الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أَخَوَيْهِ حميضة ورميثة بعد مهلك أَبِيهِم أبي نمي صاب مَكَّة فاستبلغ السُّلْطَان يُوسُف من إكرامه والتنويه بِقَدرِهِ وسرحه إِلَى الْمغرب ليجول فِي أقطاره وَيَطوف على معالم الْملك وقصوره وأوعز إِلَى الْعمَّال بالبرور بِهِ وإتحافه على مَا يُنَاسب قدره وَرجع هَذَا الشريف إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان من تلمسان سنة خمس وَسَبْعمائة ثمَّ فصل مِنْهَا إِلَى مشرقه وَفِي شعْبَان من هَذِه السّنة قدم أَبُو زيد الْغِفَارِيّ دَلِيل ركب الْحَاج الثَّانِي وَمَعَهُ بيعَة الشرفاء أهل مَكَّة للسُّلْطَان يُوسُف لما كَانَ صَاحب مصر قد آسفهم بالتقبض على إخْوَانهمْ وَكَانَ ذَلِك شَأْنهمْ مَتى غاظهم السُّلْطَان وأهدوا إِلَى السُّلْطَان يُوسُف ثوبا من كسْوَة الْكَعْبَة أعجب بِهِ فَاتخذ مِنْهُ ثوبا للبوسه فِي الْجمع والأعياد كَانَ يتبطنه بَين ثِيَابه تبركا بِهِ
وَأما الْملك النَّاصِر صَاحب مصر فَإِنَّهُ كافأ السُّلْطَان يُوسُف على هديته بِأَن جمع من طرف بِلَاد الْمشرق مَا يستغرب جنسه وشكله من الثِّيَاب والحيوانات وَنَحْو ذَلِك مثل الْفِيل والزرافة وَنَحْوهمَا وأوفد بِهِ مَعَ عُظَمَاء دولته وفصلوا من الْقَاهِرَة آخر سنة خمس وَسَبْعمائة فوصلوا إِلَى السُّلْطَان يُوسُف وَهُوَ بالمنصورة فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ بعْدهَا واهتز لقدومهم وأركب النَّاس للقيهم وَأكْرم وفادتهم وبعثهم إِلَى الْمغرب للتطوف بِهِ على الْعَادة فِي مبرة أمثالهم وَهلك السُّلْطَان يُوسُف أثْنَاء ذَلِك وأفضى الْأَمر إِلَى حافده أبي ثَابت فَأحْسن منقلبهم مَلأ حقائبهم وفصلوا من الْمغرب إِلَى بِلَادهمْ فِي ذِي الْحجَّة من سنة سبع وَسَبْعمائة وَلما انْتَهوا إِلَى بِلَاد بني حسن فِي ربيع من سنة ثَمَان بعْدهَا اعْتَرَضَهُمْ الْأَعْرَاب بالقفر فانتهبوهم وخلصوا إِلَى مصر بجريعة الذقن فَلم يعاودوا بعْدهَا إِلَى الْمغرب سفرا وَلَا لفتوا إِلَيْهِ وَجها وطالما أوفد عَلَيْهِم مُلُوك الْمغرب بعْدهَا من رجال دولتهم من يوبه لَهُ ويهادونهم ويكافئون وَلَا يزِيدُونَ فِي ذَلِك كُله على الْخطاب شَيْئا
وَفَاة السُّلْطَان يُوسُف رحمه الله
كَانَ السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق رحمه الله قد اتخذ فِي جملَة حَاشِيَته ومماليكه خَصيا اسْمه سَعَادَة وَكَانَ هَذَا الْخصي قد تصير إِلَيْهِ من جِهَة أبي عَليّ الملياني أَيَّام كَانَ عَاملا لَهُ على مراكش وَكَانَ السُّلْطَان يُوسُف فِي ابْتِدَاء أمره يخلط الخصيان بأَهْله وَلَا يحجبهم عَن حرمه وَعِيَاله ثمَّ حدثت للسُّلْطَان رِيبَة فِي بعض الخصيان فَأعتق جملَة مِنْهُم كَانَ فيهم عنبر الْكَبِير عريفهم وحجب سَائِرهمْ فارتاعوا لذَلِك وفسدت نياتهم فسولت لهَذَا الْخصي الْخَبيث نَفسه الشيطانية الفتك بالسلطان فَعمد إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بعض حجر قصره فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ فَأذن لَهُ فألفاه مُسْتَلْقِيا على فرَاشه مختضبا بحناء فَوَثَبَ عَلَيْهِ وطعنه طعنات قطع بهَا أمعاءه وَخرج هَارِبا وَانْطَلق بعض الْأَوْلِيَاء فِي أَثَره فأدركه من الْعشي بِنَاحِيَة تاسلت فَقبض عَلَيْهِ وَجِيء بِهِ إِلَى الْقصر فَقتلته العبيد والحاشية وصابر السُّلْطَان يُوسُف منيته إِلَى آخر النَّهَار ثمَّ قضى رحمه الله يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع ذِي الْقعدَة من سنة سِتّ وَسَبْعمائة وقبر هُنَالك ثمَّ نقل بعد مَا سكنت الهيعة إِلَى مقبرتهم بشالة فَدفن بهَا مَعَ سلفه وأطلال ضريحه لَا زَالَت مائلة إِلَى الْآن
وبموت السُّلْطَان يُوسُف انْقَضتْ مُدَّة الْحصار عَن آل يغمراسن وقومهم من بني عبد الواد وَسَائِر أهل تلمسان وَكَانَت الْمدَّة فِي ذَلِك مائَة شهر كَمَا قُلْنَا نالهم فِيهَا من الْجهد والشدة مَا لم ينل أمة من الْأُمَم واضطروا إِلَى أكل الْجِيَف والقطوط والفيران حَتَّى أَنهم أكلُوا فِيهَا أشلاء الْمَوْتَى من النَّاس وخربوا السقوف للوفود وغلت أسعار الأقوات والحبوب وَسَائِر الْمرَافِق بِمَا
تجَاوز حد الْعَادة وَعجز وجدهم عَنْهَا فَكَانَ ثمن مكيال الْقَمْح ومقداره اثْنَا عشر رطلا وَنصف مثقالين وَنصفا من الذَّهَب الْعين وَثمن الشَّخْص الْوَاحِد من الْبَقر سِتِّينَ مِثْقَالا وَمن الضَّأْن سَبْعَة مَثَاقِيل وَنصفا وأثمان اللَّحْم من الْجِيَف الرطل من لحم البغال وَالْحمير بِثمن المثقال وَمن الْخَيل بِعشر المثقال والرطل من الْجلد البقري ميتَة أَو مذكى بِثَلَاثِينَ درهما والهر الداجي بمثقال وَنصف وَالْكَلب بِمثلِهِ والفأر بِعشْرَة دَرَاهِم والحية بِمثل ذَلِك والدجاجة بِثَلَاثِينَ درهما وَالْبيض وَاحِدَة بِسِتَّة دَرَاهِم والعصافير كَذَلِك وَالْأُوقِية من الزَّيْت بِاثْنَيْ عشر درهما وَمن السّمن بِمِثْلِهَا وَمن الشَّحْم بِعشْرين درهما وَمن الْملح بِعشْرَة دَرَاهِم وَمن الْحَطب كَذَلِك وَالْأَصْل الْوَاحِد من الكرنب بِثَلَاثَة أَثمَان المثقال وَمن الخس بِعشْرين درهما وَمن اللفت بِخَمْسَة عشر درهما والواحدة من القثاء والفقوس بِأَرْبَعِينَ درهما وَالْخيَار بِثَلَاثَة أَثمَان الدِّينَار والبطيخ بِثَلَاثِينَ ردهما والحبة من التِّين والإجاص بِدِرْهَمَيْنِ واستهلك النَّاس أَمْوَالهم وموجودهم وَضَاقَتْ أَحْوَالهم وَهَلَكت حاميتهم فاعتزموا على الْإِلْقَاء بِالْيَدِ وَالْخُرُوج للاستماتة فَهَيَّأَ الله لَهُم الصنع الْغَرِيب وَنَفس عَن مخنقهم بمهلك السُّلْطَان يُوسُف على يَد الْخصي الْمُرِيب وأذهب الله العناء عَن آل زيان وقومهم وَخَرجُوا كَأَنَّمَا نشرُوا من الْقُبُور وَكَتَبُوا بعد هَذِه الْحَادِثَة فِي سكنهم مَا أقرب فرج الله استغرابا لَهَا
قَالَ ابْن خلدون حَدثنِي شَيخنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الابلي قَالَ جلس السُّلْطَان أَبُو زيان بن عُثْمَان بن يغمراسن صَبِيحَة يَوْم الْفرج وَهُوَ يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع ذِي الْقعدَة فِي زَاوِيَة من زَوَايَا قصره يفكر واستدعى ابْن جحاف خَازِن الزَّرْع فَسَأَلَهُ كم بَقِي من الأهراء والمطامير المختومة فَقَالَ لَهُ إِنَّمَا بَقِي عولة الْيَوْم وغد فاستوصاه بكتمان ذَلِك وبينما هم يتذاكرون فِي ذَلِك دخل عَلَيْهِم أَخُوهُ أَبُو حمو فأخبروه بذلك فَوَجَمَ وجلسوا سكُوتًا لَا ينطقون
وَإِذا بدعد قهرمانة الْقصر وَكَانَت وصيفة من وصائف بنت السُّلْطَان أبي إِسْحَاق حظية أَبِيهِم قد خرجت من الْقصر إِلَيْهِم وحيتهم وَقَالَت لَهُم تَقول لكم خَطَايَا قصركم وَبَنَات زيان حرمكم مَا لنا وللبقاء وَقد أحيط بكم وأسف عَدوكُمْ لالتهامكم وَلم يبْق الأفواق نَاقَة لمصارعكم فأريحونا من معرة السَّبي وقربونا إِلَى مصارعنا وأريحوا أَنفسكُم فِينَا فالحياة فِي الذل عَذَاب والوجود بعدكم عدم فَالْتَفت أَبُو حمو إِلَى أَخِيه أبي زيان وَكَانَ من الشَّفَقَة بمَكَان فَقَالَ قد صدقتك الْخَبَر فَمَا تنْتَظر بِهن فَقَالَ يَا مُوسَى أرجئني ثَلَاثًا لَعَلَّ الله يَجْعَل بعد عسر يسرا وَلَا تشاورني بعْدهَا فِيهِنَّ بل سرح الْيَهُود وَالنَّصَارَى إِلَى قتلهن وَتَعَالَى إِلَيّ نخرج مَعَ قَومنَا إِلَى عدونا فنستميت وَيَقْضِي الله مَا شَاءَ فَغَضب أَبُو حمو وَأنكر عَلَيْهِ التَّأْخِير فِي ذَلِك وَقَالَ إِنَّمَا نَحن وَالله نتربص المعرة بِهن وبأنفسنا وَقَامَ عَنهُ مغضبا وجهش السُّلْطَان أَبُو زيان بالبكاء قَالَ أَيْن جحاف وَأَنا بمكاني بَين يَدَيْهِ لَا أملك مُتَأَخِّرًا وَلَا مُتَقَدما إِلَى أَن غلب عَلَيْهِ النّوم فَمَا راعني إِلَّا حرسي يالباب يُشِير إِلَيّ أَن أعلم السُّلْطَان بمَكَان رَسُول جَاءَ من محلّة بني مرين وَهَا هُوَ بسدة الْقصر قَالَ ابْن جحاف فَلم أطق رد جَوَابه إِلَّا بِالْإِشَارَةِ وانتبه السُّلْطَان من همسنا فَزعًا فأعلمته فاستدعاه للحين فَلَمَّا وقف بَين يَدَيْهِ قَالَ إِن السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب هلك السَّاعَة وَأَنا رَسُول حافده أبي ثَابت إِلَيْكُم فَاسْتَبْشَرَ السُّلْطَان أَبُو زيان واستدعى أَخَاهُ وَقَومه حَتَّى بلغ الرَّسُول الْمَذْكُور رسَالَته بمسمع مِنْهُم فَكَانَت إِحْدَى المغربات فِي الْأَيَّام وَكَانَ من خبر هَذِه الرسَالَة أَن السُّلْطَان يُوسُف لما هلك تطاول لِلْأَمْرِ بعده القربابه من إخْوَته وَولده وحفدته وتحيز حافده أَبُو ثَابت إِلَى بني ورتاجن لخؤلة كَانَت لَهُ فيهم فاستجاش بهم واعصوصبوا عَلَيْهِ وَبعث إِلَى بني زيان أَن يعطوه آلَة الْحَرْب ويكونوا مفزعا لَهُ إِن أخفق مسعاه على أَنه إِن تمّ أمره قوض عَنْهُم معسكر بني مرين وَأَفْرج عَنْهُم فعاقدوه على ذَلِك فوفى لَهُم لما تمّ أمره وَنزل لَهُم عَن جَمِيع الْأَعْمَال الَّتِي كَانَ السُّلْطَان يُوسُف غلب عَلَيْهَا من بِلَادهمْ ورحلوا إِلَى مغربهم وَالله غَالب على أمره
بَقِيَّة أَخْبَار السُّلْطَان يُوسُف وَسيرَته
كَانَ السُّلْطَان يُوسُف رحمه الله أَبيض حسن الْقد مليح الْوَجْه أقنى الْأنف مهيبا لَا يكَاد أحد يبدأه بالْكلَام جوادا مشفقا على الرّعية متفقدا لأحوالها شجاعا شهما ذَا عَزِيمَة
(إِذا هم ألْقى بَين عَيْنَيْهِ همه
…
ونكب عَن ذكر العواقب جانبا)
وَهُوَ أول من هذب ملك بني مرين وأكسبه رون لحضارة وبهاء الْملك وَكَانَ غليظ الْحجاب لَا يكَاد يُوصل إِلَيْهِ إِلَّا بعد الْجهد وَمن أَعْيَان كِتَابه الْكَاتِب أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي مَدين العثماني وَمن أَعْيَان شعرائه أَبُو الحكم مَالك بن المرحل السبتي وَأَبُو فَارس عبد الْعَزِيز الملزوزي المكناسي وَغَيرهمَا وَالله تَعَالَى أعلم
ولنذكر مَا كَانَ فِي هَذِه الْمدَّة من الْأَحْدَاث فَفِي سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة وَهِي السّنة الَّتِي بُويِعَ فِيهَا السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق كَانَ الرخَاء المفرط بالمغرب بِحَيْثُ كَانَ الدَّقِيق يُبَاع بفاس وَغَيرهَا ربع مِنْهُ بدرهم والقمح سِتَّة دَرَاهِم للصحفة وَالشعِير ثَلَاثَة دَرَاهِم للصحفة وَأما القطاني فَلم يكن لَهَا ثمن وَالْعَسَل ثَلَاثَة أَرْطَال بدرهم وَالزَّيْت أَرْبَعُونَ أُوقِيَّة بدرهم وَالزَّبِيب دِرْهَم وَنصف للربع وَالثَّمَر ثَمَانِيَة أَرْطَال بدرهم واللوز صَاع بدرهم والشابل الطري فردة بقيراط وَالْملح حمل بدرهم وَلحم الْبَقر مائَة أُوقِيَّة بدرهم وَلحم الضَّأْن سَبْعُونَ أُوقِيَّة بدرهم والكبش بِخَمْسَة دَرَاهِم وَهَكَذَا
وَفِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وستمائه ظهر النَّجْم أَبُو الذوائب وَكَانَ ابْتِدَاء ظُهُوره لَيْلَة الثُّلَاثَاء الثَّانِي عشر من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَبَقِي يطلع كل لَيْلَة وَقت السحر نَحوا من عشْرين يَوْمًا
وَفِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة كَانَ دُخُول الشريف الْمولى حسن بن قَاسم الحسني من أَرض يَنْبع الْحجاز إِلَى سجلماسة وَهَذَا الشريف هُوَ جد الْأَشْرَاف العلويين السجلماسيين مُلُوك الْمغرب الْأَقْصَى فِي عصرنا هَذَا أَعلَى
الله تَعَالَى قدرهم وخلد مجدهم وفخرهم وَعند الْكَلَام على دولتهم السعيدة نذْكر كَيْفيَّة دُخُول هَذَا الشريف إِلَى الْمغرب وَالسَّبَب فِيهِ إِن شَاءَ الله
وَفِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة سرق من بَيت المَال بقصبة فاس اثْنَا عشر ألف دِينَار وَثَلَاث قلائد يساوين أَكثر من ذَلِك
وَفِي حُدُود السّبْعين وسِتمِائَة كَانَ ظُهُور البارود على مَا مر من أَن السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق فتح بِهِ سجلماسة فِي هَذِه الْمدَّة وَالله تَعَالَى أعلم
وَفِي سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة بنى الْمَسْجِد الْجَامِع بفاس الْجَدِيد وَفِي سنة تسع وَسبعين وسِتمِائَة علقت بِهِ ثرياه وَذَلِكَ يَوْم السبت السَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الأول مِنْهَا وَوزن هَذِه الثريا سَبْعَة قناطير وَخَمْسَة عشر رطلا وَعدد كؤوسها مِائَتَا كأس بالتثنية وَسبع وَثَمَانُونَ كأسا وفيهَا كَانَ الْجَرَاد الْعَام بالمغرب أكل الجسر وَالزَّرْع وَلم يتْرك خضراء على وَجه الأَرْض وَبلغ الْقَمْح عشرَة دَرَاهِم للصاع
وَفِي سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة بنيت قنطرة وَادي النجَاة وقنطرة ماريج
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة كَانَ بالمغرب قحط شَدِيد لم ير النَّاس قَطْرَة مَاء حَتَّى كَانَ الْيَوْم السَّابِع وَالْعشْرُونَ من رَمَضَان وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي توفيت فِيهِ الْحرَّة أم الْعِزّ بنت مُحَمَّد بن حَازِم العلوية من بني عَليّ بن عَسْكَر وَهِي أم السُّلْطَان يُوسُف فغاث الله الْعباد وأحيى برحمته الْبِلَاد
وَفِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة بنيت قَصَبَة تطاوين وفيهَا ركبت الناعورة الْكُبْرَى على وَاد فاس شرع فِي عَملهَا فِي رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة ودارت فِي صفر من السّنة بعْدهَا
وَفِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة بني سور قصر الْمجَاز وَركبت أبوابه وفيهَا غرس بُسْتَان المصارة بفاس الْجَدِيد وبنيت الدَّار الْبَيْضَاء بهَا أَيْضا
وَفِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة كَانَت الرّيح الشرقية المتوالية الهبوب وَنَشَأ عَنْهَا الْقَحْط الشَّديد وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى آخر سنة تسعين بعْدهَا فرحم الله
بِلَاده وعباده وفيهَا توفّي الشَّيْخ الصَّالح أَبُو يَعْقُوب الْأَشْقَر بالكندرتين من بِلَاد بني بهْلُول من أحواز فاس وَلَعَلَّ أَبَا يَعْقُوب هَذَا هُوَ الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الْحمة الَّتِي قدمنَا الْكَلَام عَلَيْهَا فِي أَخْبَار الْمَنْصُور الموحدي وَالله أعلم وفيهَا بني الْمَسْجِد الْجَامِع بِمَدِينَة تازا وبنيت قبَّة مكناسة الزَّيْتُون ورباعها
وَفِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وسِتمِائَة أَمر السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق بِعَمَل المولد النَّبَوِيّ وتعظيمه والاحتفال لَهُ وصيره عيدا من الأعياد فِي جَمِيع بِلَاده وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة وَكَانَ الْأَمر بِهِ قد صدر عَنهُ وَهُوَ بصبره من بِلَاد الرِّيف فِي آخر صفر من السّنة فوصل برسم إِقَامَته بِحَضْرَة فاس الْفَقِيه ابو يحيى بن أبي الصَّبْر وَاعْلَم أَنه قد كَانَ سبق السُّلْطَان يُوسُف إِلَى هَذِه المنقبة المولدية بَنو العزفي أَصْحَاب سبتة فهم أول من أحدث عمل المولد الْكَرِيم بالمغرب وَالله تَعَالَى أعلم
وَفِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة كَانَ كسوف الشَّمْس وَذَلِكَ قرب زَوَال يَوْم الْأَحَد التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة كسف مِنْهَا نَحْو الثُّلثَيْنِ وَصلى بِالنَّاسِ صَلَاة الْكُسُوف بِجَامِع الْقرَوِيين من فاس الْخَطِيب أَبُو عبد الله بن أبي الصَّبْر حَتَّى انجلت فَخرج من الْمِحْرَاب ووقف بإزائه فوعظ النَّاس وَذكرهمْ فِي هَذِه السّنة رفعت أَيدي الموثقين من الشَّهَادَة بفاس وَلم يبْق بهَا مِنْهُم سوى خَمْسَة عشر رجلا من أهل الْعَدَالَة والمعرفة وَكَانُوا قيل ذَلِك أَرْبَعَة وَتِسْعين وَكَانَ ذَلِك يَوْم الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عشر من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وفيهَا كَانَت الْجَمَاعَة الشَّدِيدَة والوباء الْعَظِيم عَم ذَلِك بِلَاد الْمغرب وإفريقية ومصر فَكَانَت الْمَوْتَى تحمل اثْنَيْنِ وَثَلَاثَة وَأَرْبَعَة على المغتسل وَبلغ الْقَمْح عشرَة دَرَاهِم للمد والدقيق سِتّ أَوَاقٍ بدرهم وَأمر السُّلْطَان يُوسُف
بتبديل الصيعان وَجعلهَا على مد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَكَانَ ذَلِك بالحضرة على يَد الْفَقِيه ابي فَارس عبد الْعَزِيز الملزوزي الشَّاعِر الْمَشْهُور
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة فِيهَا صلح أَمر النَّاس وانجبرت أَحْوَالهم ورخصت الأسعار فِي جَمِيع الْأَمْصَار فَبيع الْقَمْح بِعشْرين درهما للصحفة وَفِي هَذِه السّنة كسفت الشَّمْس أَيْضا الْكُسُوف الْكُلِّي بِحَيْثُ غَابَ قرص الشَّمْس كُله وَصَارَ النَّهَار لَيْلًا كالحالة الَّتِي تكون مَا بَين العشاءين وَظَهَرت النُّجُوم وماج النَّاس وَضَاقَتْ نُفُوسهم وَلَوْلَا أَن الله سُبْحَانَهُ تداركهم بِسُرْعَة انجلائها لهلكوا جزعا وَكَانَ ذَلِك بعد صَلَاة ظهر الثُّلَاثَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة من سنة أَربع وَتِسْعين الْمَذْكُورَة
وَفِي سنة سَبْعمِائة أسس السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب مدينته المنصورة بِإِزَاءِ تلمسان وَهُوَ محاصر لَهَا الْحصار الطَّوِيل حَسْبَمَا مر الْخَبَر على ذَلِك مُسْتَوفى وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي ثَابت عَامر بن عبد الله ابْن يُوسُف ابْن يَعْقُوب بن عبد الْحق رحمه الله
قد تقدم لنا أَن أَبَا عَامر عبد الله ابْن السُّلْطَان يُوسُف كَانَ قد انتبذ عَن أَبِيه وَبَقِي متنقلا فِي جِهَات الرِّيف وبلاد غمارة إِلَى أَن هلك فِي بِلَاد بني سعيد مِنْهُم وَأَنه خلف ثَلَاثَة أَوْلَاد أحدهم أَبُو ثَابت عَامر بن عبد الله هَذَا الَّذِي ولي الْأَمر بعد جده وَذَلِكَ أَنه لما هلك السُّلْطَان يُوسُف رحمه الله بالمنصورة كَمَا تقدم كَانَ حافده أَبُو ثَابت هَذَا فِي جملَته وَكَانَ لَهُ فِي بني ورتاجن من أهل تِلْكَ الْبِلَاد خؤلة فلحق بهم ودعا لنَفسِهِ فَبَايعُوهُ وَقَامُوا مَعَه فِي أمره وَبَايَعَهُ مَعَهم أَشْيَاخ بني مرين وَالْعرب بِظَاهِر المنصورة يَوْم الْخَمِيس ثَانِي يَوْم وَفَاة جده يُوسُف وبادر الْحَاشِيَة والوزراء وَمن شايعهم بداخل المنصورة إِلَى بيعَة الْأَمِير أبي سَالم بن السُّلْطَان يُوسُف وَكَاد أَمر بني
مرين يفْسد وكلمتهم تتفرق فَبعث السُّلْطَان أَبُو ثَابت لحينه وَكَانَ شهما مقداما إِلَى صَاحِبي تلمسان أبي زيان وَأبي حمو ابْني عُثْمَان بن يغمراسن فعقد لَهما عهدا على أَن يرحل عَنْهُم بجموعه وَأَن يمدوه بالآلة ويرفعوا لَهُ كسر بَيتهمْ ويضموه إِلَيْهِم إِن خَابَ أمله وَلم يتم لَهُ أَمر فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك وَحضر العقد أَبُو حمو فأحكمه وَشرط عَلَيْهِ السُّلْطَان أَبُو ثَابت أَن لَا يتَعَرَّضُوا لمدينة جده المنصورة بِسوء وَأَن يتعاهدوا مساجدها وقصورها بالإصلاح وَأَن من أَرَادَ الْإِقَامَة بهَا من أَهلهَا فَمَا لأحد عَلَيْهِ من سَبِيل لِأَن النَّاس كَانُوا قد استوطنوها وألفوها وطاب مقامهم بهَا وتأثلوا بهَا الأثاث وَالْمَتَاع والخرثي وَسَائِر الماعون مِمَّا يثبط المرتحل ويثقل جنَاح الناهض فَقبل أَبُو حمو ذَلِك كُله
وتفرغ السُّلْطَان أَبُو ثَابت لشأنه وَجمع كلمة قومه واختل أَمر أبي سَالم فَلم يتم وَكتب السُّلْطَان أَبُو ثَابت إِلَى حامية بني مرين وحصصها الَّتِي كَانَت مُتَفَرِّقَة فِي الثغور الشرقية الَّتِي استولى عَلَيْهَا السُّلْطَان يُوسُف أَيَّام حَيَاته فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَنْسلونَ من كل حدث وَأَسْلمُوا الْبِلَاد إِلَى أَهلهَا من بني عبد الواد وَقتل السُّلْطَان أَبُو ثَابت عَمه أَبَا سَالم بن يُوسُف ثمَّ أتبعه بعم أَبِيه أبي بكر بن يَعْقُوب فِي آخَرين من الْقَرَابَة وَغَيرهم مِمَّن يتَوَقَّع مِنْهُ الشَّرّ وفر بَقِيَّة الْقَرَابَة خشيَة على أنفسهم من سطوة أبي ثَابت فَلَحقُوا بعثمان بن أبي الْعَلَاء الثائر بجبال غمارة من عهد السُّلْطَان يُوسُف فشايعوه على أمره وتقوى بهم على مَا نذكرهُ ثمَّ ارتحل السُّلْطَان أَبُو ثَابت قَاصِدا حَضْرَة فاس فِي جموع لاتحصى وأمم لَا تستقصى فعيد عيد الْأَضْحَى من سنة سِتّ وَسَبْعمائة فِي طَرِيقه بن تلمسان ووجدة ثمَّ نَهَضَ إِلَى فاس فَدَخلَهَا فاتح سنة سبع وَسَبْعمائة ثمَّ نَهَضَ بعد ذَلِك إِلَى مراكش على مَا نذكرهُ وَلما علم بَنو يغمراسن أَن أَبَا ثَابت قد أبعد عَنْهُم وَأَنه توغل فِي الْبِلَاد المراكشية واشتغل بحروب الثائرين بهَا عَمدُوا إِلَى المنصورة فَجعلُوا عاليها سافلها وطمسوا معالمها ومحوا آثارها فَأَصْبَحت كَأَن لم تغن بالْأَمْس
ثورة يُوسُف بن مُحَمَّد بن أبي عياد ابْن عبد الْحق وَمَا كَانَ من أمره
كَانَ السُّلْطَان أَبُو ثَابت لما فصل من تلمسان قدم بَين يَدَيْهِ ابْن عَمه الْحسن بن عَامر بن عبد الله بن يَعْقُوب وَأمره بِالنّظرِ فِي أَحْوَال فاس وَالْمغْرب وَأمره بضبطها وتسريح سجونها ورد مظالمها وتفريق الْأَمْوَال على الْخَاصَّة والعامة فَفعل وَلما قدم حَضْرَة فاس عقد لِابْنِ عَمه يُوسُف بن مُحَمَّد بن أبي عياد بن عبد الْحق على مراكش ونواحيها وعهد إِلَيْهِ بِالنّظرِ فِي أحوالها وضبطها صَمد إِلَيْهَا واحتل بهَا وَتمكن مِنْهَا ثمَّ حدثته نَفسه بالإنتزاء فاستلحق واستركب وَاتخذ الْآلَة وجاهر بالخلعان وتقبض على الْوَالِي بمراكش الْحَاج المسعود فَقتله من تَحت السِّيَاط فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَسَبْعمائة ودعا لنَفسِهِ واتصل الْخَبَر بالسلطان أبي ثَابت وَهُوَ بفاس فسرح إِلَيْهِ وزيره يُوسُف بن عِيسَى بن السُّعُود بن خرباش الحشمي بِالْحَاء الْمُهْملَة وَيَعْقُوب بن آصناك فِي خَمْسَة آلَاف فَارس فَسَارُوا إِلَى مراكش وبرز يُوسُف بن مُحَمَّد بن أبي عياد إِلَى حربهم وَعبر إِلَيْهِم وَادي أم الرّبيع فَالْتَقوا مَعَه على ضفته الشرقية فهزموه وَعَاد إِلَى مراكش وَاتبعهُ الْوَزير وَدخل ابْن أبي عياد مراكش فَقتل جمَاعَة من جند الفرنج الَّذين بهَا وسبى ذَرَارِيهمْ وَخرج مِنْهَا إِلَى أغمات فَلم يسْتَقرّ بهَا ثمَّ إِلَى جبال هسكورة فَنزل على كبيرها مخلوف بن هنو الهسكوري وَلحق بِهِ مُوسَى بن سعيد الصبيحي من أغمات تدلى من سورها فلحق بِهِ
وَدخل السُّلْطَان أَبُو ثَابت مراكش منتصف رَجَب من سنة سبع وَسَبْعمائة وَأمر بقتل أوربة المداخلين لِابْنِ أبي عياد فِي انتزائه فاستلحموا جَمِيعًا وَلما لحق ابْن أبي عياد بمخلوف بن هنو الهسكوري واستجار بِهِ فَلم يجره على السُّلْطَان أبي ثَابت بل قبض عَلَيْهِ مَعَ ثَمَانِيَة من كبار أَصْحَابه وبعثهم فِي
الْحَدِيد إِلَيْهِ وَهُوَ بمراكش فَقتلُوا فِي مصرع وَاحِد بعد أَن مثل بهم بالسياط وَبعث بِرَأْس ابْن أبي عياد إِلَى فاس فطيف بِهِ وَنصب على سورها ثمَّ أثخن أَبُو ثَابت فِي كل من كَانَ على رَأْي ابْن أبي عياد وخاض مَعَه فِي الْفِتْنَة فاستلحم مِنْهُم بمراكش مَا ينيف على الستمائة وصلبهم على سورها من بَاب الرب أحد أَبْوَاب مراكش إِلَى برج دَار الْحرَّة عزونه وَقتل فِي أغمات مِنْهُم مثل ذَلِك وَخرج منتصف شعْبَان إِلَى منازلة السكسيوي وتدويخ جِهَات مراكش فَنزل بتامزوارت وتلقاه السكسيوي بالبيعة والهدية والضيافة فَقبل السُّلْطَان أَبُو ثَابت ذَلِك مِنْهُ ثمَّ بعث قائده يَعْقُوب بن آصناك فِي جَيش من ثَلَاثَة آلَاف فَارس إِلَى بِلَاد حاحة برسم غَزْو قبائل زكنة فَفرُّوا بَين يَدَيْهِ حَتَّى دخلُوا بِلَاد الْقبْلَة وَانْقطع أَثَرهم وَرجع إِلَى معسكر السُّلْطَان بتامزوارت وَأخْبرهُ بِسُكُون الْبِلَاد وأمنها فانكفأ السُّلْطَان أَبُو ثَابت رَاجعا إِلَى مراكش فَدَخلَهَا غرَّة رَمَضَان من سنة سبع وَسَبْعمائة ثمَّ خرج مِنْهَا فِي منتصفه قَاصِدا رِبَاط الْفَتْح فاجتاز على بِلَاد صنهاجة وَعبر وَادي أم الرّبيع من مشرع كتامة فِي القوارب لزِيَادَة المَاء يَوْمئِذٍ ثمَّ ارتحل فاجتاز بِبِلَاد تامسنا فَتَلقاهُ بهَا عرب جشم من قبائل الْخَلْط وسُفْيَان وَبني جَابر والعاصم فاستصحبهم مَعَه إِلَى مَدِينَة آنفي بعد أَن استأذنوه فِي الرُّجُوع فَلم يَأْذَن لَهُم وَلما أحتل بآنفي دَعَا بأشياخهم فَحَضَرُوا عِنْده فَقبض على سِتِّينَ مِنْهُم أودعهم سجن آنفى وَضرب أَعْنَاق عشْرين من فسادهم القاطعين للسبل وصلبهم على سور آنفى ثمَّ نَهَضَ إِلَى رِبَاط الْفَتْح فدخله فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان فعيد هُنَالك عيد الْفطر وَقتل بِهِ ثَلَاثِينَ من فتاك لعرب المتهمين بالحرابة وَقطع الطَّرِيق وصلبهم على أسوار العدوتين ثمَّ ارتحل منتصف شَوَّال لغزو عرب ريَاح الموطنين بِأبي طَوِيل وفحص آزغار وبلاد الهبط فغزاهم وَأَخذهم بالإجن الْقَدِيمَة فَقتل مِنْهُم خلقا وسبى ذَرَارِيهمْ وانتهب أَمْوَالهم ونهض إِلَى فاس فاحتل بهَا منتصف ذِي الْقعدَة وَعِيد بهَا عيد الْأَضْحَى ثمَّ نَهَضَ إِلَى سبتة على مَا نذكرهُ
غَزْو السُّلْطَان أبي ثَابت بِلَاد غمارة وسبتة ومحاصرته لعُثْمَان بن أبي الْعَلَاء
قد تقدم لنا أَن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء كَانَ قد ورد من الأندلس صُحْبَة الرئيس أبي سعيد بن الْأَحْمَر المتغلب على سبتة أَيَّام السُّلْطَان يُوسُف وَأَنه ثار بجبال غمارة ودعا لنَفسِهِ واستحوذ عَلَيْهَا وَكَانَ السُّلْطَان يُوسُف بلغه خَبره وأهمه شَأْنه إِلَّا أَنه كَانَ يَرْجُو أَن يفتح تلمسان عَن قريب ثمَّ ينْهض إِلَيْهِ فعاجله الْحمام دون ذَلِك وَلما أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي ثَابت وَقدم حَضْرَة فاس شغله عَن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء مَا كَانَ من ثورة يُوسُف بن مُحَمَّد بن أبي عياد بمراكش كَمَا قدمْنَاهُ فعقد على حَرْب عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء لِابْنِ عَمه عبد الْحق بن عُثْمَان بن مُحَمَّد بن عبد الْحق فزحف إِلَيْهِ ونهض عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء الى لِقَائِه منتصف ذِي الْحجَّة سنة سبع وَسَبْعمائة فَهَزَمَهُ عُثْمَان بن ابي الْعَلَاء واستلحم من كَانَ مَعَه من جند الفرنج وَهلك فِي تِلْكَ الْوَقْعَة عبد الْوَاحِد الفودودي من رجالات الدولة المرشحين للوزارة وَسَار عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء إِلَى قصر كتامة فدخله وَاسْتولى على جهاته وَكَانَ بطلا من الْأَبْطَال وعَلى أثر ذَلِك كَانَ رُجُوع السُّلْطَان أبي ثَابت من غزَاة مراكش وَقد حسم الدَّاء ومحى أثر النِّفَاق فاعتزم على النهوض إِلَى بِلَاد غمارة ليمحو مِنْهَا أثر دَعْوَة ابْن أبي الْعَلَاء الَّتِي كَادَت تلج عَلَيْهِ دَار ملكه ويستخلص سبتة من يَد ابْن الْأَحْمَر المتغلب عَلَيْهَا لِأَنَّهَا صَارَت ركابا لمن يروم الْخُرُوج على السُّلْطَان من الْقَرَابَة المستقرين وَرَاء الْبَحْر غزَاة فِي سَبِيل الله
فَنَهَضَ السُّلْطَان أَبُو ثَابت من فاس عقب عيد الْأَضْحَى من سنة سبع وَسَبْعمائة حَتَّى انْتهى إِلَى قصر كتامة فَتلوم بِهِ ثَلَاثًا حَتَّى تلاحق بِهِ قبائل مرين وَالْعرب وَالرُّمَاة من سَائِر الْبِلَاد فَعرض جَيْشه وارتحل قَاصِدا جبال غمارة وَكَانَ عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء قد فر أَمَامه إِلَى نَاحيَة سبتة فَسَار السُّلْطَان أَبُو ثَابت فِي أَتْبَاعه حَتَّى نَازل حصن علودان واقتحمه عنْوَة واستلحم بِهِ زهاء أَرْبَعمِائَة ثمَّ نَازل بلد الدمنة على شاطئ الْبَحْر فَقتل الرِّجَال وسبى النِّسَاء والذرية
وانتهب الْأَمْوَال وَكَانُوا قد تمسكوا بِطَاعَة ابْن أبي الْعَلَاء وأجازوه إِلَى الْقصر فِي وسط بِلَادهمْ وبالغوا فِي تضييفه وإكرامه ودخلوا مَعَه الْقصر وآصيلا ونهبوا كثيرا من مَال أهلهما ثمَّ ارتحل السُّلْطَان أَبُو ثَابت إِلَى طنجة فَدَخلَهَا فاتح سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وتحصن ابْن أبي الْعَلَاء بسبتة مَعَ أوليائه من ابْن الْأَحْمَر وسرح السُّلْطَان أَبُو ثَابت عسكره فتفرقت فِي نواحي سبتة بالغارات واكتساح الْأَمْوَال
بِنَاء مَدِينَة تطاوين
ثمَّ أَمر السُّلْطَان باختطاط مَدِينَة تطاوين لنزول عسكره وللأخذ بمخنق سبتة هَكَذَا عِنْد ابْن أبي زرع وَابْن خلدون وَاعْلَم أَن تطاوين هَذِه هِيَ تطاوين الْقَدِيمَة وَقد تقدم لنا أَن قصبتها بنيت فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَذَلِكَ لأوّل دولة السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق ثمَّ بنى السُّلْطَان أَبُو ثَابت هَذِه الْمَدِينَة عَلَيْهَا فِي هَذَا التَّارِيخ الَّذِي هُوَ فاتح سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وَكَانَ بناؤها خَفِيفا شبه الْقرْيَة عدا قصبتها فَإِن بناءها كَانَ محكما وثيقا واستمرت هَذِه الْمَدِينَة عامرة إِلَى صدر الْمِائَة التَّاسِعَة فخربت ثمَّ جدد بناؤها بعد نَحْو تسعين سنة حَسْبَمَا يَأْتِي الْخَبَر عَن ذَلِك مُسْتَوفى إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالُوا وَلَفظ تطاوين مركب من كَلِمَتَيْنِ تبط وَمَعْنَاهَا فِي لِسَان البربر الْعين ووين وَهِي كِنَايَة عَن الْمُخَاطب نَحْو يَا فلَان وَمَا أشبه ذَلِك قَالُوا وَالسَّبَب فِي تَسْمِيَتهَا بذلك أَنهم فِي وَقت اختطاطهم لَهَا كَانُوا يضعون الحرس على تطاوين أَي يَا فلَان افْتَحْ عَيْنك لِأَن عَادَة الحارس أَن يَقُول ذَلِك فَصَارَ هَذَا بَعضهم تيط مَعْنَاهَا الْعين ووين مَعْنَاهَا المقلة وَمعنى مَجْمُوع الْكَلِمَتَيْنِ مقلة الْعين وَالْإِضَافَة مَقْلُوبَة كَمَا هِيَ فِي لِسَان بعض الْأُمَم العجمية فَإِنَّهُ لَا مُسْتَند لَهُ وَالله تَعَالَى أعلم
وَلما شرع السُّلْطَان أَبُو ثَابت فِي بِنَاء مَدِينَة تطاوين أوفد كَبِير الْفُقَهَاء بمجلسه أَبَا يحيى بن أبي الصَّبْر إِلَى ابْن الْأَحْمَر صَاحب سبتة فِي شَأْن النُّزُول لَهُ عَن الْبَلَد وَأقَام هُوَ بقصبة طنجة ينْتَظر الْجَواب بِمَاذَا يكون وَفِي أثْنَاء ذَلِك مرض مرض مَوته وَتُوفِّي يَوْم الْأَحَد الثَّامِن من شهر صفر سنة ثَمَان وَسَبْعمائة وَدفن بِظَاهِر طنجة ثمَّ حمل شلوه بعد أَيَّام إِلَى مدفن آبَائِهِ بشالة فووري هُنَالك رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم
الْخَبَر عَن دولة السُّلْطَان أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن أبي عَامر عبد الله بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق رحمه الله
لما هلك السُّلْطَان أَبُو ثَابت تصدى للْقِيَام بِالْأَمر عَمه عَليّ بن يُوسُف الْمَعْرُوف بِابْن زريقاء وَهِي أمه وعَلى هَذَا هُوَ الَّذِي قتل شُيُوخ المصامدة بِكِتَاب ابْن الملياني كَمَا تقدم وخلص الْمَلأ من بني مرين أهل الْحل وَالْعقد إِلَى أبي الرّبيع الْمَذْكُور أخي أبي ثَابت فَبَايعُوهُ واستتب أمره فتقبض على عَمه عَليّ بن زريقاء وسجنه بطنجة فَبَقيَ مسجونا بهَا إِلَى أَن هلك سنة عشر وَسَبْعمائة وَبث السُّلْطَان أَبُو الرّبيع الْعَطاء فِي النَّاس وأجزل الصلات فأرضى الْخَاصَّة والعامة وَصفا لَهُ الْأَمر ثمَّ ارتحل نَحْو فاس واستدعى من كَانَ بمحلة تطاوين من الْجند فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ وأرضاهم بِالْمَالِ كَذَلِك وَلما فصل من طنجة تبعه عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء من سبتة فِي جَيش كثيف ليضْرب فِي محلته لَيْلًا فَنَذر بِهِ عَسْكَر السُّلْطَان أبي الرّبيع فأسهروا ليلتهم وَبَاتُوا على صهوات خيولهم فوافاهم عُثْمَان بِسَاحَة علودان وهم على ذَلِك فناجزهم الْحَرْب فهزموه وتقبض على وَلَده وَكثير من عسكره وَقتل آخَرُونَ وَكَانَ للسُّلْطَان أبي الرّبيع الظُّهُور الَّذِي لَا كفاء لَهُ وَوصل أَبُو يحيى بن أبي الصَّبْر من الأندلس وَقد أحكم عقدَة الصُّلْح مَعَ ابْن الْأَحْمَر صَاحب غرناطة
وَلما رأى عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء ذَلِك سقط فِي يَده وأيس من الْمغرب فَعبر الْبَحْر فِيمَن مَعَه من الْقَرَابَة إِلَى الأندلس وَولي مشيخة الْغُزَاة بهَا فَكَانَت لَهُ فِي جِهَاد الْعَدو الْيَد الْبَيْضَاء وَعلا أمره بالأندلس وزاحم بني الْأَحْمَر مُلُوكهَا فِي رياستهم وجبايتهم حَتَّى كَاد يستولي على الْأَمر من أَيْديهم وشرقوا بدائه ومارسهم ومارسوه مُدَّة طَوِيلَة وَعدلُوا فِي أمره إِلَى المصانعة والمجاملة فِي أَخْبَار لَيْسَ جلبها من غرضنا إِلَى أَن توفّي لَكنا نذْكر من ذَلِك أنموذجا يسْتَدلّ بِهِ الْوَاقِف عَلَيْهِ على مَا وَرَاءه فَنَقُول لما توفّي عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء رحمه الله كتب على قَبره مَا صورته هَذَا قبر شيخ الحماة وَصدر الْأَبْطَال والكماة وَاحِد الْجَلالَة لَيْث الْإِقْدَام والبسالة علم الْأَعْلَام حامي ذمار الْإِسْلَام صَاحب الْكَتَائِب المنصورة وَالْأَفْعَال الْمَشْهُورَة والمغازي المسطورة وَإِمَام الصُّفُوف الْقَائِم بِبَاب الْجنَّة تَحت ظلال السيوف سيف الْجِهَاد وقاصم الأعاد وَأسد الآساد العالي الهمم الثَّابِت الْقدَم الْهمام الْمَاجِد الأرضى البطل الباسل الأمضى الْمُقَدّس المرحوم أبي سعيد عُثْمَان ابْن الشَّيْخ الْجَلِيل الْهمام الْكَبِير الْأَصِيل الشهير الْمُقَدّس المرحوم أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن عبد الله بن عبد الْحق
كَانَ عمره ثمانيا وَثَمَانِينَ سنة أنفقهُ مَا بَين رَوْحَة فِي سَبِيل الله وغدوة حَتَّى استوفى فِي المشهورر سَبْعمِائة واثنتين وَثَلَاثِينَ غَزْوَة وَقطع عمره مُجَاهدًا مُجْتَهدا فِي طَاعَة الرب محتسبا فِي إدارة الْحَرْب ماضي العزائم فِي جِهَاد الْكفَّار مصادما بَين جموعهم تدفق التيار وصنع الله تَعَالَى لَهُ فيهم من الصَّنَائِع الْكِبَار مَا سَار ذكره فِي الأقطار أشهر من الْمثل السيار حَتَّى توفّي رحمه الله وغبار الْجِهَاد طي أثوابه وَهُوَ مراقب لطاغية الْكفَّار وأحزابه فَمَاتَ على مَا عَاشَ عَلَيْهِ وَفِي ملحمة الْجِهَاد قَبضه الله إِلَيْهِ واستأثر بِهِ سعيدا مرتضى وسيفه على رَأس ملك الرّوم منتضى مُقَدّمَة قبُول وإسعاد ونتيجة جِهَاد وجلاد ودليلا على نِيَّته الصَّالِحَة وتجارته الرابحة فارتجت الأندلس لبعده أتحفه الله برحمة من عِنْده توفّي يَوْم الْأَحَد الثَّانِي لذِي الْحجَّة من سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة رَحمَه الله
وَأما السُّلْطَان أَبُو الرّبيع فَإِنَّهُ لما سَار عَن طنجة دخل حَضْرَة فاس حادي عشر ربيع الأول من سنة ثَمَان وَسَبْعمائة فَأَقَامَ بهَا سنة المولد الْكَرِيم وَفرق الْأَمْوَال واستقامت الْأُمُور وتمهد الْملك وَعقد السّلم مَعَ صَاحب تلمسان أبي حمو مُوسَى بن عُثْمَان بن يغمراسن وَأقَام وادعا بِحَضْرَتِهِ مجتنيا ثَمَرَة ملكه وَكَانَ فِي أَيَّامه غلاء إِلَّا أَن النَّاس انفتحت لَهُم فِيهَا أَبْوَاب المعاش والترف حَتَّى تغَالوا فِي أَثمَان الْعقار فبلغت قيمتهَا فَوق الْمُعْتَاد حَتَّى لقد بيع كثير من الدّور بفاس بِأَلف دِينَار من الذَّهَب الْعين وتنافس النَّاس فِي الْبناء فاتخذوا الْقُصُور المشيدة وتأنفوا فِيهَا بالزليج والرخام وأنواع النقوش وتناغو فِي لبس الْحَرِير وركوب الفاره وَأكل الطّيب واقتناء الْحلِيّ من الذَّهَب وَالْفِضَّة واستبحر الْعمرَان وَظَهَرت الزِّينَة والأمور كلهَا بيد الله تَعَالَى
نكبة الْفَقِيه الْكَاتِب أبي مُحَمَّد عبد الله بن أبي مَدين واستئصال بني وقاصة الْيَهُودِيين بعد ذَلِك
كَانَ الْفَقِيه الْكَاتِب أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي مَدين شُعَيْب بن مخلوف من بني أبي عُثْمَان إِحْدَى قبائل كتامة المجاورين للقصر الْكَبِير وَكَانَ بَيته بَيت الْعلم وَالدّين واتصلوا خدمَة بني مرين أَيَّام دُخُولهمْ الْمغرب واستيلائهم عَلَيْهِ وَكَانَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا من خَاصَّة السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب وَجعل بِيَدِهِ وضع الْعَلامَة على الرسائل وفوض إِلَيْهِ فِي حسبان الْخراج وَالضَّرْب على أَيدي الْعمَّال وتنفيذ الْأَوَامِر بِالْقَبْضِ والبسط فيهم واستخلصه لمناجاته والإفضاء إِلَيْهِ بسره وَلما هلك السُّلْطَان يُوسُف وَولي بعده السُّلْطَان أَبُو ثَابت ضاعف رُتْبَة هَذَا الرجل وشفع لَدَيْهِ حَظه ومنصبه وَرفع على الأقدار قدره ثمَّ ولي بعده أَخُوهُ أَبُو الرّبيع فسلك فِيهِ مَذْهَب سلفه واضطلع أَبُو مُحَمَّد بن أبي مَدين بِأُمُور دولته وَكَانَ بَنو وقاصة الْيَهُود حِين نكبوا أَيَّام السُّلْطَان يُوسُف يرَوْنَ أَن نكبتهم كَانَت بسعاية أبي مُحَمَّد فيهم وَكَانَ خَليفَة الْأَصْغَر مِنْهُم قد أفلت من تِلْكَ النكبة كَمَا ذَكرْنَاهُ
فَلَمَّا أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي الرّبيع اسْتعْمل خَليفَة هَذَا بداره فِي بعض المهن فباشر الْأُمُور وترقى فِيهَا حَتَّى اتَّصل بالسلطان فَجعل غَايَة قَصده السّعَايَة بِأبي مُحَمَّد بن أبي مَدين وَكَانَ يُؤثر عَن السُّلْطَان أبي الرّبيع أَنه يختلي مَعَ حرم حَاشِيَته وتعرف خَليفَة ذَلِك من مقالات النَّاس فَدس إِلَى السُّلْطَان بِأَن ابْن أبي مَدين يعرض باتهامك فِي ابْنَته وَأَن صَدره قد وغر لذَلِك وَأَنه مترصد بالدولة ومتربص بهَا الدَّوَائِر فتمكنت سعايته من السُّلْطَان وَظن أَنه صَادِق وَكَانَ يخْشَى غائلة ابْن أبي مَدين بِمَا كَانَ لَهُ من الوجاهة فِي الدولة ومداخلة الْقَبِيل فاستعجل السُّلْطَان أَبُو الرّبيع دفع غائلته ودس إِلَى قَائِد جند الفرنج بقتْله فَسَار إِلَيْهِ ولقيه بمقبرة الشَّيْخ أبي بكر بن الْعَرَبِيّ فرصده وَأَتَاهُ من خَلفه فطعنه طعنة كبته على ذقنه واحتز رَأسه وألقاه بَين يَدي السُّلْطَان أبي الرّبيع وَدخل الْوَزير سُلَيْمَان بن يرزيكن فَوجدَ الرَّأْس بَين يَدَيْهِ فَذَهَبت نَفسه عَلَيْهِ وعَلى مَكَانَهُ من الدولة حسرة وأسفا وَأَيْقَظَ السُّلْطَان لمكر الْيَهُودِيّ وأطلعه على خبثه وَأخرج لَهُ بَرَاءَة كَانَ بعث بهَا ابْن أبي مَدين مَعَه إِلَى السُّلْطَان يتنصل فِيهَا وَيحلف على كذب مَا رمي بِهِ عِنْده فَتنبه السُّلْطَان لمكر الْيَهُودِيّ وَعلم أَنه قد خدعه وَنَدم حَيْثُ لم يَنْفَعهُ النَّدَم وفتك لحينه بخليفة بن وقاصة وحاشيته من الْيَهُود المتصدين للْخدمَة وسطا بهم سطوة الهلكة فَأَصْبحُوا مثلا للآخرين
انْتِقَاض أهل سبتة على بني الْأَحْمَر ومراجعتهم طَاعَة بني مرين
كَانَ أهل سبتة قد سئموا ملكة أهل الأندلس وثقلت عَلَيْهِم ولايتهم لَا سِيمَا حِين رَحل عَنْهُم عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء وَعبر الْبَحْر بِقصد الْجِهَاد كَمَا مر واتصل خبر ذَلِك بالسلطان أبي الرّبيع فانتهز الفرصة فيهم وَعقد لِثِقَتِهِ تاشفين بن يَعْقُوب الوطاسي أخي وزيره عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب على عَسْكَر ضخم من بني مرين وَسَائِر طَبَقَات الْجند وَبَعثه إِلَى سبتة فأغذ السّير إِلَيْهَا وَنزل بساحتها وَلما أحس بِهِ أهل الْبَلَد تمشت رجالاتهم فِيمَا بَينهم وتنادوا
بشعار بني مرين وثاروا على من كَانَ بسبتة من حامية ابْن الْأَحْمَر فأخرجوهم مِنْهَا واقتحم تاشفين بن يَعْقُوب الْبَلَد عَاشر صفر من سنة تسع وَسَبْعمائة وتقبض على قَائِد القصبة أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن مليلة وعَلى قَائِد الْبَحْر أبي الْحسن بن كماشة وعَلى قَائِد الْحَرْب بهَا من الْقَرَابَة عمر بن رحو بن عبد الله بن عبد الْحق وطير تاشفين بالْخبر إِلَى السُّلْطَان أبي الرّبيع فَعم السرُور وَعظم الْفَرح واتصل ذَلِك بِابْن الْأَحْمَر فَضَاقَ ذرعه وخشي عَادِية بني مرين وجيوش الْمغرب حِين انْتَهوا إِلَى الفرضة وملكوها فَقلب رَأْيه وَرَأى أَن يجنح إِلَى السّلم مَعَ السُّلْطَان أبي الرّبيع لشدَّة شوكته ولكلب الطاغية عَلَيْهِ فِي أرضه لَوْلَا أَن غزاه بني مرين يكفون من غربه فبادر السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر وَهُوَ أَبُو الجيوش نصر بن مُحَمَّد أَخُو المخلوع الَّذِي كَانَ قبله وأوفد رسله على السُّلْطَان أبي الرّبيع راغبين فِي السّلم خاطبين للولاية وتبرع بالنزول عَن الجزيرة ورندة وحصونها ترغيبا للسُّلْطَان أبي الرّبيع فِي الْجِهَاد فَقبل مِنْهُ ذَلِك وَعقد لَهُ الصُّلْح على مَا أَرَادَ وخطب مِنْهُ أُخْته فأنكحه ابْن الْأَحْمَر إِيَّاهَا وَبعث السُّلْطَان أَبُو الرّبيع إِلَيْهِ بالمدد للْجِهَاد أَمْوَال وخيولا جنائب مَعَ ثقته عُثْمَان بن عِيسَى اليريناني أخي وزيره إِبْرَاهِيم بن عِيسَى واتصلت بَينهمَا الْولَايَة إِلَى أَن توفّي السُّلْطَان أَبُو الرّبيع رحمه الله
انْتِقَاض الْوَزير عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب الوطاسي على السُّلْطَان أبي الرّبيع ومبايعته لعبد الْحق بن عُثْمَان وَالسَّبَب فِي ذَلِك
لما انْعَقَد الصُّلْح بَين السُّلْطَان أبي الرّبيع وَابْن الْأَحْمَر وحصلت الْمُصَاهَرَة بَينهمَا والمودة كَانَت رسل ابْن الْأَحْمَر لَا تزَال تَتَرَدَّد إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان بفاس فَقدم مِنْهُم ذَات يَوْم بعض المنهمكين فِي اللَّهْو المدمنين للشُّرْب والقصف فكشف صفحة وَجهه فِي معاقرة الْخمر وتجاهر بذلك بَين النَّاس وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو الرّبيع قد عزل قَاضِي فاس أَبَا غَالب المغيلي وَولى الْقَضَاء مَكَانَهُ الشَّيْخ الْفَقِيه أَبَا الْحسن الزرويلي الْمَعْرُوف بالصغير صَاحب
التَّقْيِيد على الْمُدَوَّنَة وَكَانَ رحمه الله قد شدد على أهل الفسوق والمناكر فسيق إِلَيْهِ ذَات يَوْم هَذَا الأندلسي وَهُوَ سَكرَان فَأمر الْعُدُول فاستروحوه واشتموا مِنْهُ رَائِحَة الْخمر وأدوا شَهَادَتهم على ذَلِك فَأمْضى القَاضِي حكم الله فِيهِ وَجلده الْحَد فاضطرم الأندلسي غيظا وَتعرض للوزير عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب الوطاسي وَيُقَال لَهُ رحو بِاللِّسَانِ الزناتي فكشف لَهُ عَن ظَهره يرِيه أثر السِّيَاط وينعي عَلَيْهِ سوء هَذَا الْفِعْل مَعَ رسل الدول فضجر الْوَزير من ذَلِك وأخذته الْعِزَّة بالإثم وَلَعَلَّه كَانَ فِي قلبه شَيْء على القَاضِي فَأمر وزعته بإحضاره على أَسْوَأ الْحَالَات وعزم على الْبَطْش بِهِ فتبادروا إِلَيْهِ واعتصم القَاضِي بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع ونادى فِي الْمُسلمين فثارت الْعَامَّة بهم ومرج أَمر النَّاس وَقَامَت الْفِتْنَة على سَاق واتصل الْخَبَر بالسلطان فتلافى الْأَمر وأحضر أَصْحَاب الْوَزير فَضرب أَعْنَاقهم وشرد بهم من خَلفهم جزاه الله خيرا فأسرها الْوَزير فِي نَفسه وداخل الْحسن بن عَليّ بن أبي الطَّلَاق من بني عَسْكَر بن مُحَمَّد وَكَانَ من شُيُوخ بني مرين وَأهل الشورى فيهم وداخل قَائِد الفرنج غنصالوا الْمُنْفَرد برياسة الْعَسْكَر وشوكة الْجند وَكَانَ لهَؤُلَاء الفرنج بالوزير اخْتِصَاص بِحَيْثُ آثروه على السُّلْطَان فَدَعَاهُمْ لخلع طَاعَة السُّلْطَان أبي الرّبيع وبيعة عبد الْحق بن عُثْمَان بن مُحَمَّد بن عبد الْحق كَبِير الْقَرَابَة وَأسد الأعياص فَأَجَابُوهُ وَبَايَعُوا لَهُ وَتمّ أَمرهم وَلما كَانَ يَوْم السبت الثَّالِث وَالْعشْرُونَ من ربيع الآخر من سنة عشر وَسَبْعمائة فر الْوَزير الْمَذْكُور وقائده الفرنجي وَمن شايعهم على رَأْيهمْ فَخَرجُوا إِلَى ظَاهر الْبَلَد الجديدة وجاهروا بالخلعان وَأَقَامُوا الْآلَة والرسم وَبَايَعُوا سلطانهم عبد الْحق على عُيُون الْمَلأ وعسكروا بالعدوة القصوى من سبو ثمَّ سَارُوا إِلَى نَاحيَة تازا وَلما استقروا برباطها أخذُوا فِي جمع الجيوش ومكاتبة الْخَاصَّة من بني مرين وَالْعرب يَدعُونَهُمْ إِلَى بيعَة سلطانهم والمشايعة لَهُم على رَأْيهمْ وأوفدوا على أبي حمو مُوسَى بن عُثْمَان بن يغمراسن صَاحب تلمسان يَدعُونَهُ إِلَى المظاهرة على أَمرهم واتصال الْيَد والمدد بالعسكر وَالْمَال فتوقف أَبُو حمو وَلم يقدم وَلم يحجم وَبَقِي ينْتَظر عماذا ينجلي أَمرهم واتصل خبر ذَلِك كُله بالسلطان أبي
فَكَانَ أهل الْيَسَار لَا ينامون لحراستهم دُورهمْ وأمتعتهم وَهلك من الْجُوع عددا لَا حصر لَهُ حَتَّى لقد أخبر صَاحب المارستان أَنه كفن فِي رَجَب وَشَعْبَان ورمضان ثَمَانِينَ ألفا وَزِيَادَة سوى من كَفنه أَهله هَذَا بفاس وليقس عَلَيْهَا غَيرهَا
وَفِي زَوَال يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّانِي وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة وَألف توفّي قَاضِي سلا الْفَقِيه الْعَلامَة السَّيِّد أَبُو عَمْرو عُثْمَان التواتي وَدفن دَاخل رَوْضَة سَيِّدي الْحَاج أَحْمد بن عَاشر رضي الله عنه
وَفِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف كَانَ الوباء بالمغرب وانحباس الْمَطَر فلحق النَّاس من ذَلِك شدَّة ثمَّ تداركهم الله بِلُطْفِهِ
وَفِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف كَانَت الزلزلة الْعَظِيمَة بالمغرب الَّتِي هدمت جلّ مكناسة وزرهون وَمَات فِيهَا خلق كثير بِحَيْثُ أحصي من العبيد وحدهم نَحْو خَمْسَة آلَاف وَتكلم لويز مَارِيَة على هَذِه الزلزلة فَقَالَ إِنَّهَا مكثت ربع سَاعَة وتشققت الأَرْض مِنْهَا واضطراب الْبَحْر وفاض حَتَّى ارْتَفع مَاؤُهُ على سور الجديدة وَفرغ فِيهَا وَلما رَجَعَ الْبَحْر إِلَى مقره ترك عددا كثيرا من السّمك بِالْبَلَدِ وفاض على مسارحهم ومزارعهم وأشباراتهم فنسف ذَلِك كُله نسفا واضطربت المراكب والفلك بالمرسى فتكسرت كلهَا وفر نَصَارَى الْبَلَد إِلَى الْكَنِيسَة وَتركُوا دِيَارهمْ منفتحة وَمَعَ ذَلِك لم يفقد مِنْهَا شَيْء لاشتغال النَّاس بِأَنْفسِهِم وَتكلم صَاحب نشر المثاني على هَذِه الزلزلة فَقَالَ وَفِي ضحوة يَوْم السبت السَّادِس وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَألف زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا ومادت شرقا وغربا واستمرت كَذَلِك نَحْو درج زماني وفاض مَاء البرك والصهاريج على الْبيُوت وتكدرت الْعُيُون ووقف مَاء الأودية عَن الجري وَسَقَطت الدّور وتصدعت الْحِيطَان وَأخذ النَّاس فِي هدم مَا تصدع خوف سُقُوطه وفزع النَّاس وَتركُوا حوانيتهم وأمتعتهم وَوَقع بِمَدِينَة سلا أَن مَاء الْبَحْر انحصر عَنهُ إِلَى أقصاه فجَاء النَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ فَرجع المَاء إِلَى جِهَة الْبر وَتجَاوز حَده الْمُعْتَاد بمسافة كَبِيرَة
فأغرق جَمِيع من كَانَ خَارج الْمَدِينَة فِي تِلْكَ الْجِهَة وصادف قافلة ذَاهِبَة إِلَى مراكش فِيهَا من الدَّوَابّ وَالنَّاس عدد كثير فأتلف الْجَمِيع وَرمى بالقوارب والزوارق الَّتِي فِي الْوَادي إِلَى مَسَافَة بعيدَة جدا ثمَّ بعد هَذِه بِنَحْوِ سِتَّة وَعشْرين يَوْمًا عَادَتْ زَلْزَلَة أُخْرَى أَشد من الأولى بعد صَلَاة الْعشَاء هِيَ الَّتِي أثرت فِي مكناسة غَايَة وَهلك تَحت الْهدم بهَا نَحْو عشرَة آلَاف نفس وَفعلت بفاس أَيْضا فعلا شنيعا انْظُر تَمام كَلَامه فقد أَطَالَ فِي وصفهَا
وَفِي يَوْم الْأَحَد التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان سنة سبع وَسبعين وَمِائَة وَألف انكسفت الشَّمْس وَبَقِي مِنْهَا مثل الْهلَال ثمَّ انجلت بعد حِين
وَفِي فجر يَوْم الْأَحَد الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف توفّي الشريف الْبركَة مولَايَ الطّيب بن مُحَمَّد الوزاني وعمره ينيف على الثَّمَانِينَ سنة وَبعد صَلَاة الْعَصْر من يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة وَألف انكسفت الشَّمْس وَظَهَرت النُّجُوم لِكَثْرَة الظلام ثمَّ انجلت وَرجعت لحالها بعد نصف سَاعَة وَنَحْوهَا
وَفِي أَعْوَام تسعين وَمِائَة وَألف كَانَت المجاعة الْكَبِيرَة بالمغرب وانحبس الْمَطَر وَوَقع الْقَحْط وَكثر الْهَرج ودام ذَلِك قَرِيبا من سبع سِنِين
وَفِي أَوَاخِر ربيع الثَّانِي سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة وَألف توفّي الشَّيْخ الْعَلامَة الإِمَام الْمُحَقق البارع أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بناني الفاسي الْفَقِيه الْمَشْهُور صَاحب التآليف الحسان مثل حَاشِيَته البديعة على شرح الشَّيْخ عبد الْبَاقِي الزّرْقَانِيّ على مُخْتَصر خَلِيل حكى الْعَلامَة الرهوني فِي حَاشِيَته قَالَ لما أخبر الشَّيْخ التاودي ابْن سَوْدَة بوفاته جَاءَ فَزعًا وَهُوَ يبكي فَلَقِيَهُ بعض النَّاس فَقَالَ لَهُ الله يَجْعَل الْبركَة فِيكُم فَقَالَ لم تبْق بركَة بعد هَذَا الرجل وَذَلِكَ لمعرفته بمكانته
وَفِي ضحى يَوْم السبت الثَّامِن عشر من صفر سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة وَألف توفّي الشريف الْبركَة الْمولى أَحْمد بن الطّيب الوزاني رحمه الله ونفعنا بِهِ وبأسلافه آمين
حُدُوث الْفِتْنَة بالمغرب وَظُهُور الْمُلُوك الثَّلَاثَة من أَوْلَاد سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
لما قتل الْمولى يزِيد رحمه الله بمراكش افْتَرَقت الْكَلِمَة بالمغرب فَأَقَامَ أهل الْحَوْز وَأهل مراكش على التَّمَسُّك بدعوة الْمولى هِشَام وشايعه على أمره الْقَائِد أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر الْعَبْدي صَاحب آسفي وأعمالها والقائد أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْهَاشِمِي بن عَليّ بن العروسي الدكالي البوزراري وَكَانَ الْمولى مسلمة بن مُحَمَّد شَقِيق الْمولى يزِيد خَليفَة عَنهُ بِبِلَاد الهبط والجبل يدبر الْأَمر بثغورها وَينظر فِي أمورها فَلَمَّا اتَّصل بِهِ خبر وَفَاة أَخِيه دَعَا إِلَى نَفسه أهل تِلْكَ الْبِلَاد فَبَايعُوهُ واتفقت كلمتهم عَلَيْهِ وَوصل خبر موت الْمولى يُزْبِد إِلَى فاس وأعمالها فَبَايعُوا الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رحمه الله وَكَانَ من أمره مَا نذكرهُ
الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي الرّبيع الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رحمه الله
كَانَ الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رحمه الله أعلق بقلب أَبِيه من سَائِر إخْوَته على مَا قيل لسعيه فِيمَا يُرْضِي الله وَرَسُوله ويرضي وَالِده واشتغاله بِالْعلمِ والعكوف عَلَيْهِ بسجلماسة وَغَيرهَا وَلم يلْتَفت قطّ إِلَى شَيْء مِمَّا كَانَ يتعاطاه إخْوَته الْكِبَار وَالصغَار من أُمُور اللَّهْو كالصيد وَالسَّمَاع ومعاقرة الندمان وَمَا يزري بالمروءة وَلم يَأْتِ فَاحِشَة قطّ من صغره إِلَى كبره وَكَانَ رحمه الله يرى لَهُ ذَلِك ويثيبه عَلَيْهِ بالعطايا الْعَظِيمَة والذخائر النفيسة وَالْأُصُول الْمُعْتَبرَة الَّتِي تغل الْألف وَأكْثر وينوه بِذكرِهِ فِي المحافل وَيبْعَث إِلَيْهِ بأعيان الْفُقَهَاء والأدباء إِلَى سجلماسة ليقْرَأ عَلَيْهِم وَيَأْخُذ عَنْهُم وَيَدْعُو لَهُ فِي كل موقف على رُؤُوس الأشهاد وَيَقُول إِن وَلَدي سُلَيْمَان رضي الله عنه لم يبلغنِي عَنهُ قطّ مَا يكدر باطني عَلَيْهِ فأشهدكم أَنِّي عَنهُ رَاض وَنَشَأ رحمه الله نشأة حَسَنَة
طيبَة وَكَانَت شمائل الْملك لائحة عَلَيْهِ إِلَى أَن أظفره الله بِهِ وَكُنَّا قدمنَا أَنه قدم على أَخِيه الْمولى يزِيد بقبائل الصَّحرَاء فأجل مقدمه وَأكْرم وفادته فَأَقَامَ الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله بفاس إِلَى أَن كَانَت وَفَاة الْمولى يزِيد فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم فاتصل خبر مَوته بِأَهْل فاس ومكناسة فَقَامُوا على سَاق وَاتفقَ العبيد والودايا والبربر وَأهل فاس على بيعَته لما كَانَ عَلَيْهِ من الْعلم وَالدّين وَالْفضل وَسَائِر الْأَوْصَاف الحميدة الَّتِي تفرد بهَا عَن غَيره وَلما قدم العبيد والبربر من مكناسة إِلَى فاس اجْتَمعُوا بأعيان الودايا وَأهل فاس ودخلوا ضريح الْمولى إِدْرِيس رضي الله عنه وَبَايَعُوا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى سُلَيْمَان يَوْم الأثنين سَابِع عشر رَجَب سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما تمت بيعَته انْتقل إِلَى فاس الْجَدِيد فاستقر بدار الْملك مِنْهَا وقدمت عَلَيْهِ وُفُود الْقَبَائِل من الْعَرَب والبربر بهداياهم ثمَّ قدم عَلَيْهِ بعدهمْ قبائل بني حسن وَأهل الغرب ثمَّ أهل العدوتين سلا ورباط الْفَتْح وانحرف بعض أهل رِبَاط الْفَتْح عَن بيعَته كَمَا سَيَأْتِي ثمَّ قدم عَلَيْهِ أهل الثغور الهبطية بعد أَن توقفوا عَن بيعَته مُدَّة يسيرَة لأَنهم كَانُوا قد بَايعُوا الْمولى مسلمة كَمَا مر
وَنَصّ بيعَة أهل فاس الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه الْحَمد لله الَّذِي نظم بالخلافة شَمل الدّين وَالدُّنْيَا وَأَعْلَى قدرهَا على كل قدر فَكَانَت لَهَا الدرجَة الْعليا وأشرق شمسها على العوالم وأنار بنورها المعالم وَأصْلح بهَا أَمر المعاش والمعاد وَألف بهَا بَين قُلُوب الْعباد من الْحَاضِر والباد وَجعلهَا صونا للدماء وَالْأَمْوَال والأعراض وغل بهَا أَيدي الْجَبَابِرَة فَلم تصل إِلَى مفاسد الْأَغْرَاض وَقَامَ بهَا أَمر الْخلق واستقام وأقيمت الشَّرَائِع وَالْحُدُود وَالْأَحْكَام وَنصب منارها علما هاديا وأقامه إِلَى الْحق دَاعيا فأوى لظلها الوريف الْقوي والضعيف والمشروف والشريف فسبحان من قدر فهدى وَلم يتْرك الْإِنْسَان سدى بل أمره وَنَهَاهُ وحذره اتِّبَاع هَوَاهُ وطوقه الْقيام بالنفل وَالْفَرْض وَهُوَ أحكم
الْحَاكِمين {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض وَلَكِن الله ذُو فضل على الْعَالمين} الْبَقَرَة 25 فَمن رَحمته نصب الْمُلُوك ومهد الطَّرِيق للسير والسلوك وَلَو ترك النَّاس فوضى لأكل بَعضهم بَعْضًا وَآل الْأَمر إِلَى الخراب وأفضى لَوْلَا الْخلَافَة لم تؤمن لنا سبل وَكَانَ أضعفنا نهبا لقوانا وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على الْمَبْعُوث رَحْمَة للأنام أصل الْوُجُود ومبدأه وَغَايَة الْكَمَال ومنتهاه سيد الْأَوْلِيَاء وَإِمَام الْأَنْبِيَاء وقائد الأصفياء وعَلى آله أولي الْمجد العميم وَالْقدر الْعَظِيم وَأَصْحَابه الْخُلَفَاء الرَّاشِدين والهداة المهتدين الَّذين شيدوا أَرْكَان الدّين ومهدوا قَوَاعِده للمشيدين وأخبروا عَنهُ وأسندوا إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِن الله اخْتصَّ بِهَذَا الْأَمر قُريْشًا وَأنزل عَلَيْهِ {وَالله يُؤْتِي ملكه من يَشَاء} الْبَقَرَة 247 هَذَا وَلما قضى الله سُبْحَانَهُ وَله الْبَقَاء والدوام بنزول مَا لَا بُد مِنْهُ من فَجْأَة الْحمام لمن كَانَ قَائِما بِهَذَا الْأَمر الْعَظِيم وانتقاله إِلَى دَار عَفوه ورضوانه العميم أسْكنهُ الله فسيح الْجنان وَسَقَى ثراه سحائب الرَّحْمَة والغفران وَجب على النَّاس نصب إِمَام لقَوْله عليه الصلاة والسلام من مَاتَ وَلَيْسَت فِي عُنُقه بيعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة فجالت أفكارهم وخاصت عُقُولهمْ وأنظارهم فِيمَن يقدمُونَ لهَذَا المنصب الْأَعْظَم ويسلك بهم السَّبِيل الأقوم فهداهم التَّوْفِيق والتسديد والرأي الصَّالح السديد إِلَى من نَشأ فِي عفة وصيانة ومروءة وديانة وعكوف على تَحْصِيل الْعلم الشريف ودؤب على التحلي بحلى الْعَمَل المنيف مَعَ نجدة ونباهة وذكاء وفطانة ونزاهة وعلو همة وَقُوَّة عَزمَة وتدبير وسياسة وَخَبره بالأمور وفراسة فَتى جمع الله لَهُ بَين الصرامة والحلم وزاده بسطة فِي الْعلم والجسم وَألبسهُ الهيبة وَالْوَقار ورقاه أَعلَى رتب الْعِزّ والفخار وَهُوَ السّري الْمُقدم الشهم الأبر الْهمام ذُو الْأَخْلَاق الطاهرة الزكية والمآثر الظَّاهِرَة السّنيَّة عالي الْقدر والشأن فريد الْعَصْر ووحيد الأوان أَبُو الرّبيع مَوْلَانَا سُلَيْمَان ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مُحَمَّد ابْن
مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الله ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِسْمَاعِيل ابْن مَوْلَانَا الشريف فانعقد الْإِجْمَاع من أهل هَذِه الحضرة الإدريسية وَمَا حولهَا من الْبِقَاع على تقدمه وإمامته وَاسْتَبْشَرُوا بإمرته وخلافته وَبَادرُوا إِلَى تَعْيِينه وَبَايَعُوهُ بيعَة انْعَقَد على ألوية النَّصْر عقدهَا وطلع فِي أفق الهناء سعدها حضرها الصُّدُور والأعيان وَأهل الوجاهة فِي هَذَا الزَّمَان وذوو الْحل وَالْعقد وَمن إِلَيْهِم الْقبُول وَالرَّدّ من عُلَمَاء وأعلام وَأَصْحَاب الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَام وَعُظَمَاء أَشْرَاف كرام ورماة كبرا وولاة أمرا ورؤساء أجناد والمتقدمين فِي كل نَاد من عرب البدو والحضر وجيوش العبيد والبربر فانعقدت بِحَمْد الله مؤسسة على التَّقْوَى وَاشْتَدَّ بهَا عضد الْإِسْلَام وتقوى بيعَة تَامَّة محكمَة الشُّرُوط وفية العهود وَثِيقَة الربوط جَارِيَة على سنَن السّنة وَالْجَمَاعَة سَالِمَة من كل كلفة ومشقة وتباعة رَضِي الْكل بهَا وارتضاها وألزم حكمهَا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وأمضاها شهد بذلك الْحَاضِرُونَ على أنفسهم طَوْعًا وأدوا إِلَيْهِ تَعَالَى مَا وَجب عَلَيْهِم شرعا جعلهَا الله رَحْمَة على الْخلق وَأقَام بهَا فِي البسيطة الْعدْل وَالْحق وأيد بعونه وتأييده وتوفيقه وتسديده من تلقاها بِالْقبُولِ وَأَحْيَا بِهِ سنة سيدنَا ومولانا الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَشرف وكرم فهنيئا لأرضنا إِذْ أَلْقَت مقاليدها إِلَى من يحمي حماها ويحقن دماها ويكبت عَداهَا وَيدْفَع رداها وينصر الشَّرِيعَة ويشيد مبناها ويعلن بِحَقِيقَة الْحق ويوضح مَعْنَاهَا نَصره الله وَنصر بِهِ وأمات الْبدع والظلالة بِسَبَبِهِ وَدَمرَ بِهِ شيعَة الْجور وَالْفساد وَأبقى الْخلَافَة فِي بَيته إِلَى يَوْم التناد وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد خَاتم النبيئين وعَلى آله وَأَصْحَابه أَجْمَعِينَ والراوين عَنْهُم والمتلقين مِنْهُم آمين وَفِي ثامن عشر رَجَب الْفَرد الْحَرَام من سِتَّة وَمِائَتَيْنِ وَألف من هِجْرَة الْمُصْطَفى عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وأزكى السَّلَام أفقر العبيد إِلَى الله سُبْحَانَهُ عبد الله تَعَالَى مُحَمَّد التاودي بن الطَّالِب ابْن سَوْدَة المري كَانَ الله لَهُ وليا وَبِه حفيا أَحْمد بن التاودي الْمَذْكُور أَخذ
الله بِيَدِهِ وَكَانَ لَهُ فِي جَمِيع الْأُمُور وأناله الثَّوَاب والأجور وَعبد الله تَعَالَى مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الفاسي لطف الله بِهِ آمين وَعبد الْقَادِر بن أَحْمد بن الْعَرَبِيّ بن شقرون أَمنه الله بمنه آمين وَمُحَمّد بن أَحْمد بنيس كَانَ الله لَهُ وليا ونصيرا آمين وَعبد ربه وأفقر عبيده إِلَيْهِ مُحَمَّد بن عبد الْمجِيد الفاسي لطف الله بِهِ وَعبد ربه سُبْحَانَهُ يحيى بن الْمهْدي الشفشاوني الحسني لطف الله بِهِ وَعبد ربه عَليّ بن إِدْرِيس كَانَ الله لَهُ ولطف بِهِ آمين وَعبد ربه تَعَالَى مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم لطف الله بِهِ وَعبد ربه سُبْحَانَهُ مُحَمَّد بن مَسْعُود الطرنباطي وَفقه الله بمنه آمين وَعبد ربه سُبْحَانَهُ سُلَيْمَان بن أَحْمد الشهير بالفشتالي كَانَ الله لَهُ وَأصْلح حَاله وَعبد ربه مُحَمَّد الْهَادِي بن زين العابدين الْعِرَاقِيّ الْحُسَيْنِي وَفقه الله وَعبد ربه سُبْحَانَهُ مُحَمَّد التهامي طَاهِر الحسني وَفقه الله آمين وَعبد الْملك بن الْحسن الفضيلي الحسني لطف الله بِهِ آمين وَعبد ربه إِدْرِيس بن هَاشم الحسني الجوطي لطف الله بِهِ آمين انْتهى
حَرْب السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان لِأَخِيهِ الْمولى مسلمة وطرده إِلَى بِلَاد الْمشرق
لما تمت بيعَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بن مُحَمَّد رحمه الله بفاس بِاتِّفَاق أهل الْحل وَالْعقد من الْجند وَالْعُلَمَاء والأشراف وَسَائِر الْأَعْيَان تداعى أَمر الْمولى مسلمة إِلَى الاختلال وَكَانَ أول مَا ابْتَدَأَ بِهِ عمله بعد تِلْكَ الْبيعَة المستعجلة أَن بعث جَرِيدَة من الْخَيل إِلَى نظر الْقَائِد أبي عبد الله مُحَمَّد الزعري إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَذَلِكَ باستدعاء محتسبها أبي الْفضل الْعَبَّاس مرينو وَأبي عبد الله مُحَمَّد الْمَكِّيّ بن الْعَرَبِيّ فرج من أَهلهَا المنحرفين عَن الْمولى سُلَيْمَان إِلَى التَّمَسُّك بدعوة الْمولى مسلمة وَكَانَ أهل رِبَاط الْفَتْح يَوْمئِذٍ على فرْقَتَيْن فرقة دخلت فِي طَاعَة الْمولى سُلَيْمَان وَفرْقَة أَقَامَت بالتمسك ببيعة الْمولى مسلمة
وَلما اتَّصل بالمولى سُلَيْمَان خبر مسير الزعري إِلَى رِبَاط الْفَتْح عقد لِأَخِيهِ الْمولى الطّيب على بني حسن وَبَعثه فِي اعتراضه فتوافى الجيشان مَعًا برباط الْفَتْح وَوَقعت الْحَرْب فَانْهَزَمَ الزعري وشيعته وَقتل الْعَبَّاس مرينو وفر الْمَكِّيّ فرج إِلَى الزاوية التهامية فَاسْتَجَارَ بهَا وَقبض الْمولى الطّيب على الزعري وَجَمَاعَة من أَصْحَابه ثمَّ سرحه بِأَمْر السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَاجْتمعت كلمة أهل العدوتين على طَاعَته هَكَذَا سَاق صَاحب الْبُسْتَان هَذَا الْخَبَر وَآل فرج يثبتونه وَيَقُولُونَ إِن أصل هَذِه الْفِتْنَة أَن آل مرينو كَانَت لَهُم الوجاهة مَعَ الْمولى يزِيد رحمه الله فسعوا عِنْده بآل فرج وَقَالُوا لَهُ إِنَّهُم تقاعدوا على مَال الْوَزير أبي عبد الله مُحَمَّد الْعَرَبِيّ قادوس الَّذِي أَمنه عِنْدهم فبطش بهم الْمولى يزِيد وصادرهم واستحكمت الْعَدَاوَة يَوْمئِذٍ بَينهم وَبَين آل مرينو فَلَمَّا توفّي الْمولى يزِيد بَادر آل مرينو وَمن لافهم إِلَى بيعَة الْمولى مسلمة وانحرف عَنْهُم إِلَى بيعَة الْمولى سُلَيْمَان من لم يكن من حزبهم وَلما قتل الْعَبَّاس مرينو عمد أوباش رِبَاط الْفَتْح إِلَى شلوه وربطوا فِي رجله حبلا وجروه فِي أسواق الْمَدِينَة وعرضوه على حوانيتها حانوتا حانوتا إِذْ كَانَ فِي حَيَاته محتسبا رحمه الله وَكَانَ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فِي هَذِه الْمدَّة مُقيما بفاس لم يَتَحَرَّك مِنْهُ ثمَّ أَن الْمولى مسلمة صَاحب بِلَاد الهبط بعث وَلَده إِلَى آيت يمور وَأمرهمْ أَن يشنوا الْغَارة على أهل زرهون الَّذين هم فِي طَاعَة السُّلْطَان فَفَعَلُوا وَكثر عيثهم فِي الرعايا فَسَار السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى مكناسة واستنفر جَيش العبيد وقبائل البربر ثمَّ وافاه الودايا وَأهل فاس وشراقة فَاجْتمع عَلَيْهِ الجم الْغَفِير وصمد بهم إِلَى آيت يمور فألفاهم على نهر سبو بالموضع الْمَعْرُوف بِالْحجرِ الْوَاقِف فصمدت إِلَيْهِم العساكر وأوقعت بهم وقْعَة شنعاء وفر ولد الْمولى مسلمة فلحق بِأَبِيهِ ولجأ آيت يمور بقضهم وقضيضهم إِلَى جبل سلفات وَبقيت حلتهم بماشيتها وأثاثها بيد السُّلْطَان فانتهبتها جيوشه من العبيد والودايا والبربر وَبَات السُّلْطَان هُنَالك وَلما أصبح بعث إِلَيْهِ آيت يمور نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ للشفاعة وَطلب الْعَفو فَعَفَا عَنْهُم وثابوا إِلَيْهِ وَبَايَعُوهُ فأنعم عَلَيْهِم بماشيتهم وزرعهم وَعَاد إِلَى فاس ثمَّ
بلغه أَن الْمولى مسلمة معسكر بِبِلَاد الحياينة فَنَهَضَ إِلَيْهِ من فاس فأوقع بِهِ فَانْهَزَمَ الْمولى مسلمة وجيشه وَنهب جَيش السُّلْطَان حلَّة الحياينة وجاؤوا تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم ونظمهم فِي سلك الْجَمَاعَة وتفرق عَن الْمولى مسلمة كل من كَانَ مَعَه من عرب الْخَلْط وَأهل الْجَبَل وَلم يبْق مَعَه إِلَّا خاصته وَأَوْلَاده وَابْن أَخِيه الْمولى حسن بن يزِيد فَسَار إِلَى جبل الزَّبِيب فَلم يقبلوه ثمَّ انْتقل إِلَى الرِّيف فأهملوه ثمَّ صعد إِلَى جبل بني يزناسن فطردوه ثمَّ توجه إِلَى ندرومة فَمَنعه صَاحبهَا من الْوُصُول إِلَى الباي صَاحب الجزائر وَكَانَ ذَلِك عَن أَمر مِنْهُ فَتوجه إِلَى تلمسان وَأقَام بهَا
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَهُنَاكَ اجْتمعت بِهِ فِي ضريح الشَّيْخ أبي مَدين بالعباد يَعْنِي حِين قدم تلمسان مفارقا للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَزعم أَن الْمولى مسلمة لما اجْتمع بِهِ لامه على تخذيل النَّاس عَن بيعَته وحضه إيَّاهُم على بيعَة أَخِيه الْمولى سُلَيْمَان قَالَ فبينت لَهُ حَال الْمولى سُلَيْمَان وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من اتِّبَاع سيرة وَالِده فِي الْعدْل والرفق بالرعية وَبِذَلِك أحبه النَّاس فَلَمَّا سمع كَلَامي بَكَى واعترف بِالْحَقِّ وتلا قَوْله تَعَالَى {وَلَو كنت أعلم الْغَيْب لاستكثرت من الْخَيْر} الْأَعْرَاف 188 ثمَّ طلب من صَاحب الجزائر أَن يَأْذَن لَهُ فِي الذّهاب إِلَى الْمشرق والمرور بإيالته فَأبى وَبعث من أزعجه من تلمسان إِلَى سجلماسة
وَلما اتَّصل خَبره بالسلطان الْمولى سُلَيْمَان وَأَنه عَاد إِلَى سجلماسة أرسل إِلَيْهِ مَالا وكسى وَعين لَهُ قَصَبَة ينزلها ورتب لَهُ مَا يَكْفِيهِ فِي كل شهر كَسَائِر إخْوَته فَلم يطب لَهُ مقَام بهَا وَسَار إِلَى الْمشرق فاجتاز فِي طَرِيقه بِصَاحِب تونس الْأَمِير حمودة باشا ابْن عَليّ باي
قَالَ صَاحب الْخُلَاصَة النقية قدم الْمولى مسلمة بن مُحَمَّد على الْأَمِير حمودة باشا شَرِيدًا أثر خلعه من مملكة فاس فأنزله أَسْنَى منزلَة وأجرى عَلَيْهِ جراية سلطانية وَبَالغ فِي بره اه ثمَّ أَن الْمولى مسلمة سَافر إِلَى الْمشرق فَأَقَامَ بِمصْر مُدَّة ثمَّ توجه إِلَى مَكَّة فَنزل على سلطانها صهره على أُخْته فَأكْرمه ورتب لَهُ جراية ثمَّ عَاد من مَكَّة إِلَى مصر وَسَاءَتْ حَاله فِي هَذِه الْمدَّة وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ فَرجع إِلَى تونس وَنزل على حمودة
باشا الْمَذْكُور فعاود إكرامه ثمَّ طلب مِنْهُ أَن يشفع لَهُ عِنْد أَخِيه الْمولى سُلَيْمَان فَكتب لَهُ بذلك فَأخذ كِتَابه وَانْحَدَرَ إِلَى وهران وَطلب من أميرها الشَّفَاعَة أَيْضا فَكتب لَهُ وَبعث بمكاتيب الأميرين إِلَى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فَقبله وَأمره أَن يذهب إِلَى سجلماسة ينزل بهَا بدار وَالِده ويرتب لَهُ مَا يَكْفِيهِ من مُؤنَة وَكِسْوَة ويقاسمه نعْمَته وَيبقى بَعيدا عَن سماسرة الْفِتَن حَتَّى لَا يَجدوا سَبِيلا إِلَى إيقاد نَار الْفِتْنَة فَلَمَّا بلغه جَوَاب أَخِيه لم يرض ذَلِك وَعَاد إِلَى الْمشرق فَبَقيَ يتَرَدَّد بِهِ إِلَى أَن وافته منيته واستراح من تَعب الدُّنْيَا رحمه الله
نهب عرب آنقاد لركب حَاج الْمغرب وَمَا نَشأ عَن ذَلِك
ثمَّ بلغ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله أَن جمَاعَة من التُّجَّار وَالْحجاج الَّذين قدمُوا من الْمشرق خَرجُوا من وَجدّة متوجهين إِلَى فاس فَلَمَّا توسطوا أَرض آنقاد عدت عَلَيْهِم عربها فنهبتهم فاستدعى السُّلْطَان رحمه الله الْكَاتِب أَبَا الْقَاسِم الصياني وَأمره بِالْمَسِيرِ إِلَى وَجدّة يكون واليا بهَا وَيصْلح مَا فسد من أَعمالهَا فكره الصياني ذَلِك واستقال فَلم يقلهُ السُّلْطَان وعزم عَلَيْهِ فِي الْمسير إِلَيْهَا وَعين لَهُ مائَة فَارس تذْهب مَعَه فامتثل راغما وأضمر أَنه إِن فَارق السُّلْطَان يذهب إِلَى أحد الْحَرَمَيْنِ الشريفين فيقيم بِهِ بَقِيَّة عمره وَجمع موجوده وَخرج فَخرج مَعَه قفل التُّجَّار الَّذِي كَانَ محصورا بفاس وَلما توسطوا أَرض آنكاد وجدوا الْعَرَب فِي انتظارهم فثأروا بهم وقاتلوهم فتماسكت خيل السُّلْطَان هنيئة ثمَّ كثرهم الْعَرَب فهزموهم وَلم يبْق من تِلْكَ الْخَيل إِلَّا قائدها فِي عشرَة من إخوانه وانتهبت الْعَرَب مَا كَانَ فِي ذَلِك القفل من أَمْتعَة التُّجَّار وسلعها وَلم ينج من نجا مِنْهُ إِلَّا بِنَفسِهِ قَالَ الصياني فلجأنا إِلَى قَصَبَة الْعُيُون وتفرق جَمعنَا وَقتل منا سَبْعَة نفر وجرح آخَرُونَ فَبعثت من أَتَانَا بالقتلى فدفناهم ثمَّ سرحت قَائِد الْخَيل إِلَى وَجدّة مَعَ بعض الْعَرَب الَّذين هُنَالك وطلعت أَنا مَعَ برابرة بني يزناسن وَلَيْسَ معي إِلَّا مركوبي
وَفرس آخر كَانَ عَلَيْهِ مَمْلُوك لي قتل فِي المعركة قَالَ ثمَّ خلصت إِلَى وهران فَنزلت عِنْد الباي مُحَمَّد باشا فأظهر التأسف والتوجع وراودني على الْمقَام فأبيت ثمَّ ذكر الصياني أَنه بعد هَذَا ذهب إِلَى تلمسان وَاجْتمعَ هُنَالك بالمولى مسلمة بن مُحَمَّد وتلاوما وتعاتبا حَسْبَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا وَكَانَ ذَلِك أَوَاخِر سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ وَألف
بعث السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان الجيوش إِلَى الْحَوْز ونهوضه على أَثَرهَا إِلَى رِبَاط الْفَتْح وَعوده إِلَى فاس
قد قدمنَا أَن أهل مراكش وقبائل الْحَوْز كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بدعوة الْمولى هِشَام بن مُحَمَّد من لدن دولة الْمولى يزِيد رحمه الله وَلما صفت بِلَاد الغرب للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله تاقت نَفسه إِلَى تمهيد بِلَاد الْحَوْز والاستيلاء عَلَيْهَا فعقد لِأَخِيهِ الْمولى الطّيب بن مُحَمَّد على عشرَة آلَاف من الْخَيل وَعين مَعَه جمَاعَة من قواد الْجَيْش وبعثهم إِلَى قبائل الشاوية وَذَلِكَ أَوَاخِر سنة سبع وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ زحف السُّلْطَان على أَثَرهم إِلَى رِبَاط الْفَتْح فمحا بَقِيَّة آثَار الْفِتْنَة الَّتِي نشأت بهَا وَأقَام ينْتَظر مَا يكون من أَمر أَخِيه
وَفِي سادس شَوَّال من السّنة صلى السُّلْطَان الْجُمُعَة بِمَسْجِد القصبة مِنْهَا وَكَانَ هُوَ الإِمَام وخطب خطْبَة بليغة تشْتَمل على الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والتحذير من الْحَرَام وَاجْتنَاب الآثام ووعد وأوعد وَقَالَ فِي آخر خطبَته وانصر اللَّهُمَّ جيوش الْمُسلمين وعساكرهم ودعا لكافة الْأمة وَصلى فِي الرَّكْعَة الأولى بِسُورَة الْجُمُعَة وَفِي الثَّانِيَة بِسُورَة الغاشية الخ وَلما قدم الْمولى الطّيب بِلَاد الشاوية تنافس قواد الْجَيْش الَّذين مَعَه وَتَنَازَعُوا الرياسة وَصَارَ كل وَاحِد مِنْهُم يرى أَنه صَاحب الْأَمر وَكَانَ من أعظمهم تهورا الْقَائِد الغنيمي كَانَ من قواد الْمولى يزِيد رحمه الله فأبقاه الْمولى سُلَيْمَان على رياسته تألفا لَهُ فاستبد على سَائِر القواد فِي الرَّأْي إِذْ كَانَ رَدِيف
الْخَلِيفَة الْمولى الطّيب وَصَاحب مشورته فَلَمَّا كَانَ وَقت اللِّقَاء تخاذلوا عَنهُ وجروا عَلَيْهِ الْهَزِيمَة وَتركُوا أخبيتهم وأثاثهم بيد الْعَدو وَرَجَعُوا مفلولين إِلَى السُّلْطَان برباط الْفَتْح وهم عشرَة آلَاف فَارس كَمَا مر فَمَا وسع السُّلْطَان رحمه الله إِلَّا الرُّجُوع بهم إِلَى فاس لتجديد آلَة السّفر والغزو ثَانِيًا وإخلاف مَا ضَاعَ من الأخبية وَالسِّلَاح والأثاث حَسْبَمَا يذكر بعد إِن شَاءَ الله
ثورة مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الخمسي الْمَعْرُوف بزيطان بِالْجَبَلِ
لما كَانَت سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ وَألف ثار بقبيلة الْأَخْمَاس من جبال عمَارَة رجل من طلبتها يُقَال لَهُ مُحَمَّد بن عبد السَّلَام ويدعى زيطان فاجتمعت عَلَيْهِ سماسرة الْفِتَن من كل قَبيلَة وَكثر تابعوه وَكَانَ السَّبَب فِي ثورته أَن الْقَائِد قاسما الصريدي كَانَ واليا بِتِلْكَ النَّاحِيَة أَيَّام الْمولى يزِيد رحمه الله فَلَمَّا بُويِعَ الْمولى سُلَيْمَان ولى على تِلْكَ النَّاحِيَة الْقَائِد الغنيمي الْمُتَقَدّم الذّكر وَكَانَ عسوفا فِيمَا قيل فَقبض على الْقَائِد قَاسم واستصفى أَمْوَاله وَبث عَلَيْهِ الْعَذَاب كي يظْهر مَا بَقِي عِنْده حَتَّى هلك فِي الْعَذَاب فثار زيطان وَاجْتمعت عَلَيْهِ الغوغاء من أهل تِلْكَ الْبِلَاد وَلما شرى داؤه بعث السُّلْطَان بِجَيْش إِلَى الْقَائِد الغنيمي وَأمره أَن يقْصد زيطان وَجمعه فزحف إِلَيْهِ بِبِلَاد غصاوة قرب وازان وأوغل فِي طلبه فَنَهَاهُ من مَعَه من رُؤَسَاء الْجَيْش عَن التورط بِالنَّاسِ فِي تِلْكَ الْجبَال والشعاب فلج واقتحمها بخيله وراميته وَلما توسطها سَالَتْ عَلَيْهِ الشعاب بالرماة من كل جَانب وهاجت الْحَرْب وأحاط الْعَدو بالجيش فَقتلُوا مِنْهُم وسلبوا كَيفَ شاؤوا وردوهم على أَعْقَابهم منهزمين وَلما اتَّصل خبر الْهَزِيمَة بالسلطان اغتاظ وَقبض على الغنيمي وَمكن مِنْهُ أَوْلَاد قَاسم الصريدي فباشروا قَتله بِأَيْدِيهِم وَاقْتَصُّوا مِنْهُ بأبيهم وَولى على قبائل الْجَبَل أَخَاهُ الْمولى الطّيب وفوض إِلَيْهِ أَمر الثغوروأنزله طنجة وَبَقِي الْمولى
الطّيب يدبر أَمر الْقَبَائِل الجبلية وثغورها من تطاوين إِلَى طنجة إِلَى العرائش وَكلما بَدَت لَهُ فُرْجَة سدها أَو فرْصَة انتهزها وَحَارب قبائل الفحص إِلَى أَن اسْتَكَانُوا وانقادوا إِلَى الطَّاعَة ثمَّ حَارب أهل حوز طنجة وآصيلا من بني يُدِير والأخماس من أَصْحَاب زيطان فَكَانَت الْحَرْب بَينهم سجالا
ثمَّ لما دخلت سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَألف أمد السُّلْطَان أَخَاهُ الْمولى الطّيب بِجَيْش وافاه بطنجة فَخرج مِنْهَا وَمَعَهُ عسكرها وعسكر العرائش وصمد إِلَى بني جرفط عش الْفساد وَنزل على بِلَادهمْ وَقَاتلهمْ فِي عقر دِيَارهمْ فَقتل مُقَاتلَتهمْ وأحرق مداشرهم وانتهب أَمْوَالهم ومزقهم كل ممزق فجاؤوه خاضعين تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ تقدم إِلَى بني حرشن من بني يُدِير على تفيئة ذَلِك ففر الثائر زيطان إِلَى قبيلته بالأخماس وتسللت عَنهُ الْقَبَائِل الَّتِي كَانَت ملتفة عَلَيْهِ واستنزله الْمولى الطّيب بالأمان فظفر بِهِ وَبعث بِهِ إِلَى السُّلْطَان فَأمْضى لَهُ أَمَانَة وولاه على قبيلته وَصَارَ من جملَة خدام الدولة ونصحائها إِلَى أَن ملك زمامها وَتعين غَيره للْقِيَام بأمرها فَأخر وَنَقله السُّلْطَان إِلَى تطاوين فسكنها ورتب لَهُ بهَا مَا يَكْفِيهِ وَبَقِي إِلَى أَوَاخِر دولة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَلما خرج عَلَيْهِ الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وَدخل تطاوين كَانَت لزيطان هَذَا فِي التَّمَسُّك بدعوة السُّلْطَان الْيَد الْبَيْضَاء وأغنى غناء جميلا فِي تثبيت تِلْكَ الْقَبَائِل وتسكينها ثمَّ وَفد على السُّلْطَان بطنجة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَقد طعن فِي السن فَأحْسن إِلَيْهِ غَايَة الْإِحْسَان وَإِلَى الْآن لَا زَالَ أهل الْأَخْمَاس يستنصرون بحفدته ويعتقدون فيهم مَا تعتقده آيت ومالو فِي آل مهاوش وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين
وَفِي ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة أَعنِي سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَألف توفّي الْعَلامَة الإِمَام السَّيِّد التاودي بن سَوْدَة المري الفاسي صَاحب الْحَاشِيَة على البُخَارِيّ والحاشية على شرح الشَّيْخ عبد الْبَاقِي الزّرْقَانِيّ على الْمُخْتَصر وَشرح العاصمية والزقاقية وَغير ذَلِك من التآليف المفيدة وَكَانَ رحمه الله خَاتِمَة الشُّيُوخ بفاس ومناقبه شهيرة
أَخْبَار الْمولى هِشَام بن مُحَمَّد بمراكش والحوز وَمَا يتَّصل بذلك
قد قدمنَا أَن أهل مراكش وقبائل الْحَوْز كَانُوا قد خَرجُوا على السُّلْطَان الْمولى يزِيد وَبَايَعُوا أَخَاهُ الْمولى هِشَام بن مُحَمَّد وَلما قتل الْمولى يزِيد بمراكش اسْتَقَرَّتْ قدم الْمولى هِشَام بهَا وأطاعته قبائل الْحَوْز كلهَا وَكَانَ وزيراه القائمان بأَمْره صَاحب آسفي الْقَائِد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر الْعَبْدي وَكَانَ غَايَة فِي الْجُود وَبسط الْكَفّ وَصَاحب دكالة والحوز الْقَائِد مُحَمَّد الْهَاشِمِي بن العروسي وَكَانَ ذَا شَوْكَة بعصبيته وَقَومه فَكَانَ هَذَانِ القائدان إِلَيْهِمَا النَّقْض والإبرام فِي دولة الْمولى هِشَام هَذَا بِكَثْرَة مَاله وعطائه وَهَذَا بعصبيته وَشدَّة شوكته فدانت للْمولى هِشَام قبائل دكالة وَعَبدَة وأحمر والشياظمة وحاحة وَغير ذَلِك وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك بُرْهَة من الدَّهْر إِلَى أَن افْتَرَقت عَلَيْهِ كلمة الرحامنة وتجنوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قتل عاملهم الْقَائِد أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الرحماني غيلَة على أَنه كَانَ مُدبر دولته والقائم بأَمْره
قَالَ أكنسوس هَكَذَا شاع أَن الْمولى هشاما هُوَ الَّذِي أَمر بقتل عبد الله الرحماني وَابْن الدَّاودِيّ قَالَ وَالَّذِي تحدث بِهِ السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان مَعَ بعض النَّاس هُوَ أَن الْفرْقَة المنحرفة من الرحامنة قَتَلُوهُ وأظهروا أَن الْمولى هشاما هُوَ الَّذِي دس إِلَيْهِم بذلك وَكَذَلِكَ أَمر ابْن الدَّاودِيّ وَالله أعلم وَلما قتل الْقَائِد عبد الله خلعت الرحامنة طَاعَة الْمولى هِشَام وبايعت أَخَاهُ الْمولى حُسَيْن بن مُحَمَّد وزحفوا بِهِ إِلَى مراكش فَلم يرع الْمولى هشاما إِلَّا طبولهم تقرع حول القصبة وأرهفوه وأعجلوه عَن ركُوب فرسه فَخرج يسْعَى على قَدَمَيْهِ إِلَى أَن أَتَى ضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس السبتي فعاذ بِهِ وثابت إِلَيْهِ نَفسه وَبعد أَيَّام تسلل وَسَار فِي جمَاعَة من حَاشِيَته إِلَى آسفي وَنزل على وزيره الْقَائِد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر فَأكْرم مثواه وَأحسن نزله وَغدا وَرَاح فِي طَاعَته ومرضاته وَدخل الْمولى حُسَيْن قصر الْخلَافَة
بمراكش فاستولى على مَا فِيهِ من الذَّخِيرَة والأثاث من مَتَاع الْمولى هِشَام ومتخلف الْمولى يزِيد فاضطر أهل مراكش حِينَئِذٍ إِلَى مبايعة الْمولى حُسَيْن وَالْخطْبَة بِهِ وَكَانَ ذَلِك سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَألف وافترقت الْكَلِمَة بالحوز فَكَانَ بعضه كعبدة وأحمر ودكالة مَعَ الْمولى هِشَام وَبَعضه مثل الرحامنة وَسَائِر قبائل حوز مراكش مَعَ الْمولى حُسَيْن واتقدت نَار الْفِتْنَة بَين هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل وتفانوا فِي الحروب إِلَى أَن بلغ عدد الْقَتْلَى بَينهم أَكثر من عشْرين ألفا هَذَا كُله وَالسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان مُقيم بفاس معرض عَن الْحَوْز ومتربصين بأَهْله الدَّوَائِر إِلَى أَن ملوا الْحَرْب وملتهم وَكَانَ ذَلِك من سعادته فصاروا يَتَسَلَّلُونَ إِلَيْهِ أَرْسَالًا ويسألونه الذّهاب إِلَى بِلَادهمْ ليعطوه صَفْقَة بيعتهم فَكَانَ يعدهم بذلك وَيَقُول إِذا فرغت من أَمر الشاوية قدمت عَلَيْكُم إِن شَاءَ الله
ثورة الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس بآنفا وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَت قبائل الشاوية مُنْذُ هزموا جَيش الْمولى الطّيب بن مُحَمَّد وهم حذرون من سطوة السُّلْطَان عالمون بِأَنَّهُ غير تاركهم فعزموا على تلافي أَمرهم عِنْده وأوفدوا عَلَيْهِ جماعات من أعيانهم الْمرة بعد الْمرة يسألونه أَن يولي عَلَيْهِم رجلا يكونُونَ عِنْد نظره ويقفون عِنْد أمره وَنَهْيه فولى عَلَيْهِم ابْن عَمه وصهره على أُخْته الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس بن الْمُنْتَصر وَوَجهه مَعَهم فَقدم الْمولى عبد الْملك أَرض تامسنا وَنزل بِمَدِينَة آنِفا وَهِي الْمُسَمَّاة الْيَوْم بِالدَّار الْبَيْضَاء وَتَوَلَّى الْقيام على مُسْتَفَاد مرْسَاها وَصَارَ يُسهم فِيهِ لأعيان الشاوية الَّذين مَعَه وَكَانَ قَصده بذلك أَن يتألفهم على الطَّاعَة والخدمة فَلَمَّا حصل لَهُم ذَلِك السهْم من المَال تطاولوا إِلَى الزِّيَادَة عَلَيْهِ وَقد قيل فِي الْمثل قَدِيما لَا تطعم العَبْد الكراع فيطمع فِي الذِّرَاع فَصَارَ الْمولى عبد الْملك يقاسمهم الْمُسْتَفَاد شقّ الأبلمة فَلَمَّا بلغ السُّلْطَان ذَلِك كتب إِلَيْهِ يعاتبه على
فعله ثمَّ نَهَضَ على تفئة ذَلِك من فاس يُرِيد تامسنا إِذْ لم يشف الْمولى عبد الْملك الغليل فِي ضَبطهَا فَلَمَّا بلغ كتاب السُّلْطَان الْمولى عبد الْملك أنف من ذَلِك العتاب وَكَانَت لَهُ وجاهة عِنْد السُّلْطَان الْأَعْظَم سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَكَانَ من كبار بني عَمه وخواص قرَابَته ثمَّ اتَّصل بِهِ الْخَبَر بِخُرُوج السُّلْطَان من فاس فطارت نَفسه شعاعا وَاسْتَشَارَ بطانته من الشاوية فَقَالَ لَهُم إِن هَذَا الرجل قادم علينا لَا محَالة وَلَيْسَ لَهُ قصد إِلَّا أَنا وَأَنْتُم فَمَا الرَّأْي قَالُوا الرَّأْي أَن نُبَايِعك ونحاربه قَالَ ذَلِك الَّذِي أُرِيد فَبَايعُوهُ وَلما انْفَصل السُّلْطَان عَن رِبَاط الْفَتْح بعث فِي مقدمته أَخَاهُ وخليفته الْمولى الطّيب وَعقد لَهُ على كَتِيبَة من الْخَيل وَتَبعهُ السُّلْطَان على أَثَره وَلما بَات بقنطرة الحلاج جَاءَهُ الْخَبَر بِأَن قبائل الشاوية قد بَايعُوا الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس واتصل بالمولى عبد الْملك وَهُوَ بآنفا أَن السُّلْطَان بائت بالقنطرة فتضاعف خَوفه وفر فِيمَن بَايعُوهُ من أهل الشاوية وأخلى مَدِينَة آنِفا من خيله وَرجله ففرح أَهلهَا بِخُرُوجِهِ من بَين أظهرهم لِئَلَّا يعديهم جربه وَبَادرُوا بِإِخْرَاج المدافع لَيْلًا إعلاما للسُّلْطَان بفراره ثمَّ أنفذوا إِلَيْهِ رسلهم بجلية الْخَبَر فهش لَهُم السُّلْطَان وَبعث مَعَهم كَتِيبَة من الْخَيل تقيم بآنفا وَتقدم هُوَ بالعساكر إِلَى قَصَبَة عَليّ بن الْحسن فَأَغَارَ على حلَّة مديونة وزناته فنهبها وامتلأت أَيدي الْجَيْش وأوغل الْمولى عبد الْملك فِي الْفِرَار إِلَى جِهَة أم الرّبيع وَعَاد السُّلْطَان بِالنعَم والماشية إِلَى رِبَاط الْفَتْح فَدَخلَهَا مؤيدا منصورا وَنقل تجار النَّصَارَى الَّذين كَانُوا بآنفا إِلَى رِبَاط الْفَتْح وأبطل مرْسَاها واستمرت معطلة إِلَى دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فأحياها كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله ثمَّ ارتحل السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى مكناسة فاحتل بهَا وَقَالَ فِي ذَلِك الْعَلامَة الأديب أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن شقرون
(مولَايَ أَنْت الَّذِي صفت مشاربه
…
إِن تغز نَاحيَة أوليتها جِلْدك)
(هذي البشائر وافت وَهِي قائلة
…
أعوذ بِاللَّه من شَرّ الَّذِي حسدك)
(فاصعد على مِنْبَر الإقبال معتليا
…
فالسعد أنْجز مَا كَانَ بِهِ وَعدك)
(وانهض إِلَى غَايَة الآمال تدركها
…
فَالْآن قَالَت لَك العلياء هَات يدك)
(وَلَا تخف أبدا من سوء عَاقِبَة
…
فَلَيْسَ يفلح من بالسوء قد قصدك)
(ألبسك الْملك العميم نائله
…
من الرضى حللا قوى بهَا مددك)
(فضلا من الحكم الترضي حكومته
…
جعلهَا كالشجا فِي حلق من جحدك)
(فاشكر صَنِيع الَّذِي أولاك مكرمَة
…
تنَلْ رِضَاهُ وتبلغ بالرضى رشدك)
قدوم عرب الرحامنة على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان ومسيره إِلَى مراكش واستيلاؤه عَلَيْهَا
قد قدمنَا أَن أهل الْحَوْز افْتَرَقت كلمتهم على قسمَيْنِ فبعضهم بَايع الْمولى حُسَيْن بن مُحَمَّد وَبَعْضهمْ أَقَامَ على بيعَة أَخِيه الْمولى هِشَام وَأَنه نَشأ عَن ذَلِك حروب تفانى فِيهَا الْخلق
فَلَمَّا كَانَت سنة عشر وَمِائَتَيْنِ وَألف قدم على السُّلْطَان بمكناسة جمَاعَة من أَعْيَان الرحامنة مبايعين لَهُ وسائلين لَهُ الْمسير مَعَهم إِلَى بِلَادهمْ لتجتمع كلمتهم عَلَيْهِ فَوَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ إِذْ فرغ من أَمر الشاوية ومهد طَرِيقه بهَا إِلَى الْحَوْز سَار إِلَيْهِم ثمَّ قوى عزمه رحمه الله فَخرج فِي العساكر من مكناسة وَقصد تامسنا فَلَمَّا احتل بهَا قدم عَلَيْهِ أَوْلَاد أبي رزق وفر أَوْلَاد أبي عَطِيَّة وَأَوْلَاد حريز الَّذين عِنْدهم الْمولى عبد الْملك بن إِدْرِيس ولجؤوا إِلَى وَادي أم الرّبيع فقصدهم السُّلْطَان هُنَالك وأوقع بهم وفر الْمولى عبد الْملك إِلَى أَخْوَاله بالسوس فَأَقَامَ عِنْدهم إِلَى أَن شفع فِيهِ أَخُو السُّلْطَان الْمولى عبد السَّلَام بن مُحَمَّد وَأُخْته الملاة صَفِيَّة وَكَانَت زَوْجَة الْمولى عبد الْملك فَقبل السُّلْطَان شفاعتهما فَعَفَا عَنهُ وَعَاد إِلَى فاس وَاطْمَأَنَّ جنبه وَأما الشاوية فَإِنَّهُم قدمُوا على السُّلْطَان تَائِبين خاضعين فَعَفَا عَنْهُم وَولى عَلَيْهِم الْأُسْتَاذ الْغَازِي بن الْمدنِي المزمري فصلحت الْأَحْوَال على يَده
وَرجع السُّلْطَان إِلَى فاس مظفرا منصورا فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فتهيأ للغزو وَخرج إِلَى بِلَاد دكالة فاستولى عَلَيْهَا وعَلى مَدِينَة آزمور وتيط وَبَايَعَهُ أهل تِلْكَ النَّاحِيَة وَقدم عَلَيْهِ أَعْيَان دكالة تَائِبين وَخَرجُوا من زمرة عَبدة وسلطانهم الْمولى هِشَام وانتظموا فِي سلك الْجَمَاعَة وَهُنَاكَ قدم عَلَيْهِ أَعْيَان الرحامنة ثَانِيَة ببيعتهم فَأكْرم مقدمهم وزحف إِلَى مراكش وهم فِي ركَانَة فَلَمَّا شارفها فر عَنْهَا سلطانها الْمولى حُسَيْن إِلَى زَاوِيَة الْمولى إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الأمغاري بِالْجَبَلِ فَدخل السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا وَبَايَعَهُ أَهلهَا وَقدم عَلَيْهَا بهَا قبائل الْحَوْز والدير وقبائل حاحة والسوس بهداياهم مغتبطين فسر بهم وَأكْرمهمْ وَأصْلح بَين قبائل الْحَوْز وَجمع كلمتهم وأهدر دِمَاءَهُمْ ومهد بِلَادهمْ ورتب حاميتها وَأنزل بقصبة مراكش أهل الْحَوْز الَّذين كَانُوا بهَا أَيَّام وَالِده ورتب لَهُم الجرايات وَأمر بِأَلف من عبيد السوس يأْتونَ لسكنى القصبة واستقامت الْأُمُور
دُخُول آسفي وصاحبها الْقَائِد عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر الْعَبْدي فِي طَاعَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله
كَانَ عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر هَذَا على مَا وصفناه قبل من الوجاهة ونفوذ الْكَلِمَة بآسفي وأعمالها وَكَانَ مستوليا على جباية مرْسَاها وخلد بهَا آثارا مثل الدَّار الْكُبْرَى الَّتِي على شاطىء الْبَحْر وَمَسْجِد الزاوية وَغير ذَلِك وَكَانَ جوادا بالعطاء وَلما استولى السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله على مراكش بعث إِلَيْهِ كَاتبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عُثْمَان المكناسي ليَأْتِيه بِهِ أَو يَأْذَن بحربه وَلما وصل الْكَاتِب الْمَذْكُور إِلَيْهِ بآسفي ألفاه مَرِيضا فَاعْتَذر عَن الْقدوم على السُّلْطَان بِالْمرضِ وَكتب بيعَته وَأدّى طَاعَته وانتقل الْمولى هِشَام عَنهُ إِلَى زَاوِيَة الشرابي فَأَقَامَ بهَا فَبعث إِلَيْهِ السُّلْطَان من أَمنه وَجَاء بِهِ إِلَيْهِ فلقاه مبرة وتكرمة وَقدم إِلَيْهِ المراكب والكسي وأنزله بدار أَخِيه الْمولى الْمَأْمُون
ريثما استراح ثمَّ بَعثه إِلَى رِبَاط الْفَتْح فاستوطنها ورتب لَهُ من الجراية مَا يَكْفِيهِ وَلما قدم الْكَاتِب ابْن عُثْمَان على السُّلْطَان ببيعة عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر وَاعْتذر لَهُ عَنهُ بِالْمرضِ قبل ظَاهر عذره وأرجأ أمره إِلَى يَوْم مَا
وَحكى صَاحب الْجَيْش أَن الْمولى هشاما لما قدم على السُّلْطَان بمراكش وَنزل بدار أَخِيه الْمولى الْمَأْمُون أَتَاهُ السُّلْطَان بعد ثَلَاث إِلَى منزله رَاجِلا لقرب الْمسَافَة وَلما التقيا تعانقا وتراحما ثمَّ جَاءَ مَعَه الْمولى هِشَام حَتَّى دخلا بُسْتَان النّيل من بَاب الرئيس وَنصب لَهُ السُّلْطَان كرسيا جلس عَلَيْهِ وَجلسَ هُوَ أَمَامه إعظاما لَهُ لكَونه أسن مِنْهُ ثمَّ صَار يستدعيه صباحا وَمَسَاء فيجلسان ويتحدثان ثمَّ يفترقان وَكَانَ لَا يتغدى وَلَا يتعشى إِلَّا وَهُوَ مَعَه وَكلما دخل عَلَيْهِ رفع مَجْلِسه وأجله وَإِذا ذكره لَا يذكرهُ إِلَّا بِلَفْظ الْأُخوة بِأَن يَقُول أخي الْمولى هِشَام دون سَائِر بني أَبِيه وَلما طلب الْمولى هِشَام مِنْهُ السُّكْنَى برباط الْفَتْح أَجَابَهُ إِلَيْهَا وَقضى مآربه وأزاح علله ثمَّ عَاد إِلَى مراكش فَكَانَت منيته بهَا كَمَا نذكرهُ
دُخُول الصويرة وأعمالها فِي طَاعَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله
كَانَ من خبر دُخُول الصويرة وأعمالها فِي طَاعَة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رحمه الله أَن الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الصَّادِق المسجيني وَهُوَ من عبيد الصويرة كَانَ قد قدم من الْحَج عامئذ فَمر على السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَهُوَ بالغرب فَدخل عَلَيْهِ فولاه على الصويرة وَكتب لَهُ الْعَهْد بذلك وَأمره بإخفائه حَتَّى يختبر حَال أَهلهَا وَيعلم أَيْن هواهم إِذْ كَانَ ذَلِك قبل أَن يطَأ السُّلْطَان بِلَاد الْحَوْز ويستولي عَلَيْهَا وَكَانَت الصويرة حِينَئِذٍ من جملَة النواحي الَّتِي إِلَى نظر عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر وَمن فِي حزبه وَتَحْت غَلَبَة حاحة وعصبيتها وَكَانَ الْوَالِي بهَا يَوْمئِذٍ الْقَائِد أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن بيهي الحاحي وَكَانَت
انْتِقَاض الصُّلْح مَعَ الإصبنيول واستيلاؤه على تطاوين ورجوعه عَنْهَا وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ السَّبَب فِي انْتِقَاض الصُّلْح مَعَ جنس الإصبنيول أَن الْعَادة كَانَت جَارِيَة مَعَ أهل سبتة من النَّصَارَى وَأهل اللانجرة من الْمُسلمين أَن يتَّخذ كل من الْفَرِيقَيْنِ محلا للحراسة على المحدة الَّتِي بَينهمَا وَكَانَ النَّصَارَى يتخذون هُنَالك بُيُوتًا صغَارًا من اللَّوْح والمسلمون يتخذون أخصاصا من البردى وَنَحْوه فَلَمَّا كَانَ آخر دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رحمه الله بنى نَصَارَى سبتة على المحدة بَيْتا من حجر وطين وَجعلُوا فِيهِ عَلامَة طاغيتهم الْمُسَمَّاة عِنْدهم بالكرونة فَتقدم إِلَيْهِم أهل اللانجرة وَقَالُوا لَهُم لَا بُد أَن تهدموا هَذَا الْبَيْت الَّذِي لم تجر الْعَادة ببنائه وترجعوا إِلَى حالتكم الأولى من اتِّخَاذ بيُوت الْخشب فَامْتنعَ النَّصَارَى من ذَلِك فَعمد أهل اللانجرة إِلَى ذَلِك الْبَيْت فهدموه وَإِلَى تِلْكَ الكرونة فنجسوها بالعذرة وَقتلُوا مِنْهُم أُنَاسًا وضيقوا على أهل سبتة بالغارات حَتَّى كَانُوا يصلونَ إِلَى السُّور فَرفع أهل سبتة أَمرهم إِلَى كَبِيرهمْ بطنجة فَكلم كَبِيرهمْ نَائِب السُّلْطَان بهَا وَهُوَ يَوْمئِذٍ أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن الْحَاج عبد الله الْخَطِيب التطاوني وشكا إِلَيْهِ مَا نَالَ أهل سبتة من عيث اللانجرة فدافعه الْخَطِيب فَلم ينْدَفع وَقَالَ لَا بُد من حُضُور اثْنَي عشر رجلا مِنْهُم بطنجة وَسَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَلَا بُد من قَتلهمْ جَزَاء على فعلهم فَعظم الْأَمر على الْخَطِيب وَرُبمَا كلم فِي ذَلِك باشدور النجليز فَقَالَ لَهُ أحضر هَؤُلَاءِ المطلوبين على عين الْأَجْنَاس وَإِذا حَضَرُوا وَظهر حق الإصبنيول فَأَنا ضَامِن أَن لَا يصيبهم شَيْء فأعجب الْخَطِيب ذَلِك وعزم عَلَيْهِ فاتصل الْخَبَر بِأَهْل اللانجرة وَأَن الْخَطِيب عازم على أَن يكْتب إِلَى السُّلْطَان فِي شَأْن اثْنَي عشر رجلا مِنْهُم بأعيانهم فَمَشَوْا إِلَى الشريف سَيِّدي الْحَاج عبد السَّلَام بن الْعَرَبِيّ الوزاني وَقَالُوا لَهُ إِن الْخَطِيب لَا ينصح السُّلْطَان وَلَا الْمُسلمين وَإِن كل مَا قَالَه النَّصَارَى يساعدهم عَلَيْهِ حَتَّى جسرهم علينا وَنحن جئْنَاك لتعلم السُّلْطَان بأمرنا وتسأله أَن يمدنا بالقبائل الْمُجَاورَة لنا وَنحن نكفيه
هَذَا المهم وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة توفّي السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رحمه الله وَولي ابْنه سَيِّدي مُحَمَّد وَقدم مكناسة وَاجْتمعت كلمة أهل الْمغرب عَلَيْهِ فَكتب لَهُ الشريف سَيِّدي الْحَاج عبد السَّلَام بِأَمْر أهل اللانجرة وَقرر لَهُ مطلبهم فَشَاور السُّلْطَان فِي ذَلِك بعض حَاشِيَته فَمَال إِلَى الْحَرْب وَذَلِكَ كَانَ الرَّاجِح عِنْد السُّلْطَان لِأَنَّهُ عظم عَلَيْهِ أَن يُمكن الْعَدو من اثْنَي عشرا من الْمُسلمين وفْق اقتراحه واختياره يقتلهُمْ بِمحضر الْمَلأ من نواب الْأَجْنَاس وَرَأى رحمه الله أَن لَا يُمكنهُ من مطلبه حَتَّى يعْذر فِيهِ فاستخار الله تَعَالَى وَبعث خديمه الْحَاج مُحَمَّد بن الْحَاج الطَّاهِر الزُّبْدِيُّ الرباطي إِلَى الْخَطِيب بطنجة وَأمره أَن ينظر فِي الْقَضِيَّة ويستكشف الْحَال وَأَن لَا يجنح إِلَى الصُّلْح إِلَّا إِذا لم يجد عَنهُ محيصا وَكثر المتنصحون لَدَى السُّلْطَان وهونوا عَلَيْهِ أَمر الْعَدو جدا مَعَ أَنه لَيْسَ من السياسة تهوين أَمر الْعَدو وتحقيره وَلَو كَانَ هينا حَقِيرًا فوصل الزُّبْدِيُّ إِلَى طنجة وَاجْتمعَ بالخطيب وفاوضه فِي الْقَضِيَّة فَوجدَ الْخَطِيب جانحا إِلَى السّلم فَأبى أَن يساعده على ذَلِك وَأظْهر كتاب السُّلْطَان بتفويض النّظر إِلَيْهِ فِي النَّازِلَة فَتَأَخر الْخَطِيب عَنْهَا وَترك الْخَوْض وَالْكَلَام فِيهَا وَآخر الْأَمر أَن الزُّبْدِيُّ انْفَصل مَعَ نَائِب الإصبنيول على الْحَرْب وَذهب إِلَى حَال سَبيله وأزال الإصبنيول سنجقه من طنجة وَركب إِلَى بِلَاده فِي الْحِين وَكتب الزُّبْدِيُّ إِلَى السُّلْطَان بالْخبر فَكتب السُّلْطَان إِلَى الثغور يُخْبِرهُمْ بِمَا عقده مَعَ الإصبنيول من الْحَرْب وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا على حذر وَأَن يَأْخُذُوا أهبتهم للْجِهَاد وَفتح السُّلْطَان بَيت المَال وأبدأ وَأعَاد فِي تَفْرِيق المَال وَالسِّلَاح والكسي وَقدم أَولا الْقَائِد الْمَأْمُون الزراري إِلَى تطاوين فِي نَحْو مائَة فَارس وَخَمْسمِائة من رُمَاة الْعَسْكَر فرابطوا خَارج تطاوين إِلَى جِهَة سبتة ثمَّ برز جَيش الإصبنيول من سبتة فِي نَحْو عشْرين ألفا من الْعَسْكَر فِي غَايَة الاستعداد وَكَمَال الشَّوْكَة وَنزل على طرف المحدة دَاخل أرضه وَكَانَ خُرُوجه يَوْم السبت أواسط ربيع الأول سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَنَهَضَ إِلَيْهِ أهل اللانجرة وَمن جاورهم من قبائل الْجَبَل وتسامع النَّاس بذلك فقدموا من كل جِهَة حَتَّى اجْتمع مِنْهُم نَحْو
الْخَمْسَة آلَاف وزحفوا إِلَى الْعَدو وقاتلوه نَحْو نصف شهر وكل يَوْم يقتل مِنْهُ ضعف مَا يقتل من الْمُسلمين لِأَن حربه كَانَ زحفا بالصف وحربهم كَانَ مطاردة بالكر والفر فَلَا بُد أَن يهْلك مِنْهُ أَكثر مِمَّا يهْلك من الْمُسلمين غير أَنهم لم يتمكنوا من مخالطته فِي مُعَسْكَره وَلَا من هزيمته لِأَنَّهُ كَانَ يحصن على نَفسه بأشبارات والمتارزات بخناشى الرمل وَغَيرهَا غَايَة التحصين ثمَّ بعث السُّلْطَان رحمه الله أَخَاهُ الْفَقِيه الْعَلامَة الْمولى الْعَبَّاس فِي كَتِيبَة من الْخَيل نَحْو الْخَمْسمِائَةِ فَارس فَنزل بِموضع يعرف بِعَين الدالية قرب طنجة ثمَّ بعد أَيَّام زحف إِلَى الْعَدو فَنزل بمدشر يُقَال لَهُ الْبيُوت باللانجرة وَاسْتمرّ الْقِتَال بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى على نَحْو ماسبق نَحْو الْعشْرَة أَيَّام ثمَّ انْتقل الْمُسلمُونَ إِلَى مَوضِع آخر يعرف بِأبي كدان خوفًا من كرة الْعَدو ودهمه إيَّاهُم فَكَانَ ذَلِك مِمَّا جرأ الْعَدو عَلَيْهِم وَأظْهر الفشل فيهم وقاتلوا هُنَالك نَحْو الْخَمْسَة عشر يَوْمًا ثمَّ إِن الْعَدو اجْتمع يَوْمًا وَتحمل بخيله وَرجله وزحف إِلَى الْمُسلمين فصدمهم بِجَمِيعِ قوته وشوكته فصبروا لَهُ وَصَدقُوهُ اللِّقَاء فَردُّوهُ على عقبه وَلما لم يستقم لَهُ ذَلِك جمع نَفسه ذَات لَيْلَة من غير شُعُور من الْمُسلمين وَركب الْبَحْر وَنزل بِمحل يعرف بالفنيدق لِأَنَّهُ كَانَ هُنَالك فندق قديم وَكَانَ الْعَدو فِي تنقلاته هَذِه لَا يُفَارق السَّاحِل ليحمي ظَهره بمراكبه البحرية وَكَانَ بَين الفندق ومحلة الْمُسلمين نَحْو سَاعَة وَنصف فَأَشَارَ أهل الرَّأْي على الْمولى الْعَبَّاس بِأَن يتَأَخَّر فليلا لكَون الْعَدو قد ضايقه فَتَأَخر الْمولى الْعَبَّاس بالجيش إِلَى مَوضِع يعرف بمجاز الْحَصَا فازداد طمع الْعَدو فِي الْمُسلمين وَظهر لَهُ ضعف رَأْيهمْ فِي مَكَائِد الْحَرْب وَعدم ثباتهم لَدَى الطعْن وَالضَّرْب وَكَانَ قَائِد عَسْكَر الإصبنيول يُسمى أردنيل ووزيره المشير عَلَيْهِ يُسمى بريم ورينتهم يَوْمئِذٍ إيسابيلا الثَّانِيَة ثمَّ عَاد الْمُسلمُونَ إِلَى مطاردة الْعَدو ومقاتلته على نَحْو مَا أسلفنا فَكَانُوا يذهبون إِلَيْهِ وَهُوَ بالفنيدق فيقاتلونه من الصَّباح إِلَى الْمسَاء فَكَانُوا ينالون مِنْهُ وينال مِنْهُم وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة وَفد جمَاعَة من أهل تطاوين على السُّلْطَان رحمه الله بمكناسة فأعظموا أَمر الْعَدو
وتخوفوا معرته فِي مَالهم وَأَوْلَادهمْ لأَنهم كَانُوا قد أحسوا بِشدَّة شوكته فَوَعَدَهُمْ السُّلْطَان رحمه الله بِأَن يمدهُمْ ويحامي عَنْهُم وَلَا يدّخر عَنْهُم شَيْئا من الْعدَد وَالْعدَد حَتَّى يعْذر فيهم وَفِي غَيرهم ثمَّ إِن الْعَدو ارتحل من الفنيدق بعد نَحْو عشرَة أَيَّام وَتقدم نَحْو تطاوين وَكَانَ النَّاس قبل هَذَا لَا يَدْرُونَ أَيْن هُوَ قَاصد وَلما ارتحل من الفنيدق عرفُوا أَنه قَاصد تطاوين فَنزل بِموضع يُقَال لَهُ النيكرو فَأَقَامَ هُنَالك نَحْو ثَمَانِيَة أَيَّام والقتال على حَاله الْمُتَقَدّم غير أَن الْعَدو كَانَ فِي مَادَّة قَوِيَّة من الْبر وَالْبَحْر يصل إِلَيْهِ من سبتة وَغَيرهَا كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من طَعَام وعلف وأرز وشعير وبقسماط وَغير ذَلِك حَتَّى أَنه كَانَ إِذا ارتحل ترك من ذَلِك فضلَة كَثِيرَة يتعيش فِيهَا ضعفاء أهل تِلْكَ النَّاحِيَة وَكَانَ ذَلِك مكيدة مَقْصُودَة عِنْده يظْهر بهَا الْقُوَّة والرفاهية وَكَانَ شذاذ المتطوعة من أهل الْبَادِيَة يهجمون على مُعَسْكَره بِاللَّيْلِ ويجلبون مِنْهُ البغال والنيران ويصبحون بهَا فِي تطاوين وَغَيرهَا وَكَانَ ضعفاء الْعُقُول من الْعَامَّة يستحسنون ذَلِك وينشطون لَهُ ويرون أَنهم قد صَنَعُوا شَيْئا مَعَ أَن ذَلِك لَا عِبْرَة بِهِ فِي جنب مَا كَانَ يستولي عَلَيْهِ الْعَدو من الأَرْض ويتقدم بِهِ فِي نحر الْمُسلمين وهم يتأخرون وَالْحَاصِل أَن الْمُسلمين لم يَكُونُوا يقاتلونه على تَرْتِيب مَخْصُوص وهيئة منضبطة إِنَّمَا كَانُوا يقاتلونه وهم متفرقون أَيدي سبا فَإِذا حَان الْمسَاء تفَرقُوا إِلَى محالهم فِي غير وَقت مَعْلُوم وعَلى غير تعبية فَكَانَ قِتَالهمْ على هَذَا الْوَجْه لَا يجدي شَيْئا وَكَانَ الْعَدو يُقَاتل بالصف وعَلى تَرْتِيب مُحكم وَكَانَت عنايته بِمَا يستولي عَلَيْهِ من الأَرْض وَيرى تقدمه إِلَى أَمَام وَتَأَخر الْمُسلمين بَين يَدَيْهِ إِلَى خلف هزيمَة عَلَيْهِم
وَقد ذكر ابْن خلدون فِي فصل الحروب قتال أهل الْمغرب الَّذِي هُوَ المطاردة بالكر والفر وعابه فَقَالَ وَصفَة الحروب الْوَاقِعَة بَين أهل الْخَلِيفَة مُنْذُ أول وجودهم على نَوْعَيْنِ نوع بالزحف صُفُوفا وَنَوع بالكر والفر أما الَّذِي بالزحف فَهُوَ قتال الْعَجم كلهم على تعاقب أجيالهم وَأما الَّذِي بالكر والفر فَهُوَ قتال الْعَرَب والبربر من أهل الْمغرب وقتال الزَّحْف أوثق وَأَشد
من قتال الْكر والفر وَذَلِكَ لِأَن قتال الزَّحْف ترَتّب فِيهِ الصُّفُوف وتسوى كَمَا تسوى القداح أَو صُفُوف الصَّلَاة ويمشون بصفوفهم إِلَى الْعَدو قدما فَلذَلِك تكون أثبت عِنْد المصارع وأصدق فِي الْقِتَال وأرهب لِلْعَدو لِأَنَّهُ كالحائط الممتد وَالْقصر المشيد لَا يطْمع فِي إِزَالَته
وَفِي التَّنْزِيل {إِن الله يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} الصَّفّ 4 اه ولازال الْعَدو هَكَذَا يتنقل شَيْئا فَشَيْئًا حَتَّى وصل إِلَى وَادي يعرف بوادي آسمير وَكَانَ يتحَرَّى فِي تنقلاته يَوْم السبت مُعْتَمدًا فِي ذَلِك حكما نجوميا على مَا قيل فَلَمَّا احتل بآسمير صَادف ريحًا شرقية هاج من أجلهَا الْبَحْر حَتَّى لم تقدر مراكبه أَن تحاذيه قرب السَّاحِل فَانْقَطَعت عَنهُ مَادَّة الْبَحْر وطلع مَاء الْبَحْر فِي وَادي النيكرو من خَلفه فأفعمه وَقطع عَنهُ الْمَادَّة من سبتة كَمَا طلع أَيْضا فِي وَادي آسمير من أَمَامه فحبسه عَن العبور وَصَارَ الْعَدو متوسطا بَين الوادين وَالْبَحْر عَن يسَاره وانقطعت عَنهُ الْموَاد حَتَّى حكى بعض عسكره بعد ذَلِك الْيَوْم أَن الكليطة وَهِي خبْزَة صَغِيرَة تشبه البقسماط كَانَت أول النَّهَار تبَاع ببسيطة وَفِي آخِره بِيعَتْ بريال وَلَا وجود لَهَا وأيقنوا بِالْهَلَاكِ لَو وجدوا من ينتهز الفرصة فيهم وَلَكِن أَيْن الْيَد الباطشة وبقوا على تِلْكَ الْحَال يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة ثمَّ سكن الْبَحْر وانفش الواديان وجاءه المدد وَلما رأى الْمُسلمُونَ أَن الْعَدو وصل إِلَى ذَلِك الْمحل تقهقروا ونزلوا بمدشر القلالين بَينه وَبَين تطاوين نَحْو نصف سَاعَة ثمَّ إِن الْعَدو عبر الْوَادي من آخر اللَّيْل وَأصْبح بِموضع يُقَال لَهُ الْمضيق وَكَانَ متطوعة الْأَعْرَاب فِي هَذِه الْمدَّة على قسمَيْنِ الحازمون وَأهل الْغيرَة مِنْهُم يَقُولُونَ لَوْلَا أَنه بَين الْجبَال ومتحصن بالمتارزات لفعلنَا وَفعلنَا وَالْآخرُونَ يَقُول أحدهم مَا لي وللتقدم إِلَى هَذِه الشرشمة وَإِنَّمَا أهل تطاوين يُقَاتلُون عَن تطاونهم وَأما أَنا فحتى يصل إِلَيّ بخيمتي فِي عَبدة أَو دكالة أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ يعْتَقد أَنه لَا تجب عَلَيْهِ نصْرَة الْمُسلمين نعم الَّذين قَاتلُوا قتالا شَدِيدا وأحسنوا الدفاع وَقَامُوا بالنصرة بنية خَالِصَة وهمة صَادِقَة هم طَائِفَة من شُبَّان أهل فاس وَطَائِفَة من أهل زرهون وَالْبَعْض من آيت يمور وخصوصا
الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بِأبي ريالة مِنْهُم فَإِنَّهُ أبدأ وَأعَاد وأتى بِمَا لم يسمع إِلَّا فِي زمَان الصَّحَابَة رضي الله عنهم
حكى من حضر وتواتر عَنهُ أَنه كَانَ معلما براية صفراء وَكَانَ يضمها إِلَى صَدره ويسددها نَحْو الْعَدو ثمَّ يحمل على صفهم فيخرقه حَتَّى يَأْتِي من خَلفه ويفتك فيهم أَشد الفتك ثمَّ يعود ويستلب خيل الْعَدو ويقودها بأرسانها وَيَأْتِي بهَا حَتَّى يَدْفَعهَا لمن بإزائه وَكَانَ إِذا تقدم نَحْو الْعَدو يَقُول لمن حوله تقدمُوا فَأَنا درقتكم وَأَنا سوركم تكَرر ذَلِك مِنْهُ الْمرة بعد الْمرة وَلما أصبح الْعَدو بالمضيق فَارق الْبَحْر وصمد إِلَى تطاوين فَدخل بَين جبلين وَكَانَ فِي انْتِهَاء ذَلِك الْمضيق الَّذِي بَين الجبلين من جِهَة تطاوين وَيُسمى فَم العليق بعض أخبية أهل فاس وَغَيرهم فصمد الْعَدو نحوهم وبغتهم بالكور والضوبلي وَهُوَ يقرع طبوله حَتَّى أعجل الْبَعْض مِنْهُم عَن حمل أثقاله وَلما وصل إِلَى هَذَا الْموضع حصل بتطاوين انزعاج كَبِير واستأنف النَّاس الْجد وَالِاجْتِهَاد والقتال وتذامر جَيش الْمُسلمين وَكَانَ الْيَوْم شَدِيد الْمَطَر وقاتلوا قتالا شَدِيدا وأبدأ أَبُو ريالة وَأعَاد فِي هَذَا الْيَوْم هلك تَحْتَهُ فرسَان وَأرْسل لَهُ الْمولى الْعَبَّاس فرسه وَكَانَ يعتني بِهِ وينوه بِقَدرِهِ وَيبْعَث الطبل يقرع على خبائه وأصابته فِي هَذَا الْيَوْم جِرَاحَة خَفِيفَة وَهلك من الْمُسلمين وَالنَّصَارَى عدد كثير قيل هلك من أهل تطاوين فَقَط نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وَكَانَ الظُّهُور فِي ذَلِك الْيَوْم لِلْعَدو وَمن الْغَد ارتحل من فَم العليق وَعدل يسارا إِلَى المرسى فَنزل بهَا ليتَمَكَّن من مدد الْبَحْر وَاسْتولى على برج مرتيل وَمَا وَالَاهُ كدار مرتيل الَّتِي هِيَ الديوانة وبمجرد وُصُوله إِلَيْهَا حصنها بأشبارات الرمل والمدافع وَغير ذَلِك وَاتخذ بهَا دورا من اللَّوْح وحوانيت مِنْهُ وَأقَام مطمئنا وَصَارَت المراكب تَتَرَدَّد لَهُ فِي الْبَحْر بالأقوات وَالْعدة والعسكر وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ حَتَّى استراح ثَلَاثَة عشر يَوْمًا وَلم يكن فِي هَذِه الْمدَّة قتال وَلَا أنشبه الْعَدو وَفِي هَذِه الْأَيَّام ورد الْمولى أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن فِي جَيش بعث بِهِ السُّلْطَان من مكناسة وَنزل بِموضع يُقَال لَهُ فَم الجزيرة بِالتَّصْغِيرِ وَكَانَ الْمولى الْعَبَّاس نازلا بمدشر القلالين بِمحل مُرْتَفع يشرف على مَا حوله وَلما استراح الْعَدو
وصلحت أَحْوَال جَيْشه أنشب الْقِتَال فَكَانَ يخرج فيحوم حول المحلتين فَيُقَاتل وَيرجع فَكَانَ بريم دَائِما يكون فِي أول الْمُقدمَة على فرس أَبيض مَشْهُورا عِنْدهم مَوْصُوفا بالشجاعة وجودة الرَّأْي ثمَّ إِن الْعَدو عزم على مصادمة الْمُسلمين والهجوم على تطاوين فارتحل يَوْم السبت الْحَادِي عشر من رَجَب سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وانكمش وَاجْتمعَ وَتقدم لِلْقِتَالِ وَأرْسل جنَاحا من الْخَيل طالعا مَعَ الْوَادي إِلَى جِهَة الْمَدِينَة وجناحا من الْعَسْكَر الرجالة طالعا من الغابة إِلَى جِهَتهَا أَيْضا وزحف بعسكره شَيْئا فَشَيْئًا وَهُوَ فِي ذَلِك يَرْمِي الكور والضوبلي وَالْبِغَال تجر المدافع والجناحات ممتدان يكتنفان محلّة الْمولى أَحْمد وَلما قربا مِنْهَا وَكَاد ينطبقان عَلَيْهَا فر من كَانَ بهَا وَتركُوا الأخبية والأثاث بيد الْعَدو فاستولى عَلَيْهَا وَنزل هُنَالك بعسكره وحصن عَلَيْهِ وتقهقر الْمولى الْعَبَّاس بجيشه حَتَّى نزل خلف تطاوين وَبقيت بَينه وَبَين الْعَدو وَكَانَ فِي تقهقره هَذَا قد دخل الْمَدِينَة وَمر فِي وَسطهَا وَاضِعا منديلا على عَيْنَيْهِ وَهُوَ يبكي أسفا على الدّين وَقلة ناصره وَلما اسْتَقر بالمحلة مَعَ الْعشي خرج إِلَيْهِ أهل تطاوين وَشَكوا إِلَيْهِ مَا نزل بهم من أَمر الْعَدو وَاسْتَأْذَنُوا فِي تَحْويل أثاثهم وأمتعتهم وحريمهم إِلَى مداشر الْجَبَل وَحَيْثُ يأمنون على أنفسهم قبل حُلُول معرة الْعَدو بهم فَأذن لَهُم وَعذرهمْ وَكَانَ قبل ذَلِك قد منع النَّاس من نقل أمتعتهم وحريمهم لِئَلَّا يفتنوا الْمُسلمين ويجروا عَلَيْهِم الْهَزِيمَة ولكي يقاتلوا عَلَيْهَا بِالْقَلْبِ والقالب فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْم وَشَكوا إِلَيْهِ أَمر الْعَدو الَّذِي قد أطل عَلَيْهِم وَلم يبْق إِلَّا أَن يثب وثبة أُخْرَى فَيصير بهَا فِي وسط الْبَلَد عذرهمْ وَكَانَ الْعَدو حِين نزل بِفَم الجزيرة عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم قد أرسل أَربع كورات على تطاوين فَوَقَعت فِي وسط الْمَدِينَة كَأَنَّهُ يعلمهُمْ بِأَنَّهُ قد أشرف عَلَيْهِم وَلم يبْق دون أَخذهم قَلِيل وَلَا كثير وَلما سمع النَّاس كَلَام الْمولى الْعَبَّاس انْطَلقُوا مُسْرِعين إِلَى نقل أمتعتهم وَقَامَ الضجيج فِي الْمَدِينَة وَاخْتَلَطَ المرعى بالهمل وامتدت أَيدي الغوغاء إِلَى النهب وخلع النَّاس جِلْبَاب الْحيَاء وانهار من كَانَ هُنَالك من أهل الْجَبَل والأعراب والأوباش ينقبون ويكسرون أَبْوَاب الدّور والحوانيت والداخل للمدينة أَكثر من الْخَارِج
وَبَاتُوا ليلتهم كَذَلِك إِلَى الصَّباح وَلما طلع النَّهَار وتراءت الْوُجُوه انتقلوا من نهب الْأَمْتِعَة إِلَى الْمُقَاتلَة عَلَيْهَا فَهَلَك دَاخل الْمَدِينَة نَحْو الْعشْرين نفسا وعظمت الْفِتْنَة وتخوف من بَقِي بتطاوين عَاجِزا عَن الْفِرَار فَاجْتمع جمَاعَة مِنْهُم على الْحَاج أَحْمد بن عَليّ آبعير أَصله من طنجة وَسكن تطاوين وَتَشَاوَرُوا فِيمَا نزل بهم فأجمع رَأْيهمْ على أَن يكتبوا كتابا إِلَى كَبِير محلّة الْعَدو أردنيل يطْلبُونَ مِنْهُ أَن يقدم عَلَيْهِم لتحسم مَادَّة الْفِتْنَة الَّتِي هم فِيهَا فَكَتَبُوا الْكتاب ووجهوه مَعَ جمَاعَة مِنْهُم فَمَا انفصلوا عَن الْمَدِينَة غير بعيد حَتَّى عثروا على طلائع الْعَدو يطوفون حول الْمَدِينَة ويحرسون محلتهم فتسابقوا إِلَيْهِم وهشوا وبشوا وسألوهم مَا الَّذِي أقدمكم فَقَالُوا جِئْنَا بِكِتَاب إِلَى أردنيل فأبلغوهم إِلَيْهِ فأظهر أَيْضا الْبشر والفرح وَقدم إِلَيْهِم طَعَاما من الْحَلْوَاء وَقَالَ لَهُم فِي جملَة كَلَامه إِنِّي أفعل مَعكُمْ مَا لم يَفْعَله الفرنسيس مَعَ أهل الجزائر وتلمسان يَعْنِي من الْإِحْسَان وَكذب خذله الله فَإِن ذَلِك من حيله الَّتِي يستهوي بهَا الأغمار وَيفْسد بهَا الدّين وَإِلَّا فَأَي إِحْسَان فعله الفرنسيس مَعَ أهل الجزائر وتلمسان أَلسنا نرى دينهم قد ذهب وَأَن الْفساد قد عَم فيهم وَغلب وَأَن ذَرَارِيهمْ قد نشؤوا على الزندقة وَالْكفْر إِلَّا قَلِيلا وَعَما قريب يلْحق التَّالِي بالمقدم وَالله تَعَالَى يحوط مِلَّة الْإِسْلَام وَيكسر بقوته شَوْكَة الزَّنَادِقَة وَعَبدَة الْأَصْنَام وَلما عرضوا على الْعَدو الدُّخُول إِلَى بلدهم قَالَ لَهُم أما الْيَوْم فَيوم الْأَحَد وَهُوَ عيد النَّصَارَى وَلَا يحل لي التحرك والانتقال وَأما غَدا فانظروني فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة من النَّهَار فَرَجَعُوا إِلَى أهلهم وأصحابهم وأعلموهم بمقالة الْعَدو وَالْحَال مَا حَال والقتال لَا زَالَ وأبواب الحوانيت تكسر والدور تخرب وَالْقَوِي يَأْكُل الضَّعِيف وَبَاتُوا لَيْلَة الِاثْنَيْنِ كَذَلِك وَأَصْبحُوا من الْغَد كَذَلِك ثمَّ إِن الْعَدو استعد وَأخذ أهبته وَتقدم إِلَى تطاوين بعد أَن فرق عسكره على جِهَتَيْنِ فرقة مرت مَعَ أردنيل على الْجَبانَة قاصدة الْبَاب الَّذِي يُفْضِي إِلَيْهَا وَفرْقَة ذهبت مستعلية إِلَى جِهَة القصبة والبرج وَلما وصل أردنيل إِلَى الْبَاب وصل الْآخرُونَ إِلَى القصبة فَأَما أردنيل فَوجدَ الْبَاب مغلقا وَكَلمه الْمُسلمُونَ من دَاخل الْمَدِينَة فَأَمرهمْ
بِالْفَتْح فَقَالُوا إِن المفاتيح قد ذهبت فِي الْفِتْنَة فَقَالَ اكسروا الأقفال فكسروها وَدخل وَدخل مَعَه كبراء عسكره فَتوجه هُوَ إِلَى دَار المخزن فَنزل بهَا وافترق كبراء الْعَسْكَر فِي الْمَدِينَة بِأَيْدِيهِم وَرَقَات مَكْتُوب فِيهَا أَسمَاء الدّور الَّتِي ينزلون بهَا كل وَاحِد بداره مَكْتُوبَة فِي ورقته فَكَانَ أحدهم يسْأَل عَن دَار الرزيني وَآخر يسْأَل عَن دَار اللبادي وَآخر يسْأَل عَن دَار ابْن الْمُفْتِي وَهَكَذَا بِحَيْثُ دخلُوا على بَصِيرَة بأَمْره الْبَلَد ودور كِبَارهَا فاستقر كل وَاحِد مِنْهُم فِي دَاره الَّتِي عينت لَهُ وَأما الَّذين ذَهَبُوا نَحْو القصبة فَإِنَّهُم لما وصلوا إِلَى السُّور أنشبوا فِيهِ سلاليم من قمن غِلَاظ برؤوسها مخاطيف معوجة وتسلقوا فِيهَا بِسُرْعَة وَلما صَارُوا فِي أَعلَى البرج رفعوا سنجقهم فِي أَعلَى الصاري وأخرجوا عَلَيْهَا مدفعا وَلما سمع المشتغلون بالنهب وَالْقَتْل حس المدفع رفعوا رؤوسهم إِلَى البرج وبمجرد مَا وَقع بصرهم على بنديرة الْعَدو تلوح خَرجُوا على وُجُوههم فارين كالنعم الشارد فَالْأَمْر لله وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَا أسفي على الدّين وَأَهله وَلما اسْتَقر الْعَدو بِالْبَلَدِ رتب حكامها وكف الْيَد العادية عَنْهَا وَولى على الْمُسلمين الْحَاج أَحْمد آبعير الْمَذْكُور آنِفا وَكَانَ دُخُوله إِلَى تطاوين واستيلاؤه عَلَيْهَا ضحوة يَوْم الْإِثْنَيْنِ الثَّالِث عشر من رَجَب سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورثاها الأديب الشريف السَّيِّد الْفضل أفيلال بقصيدة يَقُول فِيهَا
(يَا دهر قل لي على مَه
…
كسرت جمع السَّلامَة)
(نصبته للدواهي
…
وَلم تخف من ملامة)
(خفضت قدر مقَام
…
للرفع كَانَ علامه)
(ملكته لأعاد
…
لَيست تَسَاوِي قلامة)
(فالدين يبكي بدمع
…
يحكيه صوب الغمامة)
(على مَسَاجِد أضحت
…
تبَاع فِيهَا المدامة)
(كم من ضريح ولي
…
تلوح مِنْهُ الْكَرَامَة)
(علق فِيهِ رهيب
…
صليبه ولجامه)
(ومنزل لشريف
…
وعالم ذِي استقامة)
(صَار كنيفا لعلج
…
وَلم يراع احترامه)
(وَكم وَكم من أُمُور
…
للدّين فِيهَا اهتضامه)
(تبْكي عَلَيْهَا عُيُون
…
كآبة وندامة)
(تطوان مَا كنت إِلَّا
…
بَين الْبِلَاد حمامة)
(أَو كخطيب تردى
…
من بعد لبس الْعِمَامَة)
(بل كنت روضا بهيجا
…
زهرك أبدى ابتسامه)
(أَو كمحيا عروس
…
علاهُ فِي الخد شامة)
(فقت بهاء وحسنا
…
فاسا ومصر وشامه)
(رماك بِالْعينِ دهر
…
وَلَا كزرق الْيَمَامَة)
(فَفرق الْأَهْل حَتَّى
…
لم يبْق إِلَّا ارتسامه)
(مَا كَانَ أحلى زَمَانا
…
وَمَا ألذ غرامه)
(مضى لنا مَعَ بدور
…
ذَوي نهى وفخامه)
(مَا بَين إنشاد شعر
…
وَبَين إنشا مقَامه)
(وشملنا فِي التئام
…
والبسيط يهوى التئامه)
(حن السرُور إِلَيْهِ
…
شوقا ورام التثامه)
(ساعده السعد حَتَّى
…
نَالَ المنى ومرامه)
(يَا حسنها من لَيَال
…
لَو لم تصر كالمنامة)
(تطوان يَا دَار أنس
…
وخيس أهل الزعامة)
(هَل للوصال سَبِيل
…
فالهجر أكمل عَامه)
(وَالْقلب ذاب اشتياقا
…
وحسرة واستهامة)
(والوجد أَضْعَف جسما
…
وَكَاد يبري عِظَامه)
(يَا أهل تطوان صبرا
…
فَمَا لخطب أدامه)
(دوَام حَال محَال
…
وَهل لظل إِقَامَة)
(إِن غَابَ نجم سعود
…
ولاح نجم شآمة)
(فَسَوف يطلع بدر
…
يمحو سناه ظلامه)
(فَاعْتَصمُوا برجاء
…
وارعوا بِصدق ذمامه)
(وحسنوا الظَّن تنجوا
…
دنيا وَيَوْم الْقِيَامَة)
(وفوضوا الْأَمر لله
…
يكف عَنَّا انتقامه)
(مَا فَازَ إِلَّا ذكي
…
قدم خيرا أَمَامه)
(حَيْثُ أَقَامَهُ يرضى
…
وَلَو بقصر كتامة)
(وَلَا يزل ذَا انْتِظَار
…
فِي كل وَقت ختامه)
(يراقب الله سرا
…
وجهرة باستدامه)
(يطْلب حسن ختام
…
وَحل دَار المقامة)
ثمَّ إِن أردنيل بعد أَن رتب الْحُكَّام بتطاوين عَاد إِلَى محلته وَقسم عسكره قسمَيْنِ وأنزله مكتنفا للبلد شرقا وغربا وَاخْتَارَ مِنْهُ عشرَة آلَاف فَأدْخلهَا الْمَدِينَة وَبَقِي هُوَ خَارِجا بِإِحْدَى المحلتين قَالَ إِن جَيْشه كَانَ يَوْم دخل تطاوين سبعين ألفا كلهَا مقاتلة فِي غَايَة الاستعداد وَكَمَال الشَّوْكَة ثمَّ أَمر بالنداء فِي الْبَلَد أَن من أوقد نَارا تلْزمهُ الْعقُوبَة الشَّدِيدَة حذرا من أَن تكون هُنَالك مينا للْمُسلمين أَو مَا أشبههَا فَبَقيَ النَّاس على ذَلِك نَحْو أَرْبَعَة أَيَّام لم يوقدوا فِيهَا نَارا ونادى أَيْضا بِأَن من فر من أهل الْبَلَد وَلم يَأْتِ إِلَى مَتَاعه وَأَصله إِلَى سَبْعَة أَيَّام فَلَا شَيْء لَهُ بعد وَلم يقدم شَيْئا على نقل البارود والمدفع الَّذِي كَانَ للْمُسلمين بِالْمَدِينَةِ فَأَما المدفع فَحَمله إِلَى أصبانيا وَأما البارود فَجعله بضريح ولي الله تَعَالَى سَيِّدي السعيدي وَكَذَا فعل بِجَمِيعِ آلَات الْجِهَاد ثمَّ عمد إِلَى ضريح سَيِّدي عبد الله الْبَقَّال فَجعله كَنِيسَة وَجعل مَسْجِد الباشا مختزنا للأرز وَالشعِير وَمَسْجِد القصبة مختزنا للكليط ثمَّ سَار فِي الْمُسلمين بالتوقير والاحترام وَلم يسمهم خسفا وَلَا كلفهم شغلا وَلَا اقْتضى مِنْهُم مغرما كَانَ يتألفهم بذلك وَمن بَاعَ مِنْهُم شَيْئا أَضْعَف لَهُ فِي الثّمن وأربحه وَكَذَا فعل مَعَ أهل المداشر الَّذين حول الْبَلَد حَتَّى اتخذ النَّاس سوقا بِموضع يعرف بكدية المدفع خَارج تطاوين وشاع خَبره فِي قبائل الْجَبَل فانهاروا عَلَيْهِ من كل جَانب وربحت النَّاس فِيهِ ثمَّ كتب أردنيل كتبا وَبعث بهَا إِلَى قبائل الْجَبَل يعدهم ويمنيهم إِن هم قدمُوا عَلَيْهِ وخالطوه بِالْبيعِ وَالشِّرَاء ويتوعدهم إِن لم يَفْعَلُوا فقدموا من كل أَوب وَارْتَفَعت الأسعار
فزادت ضعف مَا كَانَت عَلَيْهِ وَأكْثر واستمرت كَذَلِك فَلم ترجع بعد ثمَّ أَخذ فِي تَرْتِيب بِنَاء الْمَدِينَة وتبديل شكلها حَسْبَمَا جرت بِهِ عَادَة النَّصَارَى فِي مدنهم فهدم مَا لم يُوَافق نظره وفرز الدّور من سور الْبَلَد وكل دَار كَانَت ملتصقة بالسور فصلها عَنهُ وَاسْتمرّ على هَذَا الْحَال نَحْو الْعشْرين يَوْمًا ثمَّ دَار الْكَلَام بَينه وَبَين الْمولى الْعَبَّاس فِي الصُّلْح وتسامع النَّاس بِهِ ففرح الْمُسلمُونَ وَالنَّصَارَى مَعًا أما الْمُسلمُونَ فَوجه فَرَحهمْ ظَاهر وَأما النَّصَارَى فَإِنَّهُم وَإِن كَانَ لَهُم الظُّهُور فهم لَا يدركونه سهلا بل مَعَ الْقَتْل الْعَظِيم وَالْجرْح الْكثير وَالْمَشَقَّة الفادحة قَالَ تَعَالَى {إِن تَكُونُوا تألمون فَإِنَّهُم يألمون كَمَا تألمون وترجون من الله مَا لَا يرجون} النِّسَاء 104 هَذَا إِلَى مُفَارقَة بِلَادهمْ الَّتِي ألفوها وعوائدهم الَّتِي ربوا عَلَيْهَا لَا سِيمَا عَامَّة جيشهم الَّذين الْغَلَبَة فِي ضمن هلاكهم فدماؤهم هِيَ ثمنهَا كَمَا قيل بجبهة العير يفد حافر الْفرس
حكى من حضر أَن عَسْكَر النَّصَارَى لما سمعُوا بتناول الصُّلْح حصل لَهُم من الْفَرح أَضْعَاف مَا حصل للْمُسلمين وصاروا يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِم ويبحثونهم عَمَّا تجدّد من الْأَخْبَار وَكلما سمعُوا بِشَيْء من أَمر الصُّلْح طاروا فَرحا وَذَلِكَ لِأَن قتال النَّصَارَى كُله على الْإِكْرَاه إِذْ لَا يُمكن عسكريا مِنْهُم أَن يفر من الزَّحْف حَال الْقِتَال لِأَن الخيالة والسيافة من ورائهم يذمرونهم إِلَى الإِمَام وَمهما رَجَعَ أحد مِنْهُم إِلَى خلف وَترك فِي الصَّفّ فُرْجَة ضربت عُنُقه فِي الْحِين فالموت عِنْدهم فِي الْفِرَار مُحَقّق وَفِي التَّقَدُّم مظنون فيختارون المظنون على الْمُحَقق اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا اشتدت الْحَرْب وحمي الْوَطِيس وَاخْتَلَطَ الرِّجَال بِالرِّجَالِ أمكن الْفِرَار حِينَئِذٍ لاشتغال الرئيس والمرؤوس كل بِنَفسِهِ وَبِهَذَا الضَّبْط لم تتفق لَهُم هزيمَة مُنْذُ خَرجُوا من سبتة وَمن عَادَة الْعَدو فِي الْحَرْب أَنه إِذا نَهَضَ لِلْقِتَالِ ارتحل بِجَمِيعِ مَا فِي عسكره كَأَنَّهُ مُسَافر فترى العسكري مِنْهُم إِذا تقدم لِلْقِتَالِ حَامِلا مَعَه جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من مَاء وَطَعَام وبارود ورصاص حَتَّى الموسى والمقص والمرآة والصابون وَغير ذَلِك قد اتخذ لجَمِيع ذَلِك أوعية لطافا وعلقها عَلَيْهِ فَلَا يؤده حملهَا لِأَنَّهُ اقْتصر من كل على
قدر الْحَاجة وَأما الأخبية فَيحمل كل ثَلَاثَة رجال خباء وَلَا تلحقهم كلفة فِي حمله لِأَن أخبيتهم فِي غَايَة اللطافة والصفافة وأعمدتها لطاف صلبة فَهِيَ مَعَ كفايتها على الْوَجْه الأتم فِي غَايَة الخفة بِحَيْثُ إِذا لف الخباء بِمَا فِيهِ كَانَ كلا شَيْء وَلَو أَرَادَ أَن يحملهُ وَاحِد لفعل لكنه يقسمهُ ثَلَاثَة أشخاص زِيَادَة فِي الرِّفْق وَلِئَلَّا يحصل الضجر إِذا طَال السّفر وَأما المدافع فقد اتَّخذُوا لَهَا عجلات أفرغت إفراغا وَركبت عَلَيْهَا على وَجه مُحكم وَاتَّخذُوا للعجلات بغالا خصية تجرها فِي غَايَة الفراهة والارتياض ويجعلون فَوق تِلْكَ العجلات صناديق الْإِقَامَة من بارود ورصاص وضوبلي وَغير ذَلِك وتجلس الطبجية على تِلْكَ الصناديق وَيقوم آخَرُونَ حَولهمْ قد أخذُوا أهبتهم لِلْقِتَالِ بِكُل مَا يُمكن ثمَّ تنْدَفع العساكر على هَذَا التَّرْتِيب صُفُوفا صُفُوفا وتتقدم شَيْئا فَشَيْئًا يخلف بَعْضهَا بَعْضًا كَأَنَّهَا أمواج الْبَحْر تبرق الشَّمْس على طموس رؤوسها وتلمع على عَددهَا المصقولة وآلاتها وَهُوَ فِي هَذِه الْحَالة لَا يفتر من رمي الكور والضوبلي والشرشم على كل جِهَة هَكَذَا قِتَاله أبدا وَإِذا أدْركهُ الْمسَاء أَو وَقعت محاجزة أثْنَاء النَّهَار وَكَانَ قَصده الثَّبَات ثَبت بمحله ذَلِك وَلَا يتزحزح عَنهُ بِحَال إِلَّا إِذا فني كل عسكره أَو جله فبمثل هَذَا الضَّبْط كَانَ لَهُ الِاسْتِيلَاء والظهور وَأما مقاتلة الْمُسلمين لَهُ فَكَانَت غير منضبطة وَإِنَّمَا قَاتله من قَاتله مِنْهُم بِاخْتِيَارِهِ وَمن قبل نَفسه وَإِن كَانَ هُنَالك ضبط من أَمِير الْجَيْش فكلا ضبط وَمَتى ظهر لَهُ أَن يذهب ذهب مَعَ أَن الله تَعَالَى يَقُول {وَإِذا كَانُوا مَعَه على أَمر جَامع لم يذهبوا حَتَّى يستأذنوه} النُّور 62 لَكِن الْمقَاتل من الْمُسلمين يَأْتِي الْقِتَال وَلَيْسَ مَعَه مَا يَأْكُل وَلَا مَا يشرب فبالضرورة إِذا جَاع أَو عَطش ذهب يبْحَث عَمَّا يُقيم بِهِ صلبه ثمَّ هم يُقَاتلُون على غير صف وَلَا تعبية بل يتفرقون فِي الشعاب ومخارم الأودية وحول الْأَشْجَار فيقاتلون من وَرَائِهَا وَإِذا دفعُوا فِي نحر الْعَدو دفعُوا زرافات ووحدانا ثمَّ إِذا أدركهم الْمسَاء وَوَقعت المحاجزة ذهب كل إِلَى خبائه الَّذِي تَركه وَرَاءه بمسافة بعيدَة
وهم فِي هَذَا كُله لَيْسَ لَهُم وازع يحملهم على مَا يُرَاد مِنْهُم
فَالْحَاصِل أَن جَيش مغربنا إِذا حَضَرُوا الْقِتَال وَكَانُوا على ظُهُور خيولهم فهم فِي تِلْكَ الْحَال مساوون فِي الاستبداد لأمير الْجَيْش لَا يملك من أَمرهم شَيْئا وَإِنَّمَا يُقَاتلُون هِدَايَة من الله لَهُم وحياء من الْأَمِير وَقَلِيل مَا هم وَقد جربنَا ذَلِك فصح فَفرُّوا عَن السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان فِي وقْعَة ظيان أَولا وَفِي وقْعَة الشراردة ثَانِيًا وَكَانَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن أهيب فِي نُفُوسهم مِنْهُ فَكَانُوا يلزمون غرزه لكنه لما بَعثهمْ إِلَى تلمسان فعلوا فعلتهم وسلكوا عَادَتهم وَلما شهدُوا مَعَ الْخَلِيفَة سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وقْعَة إيسلي جاؤوا بهَا شنعاء غَرِيبَة فِي الْقبْح وَلَوْلَا أَنه قَامَ بِنَفسِهِ لَيْلَة الْحَاج عبد الْقَادِر وَمنع النَّاس من الرّكُوب لربما عَادوا إِلَى فعلهم وَأحسن مَا كَانَت حَالهم فِي هَذَا الْحَرْب فَإِنَّهُم قاوموا الْعَدو وَفرقُوا صفوفه غير مرّة لكِنهمْ أَتَوا من عدم الضَّبْط الَّذِي هُوَ كضبطه فَعدم ملاقاتهم لِلْعَدو فِي الْكَيْفِيَّة القتالية هُوَ الَّذِي أضرّ بهم وَأوجب لعدوهم الظُّهُور عَلَيْهِم إِذْ الشَّيْء كَمَا علمت إِنَّمَا يُقَاوم بِمثلِهِ وَالشَّر إِنَّمَا يدْفع بضده فالتنافي إِنَّمَا يحصل بَين الضدين أَو المثلين وحربنا وَحرب الإصبنيول كَانَ من بَاب الخلافين وَلَا تنَافِي بَين الخلافين كَمَا هُوَ مُقَرر فِي علم الْحِكْمَة والتوفيق إِنَّمَا هُوَ بيد الله
ولنرجع إِلَى الْكَلَام على الصُّلْح المتناول فَنَقُول لما دَار الْكَلَام بَين الْمولى الْعَبَّاس رحمه الله وَبَين أردنيل فِي الصُّلْح اسْتَعدوا للاجتماع فِي يَوْم مَعْلُوم بمَكَان سوي بَين المحلتين فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم ضرب بِالْمحل الْمعِين خباء وَجَاء الْمولى الْعَبَّاس وَمَعَهُ جمَاعَة من وُجُوه جَيْشه وَفِيهِمْ أَبُو عبد الله الْخَطِيب التطاوني وَخرج أردنيل وَمَعَهُ جمَاعَة من وُجُوه عسكره وَخرج مَعَه مقدم الْمُسلمين بتطاوين الْحَاج أَحْمد آبعير رَجَاء أَن يكون هُوَ الترجمان بَين الأميرين فيفوز بِذكر ذَلِك الْجمع وفخره فأخفق رجاؤه لِأَنَّهُ لما توافى الْجَمْعَانِ إِلَى الخباء بَقِي النَّاس كلهم قَائِمين على بعد مِنْهُ وَلم يدْخلهُ إِلَّا الْمولى الْعَبَّاس وأردنيل والخطيب لَا رَابِع لَهُم فِيمَا قيل وَأبْدى أردنيل من
الْأَدَب والخضوع للْمولى الْعَبَّاس مَا جَاوز الْحَد وتفاوضوا سَاعَة ثمَّ انفض الْمجْلس وتناقل النَّاس أَن حَاصِل مَا دَار بَينهمَا أَن أردنيل رغب فِي الصُّلْح وتأكيد الوصلة بَينهم وَبَين الْمُسلمين على شُرُوط ذكرهَا وَأَن الْمولى الْعَبَّاس توقف فِيهَا وأحال ذَلِك على مشورة أَخِيه السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد وَذهب كل إِلَى سَبيله وَبَقِي النَّاس ينتظرون الْجَواب بِأَيّ شَيْء يَأْتِي من عِنْد السُّلْطَان وَبعد أَيَّام ورد الْخَبَر بِأَن السُّلْطَان لم يقبل ذَلِك الصُّلْح فاستمر النَّاس على حالتهم الأولى من كَون محلّة الْعَدو بتطاوين وَبَعضهَا خَارِجهَا شرقا وغربا ومحلة مولَايَ الْعَبَّاس على بعد من الْبَلَد مِقْدَار نصف يَوْم ثمَّ إِن الْمُسلمين اجْتَمعُوا ذَات يَوْم وبيتوا محلّة الْعَدو النَّازِلَة خَارج الْبَلَد فِي لَيْلَة مَعْلُومَة فتقدموا إِلَيْهَا وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر شعْبَان سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وهجموا عَلَيْهَا فِي لَيْلَة مظْلمَة وَالنَّصَارَى غَارونَ وفتكوا فيهم فتكة بكرا باتوا يَقْتُلُونَهُمْ اللَّيْل كُله وَمن الْغَد كَذَلِك إِلَى الْمسَاء وَقَاتل النَّصَارَى ذَلِك الْيَوْم أَيْضا وَلَكِن الظُّهُور كَانَ للْمُسلمين وَلَوْلَا قُوَّة نفوس الْعَدو باستنادهم إِلَى الْبَلَد وتحصن كَبِيرهمْ بهَا لكانوا انكسروا كسرة شنيعة وَكَانَ عدد الْقَتْلَى من النَّصَارَى فِي هَذِه الْوَقْعَة نَحْو الْخَمْسمِائَةِ والجرحى أَكثر من ألف وَأما الْمُسلمُونَ فَكَانَ الْقَتْل فيهم ضَعِيفا وَلما أصبح أردنيل وَرَأى مَا حل بعسكره ساءت أخلاقه وقلب لأهل تطاوين ظهر الْمِجَن وأبدل تِلْكَ الشَّفَقَة الَّتِي كَانَ يعاملهم بهَا بالغلظة والبشاشة بالاكفهرار وَعمد إِلَى مَسْجِد الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بركَة رحمه الله فاتخذه مارستانا للجرحى فظلت الْجَرْحى تنقل إِلَيْهِ وَفرض على أهل تطاوين اللحف والقطائف فَجمع من ذَلِك شَيْئا كثيرا فرشه بِالْمَسْجِدِ الْمَذْكُور لجرحاه وَصَارَ عَامَّة عَسْكَر النَّصَارَى بتطاوين كلما لقوا أحدا من الْمُسلمين عيروه بالغدر وقبحوه ثمَّ إِن أردنيل أَقَامَ بعد هَذِه الْوَقْعَة نَحْو عشرَة أَيَّام ريثما استجم جَيْشه وأبلت جرحاه وَخرج فِي تَمام الشَّوْكَة وَكَمَال الاستعداد يُرِيد أَن يضْرب فِي محلّة الْمُسلمين فَجعل تطاوين
خَلفه وَتقدم حَتَّى كَانَ بوادي أبي صفيحة فَلَمَّا شعر بِهِ النَّاس من أهل المداشر والمتطوعة تسابقوا إِلَيْهِ من كل جَانب وَوَافَقَ ذَلِك الْيَوْم قدوم عرب الحياينة جاؤوا فِي حرد كَبِير وحنق شَدِيد فَقَوِيت قُلُوب النَّاس بهم وَاشْتَدَّ أزرهم وتقدموا إِلَى الْعَدو فأنشبوا مَعَه الْحَرْب بِأبي صفيحة قبل أَن يصل إِلَى محلّة الْمُسلمين وكثروه فأوقعوا بِهِ وقْعَة أنست مَا قبلهَا فَقتلُوا مِنْهُ مَا خرج عَن الْحصْر وَأما الْجَرْحى فَقل مَا شِئْت وكست قتلاه الأَرْض وَلما أعياه الدّفن جعل يجمع الْجَمَاعَة من الثَّمَانِية إِلَى الْعشْرَة ويهيل عَلَيْهَا التُّرَاب وَمَعَ ذَلِك بَقِي مِنْهُ عدد كَبِير بِلَا دفن حَتَّى أنتن مَوضِع المعركة من شدَّة نَتن الْجِيَف ونال الْمُسلمُونَ من عدوهم فِي هَذَا الْيَوْم مَا لم ينالوا قبله مثله وَلَا مَا يُقَارِبه وَكَانَ الذّكر فِيهِ لعرب الحياينة ثمَّ للمتطوعة غَيرهم وَأما محلّة الْمولى الْعَبَّاس فَكَانَت بعيدَة عَن المعركة بمسافة كَبِيرَة
وَقد ذكر منويل خبر هَذَا الْيَوْم فَأقر بِأَنَّهُ أهرق مِنْهُم دم كثير وخسروا فِيهِ عددا كَبِيرا من نفوس الْعَسْكَر وَالْخَيْل وَلما بلغ الْمولى الْعَبَّاس أَن الْعَدو قد برز من تطاوين وَأَن الْمُسلمين يقاتلونه الْآن فِي أبي صفيحة قلب رَأْيه واستأنف النّظر فِي عَاقِبَة أمره وَرَأى أَن الْمُسلمين وَإِن نالوا من الْعَدو فِي هَذِه الْمرة وأبلغوا فِي نكايته لَكِن الثَّمَرَة ضَعِيفَة من جِهَة أَن نكايتنا لَهُ إِنَّمَا هِيَ فِي الْقَتْل وَالْجرْح ونكايته فِي أَخذ الأَرْض والاستيلاء عَلَيْهَا كَمَا قُلْنَا غير مرّة فجنح رحمه الله إِلَى الصُّلْح وَاخْتَارَهُ على الْحَرْب حَتَّى تَدور للْمُسلمين سعود إِن شَاءَ الله
أَخْبرنِي صاحبنا الْقَائِد الْأَجَل أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن حمان الجراري حفظه الله قَالَ لما طَالَتْ الْحَرْب بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى على تطاوين استدعاني السُّلْطَان وسيدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن رحمه الله وَأَعْطَانِي سِتِّينَ ألف مِثْقَال أذهب بهَا إِلَى جَيش الْمُسلمين المرابط على تطاوين بِقصد الْمُؤْنَة والصائر وَقَالَ لي مَعَ ذَلِك إِذا وصلت إِلَى محلّة الْمُسلمين فَانْظُر
حَالهم وتبصر فِي جَمِيع أُمُورهم وَمَا هم عَلَيْهِ فِي قتال عدوهم من الضَّبْط وَعَدَمه وَهل هم مكفيون فِي جَمِيع مَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ أم لَا واستوعب ذَلِك وائتنى بِالْأَمر على وَجهه قَالَ فَذَهَبت فوصلت إِلَى الْمحلة يَوْم الْخَمِيس وَفِي صَبِيحَة الْيَوْم الَّذِي يَلِيهِ كَانَ حَرْب أبي صفيحة فجَاء النذير إِلَى الْمولى الْعَبَّاس وَأخْبرهُ بِأَن الْمُسلمين الْآن يُقَاتلُون الْعَدو قَالَ فركبت فِي جمَاعَة من النَّاس وَذَهَبت لأنظر حَال الْمُسلمين وَحَال عدوهم كَمَا أَمرنِي السُّلْطَان رحمه الله فوصلت إِلَى مقاتلة الْمُسلمين فَإِذا هم يرتادون موضعا ينزلون بِهِ أثقالهم ويضربون بِهِ أخبيتهم ليتفرغوا لقِتَال عدوهم فَإِذا هم عزموا على النُّزُول بوادي آكراز فأجهضهم الْعَدو عَنهُ بِالرَّمْي بالكور والضوبلي وَهُوَ مُتَقَدم أَمَام لَا يثنيه شَيْء فتأخروا عَن ذَلِك الْمحل ونزلوا بِمحل أمنُوا بِهِ على أخبيتهم وأثاثهم ثمَّ تقدمُوا إِلَيْهِ وقاتلوه قتالا شَدِيدا حَتَّى ردُّوهُ على عقبه بالموضع الْمَعْرُوف بآمصال مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَقتلُوا مِنْهُ مَا جَاوز الْحصْر وَفِي ذَلِك الْيَوْم اسْتشْهد عَامل سُفْيَان وَبني مَالك أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن عبد الْكَرِيم بن عودة الْحَارِثِيّ وَبَات الْعَدو تِلْكَ اللَّيْلَة بوادي آكراز الَّذِي كَانَ الْمُسلمُونَ أَرَادوا أَن ينزلُوا بِهِ وباتت محلّة الْمُسلمين بالفنيديق وتفرق جلّ متطوعتها كل إِلَى حَال سَبيله على عَادَتهم وَكَانَ الْوَقْت وَقت شتاء وَبرد غَايَة
قَالَ فَلم يُعجبنِي ذَلِك وَمن الْغَد وَهُوَ يَوْم السبت أصبح الْعَدو مُقيما والمسلمون مقيمين كَذَلِك وَكَانَ الرَّأْي أَن يعاجلوه بوقعة أُخْرَى ويلحوا عَلَيْهِ كي يكسروا شوكته ويهضموا مَا دَامَ متألما وَلَا يَتْرُكُوهُ حَتَّى يجم ويستريح لكِنهمْ لم يَفْعَلُوا وَدَار الْكَلَام فِي ذَلِك الْيَوْم فِي الصُّلْح فأذعن كل من الأميرين أَمِير الْمُسلمين وأمير النَّصَارَى وجنحوا إِلَيْهِ لأَنهم كَانُوا مَعًا قد سئموا الْحَرْب وملوا الْقِتَال ثمَّ من الْغَد وَهُوَ يَوْم الْأَحَد تداعوا للاجتماع بعد أَن نَهَضَ الْعَدو من مَحَله الَّذِي كَانَ نازلا بِهِ وَاجْتمعَ وانكمش وَأظْهر الْقُوَّة بالتهييىء للحرب والتعبئة لِلْقِتَالِ حَتَّى أَنه إِذا كَانَ صلح فَذَاك وَإِلَّا فالقتال فعل ذَلِك مكيدة وَالْحَاصِل أَن الْمولى الْعَبَّاس تقدم فِي جمَاعَة من وُجُوه الْجَيْش
وتدنى أردنيل فِي جمَاعَة من أَصْحَابه كَذَلِك بعد أَن أمربضرب خباء صَغِير يَجْتَمِعَانِ بِهِ وَتقدم أردنيل على الخباء بِكَثِير لملاقاة الْمولى الْعَبَّاس وإظهارا للأدب مَعَه فتلاقى بِهِ وعادا إِلَى الخباء وَحضر مَعَهم الترجمان ورجلان آخرَانِ وأبرموا الصُّلْح وَأعْطى كل خطّ يَده بذلك وانفصلوا وَذهب كل إِلَى مَحَله وَكَانَ ذَلِك آخر حَرْب بَين الْمُسلمين والإصبنيول وَلما وصل الْخَبَر بانعقاد الصُّلْح إِلَى عَسْكَر النَّصَارَى فرحوا فَرحا لم يعْهَد مثله وَجعلُوا ينادون الباص الباص أَي الصُّلْح الصُّلْح ودخلوا تطاوين وهم رافعون بهَا أَصْوَاتهم وَكلما لقوا مُسلما هشوا لَهُ كَأَنَّهُمْ يهنئونه بِالصُّلْحِ وَكَانَ الصُّلْح قد انْعَقَد بَين الْمُسلمين والإصبنيول على شُرُوط مِنْهَا أَن يدْفع السُّلْطَان إِلَيْهِم عشْرين مليونا من الريال ويخرجوا من تطاوين وَمَا استولوا عَلَيْهِ من الأَرْض الَّتِي بَينهَا وَبَين سبتة إِلَّا شَيْئا يَسِيرا يُزَاد لَهُم فِي المحدة على سَبِيل التَّوسعَة وَكَانَ انْعِقَاد هَذَا الصُّلْح فِي أَوَاخِر شعْبَان سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وتراخى السُّلْطَان رحمه الله فِي دفع هَذَا المَال فاستمر الْعَدو مُقيما بتطاوين حَتَّى يَسْتَوْفِيه وَبعد سنة من يَوْم هَذَا الصُّلْح استوفى عشرَة ملايين مِنْهُ وَبقيت عشرَة وَقع الِاتِّفَاق فِيهَا على أَن يقتضيها الْعَدو من مُسْتَفَاد مراسي الْمغرب فَأَقَامَ أمناءه بهَا لاقْتِضَاء نصف دَاخل كل شهر مِنْهَا وهم الْآن بِهَذَا الْحَال وَالله تَعَالَى يَكْفِي الْمُسلمين شرهم وَشر كل شَرّ وَبعد مَا وَقع هَذَا الِاتِّفَاق أسلم النَّصَارَى تطاوين إِلَى الْمُسلمين وَكَانَ خُرُوجهمْ مِنْهَا ضحوة يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي من ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف بعد أَن مَكَثُوا فِيهَا سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر وَنصفا ووقعة تطاوين هَذِه هِيَ الَّتِي أزالت حجاب الهيبة عَن بِلَاد الْمغرب واستطال النَّصَارَى بهَا وانكسر الْمُسلمُونَ انكسارا لم يعْهَد لَهُم مثله وَكَثُرت الحمايات وَنَشَأ عَن ذَلِك ضَرَر كَبِير نسْأَل الله تَعَالَى الْعَفو والعافية فِي الدّين وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلما فرغ السُّلْطَان رحمه الله من أَمر تطاوين جد فِي جمع الْعَسْكَر الْمُرَتّب على التَّرْتِيب الْمَعْهُود الْيَوْم وَكَانَ هَذَا السُّلْطَان أول من أحدثه من مُلُوك الْمغرب وَكَانَ إحداثه إِيَّاه فِي دولة أَبِيه رحمه الله بعد رُجُوعه
من وقْعَة إيسلي مَعَ الفرنسيس ثمَّ جد فِيهِ فِي هَذِه الْأَيَّام فَجمع مِنْهُ مَا تيَسّر جمعه ثمَّ رتب المكوس على الْأَبْوَاب والمبيعات وَكتب فِي ذَلِك كتبا للآفاق فمما كتبه لأمناء مرسى الدَّار الْبَيْضَاء فِي ذَلِك مَا نَصه وَبعد فَإنَّا لما أَخذنَا فِي جمع النظام للْمصْلحَة المتعينة الْوَاضِحَة الْبَيِّنَة الْمقر أمرهَا لَدَى الْخَاص وَالْعَام وَاجْتمعَ مِنْهُ عدد يسير واختبرنا مَا صير عَلَيْهِ فِي شهر وَاحِد فَاجْتمع فِيهِ عدد كثير فَكيف أَن جَمعنَا مِنْهُ عددا مُعْتَبرا يحصل بِهِ المُرَاد وَيكون قذى فِي أعين أهل العناد اقْتضى الْحَال ذكر ذَلِك لكبراء التُّجَّار لينظروا فِيمَا يستعان بِهِ على أَمرهم إِذْ لَا بُد من كفايتهم وَإِلَّا انحل نظام جمعهم وَفِي ذَلِك مَا لَا يجهله من لَهُ أدنى عقل ومحبة فِي الدّين فأشاروا بِفَرْض إِعَانَة لَا ضررفيها على الرّعية وسطروها فِي ورقة وَهِي كل شَيْء بِالنِّسْبَةِ لما ارْتَكَبهُ الْمُلُوك فِي مثل هَذَا للاستعانة بِهِ على الْمصَالح المرعية وللضرورة أَحْكَام تخصها كَمَا هُوَ مَعْلُوم مُقَرر ومسطر فِي غير مَا ديوَان مُحَرر ثمَّ اقْتضى نَظرنَا أَن نسند الْأَمر فِي ذَلِك لأهل الْعلم ليقرروا للنَّاس حكمه تقريرا تَنْشَرِح لَهُ الصُّدُور وَيعْمل بِمُقْتَضَاهُ فِي الْوُرُود والصدور وَإِن كَانَ جلهم يعلم هَذَا إِذْ من الْمَعْلُوم أَن الرّعية لَا يَسْتَقِيم أمرهَا إِلَّا بجند قوي بِاللَّه وَلَا جند إِلَّا بِمَال وَهُوَ لَا يكون إِلَّا من الرّعية على وَجه لَا ضَرَر فِيهِ وَقد أَخذ النَّاس هَذِه مُدَّة بحضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه وبمكناسة وتازا والعدوتين ومراكش فِي ذَلِك وسلكوا فِي ترتيبه أحسن المسالك وَلَا نشك أَن بركَة ذَلِك تعود عَلَيْهِم فِي أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ وأنفسهم فبوصول هَذَا إِلَيْكُم قومُوا على سَاق الْجد فِي الْقَبْض من النَّاس بِالْبَابِ على نَحْو مَا فِي الورقة الْمشَار إِلَيْهَا وَلَا دخل لِلنَّصَارَى فِي ذَلِك وَالله أسَال أَن يُبَارك للْمُسلمين فِي مَالهم ويعوضهم خلفا آمين وَالسَّلَام فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب الْفَرد الْحَرَام عَام سَبْعَة وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَإِذا انجر بِنَا الْكَلَام على اتِّخَاذ الْعَسْكَر وترتيبه فَلَا بُد من تتميم الْفَائِدَة بِذكر كَلَام نَافِع