الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نصل إلا في آخر الوقت؟ لا نؤذن حين إرادة الصلاة، لكن في وقت يتمكن فيه المدعوون إلى الصلاة من الاستعداد لها بالوضوء وغيره، ثم هو إعلام لإرادة الصلاة أو فعل الصلاة بعد دخول وقتها، ونحن قلنا: بحلول وقت الصلاة على وجه مخصوص ليس أي إعلام، فمثلًا قوله:«الصلاة، الصلاة، الصلاة» لا يكفي، لابد أن يكون على وجه مخصوص؛ وهو الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وستعلمونه إن شاء الله.
وهذا الأذان أصل مشروعيته: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وصار للأمة الإسلامية دولة، ولها كيان؛ أرادوا أن يجعلوا لهم علامة لدخول وقت الصلاة حتى يجتمعوا إليها؛ فتقدمت اقتراحات: اقتراح البوق ينفخ فيه حتى يكون له صوت، اقتراح الناقوس يشبه الجرس لكنه له صوت قوي؛ لأنه كبير، اقتراح نار توقد حتى يراها الناس فيعلموا أنه دخل الوقت. كل هذه الاقتراحات رفضت، لماذا؟ لأن هذه كلها دعاء لعبادات شركية، الناقوس للنصارى، والبوق لليهود، والناس للمجوس، رفضت هذه، وكان المسلمون قد اهتموا بذلك كثيرًا؛ لأنه مهم ما الذي يجمع الناس عند دخول الوقت، فرأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه في المنام رجلًا معه ناقوس، فقال: أتبيع علي هذا؟ قال: وما تصنع به؟ قال: أعلم به للصلاة، قال: ألا أدلك على خير منه؟ تقول: الله أكبر
…
وذكر الأذان، ثم أتى عبد الله إلى رسول الله فقص عليه الرؤيا، فقال:«إنها لرؤيا حق، اذهب فألقها على بلال فإنه أندى صوتًا منك» ؛ ، فلما سمع عمر أذان بلال جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه رأى مثل ما رأى عبد الله بن زيد، فتوافقت الرؤيتان على هذه الصفة، وأيدها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنها لم تثبت مشروعيتها إلا بعد إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لها حيث قال:«إنها لرؤيا حق» .
صفة الأذان ومعانيه:
169 -
عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه قال: «طاف بي - وأنا نائم - رجل فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر، فذكر الأذان - بتربيع التكبير بغير ترجيع، والإقامة فرادى، إلا قد قامت الصلاة - قال: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها لرؤيا حق
…
».
الحديث. أخرجه أحمد، وأبو داود، وصححه الترمذي، وابن خزيمة.
170 -
وزاد أحمد في آخره قصة قول بلال رضي الله عنه في أذان الفجر: «الصلاة خير من النوم» .
يقول: «طاف بي وأنا نائم رجل، فقال: تقول: الله أكبر» ، ابن حجر رحمه الله تصرفه في الأحاديث
في هذا الكتاب تصرف أحيانًا يكون مخلًا؛ حيث يحذف من الحديث ما يتوقف فهم بقيته على وجده، وهو نفسه رحمه الله ذكر في النخبة أنه لا يجوز حذف شيء من الخبر وللباقي فيه تعلق، لكنه لا يحذف شيئًا لا يتم المعنى إلا به، إلا أنه يحذف شيئًا وجوده خيرًا من حذفه طلبًا للاختصار؛ لأنه ألف هذا الكتاب من أجل أن يحفظ عن ظهر قلب، قال: «تقول الله أكبر
…
فذكر الأذان» وطوى ذكره رحمه الله لأنه معلوم.
«الله أكبر» هذه جملة اسمية حذف منها المتعلق بقوله: أكبر، أصلها: أكبر من كل شيء، ولكنه حذف المتعلق من أجل إرادة العموم، يعني: أكبر أي: له الكبرياء المطلق بدون قيد، لو قلت: أكبر من كل شيء قد تكون الدلالة واحدة، لكنه يضعف العموم، حينما نقول: من كل شيء أكبر، يعني: له الكبرياء مطلقًا، الله أكبر الثانية التأكيد، الثالثة كذلك، الرابعة كذلك، فتكون الثلاث توكيدًا للأولى، هذا ما قد يتبادر إلى الذهن، ويظن الظان أن هذا من باب التوكيد اللفظي كقولك للرجل: قم قم قم يا رجل، تعيد عليه الأمر تريد التوكيد، لكن الذي يظهر أنها جمل مستأنفة كل جملة منفصلة عن الأخرى، يعني: بمعنى أنه لابد من وجود الثانية والثالثة والرابعة، هذا هو الظاهر، فيكون هذا من باب التقرير - أي: تقرير كبرياء الله عز وجل في القلب - لأن المؤكد يجوز حذفه إذ لم يذكر إلا فضله، لكن هذا الحديث لابد فيه من وجود كل جملة: الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
بعد هذا التكبير والتعظيم لله عز وجل نقول: «أشهد أن لا إله إلا الله» ، والحمد لله كلكم يعرف معنى (لا إله إلا الله) أي: لا معبود حق إلا الله، حق أولى من كلمة بحق؛ لأنك إذا قلت: لا معبود بحق، احتجت إلى تقدير آخر لا معبود كائن بحق أو واقع بحق، لكن إذا قلت: لا معبود حق إلا الله نقص المحذوف، يعني: لم تحتج إلى تقدير شيء؛ هذا من وجه، ومن جهة أخرى: يكون مطابقًُا لقول الله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل} [لقمان: 30]. إذن التقدير: لا معبود حق إلا الله، أما معبود باطل فموجود، قال الله تبارك وتعالى:{ولا تجعل مع الله إلهًا آخر} [الإسراء: 39]. وقال تعالى: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب} [هود: 101]. لكن كل من سوى الله فهو إله اسمًا وليس حقًا، قال الله تعالى:{ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [يوسف: 40].
وقال تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20) ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك
إذًا قسمة ضيزى (22) إن هي - أي: هذه المعبودات - إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} [النجم: 23]. فما هي إلا أسماء فقط مجردة تمامًا عن المعنى، أي: معنى الألوهية.
«أشهد أن لا إله إلا الله» ، واعلم أنك متى أقررت بأنه لا معبود إلا الله؛ فإن إقرارك هذا مستلزم لتوحيد الربوبية؛ إذ إفراد الله بالعبادة متضمن لإفراده بالربوبية؛ لأنك لن تعبد إلا ما هو رب.
«وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله» لم يذكر تمام اسمه؛ يعني: تمام نسبه، أشهد أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ما ذكر هذا، لماذا؟ لأنه معلوم لكل إنسان أن محمدًا الموصوف بالرسالة هو محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، أن محمدًا عبده ورسوله، وهذا التقرير يفيد أنه لا يلزم للإنسان كلما ذكر الرسول، قال: اللهم صل على محمد، يجوز أن تقول: أن محمدًا رسول الله بدون أن تقول: صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغ الأذان ليست من جمل الأذان، وإلا فمن المعلوم أنه مشروع للإنسان إذا تابع المؤذن أن يقول بعد ذلك: اللهم صل على محمد، اللهم رب هذه الدعوة التامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، لكنها ليست من جملة الأذان.
«عبده ورسوله» عبده رد للغالين فيه المدعين له ما يتبرأ منه صلى الله عليه وسلم، وهو أنه له تصرف في الكون، وأن له حظ من الربوبية، فهو عبد لا يعبد، هو نفسه عبد يحتاج إلى الله عز وجل، و «رسوله» رد على من؟ على المكذبين له الذين قالوا: إنه ساحر، مجنون، كاهن، فهو عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب عليه الصلاة والسلام.
واعلم أن هذه العبودية التي وصف بها الرسول صلى الله عليه وسلم ووصف بها بقية الأنبياء هي أخص أنواع العبودية؛ لأن العبودية عامة وخاصة، وأخص من الخاصة؛ العبودية العامة في قوله تعالى:{إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا} [مريم: 93]. هذه عامة، كل الخلق عبيد لله، والله تعالى سيدهم يفعل فيهم ما يشاء، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويؤت الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، هو عز وجل السيد وما سواه مملوك عابد لله عز وجل العبودية القدرية العامة.
«حي على الصلاة» ، حي: بمعنى أقبلوا، وهي اسم فعل لا يلحقه علامة الفعل، يعني: لا تقول للجماعة: حيوا، ولا الاثنين: حيا، وإنما نقول: حي على الصلاة للواحد، والجماعة، والاثنين؛ ولهذا نقول: إنه اسم فعل، والضابط لأسماء الأفعال كل لفظ دل على معنى الفعل ولم يقبل علامته فهو اسم فعل: إن دل على معنى الأمر فهو اسم فعل أمر، إن دل على الماضي فهو اسم فعل ماضٍ، إن دل على مضارع فهو اسم فعل مضارع، فكل ما دل على معنى الفعل ولم يقبل علامته فهو اسم فعل. «حي» بمعنى: أقبل على الصلاة.
يحتمل أن يقال: إن «أل» التي في الصلاة للعهد الحضوري، أي: على الصلاة الحاضرة، ويحتمل أن يقال: إن «أل» للعموم؛ أي: أقبل على الصلاة، ويكون أول ما يدخل فيها: الصلاة الحاضرة، ولعل هذا أقرب أن نجعله عامًا، يعني: أقبل على الصلاة فإنها خير موضوع.
«حي على الفلاح» «الفلاح» كلمة جامعة تتضمن النجاة من كل مكروه، والفوز بكل مطلوب، ومناسبة ذكر الفلاح هنا بعد ذكر الصلاة ظاهرة جدًا كأنه يقول:«حي على الصلاة؛ لأنه بها الفلاح» ؛ فالصلاة كلها فلاح، كلها خير؛ ولهذا كانت مما يستعان به على المصائب كما قال الله عز وجل:{واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
أما «الله أكبر الله أكبر» فهي كالجمل الأولى، و «لا إله إلا الله» سبق معناها هذا هو الأذان، فهو ذكر إعلام بكبرياء الله عز وجل، إعلام بالتوحيد، إعلام بالرسالة، دعوة إلى الصلاة، دعوة إلى الفلاح، وبهذا نعرف فضائل الإسلام، في الأمم السابقة لا يوجد إلا نواقيس، وأبواق، ونيران، وربما يكون علامات أخرى كالصفير وغيره، لكن الدين الإسلامي - ولله الحمد - التعليمات التي تكون له لها هذه المزية العظيمة: ذكر، وتوحيد، وشهادة في الحق.
وكما يقول: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنها لرؤية حق» هذا فيه حذف، ويسمى إيجازًا بالحذف، يعني: أتيته فأخبرته، فقال:«إنها لرؤيا حق» ، وهذا من الإيجاز بالحذف، إنها - أي: الرؤيا - التي قصصتها علي لرؤيا حق، أي: صدق وليست رؤى باطلة، ثم أمره أن يذهب إلى بلال من أجل أن يعلمه بالأذان؛ لأنه أندى صوتًا منه.
في هذا الحديث فوائد، منها: هداية الله تبارك وتعالى لهذه الأمة للحق؛ حيث رفضوا الاقتراحات التي يعلم بها للصلاة حتى هدوا إلى هذا الأمر الذي ثبت بهذه الرؤيا.
ومنها: العمل بالرؤيا، وأن الشرع إذا شهد للرؤيا بالصدق فإنه يحكم بها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«إنها لرؤيا حق» ، وإلا فإن الرؤيا لا يثبت بها الشرع إلا إذا أقرها الشرع، والرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة؛ ولهذا كان أول ما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرى الرؤيا في المنام فتكون مثل فلق الصبح، وأول ما بدئ به الوحي على هذا الوجه في ربيع الأول، وبقي ربيع الأول والثاني وجمادى الأولى والثانية، ورجب، وشعبان ستة
أشهر، في رمضان نزل عليه الوحي، وأنت إذا نسبت ستة أشهر لثلاث وعشرين سنة - التي هي زمن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم صارت جزءًا من ستة وأربعين جزءًا.
مسألة:
لكن هل تثبت الأحكام الشرعية بالرؤيا أو لا؟ هذا محل نظر وتفصيل، فيقال: إن كان في هذه الرؤيا تأييد لشيء ثابت في الشرع عمل بها وصارت من المقويات، مثاله: ما وقع لابن عباس رضي الله عنهما في رجل سأله عن متعة الحج، فأجابه ابن عباس رضي الله عنه بأن متعة الحج حق؛ لأن عمر رضي الله عنه كان ينهى عنها؛ يريد من الناس أن يعتمروا في وقت ويحجوا في وقت، فرأى هذا الرجل في المنام أن رجلًا يقول له: حج مبرور وعمرة متقبلة، فأتى إلى ابن عباس وأخبره، ففرح بهذا. هذه الرؤيا يعمل بها، لماذا؟ لأنه يؤيدها الشرع، فتفيد التثبت والتقوية على صحة ما ذهب إليه الإنسان، أو على رجحانه لأنها حق، أما إذا كانت تخالف الحق فهي مرفوضة، وهي من وحي الشيطان.
ومر بي أن عبد القادر الجيلاني رحمه الله رأى في المنام نورًا عظيمًا لا يوجد له نظير، فخاطبه منه مخاطب يقول له: إنه أسقط عنه فريضة من الفرائض - إن لم يخني الذهن - فهي الصلاة، فقال له عبد القادر: كذبت، ولكنك شيطان، يقول: فتمزق النور.
هذه الرؤيا قطعًا كذب، لماذا؟ لأنها تخالف الحق، فلا تقبل. هذان قسمان، القسم الثالث: ما لا تخالف الحق ولا توافقه، ولكن يكون لها شواهد تدل على صدقها فيعمل بها، ومثالها: ما جرى لثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه حينما استشهد في وقعة اليمامة في قتال مسيلمة الكذاب، فقتلى ومر به شخص فسلب درعه، وأخذه إلى رحله ووضعه تحت برم - قدر من الفخار - فلما كان في الليل رأى صاحب لثابت بن قيس ثابتًا في المنام وأخبره بما جرى، وقال له: إن الدرع تحت برمة في أطراف الجيش وحوله فرس يستن في طوله، فلما أصبح الرجل ذهب إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه وأخبره بالاخبر، فذهبوا إلى أطراف الجيش فوجدوا البرمة قد أكفئت على الدرع كما قال الرجل في المنام، وثابت بن قيس أوصى صاحبه بوصايا قال: أبلغها أبا بكر رضي الله عنه، فلما بلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصيته مع أنها كانت في المنام، لكن لها قرائن. قال أهل العلم: هذه أول وصية أنفذت من رؤيا صدق في المنام.
في هذا الحديث - حديث الأذان -: الرؤيا حق بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: أن الأذان الذي رآه عبد الله بن زيد بن عبد ربه ليس فيه ترجيع؛ الترجيع: هو أن يأتي بالشهادتين سرًا، ثم يأتي بهما جهرًا، وهذا الترجيع علمه النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة مؤذن مكة، لكن بلالًا مؤذن المدينة لم يؤمر به، فيكون من باب اختلاف الصفات في العبادة.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي تأكيد الخبر إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكد الخبر «إنها لرؤيا حق» بمؤكدين إحداهما (إن) ، والثانية (اللام).
ثم قال: «وزاد أحمد في آخره قصة قول بلال في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم» . هذه تقال في أذان الفجر خاصة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها بلالًا، قال:«إذا أذنت الأول لصلاة الفجر فقل: الصلاة خير من النوم» ، فكان يقولها رضي الله عنه، وهذا كالتأكيد لقوله:«حي على الصلاة» ، وإنما زيدت في أذان الفجر؛ لأن الغالب على الناس أن يناموا فزيدت هذه تأكيدًا، لكن متى تكون؟ تكون بعد «حي على الفلاح» لا بعد فراغ الأذان كما يدل عليه السياق في أحاديث أخرى لم يذكرها المؤلف رحمه الله، واعلم أن لفظ الحديث:«الأذان الأول لصلاة الصبح» ؛ فتوهم بعض الناس أن المراد به: الأذان الأول الذي يكون في آخر الليل، فصاروا يؤذنون في آخر الليل ويقولون:«الصلاة خير من النوم» ، فأخطئوا في الفهم، وأخطئوا في التطبيق؛ لأن الأذان الأول محترزه الإقامة، فإن الإقامة تسمى أذانًا، والأذان الذي قبل دخول الصبح ليس لصلاة الصبح كما صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:«إن بلالًا يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم» . فليس للصلاة؛ ولأن الأذان للصلاة لا يكون إلا بعد دخول وقتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمركم أكثركم قرآنًا» ، فالأذان الذي يكون قبل الفجر ليس لصلاة الفجر، وهذا من الأشياء التي ننبه عليها دائمًا أن بعض الناس يفهمون من النصوص ما لا يراد بها، ولأمة تعمل على خلاف فهمهم، ثم ينفردون بهذا الفهم تطبيقيًا وعمليًا فيخالفون الناس، وهم معذورون؛ لأنهم مجتهدون، لكن لا يجوز التسرع فيما يخالف ما عليه الناس إلا بعد أن يتبين الحق تبينًا واضحًا، فحينئذٍ لابد من الحق.
قوله: «الصلاة خير من النوم» هي مفيدة لكونها خيرًا من النوم، لكن هل خير من البيع والشراء والتجارة، إذن لما قال:«من النوم» ؟ لمناسبة الحال؛ ولهذا قال الله تعالى في صلاة الجمعة: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم} [الجمعة: 9]. يعني: خير لكم من البيع فلكل مقام مقال.
171 -
ولابن خزيمة: عن أنس رضي الله عنه قال: «من السنة إذا قال المؤذن في الفجر: حي على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم» .
هذا بيان لموضوعها، وقد ذكرناه أن يكون بعد قوله:«حي على الفلاح» .
172 -
وعن أبي محذورة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان، فذكر فيه الترجيع» . أخرجه مسلم. ولكن ذكر التكبير في أوله مرتين فقط. رواه الخمسة فذكروه مربعًا.
الترجيع: هو أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله بصوت منخفض، ثم يقولها بصوت مرتفع هذا الترجيع.
وأبو محذورة رضي الله عنه كان مؤذنًا في مكة علمه الأذان فذكر فيه الترجيع، لكن ذكر التكبير في أوله مرتين، هذا رواية مسلم، ولكن الخمسة ذكروه مربعًا، فهل نأخذ برواية الخمسة؛ لأن معهم زيادة علم، أو نأخذ برواية مسلم؟ نقول: ما دامت الزيادة صحيحة فإننا نأخذ بها، ثم إنها أيضًا مطابقة لحديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه فيكون ذلك مرجحًا، وعلى ذلك فيحمل ما رواه مسلم بأنه علمه الأذان والتكبير في أوله مرتين على أن أحد الرواة نسي فذكر مرتين كم يكون الأذان إذا كان فيه الترجيع؟ تسع عشرة؛ لأنه سيذكر أشهد أن لا إله إلا الله أربع مرات، وأشهد أن محمدًا رسول الله أربع مرات فيكون تسع عشرة جملة.
173 -
وعن أنس رضي الله عنه قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان شفعًا، ويوتر الإقامة إلا الإقامة، يعني: إلا قد قامت الصلاة» . متفق عليه، ولم يذكر مسلم الاستثناء.
«أمر بلال» الآمر له النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابي إذا قال: أمر، أو أمرنا، أو أمر الناس، فالآمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يسمى عند أهل المصطلح: مرفوعًا حكمًا.
فإن قال قائل: إذا كان الآمر الرسول عليه الصلاة والسلام فلماذا يعبر الصحابي بقوله: «أمر» ؛ لماذا لم يقل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشفعوا الأذان؟
الجواب: أن الصحابي قد لا يستحضر لفظ الأمر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أمر، أو أمرنا، أو ما أشبه ذلك.
فإن قال قائل: أفلا يجوز أن يفهم الصحابي ما ليس بأمرٍ أمرًا؟
الجواب: هذا بعيد من وجهين:
الوجه الأول: أن الصحابة أعلم الناس بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: أن الصحابة أورع الناس، فلا يمكن أن يجزم بأن الرسول أمر، أو أن الناس أمروا إلا عن يقين، وبهذا بطل قول من يقول: إن ما صدر بلفظ أمر، أو أمرنا، أو ما أشبه ذلك لا يدل على الأمر لاحتمال أن الصحابي رضي الله عنه فهم ما ليس بأمرٍ أمرًا، فيقال: هذا بعيد للوجهين اللذين ذكرناهما، وقوله:«أمر بلال» ؛ لأنه المؤذن لا لاسمه وعينه، بل لوصفه، «أن يشفع الأذان شفعًا»؛ الأذان عند النهاية وتر لكن باعتبار جمله شفع:«الله أكبر أربع مرات» ، الشهادتان، الحيعلتان، التكبير في آخر شفع، لكن إذا أردت أن تعتبر الأذان بجميع جمله فهو وتر، لكن كل جملة وحدها تشفع، لكن ختم بـ «لا إله إلا الله» وترًا؛ لأن غالب الشريعة كلها وتر تقطع على وتر، الصلاة وتر، والصيام وتر، والحج، وجميع العبادات كلها مقطوعة على وتر، الصلاة وتر في أول النهار وآخره، ما وترها في أول النهار؟ أول النهار آخر الليل؛ يعني: وترها الوتر المعروف، ووترها في الليل المغرب؛ الصيام وتر لأنه شهر واحد، الحج وتر يوم عرفة يوم واحد، يوم النحر يوم واحد، أيام التشريق ثلاثة إلا من تعجل فقد رخص الله له، وهلم جرا. فختم الأذان بـ «لا إله إلا الله» ليكون وترًا.
ويقول: «ويوتر الإقامة إلا الإقامة» . «يوتر الإقامة» أي: يجعلها وترًا، فإذا أخذنا بظاهر الحديث صارت الإقامة هكذا:«الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة - لأنه قال: «إلا الإقامة» - الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله» كم يكون؟ تسع جمل، وبهذا أخذ كثير من العلماء قال: إن هذا ظاهر الحديث، وليس لنا أن نخالف الظاهر إلا بدليل، ولكن الجمهور على خلاف ذلك، قالوا: إن إيتاره باعتبار جمل الأذان، فمثلًا تكبير الأذان أربعًا إذا أخذنا ثنتين فهي نصف الأربع فيكون التكبير في أوله مرتين، لكن يبقى إشكال آخر التكبير في آخر الإقامة ثنتين، وفي آخر الأذان مرتين، هذا مشكل، لكن من قال: إن هذا الحديث مشكل فنحمله على الواضح وهو حديث بلال فإنه ذكر فيه الإقامة هكذا: «الله أكبر الله أكبر في أولها، الله أكبر الله أكبر في آخرها» ، وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء أن الإقامة - كما تعرفون الآن - يكبر لها مرتين في أولها ومرتين في آخرها، وقوله:«إلا قد قامت الصلاة» فسرها الراوي بقوله: «يعني: إلا قد قامت» لئلا يكون فيه تناقض «يوتر الإقامة إلا الإقامة» ، فبين أن الإقامة الثانية غير الإقامة الأولى، الإقامة الأولى هي جميع الإقامة الذكر المشروع كله، والثانية: هي قد قامت الصلاة، وقوله:«قد قامت الصلاة» يريد بها: الصلاة الحاضرة لا شك ليس جميع الصلوات كما قلنا في قوله: «حي على الصلاة» .
ففي هذا الحديث دليل على فوائد منها: أن أذان بلال مشروع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: «أمر بلال» .
ومنها: عظم شأن النبي صلى الله عليه وسلم لدى الصحابة، وأنه هو الآمر الناهي عندهم؛ بحيث لا يفهم من «أمر» إلا أن الآمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومنها: الفرق بين الأذان والإقامة، فإن جمل الأذان أكثر من الإقامة؛ لأن الإقامة تكون غالبًا للناس وقد حضروا، والأذان للناس وهم في بيوتهم، وإنما قلنا: لأن الإقامة غالبًا قد تكون إقامة لمن ليس في المسجد بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة» . ومن الفروق بين الأذان والإقامة أن الأذان يترسل فيه المؤذن؛ لأنه ينادى للبعيد فيترسل، والإقامة يحدرها - يعني: يسرع فيها - لأن الإقامة غالبًا تكون للقريب.
ومنها: مشروعية قوله: «قد قامت الصلاة» .
فإن قال قائل: هل هذه الجملة تأكيد لقوله: «حي على الصلاة» ؟
قلنا: لا؛ لأن «حي على الصلاة» مع كونهم حاضرين يريد به الصلاة المعنوية؛ بمعنى: قلنا: لا؛ لأن «حي على الصلاة» مع كونهم حاضرين يريد به الصلاة المعنوية؛ بمعنى: أقبلوا على الصلاة بقلوبكم، كما أنتم حاضرون بأجسادكم، وأما «قد قامت الصلاة» فهي إشعار بالقيام إليها؛ ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله هل يشرع للمأموم أن يقوم إذا كان جالسًا من حين أن يشرع في الإقامة، أو إذا قال:«حي على الصلاة» ، أو إذا قال:«قد قامت الصلاة» ، أو إذا كبر الإمام تكبيرة الإحرام؟ على خلاف، لكن الأمر في هذا واحد، المهم ألا يقوموا حتى يروا الإمام قد جاء ليصلي، سواء قام عند أول الإقامة أو عند قوله:«حي على الصلاة» ، أو عند قوله:«قد قامت الصلاة» ، أو عند قول الإمام:«الله أكبر» لكن الأخير أضعفها؛ لماذا؟ لأنه قد تفوته تكبيرة الإحرام، بل ينبغي أن يتهيأ قبل ذلك.
174 -
وللنسائي: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا» .
وهذه الرواية تفيد بيان الآمر في قوله: «أمر بلال» .
أسئلة:
- ما هو الترجيع في الأذان؟
- هل يقدم الترجيع أو عدمه؟
- ما معنى أن يشفع الأذان؟
-
يستثنى شيئًا في الإقامة ما هو؟
* نرجع لحديث أنس الماضي:
من فوائد حديث أنس: أن الفعل المبني للمجهول فيما يكون أمرًا أو نهيًا إذا قاله الصحابي فيعني به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي له الأمر والنهي، فإذا سمعت في حديث عن الصحابي «أمر الناس» ؛ فالآمر هو الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا سمعت:«أمرنا» فالآمر هو الرسول صلى الله عليه وسلم «نهينا» فالناهي هو الرسول عليه الصلاة والسلام
…
وهكذا.
إذا قال قائل: ما حكم هذا؟
نقول: حكمة الرفع، ما دمنا نقول: إن الآمر والناهي هو الرسول فحكمه الرفع، يعني: كأنه قال: أمر رسول الله، أو نهى رسول الله.
فإن قال قائل: لماذا يعبر الصحابي بهذا اللفظ المبني لما لم يسم فاعله مع إمكانه أن يعبر بالفعل المبني للفاعل؟
قلنا: لعله نسي كيفية الصيغة ولكنه حفظ المعنى.
من فوائد هذا الحديث: أن الأذان يشفع لقوله: «أن يشفع الأذان» وهو ك ذلك، الأذان التكبير في أوله أربع، أو اثنتان على حسب ما جاءت به السنة، الشهادة اثنتان، والشهادة بالرسالة اثنتان، والحيعلتان اثنتان اثنتان، والتكبير في آخره اثنتان، والتشهد واحد، وهذا بالاتفاق؛ لأنها كلمة يختم بها الأذان ليكون وترًا كما هو الغالب في العبادات أنها وتر.
ومن فوائد الحديث: أن الإقامة تكون وترًا، ولكن كيف تكون وترًا إذا أخذنا بظاهر الحديث فهي على النحو التالي:«الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة - يعني: مستثنى -، الله أكبر، لا إله إلا الله» فتكون تسع جمل، وإلى هذا ذهب كثير من المحدثين وقالوا: إنها توتر على مقتضى هذا اللفظ، ولكن هذا أحد صفاتها في الحقيقة، ومن صفاتها أن تشفع في التكبير أولًا، وتشفع في التكبير آخرًا، وتشفع الإقامة فتكون شفعًا وتكون وترًا، الغالب عليها الوتر؛ لأن الشهادتين وتر، والحيعلتين وتر، وكلمة الإخلاص في آخرها وتر، فالغالب عليها الوتر، فالاحتمال الأول هو ظاهر اللفظ، والاحتمال الثاني يمكن أن اللفظ يحتمله، ويقال: إنه لما كان أغلبها وترًا صح أن يقال: ويوتر الإقامة.
ومن فوائد هذا الحديث: مراعاة الحال في التشريع في الأذان، يشفع لتكثر جمله، حتى يتسنى لمن لم يسمع أوله أن يسمع آخره، كذلك في الأذان يتأتى ويترسل فيه ويكون على مكان عال، أما في الإقامة فعلى العكس والفرق واضح؛ لأن الإقامة إنما هي لأقوام حاضرين
-
يعني: في الغالب -، وإلا فقد يسمعها من كان خارجًا فلذلك صارت وترًا وصارت تحدر، ولا يترسل فيها، وصارت أخفض صوتًا من الأذان، ودعونا من حالنا الحاضرة، حالنا الحاضرة الآن يؤذن الناس في المنابر ويقيمون كذلك.
إذن نأخذ فائدة: وهي مراعاة الحال في التشريع، وهذه القاعدة لها فروع كثيرة لما حرمت الخمر، وكان الناس قد ألفوها، هل حرمت عليهم جزمًا من أول الأمر؟ لا، ولكنها بالتدريج، كذلك أيضًا في الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين في الحضر وفي السفر، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر الظهر صارت أربعًا، والعصر والعشاء، وإذا تأملت وجدت أمثلة كثيرة لهذا، بل لو قلنا: كل الشرائع فيها مراعاة كما قال الله عز وجل: {لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا} [المائدة: 48].
ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي الإيضاح فيما إذا حصل اشتباه ولو من بعيد؛ لقوله: «يوتر الإقامة إلا الإقامة» يعني: قد قامت الصلاة؛ لأننا لو أخذنا بالظاهر «إلا الإقامة» لكان يظن الظان أن تناقض، ولكنه بين بأن المراد: قد قامت الصلاة. هذه الفوائد الفقهية.
الفوائد الحديثية: أنه إذا اختلف الشيخان البخاري ومسلم في كلمة، إذا كان المعنى واحدًا فلا حاجة أن ننص على الاختلاف، لاسيما على القول الراجح بجواز رواية الحديث بالمعنى، وإذا كان بزيادة أو نقص فلابد أن يتبين لئلا يظن السامع أو القارئ أن هذا لفظهما جميعًا؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله:«ولم يذكر مسلم الاستثناء» .
ومن فوائد هذا الحديث: الفرق بين «أمر» ، و «أمر النبي» ؛ لأن الأول مبني لما لم يسم فاعله، ولولا علمنا بحال الصحابة وبأن الآمر والناهي عندهم هو الرسول لقلنا: إن «أمر» مبني لما لم يسم فاعله، فلا ندري من الذي أمر بلالًا أهو الرسول أو أبو بكر، أما إذا جاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلالًا صار الأمر واضحًا؛ لأنه بني لما سمي فاعله.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي أن يختار للأذان من هو أندى صوتًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار بلالًا لأنه كذلك، فينبغي أن يكون المؤذن ندي الصوت - يعني: رفيع الصوت بنداوة -؛ لأن بعض الناس يكون رفيع الصوت لكن تجد صوته دقيقًا جدًا، لكن يكون بنداوة، بعض الناس صوته رفيع لكن يكون غليظًا، فيكون الصوت نديًا - أي رفيعًا - ينادي السماع.
فإن قال قائل: وهل يشترط أن يكون المؤذن عالمًا بالعربية؟
فالجواب: لا، إذا الأذان على وجه ليس فيه لحن يحيل المعنى كفى، أما إذا كان لحنا يحيل المعنى فإنه لا يصح أذانه، فإذا قال:«الله أكبر» لم يصح الأذان؛ لأن الجملة تتحول من خبرية إلى استفهامية، وإذا قال:«الله أكبر» لا يصح أيضًا؛ لأن (أكبار) على وزن (أسباب) مفردها