الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح مقدمة ابن حجر رحمه الله
يقول رحمه الله: "الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة قديما وحديثا".
ابتدأ الكتاب بـ "الحمد لله" اقتداء بكتاب الله عز وجل، فإن القرآن الكريم جعل الصحابة رضي الله عنهم أوله فاتحة الكتاب وهي - كما تعلمون- مبدوءة بالحمد لله، وليست فاتحة الكتاب أول ما نزل كما هو معلوم، لكنها أول ما وقع في ترتيب المصحف باتفاق الصحابة، لذلك كان العلماء رحمهم الله من بعد ذلك يبدءون كتبهم بـ {الحمد لله رب العالمين} اقتداء بعمل الصحابة رضي الله عنهم في كتاب الله عز وجل هذا من وجه.
ومن وجه آخر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه خطبة الحاجة التي يخطبونها في مقدمة كل حاجة وهي مبدوءة بماذا؟ بالحمد لله.
ثالثا: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يبدأ خطبته بالحمد والثناء، فلذلك ابتدأ العلماء- رحمهم الله كتبهم بذلك.
يقول رحمه الله: "الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة".
أولا: نتكلم على "أل" في قوله: "الحمد لله" يقول العلماء: "إن "أل" هنا للاستغراق، و "أل" التي للاستغراق علامتها أن يحل محلها "كل" بتشديد اللام، وعليه يكون معنى: "الحمد لله": كل حمد لله، وما هو الحمد؟ الحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، فخرج بقولنا مع المحبة والتعظيم: المدح؛ لأن المدح وصف للممدود بالكمال لكن ليس مقرونا بالمحبة والتعظيم.
ثم الله تعالى يحمد على كمال صفاته، ويحمد على كمال إنعامه، قال الله سبحانه وتعالى:{وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل} . وهذا حمد على ماذا؟ على صفات الله عز وجل الكاملة؛ وكذلك أيضا يحمد الله تعالى على إنعامه، ومن
ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها". هذا حمد على ماذا؟ على الإنعام.
المؤلف رحمه الله هنا حمد الله على إنعامه وقوله: "لله" ماذا نقول في اللام؟ نقول في اللام أنها تحمل معنيين:
المعنى الأول: الاختصاص.
والمعنى الثاني: الاستحقاق.
أما المعنى الأول: فإن المختص بالحمد الكامل من جميع الوجوه هو الله عز وجل، يحمد غير اله لكن حمدا مقيدا وليس على كل حال، أما الرب عز وجل فيحمد على كل حال، لأنه كامل الصفات والإنعام.
كذلك أيضا للاستحقاق يعني: أن تخصيصنا الرب عز وجل بكامل الحمد لأنه مستحق له وهو أهل له سبحانه وتعالى أما "الله" فيقال: إن أصلها "إله"، ولكن لكثرة الاستعمال فحذفت الهمزة تخفيفا، وذكروا لذلك مثالا آخر وهو "الناس" وأصلها الأناس، وحذفت الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال، وعلى هذا إذا كانت "الله" بمعنى الإله أصلا فإنها فعال بمعنى مفعول فإله بمعنى: مألوه، أي: معبود محبب محبوب معظم، وليست إله بمعنى: آله كما زعم ذلك المتكلمون؛ لأنهم يفسرون الإله بأنه القادر على الاختراع وهذا خطأ عظيم، ولكن معنى الإله: المعبود حقا.
وقوله: "على نعمه الظاهرة". "نعمه" هذه مفرد مضاف فيشمل جميع نعمه الدينية والدنيوية، الظاهرة والباطنة.
الظاهر: ما يظهر للناس.
والباطن: ما يخفى على الناس، ونعم الله سبحانه وتعالى لا تعد هي كما قال المؤلف ظاهرة وباطنة كما قال عز وجل:{وأسبغ عليكم نعمه ظهرة وباطنة} [لقمان: 20]. فالظاهرة: ما يظهر للعيان ويشاهدها الناس. والباطنة: ما دون ذلك.
فمن الظاهرة: الأمن والرخاء والقوة، والأكل والشرب وما أشبه ذلك، ومن النعم الباطنة: نعم الدين تحقيقا لما في القلب من الإنابة إلى الله، والتوكل على الله والإخلاص وما أشبه ذلك، هذه نعم لا يعلمها الناس، لا يعلمها إلا الله عز وجل، هذه هي النعم الباطنة.
وقوله: "قديما" أي: سابقا، "حديثا" أي: لاحقا، وفي قوله:"حديثا" براعة استهلال وهي
معروفة في علم البديع، وبراعة الاستهلال: أن يأتي المتكلم في أول كلامه بما يدل على موضزع كلامه فتسمى براعة استهلال، يعني: أنه استهل كلامه بما يدل على موضوع الكلام لكن بغير تصريح، وذلك يسمى براعة أي: فطنة وذكاء، فما هي براعة الاستهلال هنا؟ هو أن هذا الكتاب في الحديث قديما وحديثا.
"والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد وآله وصحبه
…
" إلخ.
"الصلاة والسلام على" هذه جملة خبرية لكن معناها الدعاء كأنك تقول: اللهم صل وسلم، فما هي الصلاة على الرسول؟ الصلاة على الرسول أحسن ما قيل فيها، ما قاله أبو العالية الرياحي: أنها ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى عند الملائكة يعني: ذكر الله تعالى عبده بالذكر الحسن عند الملائكة. هذا ما اختاره كثير من العلماء، ولا سيما المتأخرون منهم، لكن في النفس من هذا شيء: وهو أن أبا العالية رحمه الله من التابعين ومثل هذا لا يقال بالرأي، لأن من يقول: إن الله يثني عليه فيحتاج إلى دليل من السنة يتبين به الأمر ويتضح ولكن فسره بعضهم قال: إن الصلاة من الله تعني: الرحمة، وهذا ليس بصحيح أيضا؛ لأن الله تعالى قال في الكتاب العزيز:{أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} [البقرة: 157]. والعطف يقتضي المغايرة، وأن الرحمة غير الصلوات وأيضا الرحمة يدعى بها لكل واحد، كل إنسان تقول: اللهم ارحمه، لكن الصلاة لا يدعى بها لكل واحد بل فيها خلاف وتفصيل عند العلماء
إذن فالصلاة لا نستطيع أن نجزم بأنها ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى، ولا نقول: إنها الرحمة لفساد هذا المعنى، بل نقول: الصلاة فيها رحمة خاصة فوق الرحمة التي تكون لكل أحد ولا ندري معناها، وحينئذ نسلم من الشبهة، لكن القول بأنها ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى فسره كثير من المحققين رحمهم الله.
أما السلام فهو السلامة من كل آفة، والرسول عليه الصلاة والسلام بعد موته سالم، أما في حياته فنعم معرض للأمراض، معرض للأذايا، معرض لكل ما يعرض للبشر، لكن بعد موته هو سالم من هذا، فما الفائدة بالدعاء له بالسلامة؟ نقول: وراء الموت أهوال ما هي؟ أهوال يوم القيامة؛ ولهذا كان دعاء الرسل يوم القيامة عند الصراط "اللهم سلم سلم". فهنالك أهوال، ثم إنه - صلوات الله سلامه عليه- سلام مما يحدث من الآفات الجسدية للأحياء، لكن ألا يمكن أن يسلط عليه من يأخذ جسمه مثلا؟ يمكن وقد وقع هذا لكن الله حماه؛ فإنه نزل المدينة غريبان أن يأخذا جسده الشريف عليه الصلاة والسلام، فنزلا في المسجد
وصارا يحفران خندقا من بعيد من أجل أن يصلا إلى الجسد الشريف، فقيد الله عز وجل السلطان أو أحد الولاة في ذلك الوقت فرأى رؤيا أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال:"أنقذني من الأزغرين"، والظاهر - والله أعلم- أن صورتهما كشفت لهذا الرائي عنهما، فقدم المدينة فزعا وأقام مأدبة عظيمة، ودعا كل أهل المدينة مرتين أو ثلاثة ولم ير الرجلين اللذين وصفا له فسأل، قال: أين أهل المدينة؟ قالوا: كلهم جاءوا إلا رجلان اثنان في المسجد جاءا من حين مجيئهما وهما معتكفان في المسجد فدعا بهما، فإذا هما الرجلان اللذان نبه عليهما في الرؤيا، سبحان الله! حماية الجسد الشريف من العبث، واطلع على ما صنعا، ثم أمر بهما فقتلا، ثم أمر أن يحفر إلى الجبل من حول القبر الشريف حفرة وصبها بالرصاص والنحاس حتى لا يستطيع أحد أن يصل إلى جسد النبي صثلى الله عليه وسلم وهذا من حماية الله وإذا كان الله حمى أجساد الأنبياء أن تأكلها الأرض المسلطة على كل الجسد، فهو سبحانه يحمي الجسد الشريف من شياطين الإنس.
المهم أن السلام على الرسول عليه الصلاة والسلام وارد أو غير وارد؟ وارد في الدنيا والآخرة، أما في حياته فوروده واضح، وأما بعد موته فبأي شيء تكون السلامة؟ سلامة جسده من أن يعبث به.
وقوله: "على نبيه ورسوله" هذا من باب عطف الصفات المترادفة أو المتغايرة، وبدأ بوصف النبوة؛ نبئ بأول سورة "اقرأ" وأرسل بأول سورة "المدثر"؛ فلهذا عطف المؤلف رحمه الله الرسالة على وصف النبوة.
فمن هو النبي؟ النبي يقال النبيء، ويقال: النبي؛ فالنبيء بالهمز من النبأ أي: الخبر، وهل هو فعيل بمعنى فاعل أو فعيل بمعنى مفعول؟ كلاهما فهو فعيل بمعنى فاعل لأنه منبئ عن الله عز وجل وبمعنى مفعول؛ لأنه منبأ، أما على قراءة التسهيل - النبي بالياء- فهو إما مشتق من النبأ لكن حذفت الهمزة تخفيفا يعني: سهلت الهمزة تخفيفا، وإما من النبوة وهي الشيء المرتفع لرفعه مقام النبي صلى الله عليه وسلم بما أحظاه الله به من الوحي.
فإذا قال قائل: ألا يمكن أن يكون من هذا وهذا؟ بلى؛ لأن لدينا قاعدة ينبغي لطالب العلم أن يعلمها: "كل لفظ يحتمل معنيين على السواء - يعني في الدلالة عليه ولا منافاة بينهما- فإنه يحمل عليهما جميعا؛ لأن تعدد المعاني واتحاد اللفظ كثير في اللغة العربية".
وقوله: "ورسوله"؛ أي: مرسله إلى من؟ إلى الثقلين الإنس والجن، فالنبي - عليه الصلاة
والسلام - مرسل إلى الإنس والجن، أرسله الله تعالى إلى الإنس والجن منذ بعث إلى يوم القيامة، ولا يخفى علينا ما في الإضافة إلى ضمير الله عز وجل قال:"نبيه ورسوله" من الشريف والتكريم.
وقوله: "محمد"، كيف نعربه؟ عطف بيان؛ لأن البدل غالبا يساوي المبدل منه في الدلالة، وعطف البيان يزيد بيان معنى، وهنا زاد بيان معنى وهو أنه دل على الاسم العلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم محمد وهو اسم المفعول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد حمده ربه سبحانه وتعالى وحمده الأولون والآخرون، وسيظهر الحمد الكامل يوم القيامة كما قال عز وجل:{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} .
قال حسان بن ثابت صلى رضي الله عنه: [الطويل]
وشق له من اسمه ليجله
…
فذو العرش محمود وهذا محمد
اسم محمد ورد في القرآن كم مرة؟ أربع مرات، وورد ذكر أحمد مرة واحدة، فما هي الحكمة أن الله ألهم عيسى أن يقول أحمد دون أن يقول محمدا؟
الحكمة: أن أجمد اسم تفضيل، وهو اسم تفضيل مطلق يعني: لم يذكر فيه اسم المفضل عليه فيكون أحمد الخلق على الإطلاق، وهل هو من باب اسم الفاعل أو اسم المفعول؟ أو هما؟ هل المعنى: أحمد يعني: أنه أحمد الناس لله، أو المعنى أحمد أي: أنه أحمد من يحمده الناس؟ كلاهما لا شك، وإنما جاء بصيغة أحمد إقامة للحجة على بني إسرائيل؛ حيث إن عيسى أقر بهذا الاسم أم محمدا أفضل الخلق لأنه سماه أحمد.
يقول: "وآله وصحبه
…
" إلخ.
آله وصحبه هل هو من عطف الخاص على العام أو العام على الخاص أم ماذا؟ هو من باب عطف العام على الخاص؛ لأنه جاء بعده وعلى أتباعه، فهو من باب عطف العام على الخاص. فمن هم آله؟ من المعلوم أنه لا يصلح أن نقول: إن آله قرابته؛ لأننا لو قلنا إن آله قرابته شمل ذلك أبا لهب وغيره من كفار قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا غير مراد، ونحن لا نصلي على آل الرسول الذين ليسو بمؤمنين إذن ماذا نقول؟ نقول: آله هم المؤمنون من قرابته، وبهذا يندفع اعتراض الشاعر في قوله:[البسيط]
آل النبي هم أتباع ملته
…
من الأعاجم والسودان والعرب
لو لم يكن آله إلا قرابته
…
صل المصل على الطاغي أبي لهب
ندفع هذا الإيراد بماذا؟ بأن نقول: "آله" هم المؤمنون من قرابته، "وصحبه" أحسن ما نقول فيهم ما قاله أهل المصطلح: أنهم كل من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك وهذا من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام غير الرسول لابد للصحبة من طول زمان يعني لو اجتمعت بواحد في مجلس من المجالس وتفرقتما هل يقال أنه صاحب لك؟ لا، لكن من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام: أن الإنسان إاذ اجتمع به لحظة واحدة مؤمنا به فهو من أصحابه، لكن لا شك أن الصحابة يختلفون اختلافا كبيرا في الصحبة والإيمان والتقوى والعمل وغير ذلك. هل آله من صحبه؟ الذين اجتمعوا به يعني: آل الرسول الذين جاءوا من بعده هم آله وليسوا من صحبه، لكن آله الذين كانوا في حياته من صحبه، وبهذا قلنا صحبه من باب عطف العام على الخاص، هذا إذا لم ترد "آل" وحدها فإن وردت "آل" وحدها، فهي قطعا أتباعه على دينه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم حين علمهم الصلاة عليه:"قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد". هذا المراد به: جميع الأتباع.
"وعلى آله وصحبه الذين ساروا في نصرة دينه سيرا حثيثا" أصحاب الرسول يجب على الأمة من بعدهم أن يشكروهم؛ لأنهم ساروا في نصرة دينه سيرا حثيثا، لم يكن أحد مثلهم أبدا في سير النصرة؛ وذلك لأنهم جاهدوا في الله وهاجروا في سبيل الله وقاتلوا وقتلوا وأخرجوا من ديارهم وأموالهم وكان شأنهم ذلك ولم يوجد أحد مثلهم من بعدهم أبدا؛ ولهذا قال: ساروا في نصرة دينه سيرا حثيثا.
قال: "وعلى أتباعه"، أتباع من؟ أتباع كل من سبق، فيدخل في هذا: أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباع الآل، وأتباع الصحب.
"وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم" نعم من بعدهم ورث عليهم فلمن الفضل؟ للأول الفضل، الأول هو الذي أعطى من بعده العلم تاما ناضجا، فالأول مورود والثاني وارد.
قال: "والعلماء ورثة الأنبياء" كأنه رحمه الله خاف أن يظن ظان أن قوله: "أتباعهم" أتباع الصحب فقال: "الذين ورثوا علمهم" يدخل في ذلك: علم النبي عليه الصلاة والسلام ولهذا قال: "العلماء ورثة الأنبياء". جعلنا الله وإياكم منهم، لكن من العلماء الذين هم ورثة؟ العلماء الموصوفون بالعلم الصحيح النقي، العلماء العاملون بعلمهم، العلماء الناشرون لشريعة الله، العلماء الداعون لدين الله، العلماء المجاهدون في سبيل الله لأنه لابد أن يكون الوارد مماثلا
للمورود وإلا لنقص علمه، فليس كل عالم وارثا للنبي لكنه له من إرث النبي نصيب، إذا كان عنده علم وعنده تقصير في العبادة، أو عنده علم وعنده تقصير في نشر العلم، أو عنده علم ونده تقصير في الدعوة إلى الله، أو عنده علم وعنده تقصير في الجهاد ونقول: له من إرثهم نصيب، والوراثة لا تتحقق إلا بإرث جميع الموروث، ابن وأم كم للأم؟ السدس، هل هي ورثت من ابتنها أو في بعض ماله؟ في بعض ماله، كذلك إرث الأنبياء إذا لم يكن على شكل ما جاءت به الأنبياء فإن الإرث يكون ناقصا بحسب ما نقص من العلم.
ثم قال: "أكرم بهم وارثا وموروثا" هذه صيغة تعجب؛ لأن "أكرم بهم" بمعنى: ما أكرمهم وارثا وموروثا، لكن التعجب يكون ب "ما أفعل" ويكون ب "أفعل به". أكرم بهم وارثا وموروثا يقولون: إن "أكرم" تخالف الصيغ العادية لكونها على صيغة أفعل، وكون فاعلها ظاهرا؛ لأن "بهم" الهاء في الحقيقة هل الفاعل وإن كانت جارا ومجرورا.
وقوله: "وارثا" إما أن تكون حالا من الضمير في "بهم"؛ لأنها اسم مشتق، ويمكن أن تكون تمييزا على حد قولهم: لله دره فارسا، بحيث قال: إنه تمييز مع أنه مشتق، على كل حال مسألة الإعراب أمرها هين. "وموروثا" من الموروث؟ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- مورثون؛ والوارث من بعدهم من ورث العلم.
قال: "أما بعد"، أما بعد قال بعض المصنفين إنها كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر لكن هذا فيه نظر ولكنها كلمة يؤتى بها للانتقال من المقدمة إلى الموضوع، ما هو من أسلوب إلى آخر لو تغير الأسلوب ما نجيء ب "أما بعد" لكن نأتي بها للانتقال من المقدمة إلى الموضوع.
سبق لنا أن أصل أدلة الأحكام هو القرآن وأن السنة متممة له، وسبق لنا أن الناظر في أدلة القرآن لا يحتاج إلى البحث عن سنده، لأنه متواتر معلوم علما يقينيا، وأما الناظر في السنة فيحتاج إلى أمرين:
الأمر الأول: ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: الدلالة، دلالة النص على الحكم، وعلى هذا فإذا استدل عليك مستدل بآية من القرآن فماذا تطالبه؟ أقول: ما وجه الدلالة، وإذا استدل عليك مستدل بالسنة أطالبه أولا بصحة النقل؛ فإذا صح النقل حينئذ أناقشه في صحة الدلالة، ومن ثم احتاج العلماء رحمهم الله إلى أن ينظروا في الرواية من وجهين:
الوجه الأول: من حيث الثقة، وذلك يعود إلى الحفظ والأمانة.
الوجه الثاني: ومن حيث الاتصال؛ وذلك يعود إلى العلم بتواريخ حياتهم ولادة ووفاة لئلا
يكون منقطعا؛ فصار النظر في أحوال الرواة من وجهين: من جهة الثقة وهو يعود إلى شيئين العدالة والحفظ ويدخل فيهما أشياء كثيرة مما يخالف ذلك من أسباب الطعن في الحديث، والثاني من حيث اتصال السند، وعلى هذا فلابد من العلم بمواليدهم ووفياتهم حتى نعرف المتصل من غير المتصل.
قول المؤلف رحم الله: "أما بعد، فهذا مختصر" المختصر قال العلماء: هو الذي قل لفظه وكثر معناه، هذا المختصر "يشتمل على أصول الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية" أصول الأدلة، أفادنا المؤلف رحمه الله أنه لم يستوعب جميع الأدلة الحديثية، وإنما انتخب الأصول فقط يعني التي تدل على ما يكثر من الناس وقوعه في عباداتهم.
وقوله: "الحديثية" نسبة للحديث احترازا من الأدلة القرآنية؛ لأن هذا الكتاب لم يذكر المؤلف فيه شيئا من الأدلة القرآنية، فمثلا "صحيح البخاري" يذكر البخاري رحمه الله شيئا من الأدلة القرآنية وكذلك الأدلة الحديثية؛ أما مسلم مثلا فلا يذكر شيئا من الأدلة القرآنية. المؤلف لم يذكر شيئا من الأدلة القرآنية وإنما اقتصر على الأدلة الحديثية.
وقوله: "للأحكام الشرعية" الأحكام: جمع حكم، وهو - أي: الحكم- إثبات شيء لشيء نفيا أو إيجابا، فإذا قلنا مثلا: لا يحل أكل الميتة فهذا إثبات حكم نفي أو إيجاب؟ نفي. وإذا قال: أحل الله البيع، فهذا حكم إيجابي، فالحكم إذن إثبات شيء لشيء نفيا أو إيجابا.
وقوله: "الشرعية" خرج به ثلاثة أحكام: العادية، والعقلية، وبقيت الشرعية، الأحكام الشرعية هي المتلقاة من الشرع: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، الأحكام العقلية: هي المتلقاة من العقل، والأحكام العادية: هي المتلقاة من التجارب.
فالأحكام الشرعية مثل: الحلال، والحرام، والوجوب، والاستحباب، والكراهة هذه مأخوذة من الشرع، كون الجزء أقل من الكل والكل أكبر، هذه أحكام عقلية، والأحكام العادية هي ما وصف من العادة مثل أن يكون " السكنجبين" مسهل للبطن مثلا أو ما أشبهه هذا من العادة يعني: اعتاد الناس أنهم إذا تناولوا هذا الشيء سهلت بطونهم أو تسهلت فالأحكام إذن ثلاثة أقسام: شرعية، وعقلية، وعادية؛ ثم الشرعية: إما عملية، أو علمية؛ فما كان أساسه الاعتقاد فهو علمي، وما كان أساسه العمل قولا أو فعلا فهو عملي.
يقول: "حررته تحريرا بالغا". حررته يعني: نفيت عنه كل تعقيد؛ لأنه من تحرير الشيء أي: تخليصه، "تحريرا بالغا" حسب قدرته رحمه الله.
"ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغا". أشار المؤلف بهذه الكلمة إلى أنه ينبغي لنا أن نحفظ هذا المؤلف؛ لأنه مختصر على أصول الأدلة الحديثية مبينا فيه أحكام ودرجات الأحاديث.
وقوله: "من بين أقرانه" جمع قرن وهو الزميل، و "نابغا" أي: ذا نبوغ وعلوم وكفاء على غيره، وهذا لا شك أن الإنسان إذا حفظ هذا المتن أنه سوف يستغني عن كثير من الأدلة؛ لأنه مستوعب لغالب الأدلة التي يحتاج الناس إليها لكنه يحتاج إلى تعاهد؛ لأنه رحمه الله يذكر التخريج أحيانا بكلمات مطولة يحتاج الإنسان إلى أن يتعاهدها وإلا نسيها.
"ويستعين به الطالب المبتدي""ويستعين بها" أي: يجعلها عونا له، أي: الطالب للعلم المبتدئ.
"ولا يستغني عنه الراغب المنتهي". إذن يحتاج الناس إليه سواء كانوا مبتدئين أو منتهين، أما الطالب المبتدئ فإنه يستعين به، وأما المنتهي فإنه يرجع إليه.
"وقد بينت عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة؛ لإرادة نصح الأمة". كلما ذكر حديثا ذكر من أخرجه من الأئمة أي: أئمة الحديث كالإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، ومن أشبههم.
"لإرادة نصح الأمة" يعني: قاصدا بذلك النصيحة؛ وذلك أن الإنسان إذا ذكر الحديث ولم يذكر من رواه فقد يظن السامع أنه حديث صحيح لاسيما إذا قاله على وجه الاستدلال، لكن إذا ذكر من خرجه فهذا تمام النصح، إلا أنه أيضا يحتاج إلى شيء آخر والمؤلف سيذكره رحمه الله، وهو أن يصحح الحديث حتى لو ذكر من خرجه إذا كان من خرجه لا يستلزم إخراج الصحيح ولهذا كان النص الذي في تفسير ابن جرير رحمه الله على أنه مستوعب جميع الأقاويل والآثار في التفسير الخلل في هذا النص واضح؛ لأنه لا يتكلم على الأثر ولا على درجته، ولذلك كان يحتاج إلى تخريج حتى يعرف الإنسان درجة هذا الأثر في تفسير الآية، إذن لا يكفي أن نقول: رواه فلان إذا كان فلان ممن لم يلتزم بإخراج الصحيح، لكن المؤلف رحمه الله أحيانا - يذكر- يتكلم على أنه سند صحيح أو قوي أو ضعيف.
قال: "فالمراد بالسبعة" يعني: إذا قلت أخرجه السبعة: أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، إذا قال السبعة ولا يذكر غيرهم، فإذا قال: أخرجه السبعة فإنه يراد بذلك هؤلاء، واعلم أن من عيب التخريج، أن يذكر الإنسان الأدنى مرتبة مع أنه رواه من هو أعلى منه مرتبة، يعني مثلا يقول: رواه أبو داود والحديث رواه البخاري مع أبي داود، هذا من العيب عند المحدثين؛ لأنك إذا أهملت الأقوى أوهنت الحديث وصار ضعيفا في نظر القارئ أو في نظر السامع، فإذا كان حديث مثلا رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه إما أن يقول: أخرجه السبعة، وإما أن يقول: أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث، أما أن تقول: أخرجه أبو داود وتقتصر؛ فهذا عيب عند المحدثين وهو ظاهر لأنه يوهن درجة الحديث.
يقول: "وبالستة: من عدا أحمد" فيكون خ، م، د، ت، ن، ق.
"وبالخمسة: من عدا البخاري ومسلما" يكون: حم، د، ت، ن، ق.
"وقد أقول: الأربعة وأحمد" ولم يبين المؤلف لماذا كان يقول هذا والظاهر أنه يقول ذلك تفننا في العبارة، وقد يكون اطلع على أنه رواه الأربعة ثم بعد ذلك اطلع على أن الإمام أحمد رواه أيضا فأضافه.
"وبالأربعة: من عدا الثلاثة الأول" وهم: حم، خ، م، فيكون هؤلاء: د، ت، ن، ق.
"وبالثلاثة: من عداهم وعدا الأخير" من الأخير؟ ابن ماجه، فيكون إذا قال: أخرجه الثلاثة: د، ت، ن.
"وبالمتفق عليه: البخاري ومسلم". وهذا الذي اصطلح عليه في المتفق عليه هو الذي عليه عامة الناس الآن يعني: عامة الكتب المؤلفة إذا قال: "متفق عليه" فالمراد: أخرجه البخاري ومسلم، لكن المجد - مجد الدين عبد السلام ابن تيمية رحمه الله جد شيخ الإسلام- في "المنتقى" إذا قال: متفق عليه؛ فالمراد: أحمد والبخاري ومسلم، لكن هذا اصطلاح خاص.
"وقد لا أذكر معهما غيرهما" مع من؟ البخاري ومسلم وغيرهما؛ وذلك لأن العلماء تلقوا ما روياه بالقبول، وإذا كان العلماء تلقوا ذلك بالقبول فإضافة شيء آخر من باب النشر فقط.
"وما عدا ذلك" يعني: ما عدا هؤلاء السبعة "فهو مبين" وسيتبين لك إن شاء الله تعالى مما يأتي.
"وسميته: بلوغ المرام من أدلة الأحكام"، نقول: بلوغ، أو بلوغ؟ إن قلنا:"بلوغ المرام من أدلة الأحكام" فإن بلوغ خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذا بلوغ المرام، وعليه فتكون الجملة هي المفعول الثاني ل "سميته" على سبيل الحكاية، وإن قلنا:"سميته بلوغ المرام" كما تقول: سميت ابني عبد الله، فإن "بلوغ" تكون هي المفعول الثاني ولا حاجة إلى التقدير.
وقوله: "المرام" يعني: المطلب، أي: أن الإنسان يبلغ مطلبه من أدلة الأحكام بهذا الكتاب.
"والله أسأله ألا يجعل ما علمنا علينا وبالا". "الله" بالنصب على أنه معمول لأسأل مقدم، وتقديم المعمول يفيد الحصر أي:"لا أسأل إلا الله ألا يجعل ما علمنا علينا وبالا" وذلك بأن نعمل به؛ لأن ما علمنا إما أن يكون حجة لنا أو يكون حجة علينا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "والقرآن حجة لك أو عليك". فإن علمت به فهو لك، وإن لم تعمل به فهو عليك "وبال" أي: إثم وعقوبة.
"وأن يرزقنا العمل بما يرضيه سبحانه وتعالى". يرزقنا الرزق والعطاء، "والعمل بما يرضيه" أي: من قول، وعمل، وعقيدة سبحانه وتعالى.
هذه هي خطبة الكتاب ومقدمته، واعلم أن المؤلف قال في الأول:"أما بعد فهذا مختصر" فالمشار إليه هل هو ما قام في ذهنه أو ما حضر بين يديه؟
الجواب: هذا يوجد كثيرا في المؤلفات أما بعد، فهذا وتخريجه كما يأتي إن كان الكتاب قد ألف قبل هذه الإشارة فهو إشارة إلى ما حضر بين يديه وإن كان لم يؤلف وهو الغالب فهو إشارة إلى ما قام في ذهن المؤلف، فهذا يعني ما تصوره في ذهنه
…
إلخ ما سيأتي.
كتاب الطهارة
ويشتمل على:
1 -
باب المياه
2 -
باب الآنية
3 -
باب إزالة النجاسة وبيانها
4 -
باب الوضوء
5 -
باب المسح على الخفين
6 -
باب نواقض الوضوء
7 -
باب آداب قضاء الحاجة
8 -
باب الغسل وحكم الجنب
9 -
باب التيمم
10 -
باب الحيض