الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دونها، مثال القصاص في النفس أن يقتل رجل آخر وتمم شروط القصاص فيقتص منه، قال الله تعالى:{والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة: 45]. فلا يستفاد في المساجد ولو ربما دون النفس؛ وذلك لما ذكرنا آنفا.
في هذا الحديث فوائد منها: إثبات الحدود لقوله: «لا تقام الحدود» ، وهذا يدل على أن هذا حدودًا تقام، وحكم إقامة الحدود فرض كفاية كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين خطب على المنبر وذكر الرجم، وقال:«أخشى إن طال بالناس زمان أن يقولوا: لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل» .
إقامة الحدودفرض على كل واحد؟ نعم، يعني: على كل من فعل المعصية التي توجب الحد، ولا فرق بين الشريف والوضيع، والذكر والأنثى، ولا تجوز المحاباة فيها إلا من تاب قبل القدرة عليه فإنه يسقط عنه الحد.
ومن فوائد هذا الحديث: تحريم إقامة الحدود في المساجد؛ لأن الأصل في النهي التحريم؛ ولأن المعنى يقتضيه لأنه يحصل بذلك ما ينافي تعظيم المسجد.
ومن فوائد هذا الحديث: ثبوت القود لقوله: «ولا يستفاد فيها» ، والقود واجب، لكن له شروط، وبماذا يسقط؟ إذا عفا صاحب الحق سقط.
وفي هذا الحديث تحريم القود في المساجد للنهي عنه، ولأن ذلك ينافي حرمة المساجد وتعظيمها.
أسئلة:
- هل يجوز البيع والشراء في المسجد؟
- هل المحرم للتجارة فقط؟
- هل يدخل القصاص في الحدود أو لا؟
- أين الدليل على أن القصاص يسقط بالعفو؟
تمريض المرضى في المسجد:
248 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أصيب سعد يوم الخندق، فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد، ليعوده من قريب» . متفق عليه.
«أصيب سعد» هو سعدبن معاذ رضي الله عنه، سيد الأوس وأفضلهم وأشهرهم، وقولهم:«يوم الخندق» أي: في غزوة الخندق، وذلك أنه أصابه سهم في أكحله، الأكحل: أسفل الإبهام،
والغالب أنه ينزف منه الدم ويموت الإنسان، لكنه دعا الله عز وجل ألا يميته حتى يقر عينه في بني قريظة؛ لأنهم كانوا حلفاءه، «فضرب عليه النبي صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد» أي: مسجده، والخيمة: هي عبارة عن خبار ينفرد به الإنسان، والمراد بالمسجد: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فـ «أل» في قوله:«في المسجد» للعهد الذهني؛ لأن العهود ثلاثة: الذهني: وهو ما يفهم بالذهن. والذكري: وهو ما سبق له ذكر. والحضوري: وهو ما عبر عن الوقت الحاضر، كقوله تعالى:{الآن وقد عصيت قبل} [يونس: 91]. وقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]. فـ «أل» هنا للعهد الحضوري.
العهد الذهني: هو الذي يكون معلومًا عند الناس كما لو تقول: سنذهب إلى القاضي للتحاكم عنده، من القاضي؟ قاضي البلدة المعروف؛ لأن هذه تعين الإنسان بعينه.
العهد الذكري: أن يسبق لهذا المذكور؛ أي: للذي دخلت عليه «أل» ذكر مثل قول الله تعالى: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولا (15) فعصى فرعون الرسول} [المزمل: 16]. من الرسول؟ الأول الذي هو موسى عليه الصلاة والسلام، إذن المسجد هنا للعهد الذهني؛ لأنه معروف عندهم.
«ليعوده من قريب» اللام هنا للتعليل، أي: فعل ذلك لأجل أن يعوده من مكان قريب. وقوله: «من قريب» أي: من مكان قريب.
هذه القصة سعدبن معاذ رضي الله عنه سيد الأوس كما قلنا، وكانت بني قريظة حلفاء لهم، لما أصيب وكانت بنو قريظة قد نقضوا العهد سأل الله عز وجل ألا يميته حتى يقر عينه في بني قريظة، فاستجاب الله دعاءه، بقي جرحه ملتئمًا لم ينزف الدم حتى حصلت غزوة بني قريظة ونزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، وظنوا أنه كقضية عبد الله بن أبي ابن سلول أنه سيطلب العفو والتجاوز، لكن هناك فرق بين سعد بن معاذ، وعبد الله بن أبي ابن سلول: الثاني منافق، والأول مؤمن، نزلوا على حكمه رضي الله عنه، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه من يأتي به من المسجدإلى بني قريظة وحضر، فلما حكموه قال: حكمي نافذ على هؤلاء، وأشار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه قد غضب بصره احترامًا للنبي صلى الله عليه وسلم قال: وعلى هؤلاء - يعني: على بني قريظة -، قالوا: نعم، اتفق الخصمان على أن يكون هو الحكم بينهم، فحكم رضي الله عنه أن تقتل المقاتلة، وأن تغنم الأموال، وأن تسبى الذرية مع أنهم كانوا حلفاءه، وكان مقتضى العهد أن يطلب العفو عنهم، لكنه بإيمانه بالله عز وجل ورسوله حكم بهذا، فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم فيهم يحكم الله من فوق سبع سماوات رضي الله عنه في هذا المكان الضيق الضنك وفق للصواب، حصل ما حصل ثم رجع إلى خيمته فانبعث الدم من أكحله ومات رضي الله عنه، أقر الله عينه في بني قريظة أيما قرار، حيث كان هو الحكم فيهم، وهذا من
إجابة دعوته، وقد اهتز عرش الله عز وجل لروحه، وفي هذا يقول القائل:[الطويل]
وما اهتز عرش الله من أجل هالكٍ
…
سمعنا به إلا لسعدٍ أبي عمرو
رضي الله عنه، وجمعني وإياكم وإياه في دار النعيم المقيم حتى نذكره بهذا ونذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
في هذا الحديث فوائد: أولًا: جواز ضرب الخيمة في المسجد، ولكن بشرط أن يكون الذي تضرب عليه الخيمة أهلًا لذلك من كونه سيدًا وشريفًا في قومه، وإلا فلا يمكن أن تضرب خيمة لكل إنسان مرض، الشرط الثاني: ألا يتأذى المسجد وأهله، وهذا أخذناه من النصوص العامة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يؤذى أهل المسجد، حتى قال للرجل الذي يتخطى الرقاب:«اجلس فقد آذيت» . فهذان شرطان، والثالث: أن يكون هذا الغرض صحيح، الغرض الصحيح ما ذكره في الحديث.
ومن فوائد هذا الحديث: بيان منزلة سعدبن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حين خصه بهذه الفضيلة أن يمرض في مسجده حتى يعوده من قريب.
ومن فوائد هذا الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ومعاملته لأمته، حيث كان يعود مرضاهم، ويزور أصحاءهم، ويتواضع حتى للعجوز والطفل الصغير عليه الصلاة والسلام.
ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية عيادة المريض، وضابط المريض الذي يعاد: أنه هو الذي ينقطع من الخروج من بيته، أما المريض الذي يخرج فهذا لا يعاد؛ لأنه لا حاجة إلى عيادته.
ومن فوائد هذا: أن قرب مكان العيادة سبب لوجودها وهذا هو الواقع؛ يعني: لو كان هناك مسلم مريضًا وهو قريب منك سهل عليك أن تعوده، فإذا كان بعيدًا شق عليك وربما لا تعوده في الأسبوع إلا مرة.
149 -
وعنها رضي الله عنها قالت: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد
…
». الحديث. متفق عليه.
قولها: «يسترني» يعني: عن الرجال وهي تنظر إلى الحبشة وهي جزء من أفريقيا، قدم منها أناس أسلموا إلى المدينة ليتعلموا دينهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أهل الحبشة أهل مرح ولعب، فما
استطاعوا أن يملكوا أنفسهم أن يلعبوا في المسجد برماحهم ونبلهم.
وقولها: «يلعبون في المسجد» «أل» للعهد الذهني كما سبق؛ أي: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا أيام عيد، فتكلم فيهم عمر رضي الله عنه فقال:«دعهم حتى يعلم اليهود أن في ديننا فسحة» .
هذا الحديث فيه فوائد عظيمة:
منها: جواز اللعب بالرماح والنبال وما أشبه ذلك في المسجد هكذا نقول، لكن هل هو من السنة أو من الأمر الجائز؟ الثاني: من الأمر الجائز، ولا نقول للناس إذا كان يوم العيد: هاتوا النبادق والسيوف والعبوا في المسجد، ولكن هذا مشروط بشيئين: ألا يتأذى المسجد وأهله بهذا اللعب. الشرط الثاني: أن يكون ذلك لغرض صحيح وهو أن يعلم أعداء الإسلام أن دين الإسلام دين يسر وسهولة، وأعطاء النفوس حظها من المرح واللعب في الأيام المناسبة.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا حرج في أيام الأعياد أن تقام مثل هذه الأفعال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أٌر الحبشة على هذا، لكن قلنا: لابد أن يكون هناك مصلحة إذا كان في المسجد، أما في غير المسجد فهو من الأمور المباحة؛ ولهذا لما أنكر أبو بكر رضي الله عنه على الجارتين اللتين كانتا تغنيان قال النبي صلى الله عليه وسلم:«دعهما فإنها أيام عيد» . وهذا مما يدل على كمال الإسلام أنه يعطي النفوس بعض الحرية والانطلاق في المرح واللعب؛ لأن الطبيعة البشرية لا يمكن أن تبقي النفس مكبوتة لا تتحرك ولا تمرح ولا تمزح لابد من شيء ولكنه في الحدود الشرعية.
ومن فوائد هذا الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة أهله، وقد قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم:«خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» . اللهم صل وسلم عليه. وهكذا ينبغي للإنسان أن يدخل السرور على أهله حتى في هذه الأمور بشرط ألا يحصل في ذلك مفسدة، فإن حصل في ذلك مفسدة فلا يمكن الإنسان أهله أن يذهبوا إلى محل الألعاب واللهو، وهناك مثلًا رجال ينظرون وأناس يخشى منهم الفتنة، لكن لا بأس أن يخرجهم في بعض الأحيان حتى يحصل لهم من الفرح والمرح ما هو مقيد بالشريعة.
ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: لها أشبعت؟ حتى قالت: شبعت، يعني: لم يجعلها تتفرج لمدة وجيزة ثم يصرفها، أبقاها حتى انتهت رغباتها وكذلك ينبغي في معاملة الأهل لاسيما في الشابات من بنات أو زوجات أو ما أشبه ذلك؛ لأن لكل مقام مقالًا، ولكن
الشابة يجب أن يقدر لها قدرها.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز نظر المرأة إلى الرجال، وجهه: أن عائشة تنظر إلى الحبشة وهم رجال وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: كيف تقولون بهذا، وقد قال الله تعالى:{وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} [النور: 31].
فالجواب: أن الله قال: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} و «من» للتبعيض، والتبعيض لا يقتضي الكل، لو كان لفظ الآية:(وقل للمؤمنات يغضضن أبصارهن) لكان في هذا إشكال مع هذا الحديث، لكن {يغضضن من أبصارهن} ، وعليه فنقول: الآية لا تعارض هذا الحديث؛ لأن لما دخلت عليها (من) صار الواجب غض بعض البصر، ومتى يكون واجبًا؟ إذا خيفت الفتنة، لو كانت المرأة تنظر إلى الرجال تتمتع بالنظر إليهم أو تتلذذ بالنظر إليهم صار هذا حرامًا.
فإن قال قائل: ما الجواب عن حديث عبد الله بن أم مكتوم حين دخل على زوجتي الرسول صلى الله عليه وسلم فأمرهما أن تحتجبا عنه، فقالا: يا رسول الله، إنه رجل أعمى، فقال:«أفعمياوان أنتما؟ » .
فالجواب: أن هذا حديث ضعيف لا يصح، وإذا كان ضعيفًا سقطت المعارضة به؛ لأنه لا يقاوم الصحيح إلا ما كان صحيحًا، أما إذا كان ضعيفًا فلا يعتبر معارضًا، قال أهل العلم: ويدل لذلك أننا نحن لم نؤمر بالحجاب؛ لأنه لو كان يحرم على المرأة أن تنظر إلى الرجل لقلنا للرجل: غط وجهك كما قلنا تغطي وجهها حين صار نظر الرجال إليها محرمًا، وقول المؤلف رحمه الله:«الحديث» . وتقرأ الحديث بالنصب، ويكون التقدير: اقرءوا الحديث، أو أكملوا الحديث، وربما نقول: هي منصوبة بنزع الخافض؛ يعني: إلى الحديث؛ أي: إلى نهايته.
250 -
وعنها رضي الله عنها: «أن وليدة سوداء كان لها خباء في المسجد، فكانت تأتيني فتحدث عندي
…
». الحديث. متفق عليه.
قوله: «وعنها» أي: عائشة رضي الله عنها، «أن وليدة سوداء» يعني: عبدة أمة، و «سوداء» هذا وصف لبيان الواقع، وليس بشرط أن تكون سوداء أو بيضاء، «كان لها خباء في المسجد» الخباء هو: الخيمة الصغيرة، «فكانت تأتيني فتحدث عندي»؛ تأتيها أي: في بيتها؛ لأن بيت عائشة رضي الله عنها إلى جنب المسجد، وله باب على المسجد.
ساق المؤلف هذا الحديث لفائدة: وهي جواز ضرب الخباء للأمة إذا لم يكن لها من يكفلها وهذا ضرورة، ولعل هناك أيضًا أشياء خاصة اقتضت ذلك؛ لأن هذه القضية قضية عين، لا نستطيع أن نقول: يستفاد منها أن تضرب الأخبية للإماء، فهذه قضية عين اقتضت أن يضرب لهذه الوليدة خباء في المسجد.
ومن فوائد هذا الحديث: أن تحدث الناس بعضهم إلى بعض من طريق السلف؛ لأن الإنسان لابد أن يتكلم مع الناس فهو مدني بالطبع، ومن ثم نرى الرجل إذا كان منزويًا لا يحدث الناس ولا يحدثونه نجد أنه يكون في نفسه انقباض، ولو أنه انطلق لكان خيرًا له.
فإن قال قائل: كثرة الكلام يخشى منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» .
فالجواب: أن الخير نوعان: خير في ذات الكلام؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتسبيح، وما أشبه ذلك، وخير لغيره - يعني: لغير ذات الكلام - وهو أن يكون الكلام من الكلام المباح لكنه يريد أن يحدث إخوانه لإدخال السرور عليهم والانبساط فهذا خير، حتى لو كان مضمون الكلام ليس خيرًا في ذاته؛ لأن إدخال السرور على إخوانه من الأشياء المطلوبة التي يثاب الإنسان عليها.
أسئلة:
- هل يجوز أن يضرب خباء في المسجد، وهل لذلك شروط؟
- هل يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال؟
- ما هو الدليل على جواز ذلك؟ حديث عائشة. وجه الدلالة: إقرار النبي.
- كيف تجمع بين هذا الحديث، وقوله تعالى:{وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} [النور: 31]؟
251 -
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها» . متفق عليه.
«البزاق» : هو الريق الغليظ سواء كان نخامة أو غير نخامة، وأما الريق الخفيف الذي لا يؤثر فهذا لا يسمى بزاقا، وقوله:«في المسجد» «أل» للعهد الذهني أو للاستغراق؟ الثاني؛ أي: في كل مسجد، وقوله:«خطيئة» أي: سيئة؛ لأنها من خطئ يخطئ فهو خاطئ، بخلاف أخطأ يخطئ فهو مخطئ، فهذا مما يعذر به، خطيئة أي: سيئة، «وكفارتها» أي: سترها والتجاوز عنها، «دفنها»
يعني: أن تدفن هذه النخامة، وهذا ظاهر فيما إذا كان المسجد قد فرش بالحصباء، أو الرمل أو ما أشبه ذلك، أما ما كان مفروشًا بالفرش القطنية أو الصوفية كما في وقتنا الآن فكفارتها فركها حتى تزول.
في هذا الحديث: دليل على احترام المساجد، وأنه يجب أن تصان عن كل هذا، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف البزاق في المسجد بأنه خطيئة.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الشيء يداوي بضده، جهه. قوله:«كفارتها دفنها» ، فإن البزاق في المسجد يبرز صورة البزاق، فإن دفنه زال ذلك.
ومن فوائد هذا الحديث: أن البزاق طاهر، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفارتها دفنها» ، ولم يقل: يصب الماء عليها، كما قال في بول الأعرابي:«أريقوا عليه سجلًا من ماء» .
ومن فوائد هذا الحديث: أن البزاق في المسجد خطيئة ولو أراد الإنسان أن يدفنها، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصفها بأنها خطيئة، ثم ذكر كفارتها، ومن المعلوم أن الإنسان لا يحل له أن يفعل الخطايا ويكفرها، لكن الكفارة تكون إذا وقعت الخطيئة دون قصد، أما إذا فعلت الخطيئة بنية التكفير فهذا لا يجوز.
ولهذا لو أن إنسانًا قال: إنه يجامع في نهار رمضان مع عزمه علىأن يكفر أيحرم أو لا يحرم؟ يحرم، مع أن التكفير يستر الذنب ويتجاوز به عنه.
كذلك لو قال إنسان في واجبات الحج التي تجبر بالدم: إنه يريد ألا يبيت في منى لا يرمي الجمرات ولا يطوف للوداع، ولكنه مستعد أن يذبح عن كل واجب فدية أيجوز؟ لا يجوز؛ ولهذا يغلط بعض الناس حيث يظن أن الإنسان مخير بين ترك الواجب والفدية، فيقال: لا، الأمر ليس إليك، لكن إذا فات الأمر بغير قصد فإنك تفدي، أما أن تكون مخيرًا فهذا يعني هدم النسك بالكلية؛ إذ لو قلنا بذلك لاقتصر الحاج على الأركان والباقي يفدي عنه ويمشي لأهله، فتجده يحرم ويقف بعرفة، يحرم من أين؟ من أي مكان أراده؛ لأن الإحرام من الميقات واجب، لكن أصل الإحرام ركن، أحرم، ووقف بعرفة وطاف وسعى أربعة أشياء فعلها والباقي قال: نفدي عنه كونه من الميقات هذه فدية، المبيت بمزدلفة فدية، رمي الجمار فدية، المبيت في منى فدية، طواف الوداع فدية، الحلق أو التقصير فدية، البقاء بعرفة إلى الغروب فدية، هذه سبع يقول: ما يهمني، يشتري له ثورًا ويذبحه ويقول في أمان الله، هذا لو قلنا بأن الإنسان مخير بين هذا وهذا، لكن نقول: الواجب يجب فعله، لكن إذا فات فوات الحرص فإنه يفدي.
إذن نأخذ من هذا الحديث: تحريم البزاق في المسجد، ولكن لكل داء دواء:«كفارتها دفنها» .
ومن فوائد هذا الحديث: أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مفرش بالتراب بما تتغطى به النخامة لقوله: «كفارتها دفنها» ، وبهذا نجيب على من أنكر وجود هذه العلامات على تسوية الصف - الخطوط - وقال: هذه بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها؛ فيقال: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليس صالحًا لها؛ لأن ليس مفروشًا بالقطن أو الصوف أو ما أشبه ذلك، مفروش بالحصباء، إذا كان مفروشًا بالحصباء كيف يمكن أن نصب عليه شيئًا يجعل له لونًا معينًا، لا يمكن، قالوا: يمكن أن يخط خط والصحابة ما خطوا خطا؟ والجواب: هذا الخط يزول بالمشي عليه، وحينئذ يكون الخط عبثًا، قالوا: يمكن أن يوضع خيط، قلنا: الخيط أيضًا يعثر به الناس ولا يمكن، ونحن لا نقول: إن وضع هذه الخطوط عبادة بذاتها لكنه وسيلة لعبادة مقصودة شرعًا وهي تسوية الصف، ولهذا استرحنا لما كان المسجد مفروشًا بالرمل كان الإنسان يتعب خصوصًا في الصفوف التي ليست على الأعمدة: هذا يتقدم وهذا يتأخر لما جاءت هذه الخطوط - والحمد لله - استراح الإنسان فهي مقصودة لغيرها، كما أن تأليف الكتب وطباعتها وتبويب أبواب الفقه كل هذا ليس موجودًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهل لأحد أن ينكره؟ لا يمكن؛ لأنه وسيلة لمطلوب شرعًا، وهذا مثله، ولهذا يجب على طالب العلم أن يتنبه لهذه المسألة وهي ما إذا كان فعل الشيء مقصودًا بالذات، وما إذا كان وسيلة لمقصود شرعي ثابت الأول بدعة، والثاني جائز بل هو مطلوب.
فإن قال قائل: أهل البدع يقولون: إننا نتقرب إلى الله تعالى.
قلنا: إذن هي عندكم مقصودة لذاتها، فهي بدعة، إذا قالوا: إن إحياء ذكرى المولد النبوي من أجل أن تقوى المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، قلنا: قد جعل الله تعالى لمحبة رسوله أسبابًا أقوى من هذه وأدوم، أسبابًا تكون مع الإنسان إلى موته ليلًا ونهارًا، فإن كل عبادة يفعلها الإنسان وهو يشعر بأنه متأس بالرسول صلى الله عليه وسلم سوف يذكره لا بلسانه لكن بقلبه، ثم إعلان ذكرى الرسول عليه الصلاة والسلام في الأذان في اليوم والليلة خمس مرات على الأقل، وقد تكون ثلاث مرات إذا كان هناك جمع، وقد تكون ست مرات وسبع مرات، إذا كان هناك أذان أول في آخر الليل وأذان أول في الجمعة فانتبهوا لهذه الفائدة، ما فعل لذاته فلابد أن يثبت بنص؛ يعني: ما نتقرب إلى الله بذاته فلابد أن يثبت بنص، وما كان وسيلة لمقصود شرعي فهو على حسب ذلك المقصود.
فإن قال قائل: كيف نجمع بين هذا الحديث، وبين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبصق الإنسان عن يساره، أو تحت قدميه؟
قلنا: الحمد لله ليس بينهما تعارض، يجمل قوله:«عن يساره أو تحت قدميه» على ما كان خارج المسجد، وأما ما كان في المسجد فليبصق في ثوبه أو في منديله أو بين يديه، ويحك