الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعدت - إلى الشرك، أمر واجب، ولهذا ينهى عن أن يقال: ما شاء الله وشئت، وأن يحلف بغير الله، وما أشبه ذلك، كل ذلك حماية لجانب التوحيد.
ومن فوائد الحديث: أن كل ما دخل في اسم المقبرة ولو خارج القبور فإنه ليس محلًا للصلاة، حتى ولو كانت القبور خلف المصلى، فإنه لا يحل له أن يصلي في المقبرة.
ومنها: أن ظاهر الحديث لا فرق بين أن يكون في هذا المكان ثلاثة قبور، أو قبران، أو قبر واحد ما دام يطلق عليه اسم المقبرة؛ فإن الصلاة فيه ممنوعة، وأما من قال: إنه لا يضر القبر والقبران؛ لأن المقبرة لا تكون مقبرة إلا إذا دفن فيها ثلاثة فأكثر؛ فهذا قول ضعيف، والصواب: أنه ما دام هذا المكان يسمى مقبرة فإنه لا تصح الصلاة فيه.
فإن قال قائل: أرأيتم إن كان هذا المكان معدًا للمقبرة، ويقال: إنه مقبرة لكن لم يدفن فيه أحد؟
فالجواب: أن الصلاة فيه جائزة؛ لأنه لا يصدق عليه الآن أنه مقبرة.
ومن فوائد هذا الحديث: منع الصلاة في الحمام لقوله: «والحمام» ، الكنيف والمرحاض من باب أولى؛ لأنه أخبث، حتى لو قدر أن المرحاض كبير وجانب منه طاهر لا يصل إليه البول أو الغائط، فإن الصلاة فيه لا تصح؛ لأنه إذا لم تصح الصلاة في الحمام ففي هذا المكان من باب أولى ألا تصح
…
[معنا] الآن ثلاثة أمكنة: المقبرة، الثاني: الحمام، الثالث: المرحاض.
الأماكن التي ينهى عن الصلاة فيها:
207 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يصلى في سبع مواطن: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله تعالى» . رواه الترمذي وضعفه.
وهو جدير بالتضعيف، لكن ابن حجر رحمه الله يذكر الأحاديث الضعيفة في هذا الكتاب؛ لأنها مشهورة بين الفقهاء، فيحب أن يبين مرتبتها من حيث الصحة والحسن والضعف. يقول:«نهى أن يصلى في سبع مواطن» ، وهي جمع موطن، والمراد به هنا: المكان، وإن لم يستوطنه الإنسان. «المزبلة» يعني: ملقى الزبالة، وهي الكناسة؛ لأنها لا تخلو غالبًا من أشياء قذرة، وقد تكون من أشياء ظاهرة، لكن لا يليق أن تقف بين يدي الله عز وجل في هذا المكان؛ لأنه إذا كان نهي أن يتنخم
الرجل في المسجد لأنه مكان الصلاة، فالمزبلة من باب أولى أن ينفر الإنسان منها، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم نخامة في المسجد في قبلته فعزل الإمام؛ لأن هذا غير لائق.
الثاني: «المجزرة» : محل الجزارة؛ أي: محل ذبح البهائم لا تصح الصلاة فيها؛ لأنها لا تخلو غالبًا من أنتان وأقذار ودماء.
والثالثة: «المقبرة» وسبق الكلام عليها.
والرابعة: «قارعة الطريق» ليست الطريق، وإنما قارعة الطريق؛ أي: الطريق المقروعة، فقارعة هنا اسم فاعل بمعنى مفعول كقوله تعالى:{في عيشة راضية} [الحاقة: 21]. أي: مرضية، المعنى: قارعة الطريق من باب إضافة الصفة إلى موصوفها والمراد: الطريق المقروعة أي: التي تقرعها الأقدام، فأما الطريق المهجورة فلا تدخل في الحديث، وكذلك لو كان الطريق واسعًا وجوانبه لا تطرق فإنه لا يدخل في الحديث، وإنما نهى عن ذلك؛ لأن قارعة الطريق إذا صلى الإنسان فيها فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يشغله الناس عن صلاته؛ لأن الناس يستطرقونه، وإما أن يضيق على الناس طريقهم، والطريق حق للسالك، وهذا سيصلي في قارعة الطريق فيضيق على الناس أو يحصل له تشويش بمنعه من كمال الصلاة.
والخامس: «الحمام» وسبق الكلام عليه.
والسادس: «معاطن الإبل» معاطن الإبل فسرها أصحابنا رحمهم الله بأنها ما تقيم فيه وتأوي إليه، يعني: الحوش الذي تأتي الإبل إليه وتنام فيه، وتخرج وتسرح ثم ترجع إليه، هذا معطن الإبل، وليس مبرك الإبل، «المعطن» هو الذي تتخذ عطنًا؛ أي: محل إقامة، وزاد بعض أهل العلم: وما تقف فيه بعد الشرب؛ لأن الإبل من عادتها إذا شربت فإنها تتقدم قليلًا عن الحوض ثم تقف وتبول وتبعر هذه عادتها، فيكون هذا من معاطن الإبل، وهو في اللغة: معطن لا شك، حتى في العرف الآن يقال: العطن يعني: المعطن، فهو إذن يدخل في ذلك؛ إذن على هذا القول يكون معاطن الإبل شيئين: الأول: ما تقيم فيه وتأوي إليه. والثاني: ما تعطن فيه بعد الشراب.
وإن لم تبت فيه فإنه ينهى عن الصلاة فيه، لماذا؟ إذا كانت الإبل موجودة فإننا نقول في التعليل كما قلنا في قارعة الطريق؛ لأنها تشوش عليك وهو على خطر منها وإن كانت غير موجودة فلأن هذا مأوى الشياطين؛ لأن الإبل خلقت من الشياطين، وعلى ذروة كل واحد
منها شيطان كما جاء ذلك في أحاديث، وإن كانت ضعيفة لكن تعليلها وجيه، وخلقت من الشياطين، أي: أن من طبيعتها الشيطنة والتمرد، وليس المعنى: أن الشياطين هم أصلها، وهو كقوله تعالى:{خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء: 37]. أي: أن طبيعته العجلة، هذه أيضًا طبيعتها الشيطنة، فلا يجوز أن يصلي في معاطن الإبل.
السابع: «فوق ظهر بيت الله» ، ولم يقل: في بطن بيت الله، قال:«فوق ظهر بيت الله» ؛ وذلك لأن الكعبة المعظمة - زادها الله شرفًا وتعظيمًا - ليس لها جدار في سقفها فيما سبق، وإذا صلى لم يكن بين يديه شاخص منها؛ أي: ليس هناك شيء قائم حتى يتجه إليه، فلا يكون موليًا وجهه شطر المسجد الحرام؛ لأن المسجد الحرام منفصل عن الجهة التي هو فيها، أي: أعلاها وسطحها؛ هذه هي العلة، أما داخل البيت فلا نهي فيه، لا في الفريضة ولا في النافلة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة، وما ثبت في النفل ثبت في الفرض على أن القول بأن النهي يشمل ما في بطن الكعبة، والحديث «فوق ظهر بيت الله» قول بلا دليل.
على كل حال: هذا الحديث سندًا ضعيف لا يصح، لكن متنًا ينظر إذا كان للأحكام التي في هذا المتن شواهد من الأحاديث الصحيحة أخذنا بها؛ لأن الأحاديث تشهد لها:
فلننظر أولًا: «المزبلة» ليس في الأحاديث - فيما أعلم - ما يدل على منع الصلاة فيها، لكن التعليل الذي ذكرنا يؤخذ منه منع الصلاة فيها، وهي أنها لا تليق بالمصلي الذي يقف بين يدي الله أن يقف في المزبلة.
الثانية: «المجزرة» نفس الشيء غالبًا تكون منتنة فيها الدماء وفيها الأوساخ وفيها الأقذار، فلا تليق الصلاة فيها، بناء على هذا إذا كانت المزبلة واسعة وجوانبها كلها نظيفة هل يصلي فيها أو لا؟ يصلى فيها، وكذلك يقال في المجزرة فيها غرف أو حجرات نظيفة ليس فيها شيء لكنها داخل المجزرة، فإن الصلاة فيها صحيحة.
الثالثة: «المقبرة» عرفنا أنه لا تجوز الصلاة فيها مطلقًا حتى في جوانبها البعيدة عن القبور ما دام داخلًا في اسم المقبرة فإنه يمنع من الصلاة فيها؛ لماذا؟ سدًا لذريعة الشرك.
«قارعة الطريق» إن كانت الطريق نجسة فالأمر فيها ظاهر، إن كانت طاهرة كطرقنا اليوم طرق سيارات ليس فيها شيء نجس، لكن نقول: التعليل يؤيد هذا؛ لأن قارعة الطريق إن منع
الناس المرور فيها فقد اعتدي عليهم والعدوان محرم، وإن لم يمنع شوشوا عليه كثيرًا ولم يدرك أن يصلي الصلاة المطلوبة.
«الحمام» سبق الكلام فيه.
«معاطن الإبل» أيضًا التعليل فيها إن كانت الإبل موجودة فيخشى عليه منها ولم يستقر له قرار وهي تحوم حوله، وإن كانت غير موجودة فلأن معاطنها مأوى الشياطين.
والسابع: «فوق ظهر بيت الله» وعرفتم السبب، وهو أنه إنما لا تصح؛ لأنه ليس في سطحها شيء شاخص يصلي إليه؛ ولهذا لما هدم عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما الكعبة ليبنيها على قواعد إبراهيم أمر أن يبنى خشب يتجه الناس إليه في صلاتهم ويطوفون به في نسكهم.
إذا قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا، لكن لو صلى أتصح صلاته؟
يجب أن نعلم قاعدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء لزمانه أو مكانه فإنه لا يصح؛ لأن تصحيحه مضادة لأمر الله ورسوله، فمثلًا لو صام في العيد، النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم العيدين، لكن لو صام يصح أو لا يصح؟ لا يصح؛ لأننا لو صححناه لكان في هذا مضادة لله عز وجل ورسوله، كذلك ما نهى عن إقامة العبادة فيه من الأمكنة فإنه نظير ما ينهى عنه من الأزمنة فإذا لم نصحح العبادة التي وقعت في زمن منهي عنها فيه، فكذلك إذا وقعت العبادة في مكان منهي عن إيقاعها فيه فلا تصح.
لو قال قائل: أرأيتم لو حبس في هذا أتصح صلاته؟ نعم، تصح لعموم قول الله تعالى:{لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286]. لكن لو قال قائل: مروه أن يصلي ويقضي؟ قلنا: لا يمكن، هذا باطل؛ لأن الله لم يفرض الصلاة إلا مرة واحدة، وكل من قال من الفقهاء في هذا الباب أو في باب الحيض في مسألة الدم المشكوك فيه أنه يلزم فعل العبادة ثم قضاؤها فهو قول لا معول عليه، ولا صحة له، وكيف نقول: افعل العبادة، ثم نقول: اقضها؛ لأننا إذا قلنا: اقضها صارت العبادة الأولى باطلة، والباطل لا يجوز أن يؤمر به، وإن قلنا: إن العبادة الأولى مأمور بها وصحيحة، قلنا: إذن لا نلزمه بأن يقضيها، فالصواب: أن كل من أمرناه بفعل عبادة ثم فعلها فإنه لا يؤمر بقضائها على أي حال.
قوله: «ظهر بيت الله» البيت بناء معروف أضافه الله إلى نفسه، ومن المعلوم بالاتفاق أنه ليس المعنى: أن الله - جل وعلا - يسكنه حاشا وكلا؛ لأن الله تعالى فوق العرش، لكن لماذا أضافه الله إلى نفسه؟ تكريمًا وتعظيمًا؛ تكريمًا لهذا البيت وتعظيمًا له، واعلم أن المضاف إلى
الله عز وجل إما أن يكون وصفًا، أو عينًا قائمة بنفسها، أو شيئًا يتعلق بهذه العين، فإن كان وصفًا فهو صفة لله وهو غير مخلوق، ككلام الله مثلًا كلام الله مضاف إلى الله عز وجل، قال الله تعالى:{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6]. إذن كلام الله صفة، ولابد لأن الكلام وصف ولم يذكر شيء قائم بهذا الوصف، فيكون صفة لله غير مخلوق، وإذا أضاف الله عينًا قائمة بنفسها إليه فإنه ليس من صفات الله بل من مخلوقات الله، لكن أضافه الله عز وجل لنفسه تعظيمًا وتكريمًا وتشريفًا مثل قوله تعالى:{ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} [البقرة: 114]. المساجد عين قائمة بنفسها أضافها الله إلى نفسه تشريفًا وتعظيمًا، ولذلك اكتسبت من هذه الإضافة أنه يجب أن تطهر من القذر ولا يحل فيها شيء من أمور الدنيا كالبيع والشراء وما أشبه ذلك، ومثل قوله تعالى:{طهرًا بيتي للطائفين} [البقرة: 125]. هذا مثل مساجد الله فيكون مخلوقًا ومثل قول صالح: {ناقة الله وسقياها} [الشمس: 13]. ناقة الله عين قائمة بنفسها فتكون مخلوقة، كذلك إذا كان الشيء متعلقًا بعين قائمة بنفسها؛ يعني متعلقًا بمخلوق فإنه يكون مخلوقًا مثل قوله تعالى في آدم:{فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29]. والمراد: الروح المخلوقة أو الروح التي فيها وصف الله؟ المخلوقة، ولم يحضرنا إلى الآن أن لله روحًا، لكن وصف الله نفسه بالنفس فقال:{ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 28]. وهي أيضًا ليست صفة، بل هي عين الله عز وجل، فيحذركم الله نفسه مثل ويحذركم الله ذاته؛ إذن فقوله تعالى:{فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} الروح المضافة إلى الله هنا مخلوقة؛ لأنها متعلقة بمخلوق، ومثله قوله تعالى:{والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا} [الأنبياء: 91]. المراد: الروح المخلوقة؛ لأن عيسى مخلوق، والروح التي نفخ فيه مخلوقة، هذا إذا لم نقل: إن المراد بالروح هنا: جبريل؛ فإننا نقول: هي روح عيسى وهي مخلوقة هنا. «وفوق ظهر بيت الله» من أي الأقسام الثلاثة؟ من الثاني الذي هو عين قائمة بنفسها.
أسئلة:
- لماذا يذكر المؤلف الأحاديث الضعيفة؟
- هل الضعف ممن دون الصحابي أو من الصحابي؟
208 -
وعن أبي مرثدٍ الغنوي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها» . رواه مسلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصلوا إلى القبور» لا يخفى أن (لا) ناهية، علامة النهي: أنه حذفت النون. «إلى
القبور» أي: متجهين إليها، والمراد: الجنس، فيشمل القبر الواحد كما في قوله تعالى:{وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187]. ومعلوم أن الإنسان لا يعتكف إلا في مسجد واحد، والقبور مدفن الموتى، هذه القبور مدافن الأموات قال الشاعر:[الطويل]
لكل أناسٍ مدفن في فنائهم
…
فهم ينقصون والقبور تزيد
ولولا أن الله تعالى ينشئ أقوامًا آخرين لفنيت الخليفة، وقوله:«ولا تجلسوا عليها» الجلوس معروف، أي: تقعدوا عليها، أي: على القبر.
والشاهد من هذا الحديث قوله: «لا تصلوا إلى القبور» فيفيد النهي عن الصلاة للقبر؛ بحيث يكون القبر بين يدي المصلي، حتى وإن لم يكن في مقبرة؛ لأنه سبق لنا أن المقبرة لا يصلى فيها، ولو كانت القبور في الخلف لكن هذا صلاة إلى القبر لنفرض أن قبرًا في الفضاء جاء رجل يصلي إليه، نقول: هذا حرام لا تصلي إلى القبر، والحكمة من النهي: لأن ذلك وسيلة إلى الإشراك به، فإن الإنسان قد يصلي أولًا لله عند هذا القبر، ثم يقع في نفسه تعظيم صاحب القبر فيصلي لصاحب القبر؛ فيكون هذا وسيلة للشرك الأكبر، والشرع له نظر وقصد في سد ذرائع الشرك بأي حال من الأحوال، وكلما كانت النفوس في الشيء أطمع كانت وسائله أمنع؛ لأن النفس تدعو إليه فإذا لم يوجد ما يحرم منه ويبعد عنه فإن النفس قد تقع فيه كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فإذا قال قائل: ما حد هذا؟ قلنا: ما جرى به العرف، أو في مقدار ثلاثة أذرع ونحوه، أما لو كان بعيدًا فإن هذا لا بأس به.
فمن فوائد الحديث الآن: تحريم الصلاة إلى القبر.
ومن فوائده: أنها - أي: الصلاة في القبر - باطلة، وإن كان مكان الصلاة طاهرًا فإنه مكان منهي عنه بخصوصه فيقتضي بطلان الصلاة، وعلى هذا فيضاف إلى ما سبق من كونه مكانًا لا تصح فيه الصلاة.
ومن فوائده: أننا نعرف به ضلال أولئك القوم - في المسجد النبوي - الذين يتقصدون أن يدعوا الصف الأول ليكونوا خلف الحجرة النبوية، وهم يقصدون أن يكون القبر أمامهم مع أن القبر بعيد عنهم بواسطة ما أحيط به من الجدران، لكن هم يريدون هذا، ومن أراد الشيء وإن لم يصل إليه فإنه يعاقب فهؤلاء ضلال في الواقع، أن يذهبوا قصدًا للصلاة خلف قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد هذا الحديث: سد جميع ذرائع الشرك، ويتفرع على هذا أنه يجب على الإنسان أن يراعي مقام الإخلاص لله عز وجل، وأن يكون أحرص عليه من كل شيء أن يسلمه عمل أو قول أو عقيدة؛ أعني: الإخلاص لقول الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56].
فإذا كان هذا هو القصد من الحياة أن يعبد الإنسان ربه فإنه يجب عليه أن يحافظ عليه كما يحافظ على دمه أو كثر.
ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن الجلوس على القبر، والنهي هنا للتحريم؛ لأن هذا هو الأصل في النهي؛ ولأن الجلوس عليه فيه نوع امتهان للقبر، وقد ورد الوعيد في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم:«لأن يجلس أحدكم علىجمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على القبر» . يعني: هذا أهون له من أن يجلس على القبر. هذا الحديث يدل على أنه حرام، بل لو قيل: إنه من كبائر الذنوب لكان له وجه، أي: الجلوس على القبر.
ومن فوائد هذا الحديث: الجمع في النهي عن الغلو في القبور، وعن امتهان القبور، من أين يؤخذ الغلو؟ من النهي عن الصلاة إليها؛ لأن هذا يؤدي إلى الغلو فيها، وعن امتهانها من النهي عن الجلوس عليها.
ومن فوائد هذا الحديث: أن حق المسلم باقٍ بعد موته، يعني: حق المسلم من الاحترام اللائق به باقٍ ولو بعد الموت؛ ولهذا لا يصح أن تركب على قبره لما فيه من الانتهاك مع أن الميت لا يباشر هذا الامتهان، لكن كونك تجلس في بيته وهو القبر امتهان له، فيستفاد من هذا: أن حرمة المؤمن باقية ولو بعد الموت ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسره حيا» . ويتفرع على هذا أن أولئك الذين يمتهنون الموتى بقطع أوصالهم بعد موتاهم قد أخطئوا؛ لأن هذا نوع امتهان لهم، من يرضى أن تقطع يده أو كبده أو كليته أو ما أشبه ذلك؟ لا أحد يرضى، حتى لو رضي ليس له الحق؛ لأن بدنه عنده أمانة؛ ولهذا قال الله عز وجل:{ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]. ولهذا نص فقهاء الحنابلة على أنه يحرم قطع عضو من الميت، ولو أوصى به ليس له الحق أن يتصرف في نفسه مع أنه ترتب على جواز بتر الأعضاء وبيعها أو ما أشبه ذلك محظور عظيم فيما نعلم بالسماع، يقولون: في بلاد ما يختطفون الصبيان ثم يبقرون بطونهم ويستخرجون أكبادهم وقلوبهم وكلاهم للبيع؛ لأن الكبد تباع بملايين، فهذا لو فرض أنه مباح وترتب عليه هذه المفسدة لمنع.
ومن فوائد الحديث: جواز الاتكاء على القبر، وهذا غير الجلوس، لكن إذا عده الناس عرفًا امتهانًا فإنه لا ينبغي أن يتكئ عليه؛ لأن العبرة بالصورة، وما دامت الصورة تعد امتهانًا في عرف الناس فإنه وإن كانت مباحة ينبغي تجنبها.
209 -
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم المسجد، فلينظر، فإن رأى في نعليه أذى أو قذرًا فليمسحه، وليصل فيهما» . أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة.
210 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب» . أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان.
لو قال قائل: فطهورهما التراب صواب أم خطأ؟ خطأ.
قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم المسجد» يعني ليدخله. «فلينظر» يعني: نعليه، و «الفاء» رابطة للجواب و «اللام» لام الأمر، «فإن رأى في نعليه أذى أو قذرًا» الأذى: اللبخة التي ليست بنجسة كالطين وشبهه، والقذر هو النجس، وهذا يعلق كثيرًا في النعلين إما كتلة من الطين، وإما كتلة من القذر، «فليمسحه وليصل فيهما» يمسح ما رأى من الأذى والقذر بالتراب؛ لأن المساجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن مفروشة بالفرش ولا ما حولها لكن يمسحه بالتراب، ثم «وليصل فيهما» اللام هنا للإباحة؛ يعني: وله بعد ذلك أن يصلي فيهما؛ لأنهما طاهرتان.
والدليل على أن هذا المراد حديث أبي هريرة: «إذا وطئ أحدكم الأذى في خفية فطهورهما التراب» يعني: يطهرهما استعماله.
هذا الحديث يدل على مسائل منها: أنه يجب على من أراد أن يدخل المسجد بنعليه أن ينظر فيهما، ولكن هذا الإيجاب إذا كان الأمر محتملًا، أما إذا كان غير محتمل فلا حاجة للنظر، لو قدر أن الإنسان ركب سيارته من بيته إلى المسجد ونزل وليس بين يديه أذى أو قذر يحتاج أن ينظر؟ لا يحتاج، النظر هنا شيء من العبث، لكن هذا مع الاحتمال.
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب تنزيه المسجدعن كل أذى أو قذر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها عرضت عليه أجور أمته حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، ويؤيد هذا قول الله عز وجل:{في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور: 36].
فإن قال قائل: إذا وقع الأذى أو القذر في المسجد فمن المسئول؟
قلنا: هذا فرض كفاية على المسلمين عمومًا؛ ولهذا لما بال الأعرابي في المسجد قال عليه الصلاة والسلام: «أريقوا على بوله سجلًا من ماء» . فيجب فرض كفاية على المسلمين أن يطهروا المساجد، فإذا كان هناك مسئول فليبلغ المسئول، فحينئذٍ نقول: يجب إما أن يباشر الإنسان إزالة الأذى والقذر بنفسه، وإما أن يبلغ المسئول، فإذا بلغ المسئول برئت ذمته، لكن لو فرض أن المسئول لم يقم بالواجب، وجب على من علم به مع القدرة.
ومن فوائد هذا الحديث: أن مسح النعلين بالتراب يطهرهما، وظاهر الحديث العموم، حتى لو فرض أن فيما بين المخارز شيئًا من الأذى فإنه معفو عنه ما دام ظاهر أسفل الخف نظيفًا فما بين المخارز يشق التحرز منه، ولو قلنا بأنه لابد أن يدخل المسح إلى ما بين المخارز لكان في هذا مشقة، وكان الغسل أسهل من ذلك لكن هذا مما جرى العفو عنه.
وهذا الذي دل عليه الحديث هو مقتضى سماحة الشريعة وتيسير الشريعة؛ وذلك لأنه لو ألزم العبد بالغسل لكان في ذلك مشقة، لاسيما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والمياه قليلة حول المسجد، ثم في إيجاب غسلها ضرر من وجه آخر وهو إفساد النعل، لاسيما في النعال السابقة التي تخرز من الجلود، فإن غسلها لا شك أنه يؤثر فيه، ثم إذا غسلت ودخل بها المسجد من حين يغسلها لوث المسجد من جهة أخرى، وهو الرطوبة التي قد لا تخلو من رائحة؛ فلهذا تبين أن عين الصواب ما دل عليه الحديث؛ لأنه أيسر وأوفق لقواعد الشريعة.
وقال بعض أهل العلم: يجب أن يغسل بناء على قاعدة عندهم، وهي:«أنه لا يزيل النجس إلا الماء الطهور» ، كما قال صاحب زاد المستقنع:«لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس غيره - يعني: غير الماء الطهور -» . فلما أورد عليهم ما ثبت من تطهير الخارج من بول وغائط بالأحجار - وهو الذي يسمى الاستجمار - قالوا: إنه مبيح وليس بمطهر، التمسح بالأحجار مبيح وليس بمطهر، فلا نسلم أنه يطهره، وأورد عليهم رفع الحدث بالتيمم قالوا أيضًا: إنه مبيح، ولهذا يكون التيمم مبيح لا رافع، وكذلك الاستجمار، وقالوا: إنه لا يعفى عن أثر الاستجمار إلا في محله فقط، فلو فرض أن اللباس صار رطبًا وأصاب المكان فإنه ينجس اللباس؛ لأن العفو عن محل الاستجمار إنما هو في محله للاستباحة، لكن هذا القول - كما يتبين - ضعيف جدًا، والصواب أن التيمم رافع، وأن الاستجمار مطهر، ومر علينا هذا في حديث ابن مسعود أنهما لا يطهران.
إذن على هذا الرأي نقول: يجب على الإنسان إذا وطئ القذر في نعليه أن يغسلهما، والصواب خلاف ذلك أن المسح كافٍ.
فإن قال قائل: إذا مسحهما عند المسجد بالتراب ففيه إشكال؛ لأن أثر الأذى أو القذر سيكون في الأرض في طريق الناس إلى المسجد، وربما تطؤه الأقدام وهي رطبة لاسيما في أيام الأمطار فما الجواب عن هذا الإشكال؟
الجواب عن هذا الإشكال - والله أعلم -: أن هذا مما يعفى عنه؛ لأن القذر سوف يتفرق ويتبدل ويكون الغلبة للتراب، وهذا مما يعفى عنه كما عفي عن استعمال الماء، وصار المسح كافيًا.
ويستفاد من هذا الحديث: أن المشقة تجلب التيسير، ولكن التيسير في حدود الشريعة ليس كل ما شق جاز أن ييسر وإلا لقلنا: إن الربا يجوز إذا دعا ضعف الاقتصاد إليه وما أشبه ذلك، لكن نقول: المشقة تجلب التيسير في حدود الشريعة، بمعنى: أن الشريعة تلاحظ المشقة فتيسر.
ومن فوائد الحديث: أن ما زالت به النجاسة فهو مطهر، ووجه ذلك: أن التراب هنا أزال النجاسة فطهرت النعال والخفاف بذلك هذا من جهة الأثر، من جهة النظر: أن النجاسة عين قائمة بنفسها، فإذا زالت عن المحل طهر المحل؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وعلى هذا فتطهير ألبسة الصوف بالبخار نافع أو لا؟ نافع؛ لأنه تزول النجاسة ويعود اللباس نظيفًا جدًا، قد يكون أنظف من الماء العادي، وعلى هذا أيضًا إذا أدخلت الكيماويات على المجاري - مجاري الأقذار - وزالت الرائحة والطعم واللون يكون الماء طاهرًا يتوضأ منه؛ لأن الحكم يدور مع علته: هو نجس لوجود النجاسة، هو طاهر لزوال النجاسة.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز الصلاة في النعلين؛ لقوله: «وليصل فيهما» ، وهذا محل بحث هل نقول: إن «اللام» للإباحة بدليل قوله: «فليمسحهما» يعني: أنه بعد مسحهما يجوز أن يصلي فيهما، وعلى هذا فيكون هذا الحديث دالًا على الإباحة، ثم يؤخذ الاستحباب - استحباب الصلاة في النعلين - من دليل آخر، أو نقول: إن اللام للأمر.
فيستفاد من هذا الحديث: استحباب الصلاة في النعلين؟ يحتمل هذا وهذا، ولكن أصل المسألة وهو الصلاة في النعلين سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه، وكان الصحابة