعرض الْجنُود وأزاح عللهم واستنفر أهل الْمغرب كَافَّة ثمَّ ارتحل إِلَى سبتة ليباشر أَحْوَال الْجِهَاد وتسامعت بِهِ أُمَم النَّصْرَانِيَّة فَاسْتَعدوا للدفاع وَأخرج الطاغية أسطوله إِلَى الزقاق ليمنع السُّلْطَان من الْإِجَازَة واستحث السُّلْطَان أساطيل الْمُسلمين من مراسي الْمغرب وَبعث إِلَى أصهاره الحفصيين بتجهيز أسطولهم إِلَيْهِ فعقدوا عَلَيْهِ لزيد بن فَرِحُونَ قَائِد أسطول بجاية ووافى سبتة فِي سِتَّة عشر أسطولا من أساطيل إفريقية كَانَ فِيهَا من طرابلس وَقَابِس وجربة وتونس وبونة وبجاية وتوافت أساطيل المغربين بمرسى سبتة تناهز الْمِائَة وَعقد السُّلْطَان عَلَيْهَا لمُحَمد بن عَليّ العزفي الَّذِي كَانَ صَاحب سبتة يَوْم فتحهَا أَيَّام السُّلْطَان أبي سعيد وَأمره بمناجزة أسطول النَّصَارَى بالزقاق وَقد تَكَامل عديدهم وعدتهم فاستلأموا وتظاهروا فِي السِّلَاح وزحفوا إِلَى أسطول النَّصَارَى وتواقفوا مَلِيًّا ثمَّ قربوا الأساطيل بَعْضهَا من بعض وقرنوها للمصاف فَلم يمض إِلَّا كلا وَلَا حَتَّى هبت ريح النَّصْر وأظفر الله الْمُسلمين
بعدوهم وخالطوهم فِي أساطيلهم واستلحموهم هبرا بِالسُّيُوفِ وطعنا بِالرِّمَاحِ وألقوا أشلاءهم فِي اليم وَقتلُوا قائدهم الملند وَاسْتَاقُوا أساطيلهم مجنوبة إِلَى مرسى سبتة فبرز النَّاس لمشاهدتها وطيف بِكَثِير من رؤوسهم فِي جَوَانِب الْبَلَد ونظمت أصفاد الأسرى بدار الْإِنْشَاء وَعظم الْفَتْح وَجلسَ السُّلْطَان للتهنئة وَأنْشد الشُّعَرَاء بَين يَدَيْهِ وَكَانَ ذَلِك يَوْم السبت سادس شَوَّال سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة فَكَانَ من أعز أَيَّام الْإِسْلَام ثمَّ شرع السُّلْطَان أَبُو الْحسن فِي إجَازَة العساكر من المتطوعة والمرتزقة وانتظمت الأساطيل سلسلة وَاحِدَة من العدوة إِلَى العدوة وَلما تكاملت العساكر بالعبور وَكَانَت نَحْو سِتِّينَ ألفا أجازهو فِي أسطوله مَعَ خاصته وحشمه آخر سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة وَنزل بِسَاحَة طريف وأناخ عَلَيْهَا ثَالِث محرم من السّنة بعْدهَا وَشرع فِي منازلتها ووافاه سُلْطَان الأندلس أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر فِي عَسْكَر الأندلس من غزَاة بني مرين وحامية الثغور ورجالة البدو فعسكروا حذاء مُعَسْكَره وَأَحَاطُوا بطريف نطاقا وَاحِدًا وأنزلوا بهَا أَنْوَاع الْقِتَال ونصبوا عَلَيْهَا الْآلَات وجهز الطاغية أسطولا آخر اعْترض بِهِ الزقاق لقطع الْمرَافِق عَن المعسكر وَطَالَ مقَام الْمُسلمين بمكانهم حول طريف ففنيت أَزْوَادهم وَقلت العلوفات فوهن الظّهْر واختلت أَحْوَالهم ثمَّ احتشد الطاغية أُمَم النَّصْرَانِيَّة وَظَاهره البرتقال صَاحب أشبونة وَغرب الأندلس وزحفوا إِلَى الْمُسلمين لسِتَّة أشهر من نزولهم على طريف وَلما قرب الطاغية من معسكر الْمُسلمين سرب إِلَى طريف جَيْشًا من النَّصَارَى أكمنه بهَا إِلَى وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ فَدَخَلُوهَا لَيْلًا على حِين غَفلَة من العسس الَّذين أرصدوا لَهُم وأحسوا بهم آخر اللَّيْل فثاروا بهم من مراصدهم وأدركوا أَعْقَابهم قبل دُخُول الْبَلَد فَقتلُوا مِنْهُم عددا وَقد نجا أَكْثَرهم فلبسوا على السُّلْطَان أَنه لم يدْخل الْبَلَد سواهُم حذرا من سطوته ثمَّ زحف الطاغية من الْغَد فِي جموعه إِلَى الْمُسلمين وعبأ السُّلْطَان مواكبه صُفُوفا وتزاحفوا وَلما نشبت الْحَرْب برز الْجَيْش الكمين من الْبَلَد وَهُوَ الَّذِي
دخل لَيْلًا وخالفوا الْمُسلمين إِلَى معسكرهم وعمدوا إِلَى فسطاط السُّلْطَان فدافعهم عَنهُ الناشبة الَّذين كَانُوا على حراسته فاستلحموهم لقلتهم ثمَّ دافعهم النِّسَاء عَن أنفسهم فقتلوهن كَذَلِك وخلصوا إِلَى حظايا السُّلْطَان مِنْهُنَّ عَائِشَة بنت عَمه أبي بكر بن يَعْقُوب بن عبد الْحق وَفَاطِمَة بنت السُّلْطَان أبي بكر بن أبي زَكَرِيَّاء الحفصي وَغَيرهمَا من حظاياه فقتلوهن واستلبوهن ومثلوا بِهن وانتهبوا سَائِر الْفسْطَاط وأضرموا المعسكر نَارا ثمَّ أحس الْمُسلمُونَ بِمَا وَرَاءَهُمْ فِي معسكرهم فاختل مَصَافهمْ وَارْتَدوا على أَعْقَابهم بعد أَن كَانَ تاشفين ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن صمم فِي طَائِفَة من قومه وحاشيته حَتَّى خالطهم فِي صفوفهم فأحاطوا بِهِ وتقبضوا عَلَيْهِ وَعظم الْمُصَاب بأسره وَكَانَ الْخطب على الْإِسْلَام قَلما فجع بِمثلِهِ وَذَلِكَ ضحوة يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَولى السُّلْطَان أَبُو الْحسن متحيزا إِلَى فِئَة الْمُسلمين وَاسْتشْهدَ كثير من الْغُزَاة وَتقدم الطاغية حَتَّى انْتهى إِلَى فسطاط السُّلْطَان من الْمحلة فَأنْكر قتل النِّسَاء والولدان وَكَانَ ذَلِك مُنْتَهى أَثَره ثمَّ انكفأ رَاجعا إِلَى بِلَاده وَلحق ابْن الْأَحْمَر بغرناطة وخلص السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى الجزيرة الخضراء ثمَّ مِنْهَا إِلَى جبل الْفَتْح ثمَّ ركب الأسطول إِلَى سبتة فِي لَيْلَة غده ومحص الله الْمُسلمين وأجزل ثوابهم
اسْتِيلَاء الْعَدو على الجزيرة الخضراء
لما رَجَعَ الطاغية من طريف استأسد على الْمُسلمين بالأندلس وطمع فِي التهامهم وَجمع عَسَاكِر النَّصْرَانِيَّة ونازل أَولا قلعة بني سعيد ثغر غرناطة وعَلى مرحلة مِنْهَا وَجمع الْآلَات وَالْأَيْدِي على حصارها وَأخذ بمخنقها فَأَصَابَهُمْ الْجهد من الْعَطش فنزلوا على حِكْمَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وأدال الله الطّيب مِنْهَا بالخبيث وَانْصَرف الطاغية إِلَى بِلَاده وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن لما أجَاز إِلَى سبتة أَخذ نَفسه بِالْعودِ إِلَى الْجِهَاد لرجع الكرة فَأرْسل فِي الْمَدَائِن حاشرين وَأخرج قواده إِلَى سواحل الْمغرب لتجهيز الأساطيل فتكامل
وتفاحش حَتَّى أصَاب النَّاس مِنْهُ أَمر عَظِيم وَفِي هَذَا الوباء توفّي الشَّيْخ المرابط الْبركَة سَيِّدي الْعَرَبِيّ ابْن الْوَلِيّ الْأَشْهر سَيِّدي الْمُعْطى بن الصَّالح الشرقاوي وضريحه شهير بِأبي الْجَعْد رحمه الله ونفعنا بِهِ وأسلافه آمين
وقْعَة ظيان وَمَا جرى فِيهَا على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله
لما وصل السُّلْطَان رحمه الله إِلَى مراكش سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف أَقَامَ بهَا إِلَى رَجَب مِنْهَا ثمَّ أَخذ فِي الاستعداد لغزو برابرة فازاز وهم آيت ومالو بطن من صنهاجة وَعرفت الْوَقْعَة بوقعة ظيان فَخذ مِنْهُم فحشد السُّلْطَان رحمه الله عرب الْحَوْز كلهم وَكتب إِلَى العبيد بمكناسة يَأْمُرهُم أَن يوافوه بتادلا وَكتب إِلَى وَلَده وخليفته بفاس الْمولى إِبْرَاهِيم أَن يوافيه بهَا بِجَيْش الودايا وشراقة وعرب الغرب وبرابرته وعسكر الثغور وَكَانَ النَّاس يَوْمئِذٍ فِي شدَّة من هَذَا الوباء الَّذِي عَم الحواضر والبوادي وَكَانَ السُّلْطَان لما أَخذ فِي استنفار هَذِه الْقَبَائِل لَا علم لَهُ بتفاحش الوباء بالمغرب وَكَانَ الْوَاجِب على ابْن السُّلْطَان أَن يعلم أَبَاهُ بِمَا النَّاس فِيهِ من فتْنَة الوباء فيعفيهم من الْغَزْو أَو يُؤَخِّرهُ إِلَى يَوْم مَا فَجمع ولد السُّلْطَان الجموع وجلهم كَارِه وَسَار لميعاد أَبِيه فوافاه بتادلا فَاجْتمع للسُّلْطَان فِيمَا يُقَال من الجيوش نَحْو سِتِّينَ ألفا وزحف إِلَى البربر فَانْتهى إِلَى بسيط آدخسان وَبهَا مزارع البربر وفدنها فَأرْسل السُّلْطَان الجيوش فِي تِلْكَ الزروع وَكَانَت شَيْئا كثيرا فَأتوا عَلَيْهَا وَبعث البربر إِلَيْهِ بنسائهم وولدانهم للشفاعة وَأَن يدفعوا للسُّلْطَان كل مَا يَأْمُرهُم بِهِ من المَال وينصرف عَنْهُم فَأبى وزحف إِلَيْهِم فَقَاتلهُمْ يَوْمًا إِلَى اللَّيْل وَلَقَد أَخْبرنِي من حضر الْوَقْعَة أَن الْمُقَاتلَة كَانَت فِي هَذَا الْيَوْم من عرب الغرب وَمن برابرة زمور وجروان وآيت أدراسن إِلَّا أَن الْقَتْل استحر فِي الْعَرَب دون البربر وَذَلِكَ أَن كَبِير زمور الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي دس إِلَى
ظيان بأنما نَحن وَأَنْتُم وَاحِد فَإِذا كَانَ اللِّقَاء فَلَا ترمونا وَلَا نرميكم إِلَّا بالبارود وَحده وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان لما قدمهم لِلْقِتَالِ فِي أول يَوْم مِنْهُ وَأخر عرب الْحَوْز استرابوا بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَن يصدم بَعضهم بِبَعْض وتسلم لَهُ الْعَرَب فَفعل ابْن الْغَازِي مَا فعل وَلما رَاح مقاتلة الْعَرَب مَعَ الْعشي أخبروا السُّلْطَان بِأَن هَؤُلَاءِ البربر الَّذين مَعَه لَا أَمَان فيهم وَإِنَّمَا ظلوا يترامون بالبارود لَا غير وَلأَجل ذَلِك قد هلك من إِخْوَاننَا كثير وَلم يهْلك مِنْهُم أحد فأسرها السُّلْطَان فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم وَلما كَانَ الْغَد وَركب النَّاس لِلْقِتَالِ أرسل إِلَى البربر أَن لَا يركب مِنْهُم أحد وَقَالَ لَهُم إِنِّي أردْت أَن أجرب الْعَرَب الْيَوْم وأختبر فائدتهم فأظهروا الطَّاعَة وَتقدم الْعَرَب إِلَى الْقِتَال وَأقَام البربر فِي أخبيتهم إِلَى منتصف النَّهَار ثمَّ ركبُوا خيولهم وتسابقوا إِلَيْهَا عَن آخِرهم قَالَ الْمخبر بِهَذَا الْخَبَر شاهدتهم سَاعَة ركبُوا فَكنت لَا ألتفت إِلَى جِهَة إِلَّا رَأَيْتهَا حَمْرَاء من كَثْرَة سروجهم الَّتِي كَانَت على ظُهُور الْخَيل إِذْ ذَاك ثمَّ تصايحت البربر فِيمَا بَينهَا وَتَقَدَّمت براياتها إِلَى الْجِهَة الَّتِي فِيهَا الْقِتَال وَأتوا من خلف الْعَرَب الَّذين كانو فِي نحر الْعَدو وهم يتصايحون فَلم يردهم إِلَّا صياح البربر من خَلفهم وراياتهم قد أطلت عَلَيْهِم من كل جِهَة وَكَانَت شَيْئا كثيرا فظنوا أَن ظيان قد التحفتهم من خَلفهم فخشعت نُفُوسهم وفشلوا وَرَجَعُوا منهزمين لايلوي حميم على حميم فَأَخَذتهم البربر من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم يقتلُون ويسلبون وَحصل انزعاج كَبِير فِي الْمحلة وتمت الْهَزِيمَة عَلَيْهَا وَلم يبْق بهَا إِلَّا جَيش الودايا وَالْعَبِيد هَكَذَا أَخْبرنِي من شَاهد هَذِه الْوَقْعَة مِمَّن يوثق بِهِ
وسَاق صَاحب الْجَيْش الْخَبَر عَنْهَا بِأَن قَالَ كَانَ انخذال برابرة زمور بِرَأْي كَبِيرهمْ الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي وَكَانَت لَهُ وجاهة فِي الدولة وَكَانَ الْحسن بن حمو واعزيز كَبِير آيت أدراسن يساميه فِي الْمنزلَة وَلما خرج الْمولى إِبْرَاهِيم بن السُّلْطَان فِي هَذِه الْغَزْوَة كَانَ ابْن واعزيز قد حظي لَدَيْهِ حَتَّى صَار من أخص ندمائه فَنَفْس ابْن الْغَازِي عَلَيْهِ ذَلِك ودبر بِأَن جر
الْهَزِيمَة على الْجَيْش أجمع فَإِنَّهُ أظهر الْفِرَار وَقت اللِّقَاء حَتَّى سرى الفشل فِي النَّاس وانهزموا ثمَّ عطفت البرابر مَعَ الْعشي على محلّة السُّلْطَان فشرعوا فِي نهبها وأحاط عَسْكَر العبيد بهَا من كل جِهَة وصاروا يُقَاتلُون البربر على أَطْرَاف الأخبية وَلما أقبل الْمسَاء ترك العبيد الأخبية وأرزوا إِلَى أفراك السُّلْطَان وَصَارَ الْقِتَال على أفراك إِلَى وَقت الْعشَاء فَهَلَك من العبيد خلق كثير وَصَارَ الْقِتَال بِالسُّيُوفِ والرماح وَمَا زَالَ أَصْحَاب السُّلْطَان يترسون عَلَيْهِ بِأَنْفسِهِم حَتَّى عجزوا عَن الدفاع وخلص البربر إِلَى السُّلْطَان وَأَرَادَ رجل مِنْهُم يُقَال إِنَّه من بني مكيلد أَن يجرده فَأعلمهُ بِأَنَّهُ السُّلْطَان فاستحلفه الْبَرْبَرِي فَحلف لَهُ فَنزل عَن فرسه وأركبه وطار بِهِ إِلَى خيمته وَكَانَ البربر يلقونه وَهُوَ ذَاهِب بِهِ فَيَقُولُونَ من هَذَا الَّذِي مَعَك فَيَقُول أخي أَصَابَته جِرَاحَة وَلما وصل بِهِ إِلَى خيمته أعلن بِأَنَّهُ السُّلْطَان فَأَقْبَلت نسَاء الْحَيّ من كل جِهَة يفرحن ويضربن بِالدُّفُوفِ ثمَّ جعلن يتمسحن بأطرافه تبركا بِهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ إعجابا بِهِ حَتَّى أضجرنه وَلما جَاءَ رجال الْحَيّ أعظموا حُلُوله بَين أظهرهم وأجلوه وَسعوا فِيمَا يرضيه ويلائمه من وطاء ومطعم ومشرب بِكُل مَا قدرُوا عَلَيْهِ فَلم يقر لَهُ قَرَار مَعَهم وَيُقَال إِنَّه بَقِي عِنْدهم ثَلَاثًا لَا يَأْكُل وَلَا يشرب أسفا على مَا أَصَابَهُ إِلَّا أَنه كَانَ يسد رمقه بِشَيْء من الحليب وَالتَّمْر وتنصل البربر لَهُ مِمَّا شجر بَينهم وَبَينه وأظهروا لَهُ غَايَة الخضوع والاستكانة حَتَّى أَنهم كتفوا نِسَاءَهُمْ وقدموهن إِلَيْهِ مستشفعين بِهن على عَادَتهم فِي ذَلِك وَبعد ثَلَاث أركبوه وَقدمُوا بِهِ فِي جمَاعَة من الْخَيل إِلَى قَصَبَة آكراي فنزلوا بِهِ قَرِيبا مِنْهَا وَبعث رحمه الله إِلَى مكناسة يعلم الْجَيْش بمكانه فجاؤوه مُسْرِعين وَدخل مكناسة بعد أَن أحسن إِلَى ذَلِك الْفَتى الْبَرْبَرِي وَإِلَى جَمِيع أهل حيه غَايَة الْإِحْسَان وَأمر رحمه الله أَن يعْطى لكل من أَتَى سليبا من المنهزمين حائك وَثَلَاثُونَ أُوقِيَّة فَفرق من ذَلِك شَيْئا كثيرا بِبَاب مَنْصُور العلج من مكناسة وَأُصِيب الْمولى إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان فِي هَذِه
الْوَقْعَة بجراحات معظمها فِي رَأسه فَحمل جريحا إِلَى فاس فَمَاتَ بهَا وَكَانَت مصيبته على السُّلْطَان أعظم مِمَّا أَصَابَهُ فِي نَفسه وَالْأَمر لله وَحده
قَالَ صَاحب الْجَيْش كَانَ السُّلْطَان الحازم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله لَا يرد الشَّفَاعَة فِي مثل هَذَا الْمقَام وَرُبمَا دس إِلَى من يظْهر ذَلِك صُورَة حَتَّى يكون نهوضه عَن عز وَذَلِكَ من حسن سياسته وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة الفادحة سَبَب سُقُوط هَيْبَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان من قُلُوب الرّعية فَلم يمتثل لَهُ بعْدهَا أَمر فِي عصاتها حَتَّى لَقِي الله تَعَالَى
وَلما دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف كثر عيث البربر وإفسادهم السابلة واستحوذوا على مزارع مكناسة ومسارحها فنصب لَهُم السُّلْطَان رحمه الله حبالة الطمع وكادهم بهَا بِأَن صَار كلما وَفد عَلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم كساها وَأحسن إِلَيْهَا فتسامعوا بذلك فقادهم الطمع إِلَى أَن وَفد عَلَيْهِ مِنْهُم فِي مرّة وَاحِدَة سَبْعمِائة فَارس من أعيانهم فَقبض عَلَيْهِم وجردهم من الْخَيل وَالسِّلَاح وأودعهم السجْن ثمَّ أَمر بِالْقَبْضِ على كل من وجد مِنْهُم بسوق مكناسة وصفرو فَقبض بصفرو على نَحْو الثلاثمائة من آيت يوسي وَقَامَت بِسَبَب ذَلِك فتْنَة البربر على سَاق فَإِنَّهُم امتعضوا لمن قبض عَلَيْهِ من إخْوَانهمْ وزحفوا إِلَى مكناسة وحاصروها وجاؤوا مَعَهم بدجالهم أبي بكر مهاوش وتحزبوا وصاروا يدا وَاحِدَة على كل من يتَكَلَّم بِالْعَرَبِيَّةِ بالمغرب وَكَانَ مهاوش فِي هَذِه الْأَيَّام قد أَمر أمره لِأَنَّهُ لما عزم السُّلْطَان على غزوهم كَانَ يعدهم بِأَن الظُّهُور يكون لَهُم فَلَمَّا صدق عَلَيْهِم ظَنّه اعتقدوه وافتتنوا بِهِ وزحفوا إِلَى مكناسة فضيقوا على السُّلْطَان بهَا فَجعل رحمه الله يعالج أَمرهم بِالْحَرْبِ تَارَة وَالسّلم أُخْرَى إِلَى أَن طلبُوا مِنْهُ أَن يسرح لَهُم إخْوَانهمْ ويرجعوا إِلَى الطَّاعَة وَالدُّخُول فِي الْجَمَاعَة فسرحهم لَهُم على يَد المرابط أبي مُحَمَّد عبد الله بن حَمْزَة العياشي فَلَمَّا ظفروا بإخوانهم نقضوا الْعَهْد الَّذِي أَخذ عَلَيْهِم المرابط الْمَذْكُور وعادوا إِلَى العيث وإفساد السابلة ثمَّ تَبِعَهُمْ على
الله برباط الْفَتْح إِلَى يَوْم السبت الثَّانِي وَالْعِشْرين من شَوَّال من السّنة فَنَهَضَ قَاصِدا مكناسة فَعبر الْمجَاز وَمَعَهُ من جنود الدولة وعساكر الْقَبَائِل مَا يجل عَن الْحصْر وَكَانَ نهوضه عَن إزعاج بِسَبَب مَا اتَّصل بِهِ من خبر الْمولى عبد الْكَبِير بن عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان ولد الَّذِي كَانَ ثار لأوّل بيعَة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن فسلك هَذَا الْوَلَد مَسْلَك أَبِيه وأطمعه شياطين البربر فِي الْملك حَتَّى أوردوه مورد الردى وحان وَسقط الْعشي بِهِ على سرحان وَلما كَانَ السُّلْطَان أعزه الله بِبِلَاد بني حسن بلغه خبر الْقَبْض عَلَيْهِ فَكتب كتابا إِلَى الْأَمْصَار يَقُول فِيهِ مَا نَصه وَبعد فَإِن عبد الْكَبِير بن عبد الرَّحْمَن الَّذِي سَوَّلت لَهُ نَفسه مَا سَوَّلت من الرَّأْي المنكوس والحظ المعكوس كَانَ تحزب بشياطين وأوباش من برابرة بني أمكليد وَأتوا بِهِ لآيت عَيَّاش قرب فاس فَلَمَّا سمع بذلك خدامنا أهل فاس وأخوالنا شراقة وَغَيرهم من الْجَيْش السُّوسِي وقبائل الصّلاح قَامُوا على سَاق فِي طرده وإبعاده ونفيه من ساحتهم وتشتيت رماده وقابلوه بالنكاية والوبال وَرَأى مِنْهُم مَا لم يخْطر لَهُ ببال وَرجع بخفي حنين ثمَّ بعد الطَّرْد والإبعاد لم يبال بِمَا هُوَ عَلَيْهِ من سوء الْحَال وَلَا أقلع عَمَّا طمع فِيهِ من الْمحَال وَلَا انتبه من نومته وَلَا أَفَاق من سكرته وَبَقِي على دورانه عِنْد البربر إِلَى أَن ختم مطافه بالوصول لآيت يوسي فَحكم الله فِيهِ هُنَالك وأتى بِهِ مَقْبُوضا عَلَيْهِ وَذَهَبت رِيحه وَسقط فِي أَيدي من كَانَ آواه من البربر وحصلوا كلهم على الخسران والخزي والخذلان وَهَا الفتان متقف تَحت يَد أخينا الأرضى مولَايَ إِسْمَاعِيل رعاه الله فَالْحَمْد لله حق حَمده وَلَا نعْمَة إِلَّا من عِنْده وَهُوَ المسؤول بِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم ومجد وَعظم أَن يُؤَدِّي عَنَّا وَعَن الْمُسلمين شكر نعْمَته وَأَن يجزينا على مَا عودنا من جزيل فَضله ومنته هَذَا وَقد كتبنَا لكم هَذَا بعد مَا خيمنا بحول الله بِبِلَاد الصفافعة من بني حسن ومحلتنا المظفرة بِاللَّه محفوفة بالنصر والعز بِحَمْد الله وأعلامنا المنصورة بِاللَّه ريَاح الْيمن والسعادة تسوقها والأرباح تكفل بهَا سوقها وَقد أعلمناكم لِتَأْخُذُوا حظكم من الْفَرح بِمَا خول مَوْلَانَا جلّ وَعلا من عَظِيم نعمه فَللَّه الْحَمد وَله الْمِنَّة
وَالسَّلَام فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من شَوَّال عَام تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ ثمَّ تقدم السُّلْطَان أعزه الله إِلَى دَار ابْن العامري فأوقع بأولاد يحيى فرقة من بني حسن وَكَانُوا قد ثَارُوا بعاملهم عبد الْقَادِر بن أَحْمد المحروقي فهدموا دَاره وانتهبوها وعاثوا فِي الطرقات وأخافوها فأوقع بهم السُّلْطَان الْمولى الْحسن أعزه الله وقْعَة كَادَت تستأصلهم وَتَأْتِي عَلَيْهِم فتشفعوا إِلَيْهِ وتطارحوا عَلَيْهِ وأظهروا التَّوْبَة والخضوع فَقبل تَوْبَتهمْ وَولى عَلَيْهِم ثَلَاثَة عُمَّال ووظف عَلَيْهِم مَالا لَهُ بَال ونهض أعزه الله إِلَى مكناسة الزَّيْتُون ف 4 ي سَابِع ذِي الْقعدَة من السّنة فَدَخلَهَا مظفرا منصورا وَلما احتل بهَا كتب أيده الله إِلَى الْأَمْصَار بِمَا نَصه وَبعد فَأَنا بإثر الْفَرَاغ من أَمر الْقَبِيلَة اليحيوية وَبِنَاء أمرهَا على أساس الْجد بحول الله وَحُصُول المُرَاد من كَمَال استقامتها بِحَمْد الله وجهنا الوجهة السعيدة لوطن أسلافنا الْكِرَام قدسهم الله بمكناسة الزَّيْتُون وتقدمنا فِي محلتنا السعيدة المنصورة الَّتِي أرْخى الْيمن وَالظفر عَلَيْهَا ستوره فلقينا فِي طريقنا أهل هَذَا الْقطر المغربي من البرابرة وَغَيرهم على اخْتِلَاف شعوبهم وقبائلهم مظهرين غَايَة الْفَرح بمقدمنا ومتبركين بيمن طلعتنا وقائمين بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة لعَلي جانبنا وحللنا حضرتنا السعيدة بمكناسة الزَّيْتُون فِي يَوْم كَانَ من الْأَيَّام السعيدة المشهودة والأوقات المعدودة بل فاق ذَلِك الْيَوْم السعيد بِمَا وَقع فِيهِ من السرُور كل موسم وَعِيد فَالْحَمْد لله على مَا خول وَأولى من فَضله العميم وخيره الجسيم وَهُوَ المسؤول بِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم ومجد وَعظم أَن يُؤَدِّي عَنَّا وَعَن الْمُسلمين شكر نعْمَته وَأَن يجرينا على مَا عودنا من جزيل فَضله ومنته آمين وَالسَّلَام فِي الْعشْرين من ذِي الْقعدَة الْحَرَام عَام تسعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ
وَكَانَ دُخُوله أعزه الله إِلَى مكناسة بعد زيارته تربة الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر وَصلَاته الْجُمُعَة بهَا وَأطَال أيده الله الْمقَام بمكناسة وَفِي مُدَّة مقَامه بهَا أوقع ببني مطير وَمن لافهم من مجاط وَبني مكيلد وآيت يوسي وَغَيرهم بعد أَن طَال قِتَاله لَهُم ثمَّ اقتحم عَلَيْهِم معاقلهم وانْتهى إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بالحاجب بحبوحة قرارهم وَمحل منعتهم وانتصارهم بل تجاوزته عساكره
المنصورة وأعلامه المنشورة بمسافة بعيدَة إِلَى أَن دخلت فَم الخنيق الَّذِي هُوَ أول بني مكيلد فاستباحت هُنَالك حلاتهم وطارت برؤوس عناتهم ومزقتهم فِي أعز مكانهم كل ممزق وقبضت مِنْهُم على عدد وافر من الأسرى بعث بِهِ السُّلْطَان أعزه الله إِلَى الْأَمْصَار فَكَانَت عِبْرَة لأولي الْأَبْصَار وَكَانَ إِيقَاعه ببني مطير منتصف محرم فاتح سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَاسْتمرّ مُقيما بمكناسة إِلَى فاتح ربيع الأول مِنْهَا وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث الشَّهْر الْمَذْكُور نَهَضَ أيده الله إِلَى فاس فَدَخلَهَا يَوْم الْخَمِيس السَّادِس مِنْهُ بعد مَا تَلقاهُ أَشْرَافهَا وأعلامها وأعيانها وَجَمِيع رماتها حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان مَعَ الْعَامِل وَالْقَاضِي وَاجْتمعت بِهِ مقدمتهم بوادي النجَاة فألان جَانِبه لَهُم وتنزل لملاقاتهم تطييبا لنفوسهم وَلما وصل إِلَى الْبَلَد لم يعرج على شَيْء دون قصد ضريح الْمولى إِدْرِيس رضي الله عنه وزيارته والتبرك بِهِ وانهار عَلَيْهِ الضُّعَفَاء وَالنِّسَاء وَالصبيان يقبلُونَ أَطْرَافه ويتمسحون بأذياله وَقدم الذَّبَائِح للحرم الإدريسي وَغَيره وأفاض من العطايا على الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين مَا جَاوز الْحصْر وَكَانَ يَوْم دُخُوله يَوْمًا مشهودا وموسما من مواسم الْخيرَات معدودا وَعِيد بفاس عيد المولد الْكَرِيم وقدمت عَلَيْهِ الْوُفُود من كل نَاحيَة وَاجْتمعت بِبَابِهِ وُجُوه الْقَبَائِل من كل قاصية ودانية وازدان الْعَصْر وَعم الْفَتْح والنصر واستقامت الْأُمُور ونادى مُنَادِي السرُور فِي الْخَاص وَالْجُمْهُور وَلما فرغ السُّلْطَان أعزه الله من شَأْن الْعِيد أَمر أَمِينه أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن شقرون المراكشي أَن يرتب الوظيف المجعول على أَبْوَاب فاس وأسواقها على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاة السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رحمه الله فَفعل وَكَانَ ذَلِك أَوَاخِر الشَّهْر الْمَذْكُور وَلما جَلَست الْأُمَنَاء كل بمحله واستقامت الْأَحْوَال وَذَهَبت الْأَهْوَال ثقل ذَلِك على الدباغين ومرضوا فِيهِ وذهبوا إِلَى الشريف الْفَقِيه الْمولى عبد الْملك الضَّرِير وَقَالُوا لَهُ أَنْت الَّذِي أوقعتنا فِي هَذَا كُله بضمانك إِسْقَاط المكس أَولا حَتَّى صدر منا فِي حق بنيس مَا صدر والآن أخرجنَا مِمَّا أوقعتنا فِيهِ أما بِإِسْقَاط المكس وَأما بِإِخْرَاج بنيس من بَين أظهرنَا لِئَلَّا تدول لَهُ دولة علينا وَالرجل قد صَار عدوا لنا فَقَامَ الْفَقِيه الْمَذْكُور وَقدم على السُّلْطَان
أعزه الله وَذكر لَهُ مَا عزم عَلَيْهِ السفلة من الدباغين فَأَعْرض السُّلْطَان أيده الله عَن ذَلِك وقابل بالجميل فَقَالَ الْفَقِيه الْمَذْكُور إِن لم يكن شَيْء مِمَّا ذكرت لسيدنا فَالْأولى بِي أَن أنتقل إِلَى تافيلالت وَلَا أبقى بَين أظهر هَؤُلَاءِ الْقَوْم فأسعفه السُّلْطَان وَبعث جملَة من الحمارين لحمله وَحمل أَوْلَاده وَلما رأى الدباغون ذَلِك نفخ الشَّيْطَان فيهم وعمدوا إِلَى الحمارين فطردوهم وارتجت فاس وَمَاجَتْ الْأَسْوَاق وَقَامَت الْفِتْنَة على سَاق واتصل الْخَبَر بالسلطان أيده الله فاستدعى عَامل فاس إِدْرِيس بن عبد الرَّحْمَن السراج وَكَانَ مُتَّهمًا بالخوض فِي وقْعَة بنيس وَمَا ترَتّب عَلَيْهَا بعد فأظهر الطَّاعَة والامتثال وَركب بغلته يُرِيد الْقدوم على السُّلْطَان بفاس الْجَدِيد فَقَامَ الدباغون دونه ومنعوه من الذّهاب إِلَى السُّلْطَان وتهددوه بِالْقَتْلِ إِن فعل فَقعدَ وَوَقع ذَلِك مِنْهُ الْموقع لِأَنَّهُ كَانَ متخوفا على نَفسه وَلما رأى السُّلْطَان أيده الله تمادي هَؤُلَاءِ الطغام ومحكهم ولجاجهم بعد أَن بَالغ فِي إلانة الْجَانِب والمقابلة بالجميل وَمن ذَلِك إعراضه أعزه الله عَن الْكَلَام فِي أَمر بنيس أَمر بحصارهم والتضييق عَلَيْهِم لَعَلَّهُم يرجعُونَ ثمَّ لم يَكفهمْ عصيانهم حَتَّى صعدوا على منار الْمدرسَة العثمانية وعَلى غَيرهَا مِمَّا هُوَ مطل على فاس الْجَدِيد وَأخذُوا فِي الرَّمْي بالرصاص حَتَّى أَصَابُوا بعض من كَانَ بِأبي الْجُلُود وَلما انْتَهوا من سوء الْأَدَب إِلَى هَذِه الْغَايَة أَمر السُّلْطَان أيده الله بمقابلتهم على قدر جريمتهم فطافت بهم العساكر ورموهم بالكور من كل نَاحيَة ثمَّ اقتحمت طَائِفَة من الْعَسْكَر سور فاس من جِهَة الطالعة وَأخذُوا فِي النهب وَالْقَتْل وَعظم الْخطب وَاشْتَدَّ الكرب وَفِي أثْنَاء ذَلِك بعث السُّلْطَان أعزه الله وزيره أَبَا عبد الله الصفار يَعِظهُمْ ويعرض عَلَيْهِم الْأمان بِشَرْط التَّوْبَة وَالرُّجُوع إِلَى الطَّاعَة فأذعنوا وامتثلوا وانطفأت نَار الْفِتْنَة وانحسمت أَسبَاب المحنة فَعجل السُّلْطَان أيده الله بِالْكِتَابَةِ لجَمِيع الْآفَاق وتلطف وَاعْتذر بِأَنَّهُم الَّذين بدؤوا بِالْحَرْبِ والبادي أظلم وَمَعَ ذَلِك فبمجرد مَا أذعنوا إِلَى الطَّاعَة كف عَنْهُم رَحْمَة لَهُم وإبقاء عَلَيْهِم وَكَانَ هَذَا الْحَادِث يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع ربيع الثَّانِي من السّنة