الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر بالاستنزاه من البول:
95 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استنرهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه". رواه الدارقطني.
96 -
وللحاكم: "أكثر عذاب القبر من البول". وهو صحيح الإسناد.
قوله عليه الصلاة والسلام: "استنزهوا" أي: اطلبوا النزاهة، والنزاهة هي النظافة، وقوله:"من البول" أي: تخلوا عنه، ثم علل هاذ بقوله:"إن عامة عذاب القبر منه" يعني: أكثر عذاب القبر من عدم الاستنزاه من البول، وقوله:"من البول" هل هو عام؟ سبق لنا أن الشافعي رحمه الله يرى أن جميع الأبوال نجسة، فعلى هذا يكون الحديث عاما، لكن هذا القول ضعيف لما ذكرنا قبل قليل من الأدلة؛ ولأنه في الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان، حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين يعذبان فقال:"أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله"، هكذا في إحدى روايات البخاري، وعلى هذا فيكون المراد من البول - أي: البول الذي يلابسه كثيرا- وهو بول نفسه، فإن عامة عذاب القبر منه، وللحاكم:"أكثر عذاب القبر من البول".
ويستفاد من هذا الحديث: وجوب التنزه من البول لقوله: "استنزهوا من البول".
نعود لحديث أبي هريرة: "استنزهوا" أي: اطلبوا النزاهة من البول، يعني: التنظيف منه، وقوله:"من البول""أل" للعهد الذهني، يعني: البول المعهود الذي هو بول الآدمي؛ وليست للعموم كما سنذكره، "فإن عامة عذاب القبر منه" يعني: أكثر عذاب القبر بالنسبة للمؤمنين من عدم التنزه من البول، أما الكفار فإن عامة عذاب القبر عندهم من الشرك والكفر، وغير ذلك.
في هذا الحديث فوائد:
أولا: وجوب الاستنزاه من البول، لقوله:"استنزهوا من البول"، والأمر للوجوب.
ومن فوائده: أنه لا يعفى عن يسيره - أي: عن يسير البول- لقوله: "استنزهوا من البول"؛ لكن استثنى الفقهاء رحمهم الله يسير البول ممن به سلس دائم مع كمال التحفظ - يعني: المصاب بسلس البول- يعفى عن يسير البول بشرط أن يكون قد تحفظ تحفظا كاملا، وعللوا ذلك بأن التحفظ من يسيره وكثيره شاق وحرج، وقد قال الله تبارك وتعالى:{وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. وهذا عام في كل مسائل الدين، وذكر نفي الحرج في الطهارة خاصة فقال:{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} [المائدة: 6]. وهذا
الذي استثناه الفقهاء رحمهم الله وجيه جدا؛ وذلك لانتفاء الحرج؛ أي: أننا استثنينا يسير البول ممن به سلس مع كمال التحفظ من أجل الحرج، وكما يقول العامة: لا يحس بحرارة الجمرة إلا من وطأها، يعني: لا يحس بالمشقة العظيمة في هذا الأمر إلا من ابتلي به، أعاذنا الله وإياكم منه.
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الاستنزاه من كل بول إذا جعلنا "أل" للعموم، ولكن هذه الفائدة ليست صحيحة؛ لأن العموم لا يستقيم بالنسبة للشريعة الإسلامية، ووجهه: أنه قد دل الدليل على أن ما يؤكل لحمه طاهر وهو إذن النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل وأبانها، ولم يأمرهم بالتنزه منها، وأيضا لو كان بول الإبل نجسا لكان شربه حراما؛ والحرام لا يجوز التداوي به.
فإذا قال قائل: لماذا تجعلونه عاما وتستثنوا منه بول ما يؤكل لحمه، فيكون شاملا لبول الحدأة والحمير، والكلاب، وما أشبه ذلك.
نقول: هذا ممكن، لكن حمله على المعهود الذهني الذي يكثر من الإنسان مماسته أولى، وما هو المعهود الذهني الذي يكثر من الإنسان مماسته؟ بوله هو.
ومن فوائد هذا الحديث: إثبات عذاب القبر لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن عامة عذاب القبر منه"، وعذاب القبر ثابت بالقرآن والسنة، أما في القرآن، فقوله تعالى:{النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. عرضهم على النار غدوا وعشيا هذا قبل قيام الساعة؛ لقوله: {ويوم تقوم الساعة} .
ومن ذلك قوله تعالى: {مما خطيئتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} [نوح: 25]. والأصل: أن التعقيب فوري، قلت ذلك؛ لأن التعقيب قد يكون غير فوري كما لو قيل:"تزوج فلان فولد له" ومعلوم أنه لا يمكن أن يولد له في ليلة الزواج، وكما في قوله تعالى:{ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} [الحج: 63]. فإن الأرض لا تصبح مخضرة صباح نزول المطر، لكن هذا التعقيب على حسب ما تقتضيه الحال، وهذا دل عليه قرينة، وإلا فالأصل أن التعقيب يكون فوريا.
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {ولو ترى إذ الظلمون في غمرات الموت والملئكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} [الأنعام: 93]. اليوم متى؟ يعني: يوم الوفاة.
{تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق} [الأنعام: 93].
أما في السنة فلي أن أقول: إن السنة متواترة في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يتعوذ بالله من
أربع بعد التشهد الأخير ذكر منها: عذاب القبر، وما زال المسلمون يدعون بذلك في كل صلواتهم، فهو من أشد الأحاديث تواترا، وأقواها معلوما.
فإن قال قائل: وهل العذاب الذي يكون في القبر يكون على البدن أو على الروح؟
نقول: الأصل أنه على الروح هذا هو الأصل، لكن قد يتصل بالبدن؛ يعني: قد يتصل العذاب بالبدن؛ ولهذا ذكر في منامات كثيرة أنه عثر على المعذبين ووجد آثار العذاب في أجسادهم وإلا فالأصل أنه على الروح.
فإن قال قائل: وهل عذاب القبر ينجو منه من احرق أو غمس في البحر، أو ما أشبه ذلك؟
فالجواب: لا، لأننا نقول: الأصل أن العذاب على الروح، والروح منذ خلقها الله عز وجل لا تفنى ولكنها تفارق البدن وتعاد إليه يوم القيامة.
ومن فوائد هذا الحديث: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حماية أمته مما يضرها؛ حيث قال: "استنزهوا"، وهذا يدل على نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، ولا شك أنه أنصح الخلق للخلق لا شك في هذا، ومن تتبع سيرته عرف نصحه عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك: أي: من نصحه- أنه ينزل الناس منازلهم؛ فالصغار يخاطبهم بما تقتضيه عقولهم يمزح معهم ويلاطفهم ويعطيهم ما يريدون مما أحل الله، والكبراء يعاملهم بما يستحقون وأوساط الناس بما يستحقون، ولا شك أن هذا من النصح؛ لأنك لو أردت أن تعامل أكبر الناس جاها وعلما وإحسانا وفضلا كما تعامل أرذل الناس لقال الناس: هذا سفه مناف للحكمة؛ بل تنزل كل إنسان منزلته، حتى إنه روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:"أنزلوا الناس منازلهم".
ومن فوائد هذا الحديث: أن عدم الاستنزاه من البول كبائر الذنوب؛ لأن قوله: "إنه من عذاب القبر" يدل بفحوى الكلام وقوة الكلام أن من لم يستنزه من البول فإنه يعذب في قبره، وهذا ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال:"إنهما ليعذبان"، وذكر أن أحدهما كان لا يستنزه من البول.
فإن قال قائل: ألا يفتح هذا التأثيم باب الوسواس على بعض الناس؟
فنقول: ربما يفتحه على ضعيف الإدراك أما القوي - قوي الإدراك، قوي العزيمة- الذي يربط الأدلة بعضها ببعض فإن ذلك لا يؤثر عليه شيء؛ لأن بعض الناس يقول مثلا من جملة الاستنزاه النتر والنضح، وما أشبه ذلك لئلا يبقى في قنوات البول شيء، حتى ذكر بعض أهل العلم أشياء عجيبة ذكر أن بعضهم إاذ انتهى من البول علق حبلا في السقف وتمسك به وجعل يهز نفسه من أجل الا يبقى شيء، اللهم عافنا هذه وساوس بلوى، كل هذا لأنهم يقولون: نخشى ألا نكون استنزهنا من البول، ولكن من عرف موارد الشريعة وجمع الأدلة بعضها إلى بعض تبين له أن هذا ليس بواجب، بل ولا مستحب، بل هو مكروه إن لم نقل إنه محرم، لأنه بدعة في الدين وإلحاق المضرة على النفس وإلحاق القلق، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول فيمن وجد في نفسه شيئا:"لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". وقد وجد قرائن كيف بمن ليس عنده إلا الوهم؛ ولهذا ينبغي لنا نحن طلبة العلم إذا جاءنا من يشكو هذه الحال نقول: تلهى عنه كما قال أئمتنا رحمهم الله تلهى عنه لا تذهب، تقول: أنظر هل هناك شيء أو لا، بعض الناس يقول: إذا أحس ببرودة أو أحس بوهم قال: أذهب، ثم يذهب يعصر ذكره فلا يجد شيئا، اترك هذا كله دع الوساوس، وهذا - بإذن الله- سوف يذهب عنك الشيطان مثل الكلب، الكلب إن حارشته نجسك وآذاك بالنجاح، وإن سكت عنه سكت عنك؛ فهكذا الشيطان يجس الإنسان وينظر إذا رأى أنه هش لين بالوساوس ابتلاه بها، وإن رأى أنه رجل حازم وأنه ذو قوة، وأنه يتمشى مع الشرع يعجز عنه وينصرف.
97 -
وعن سراقة بن مالك رضي الله عنه قال: "علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلاء: أن نقعد على اليسرى، وننصب اليمنى". رواه البيهقي بسند ضعيف.
"في الخلاء" أي: في الجلوس لقضاء الحاجة، "أن نقعد على اليسرى وننصب اليمنى"، الفقهاء عبروا بكلمة "يتكئ"، والحديث "نقعد" وبينهما فرق؛ لأننا لو أردنا أن نأخذ بظاهر الحديث لقلنا: إن الإنسان يقعد على رجله اليسرى يفترشها وينصب اليمنى، يعني: ارتفاع ساقه، أما كلام الفقهاء فلا يدل على هذا، يدل على أنك تتكئ على اليسرى وتنصب اليمنى، وهذا فيه مشقة شديدة لا سيما على من لا يخرج منه الخبث بسرعة، فإنه إذا بقي هكذا لمدة خمس دقائق أو عشر دقائق لا شك أنه يتكلف؛ ولهذا الحمد لله أن جعل الله هذا الحديث ضعيف حتى
لا نستن به، فما دام هذا الحديث ضعيفا فإنا إما أن نرجع إلى أهل الطب في الأمر، وما هي الجلسة التي تكون أهون لخروج الخبث، وإما أن يكون الإنسان طبيب نفسه، هل إذا قعد مستقيما يكون أريح له وأسهل لخروج الخبث؛ أو إذا انحرف يسيرا، أو إذا اتكأ على اليمنى يسيرا، أو على اليسرى يسيرا، الإنسان طبيب نفسه في هذا وهو يعلم.
فإذا قال أهل الطب: إن الأحسن الجلسة الفلانية، وليس في الشريعة ما يدل على جلسة معينة، فإننا نأخذ بكلامهم؛ لأن هذه المسائل تتعلق بصحة البدن تعلقا كبيرا، والمرجع فيما يتعلق بصحة البدن إلى من؟ إلى الأطباء، لكن لو فرض أنه تعارض قول الطبيب وما جاءت به السنة قدم ما جاءت به السنة؛ ولهذا لما وصف النبي صلى الله عليه وسلم للرجل المبطون العسل، فشرب العسل؛ فزاد بطنه انطلاقا؛ فجاء أخوه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: يا رسول الله، أخي شرب العسل، ولكن زاد بطنه، قال:"صدق الله وكذب بطن أخيك". فأي مادة أو قاعدة أو ضابطة يعارض ما صحت به السنة وجاء القرآن من الطب فإننا لا نقبله؛ لأن الكلام صدر ممن - إذا كان في الكتاب والسنة-؟ من الله عز وجل وهو العليم الخبير، وما يقوله الأطباء فهو إما عن تجارب، أو عن قرائن قد تخطئ وقد تصيب.
على كل حال: لو صح هذا الحديث لقلنا به، وقلنا: يستحب للإنسان أن يفعل هذا، وأما إذا لم يصح فقد كفينا إياه؛ ولهذا ينبغي لنا عند المناظرة والمجادلة أن نهدم الدليل من أصله قبل كل شيء، قبل المجادلة في معناه، فإذا لم يكن في القرآن ولا في السنة المعلومة الصحة، قلنا لمن أدلى به: نطالبك بصحة الدليل كما كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجادل الرافضي في منهاج السنة بهذه العبارة أو ما يسوق كلام الرافضي يقول: الوجه الأول أننا نطالبك بصحة الدليل، وإذا لم يصح الأصل بقي الفرع، وهذه قاعدة قد بينه الإنسان إذا أورد عليه المجادل حديثا ربما أن هذا المجادل لا يعلم عن صحة الحديث فيظنه صحيحا ثم ينبهت، وما أكثر المجادلين أهل البدع، وأعني بذلك: أهل البدع الذين يأتون بالأحاديث الضعيفة، ولذلك أدمغ رءوسهم قبل كل شيء بالمطالبة بصحة النقل، ثم إذا ثبتت صحة النقل حينئذ نتكلم في المدلول.
98 -
وعن عيسى بن يزداد، عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات". رواه ابن ماجه بسند ضعيف.
أولا: "عيسى بن يزداد"، هل "يزداد" مصروفة أو لا؟ الجواب: لا، ليست بمصروفة، والمانع لها من الصرف العلمية ووزن الفعل.
هذا الحديث يقول فيه: "إذا بال" أي: إذا فرغ من بوله، "فلينتر ذكره ثلاث مرات" يعني: ليهزه من الداخل كأنما يتعصره ثلاث مرات، وذلك من اجل أن يخرج ما بقي من البول، لكن هذا الحديث - والحمد لله- ضعيف؛ ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان كذلك فإن النتر ليس بسنة، ولذلك صرح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأن النتر بدعة لعدم صحة السنى به؛ ولأن ذلك أيضا قد يؤدي إلى أن يكون في الإنسان سلس أو وسواس كما هو معروف.
لكن لو قال قائل: دعونا من هذا الحديث، إذا كان الإنسان جرت عادته أنه لا يفرغ البول في قنوات البول إلا بالنتر فهل يقولون: إنه مستحب؟
هنا نقول: ربما يقال بذلك، لكن هذا ليس عاما للناس، بل يختص به أحد دون الآخر، وإلا فالأصل أن النتر بدعة يؤدي إلى الوسواس وتشديد لا ينبغي أن يفعله.
99 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء فقال: إالله يثني عليكم، فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء". رواه البزار بسند ضعيف، وأصله في أبي داود والترمذي.
قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء" قباء: مكان معروف في المدينة يقع في الجنوب الشرقي، وهو حي معروف نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم أول ما نزل المدينة في الهجرة، وأقام فيه المسجد، وهو المذكور في قوله تعالى:{لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة: 108]. وهذا في مقابل مسجد الضرار الذي بناه المنافقون من اجل تفريق المؤمنين، كما قال تعالى:{والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرار وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله} [التوبة: 107].
وقد بنوا هاذ المسجد بناء على مشورة من أبي عامر الفاسق المنافق على أنه يريد أن يجمع الناس إليه لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم، وادعى أنه إنما بناه من أجل أن يخفف على الكبار والمرضى ونحوهم حتى لا يتكلفوا الذهاب إلى مسجد قباء الذي أسس على التقوى، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغهم من بنائه يطلبون منه أن يصلي فيه، وكان صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة يتجهز إلى غزوة تبوك، فاعتذر بأنه على جناح سفر، وأنه إذا رجع صلى فيه، لما رجع إلى المدينة من غزوة تبوك ولما يبقى عليه إلا ساعات يسيرة نزل الوحي وهو قوله تعالى: {والذين
اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل}، وهم يدعون أنهم إنما اتخذوه رفقا بكبار السن، وما أشبه ذلك؛ فنهاه الله.
أما مسجد قباء فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج كل يوم سبت راكبا أو ماشيا فيصلي فيه. ورغب صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيه إذا تطهر الإنسان في بيته وخرج إلى هذا المسجد وصلى فيه ركعتين أو ما شاء الله، كان كمن أتى بعمرة.
أهل قباء وصفهم الله تعالى بأنهم يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين، فقال:{لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيهفيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} [التبة: 108]. أثنى الله عليهم بأنهم رجال بمعنى الرجولة الحقيقية، وأنهم يحبون أن يتطهروا من الأنجاس والأحداث والذنوب، {والله يحب المطهرين} ، أي: الذين يتطهرون، فسألهم النبي لماذا أثنى الله عليهم؟ قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء، أيهما التابع وأيهما المتبوع؟ الماء تابع، والحجارة متبوع، يعني: إذا استجمروا بالأحجار استنجوا بالماء، وهذا وجه ثناء الله تعالى عليهم.
فيستفاد من هذا الحديث فوائد منها: أن الجمع بين الاستجمار والماء أفضل من الاقتصار على أحدهما، فإذا اقتصر على أحدهما فأيهما أفضل الماء أو الحجارة؟ قال العلماء: الماء أفضل؛ لأنه أنقى وأطيب، والمقصود: الإنقاء، فمتى حصل إنقاء أكثر وأشد كان أولى وأدنى من ذلك الأحجار لكنها مطهرة، كما سبق أن الاستجمار الشرعي الذي يكون ثلاث مسحات منقية فأكثر يكون مطهرا.
ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ ولهذا سألهم لماذا أثنى الله عليهم.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الأعلى منزلة ومرتبة قد يستفيد ممن دونه؛ لأن قوله تعالى: {يحبون أن يتطهروا} لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم هذا التطهر، وإنما أخذ المعنى من هؤلاء، فيستفاد منه: أن الأعلى مرتبة ومنزلة يستفيد من الأدنى، وهذا هو الذي ينبغي للإنسان ألا يحقر غيره، بل أن يتعلم منه؛ لأن فوق كل ذي علم عليم، ورب علم عند شخص دونك بمراتب لا تدركه أنت.
ومن فوائد هذا الحديث: أن أفعال الله عز وجل لا تحتاج إلى توقيف؛ بمعنى: أن كل شيء في الكون يخلقه الله لا بأس أن تصفه تبارك وتعالى بهذا الأمر الذي فعله فمثلا "يثني".
لو قال قائل: هل من أسماء الله المثنى؟ قلنا: لا، لكنه سبحانه وتعالى فعل من فعله بأن أثنى على هذا كذلك الخالق الرازق وغير ذلك من كل أفعال الله لا بأس أن تسندها إلى الله، وإن لم تأت في الكتاب والسنة ما دام إسنادها إلى الله صريحا صحيحا.
فإن قال قائل: ذكرت أن أول مسجد {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم
فيه} ذكرت أنه مسجد قباء، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه المسجد النبوي حيث قال:"إنه مسجدي هذا".
فالجواب: أن العلماء اختلفوا أيهما يكون؟ والصواب: أن لا منافاة، فإن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أسس على التقوى من أول يوم وصل المدينة فيه لا شك، فيكون المسجدان كلاهما أسس على التقوى من اول يوم، مسجد قباء من أول يوم وصل إلى قباء، ومسجد المدينة من أول يوم وصل إلى المدينة، ثم بعد ذلك نرجح أيهما أفضل؟ لا شك أن المسجد النبوي أفضل؛ ولهذا تشد الرحال إليه، ولا تشد الرحال إلى مسجد قباتء فهو أفضل، فيكون المسجدان اشتركا في أن كل واحد منهما أسس على التقوى من أول يوم، وانفرد المسجد النبوي بأنه يجوز شد الرحال إليه بخلاف مسجد قباء، قال:
100 -
وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة رضي لله عنه بدون ذكر الحجارة.
يعني: أنهم ذكروا أنهم يسنجون بالماء فقط، ولا يستعملون الحجارة، ولكن الأمر كما بينا قبل قليل على الترتيب الجمع بين الماء والحجارة أفضل من الماء، والماء أفضل من الحجارة، وهذا معلوم من المعنى، وإن كان ليس هناك نص يبين هذا الترتيب لكنه معلوم من المعنى، وبهذا انتهى الكلام على باب الاستنجاء، ونعود إلى هذا الباب ونذكر ماذا استفدنا منه:
أولا: استفدنا منه ما يسن عند دخول الخلاء، وهو أن يقول:"اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث".
ثانيا: استفدنا منه ما يقوله إاذ خرج من الخلاء وهو: "غفرانك"، أما في ذكر البسملة عند الدخول فهذه ورد فيها حديث ولكنه ليس بذاك القوي:"ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخلوا الكنيف أن يقولوا: بسم الله". وكذلك أيضا "غفرانك". ورد في بعض الأحاديث زيادة: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني". ويذكر عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول: "الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته، وأذهب عني أذاه". يشير إلى الغذاء من طعام وشراب.
ثالثا: استفدنا أيضا تحريم التغوط فيما يكون أذى للناس أو ضررا عليهم.
رابعا: استفدنا أيضا جواز استخدام الغير في إعداد الأحجار التي يستجمر بها، وأن ذلك لا ينافي الحياء؛ لأنه فعله من هو أشد الناس حياء وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خامسا: استفدنا أيضا أنه يكره على رأي الجمهور مس الذكر باليمين حال البول والتمسح من الخلاء به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وسبق أن العلماء اختلفوا هل النهي للتحريم أو للكراهة.
سادسا: استفدنا أيضا أنه لابد من أن يكون الاستجمار بثلاثة أحجار فأكثر، والاستنجاء لم يرد فيه العدد؛ لأن المقصود: إزالة الأذى والقذر بواحدة أو اثنين أو ثلاث أو أكثر، واختلف العلماء هل البول كالغائط لابد فيه من ثلاث مسحات، أو يكفي مسحة واحدة إاذ طهر بها المحل؟ والجمهور على أنه لابد من ثلاث مسحات في البول والغائط أيضا.
سابعا: استفدنا مما مر أن الاستنزاه من البول واجب، وكذلك من الغائط، وأن أكثر عذاب القبر من البول، أي: من عدم التنزه منه.
ثامنا: استفدنا أيضا أنه لا يجوز الاستجمار بما يكون محترما من طعام لنا أو لدوابنا، من أين أخذنا هذا؟ من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستجمار بالعظام؛ لأنها طعام الجن، وعن الاستجمار بالروث؛ لأنها طعام بهائمهم، ولا شك أن الإنس أكرم من الجن.
أسئلة:
- هل النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس خاتم ولماذا؟ وما الذي كتب فيه؟
- هذا الحديث على ما قيل فيه، ما الذي يدل عليه؟ يعني: مجرد فعل الرسول في الترك يدل على الكراهة؟
- كم وجها في الخبث، وما معناها، وأيهما اولى؟
- ما الذي يدل عليه تواري النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة؟
- لماذا سمى من يتغوط في طريق الناس باللاعنين؟
- وهل يجوز أن نقول إذا رأينا غائطا في السوق: اللهم العن من فعل ذلك؟
- ما هو الضابط في استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة؟
- ما دليلك على جواز الاستدبار في البنيان؟
- لو قال قائل: تعارض قول الرسول وفعله؟
- وجه تقديم القول على الفعل مع إمكان الجمع؟
- لماذا نهي عن استقبال القبلة واستدبارها؟ لتعظيم بيت الله؛ ولئلا يستوي من كان في الصلاة ومن كان في الأذى، ولهذا قلنا: الاستدبار أهون.
- ما هو الدليل على أنه يجوز الاقتصار على الماء دون الاستجمار؟