الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له} [البقرة: 245]. من المعلوم أن الله عز وجل غني عنا وعن قرضنا، لكن شبه معاملته بالقرض لوجوب وفاء القرض على المستقرض، وكأن الله تعالى ضمن للعامل أن يثنيه، كما أن المقترض يردد القرض على مقرضه، وقوله:«أجور أمتي» المراد بها: أمة الإجابة؛ لأن أمة الدعوة من لا يستجيب منهم ليس له أجر؛ ولهذا نقول: إن الأمة إذا جاءت في الحديث فلها معنيان:
المعنى الأول: أمة الدعوة، وهذه تشمل كل إنسان بلغ التكليف من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه أمة الدعوة. أمة الإجابة هم الذين استجابوا للرسول صلى الله عليه وسلم واتبعوا شريعته.
يقول: «عرضت علي أجور أمتي» والعارض هو الله عز وجل، والمعنى: أن بين للرسول صلى الله عليه وسلم أجور أمته حتى في هذه المسألة وهي: «حتى القذاة» ، وهي: القذى التي تكون في العين وهو شيء يسير جدا جدا، ولولا أن القذاة تكون في العين ما أحس بها، فهي عبارة عن أذى صغيرة كقطعة الصلصلة الصغيرة، أو حبة رمل، أو ما أشبه ذلك. «يخرجها الرجل من المسجد» تنظيفًا للمسجد.
فيستفاد من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على أجور الأمة؛ لقوله: «عرضت علي أجور أمتي» .
ومن فوائده: الحث على تنظيف المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في ذلك أجرًا، وإن كان القذى يسيرًا، ولكن إذا كان القذى نجسًا وجبت إزالته وتطهير موضعه، وإن لم يكن نجسًا فإن كان مؤذيًا للمصلين وجب إزالته أيضًا، وإن لم يكن مؤذيًا ولكنه خلاف النظافة التامة فإنه يستحب إزالته.
ومن فوائد هذا الحديث: تعظيم شأن المساجد، وأنه ينبغي أن تكون نظيفة منقاة من كل أذى، وهذا لا يعارض ما سبق من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في تشييد المساجد؛ لأن هذا ما يكون في الأراضي في أرض المسجد من الأذى ونحوه.
تحية المسجد:
255 -
وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلين ركعتين» . متفق عليه.
قوله: «إذا دخل أحدكم المسجد» المسجد: المكان المعد للصلاة الذي تقام فيه الصلاة، وليس المراد: كل مصلى، بل المساجد المعهودة المفتوحة للناس يصلون فيها، و «أل» في قوله:«المسجد» للاستغراق؛ أي: أي مسجد تدخله صغيرًا كان أو كبيرًا جامعًا كان أو للصلوات الخمس، «فلا يجلس» أي: في المسجد إذا كان يريد الجلوس، «حتى يصلي ركعتين» وهاتان
الركعتان تسميان عند أهل العلم: تحية المسجد.
ففي الحديث فوائد: منها مشروعية الصلاة عند دخول المسجد قبل أن يجلس؛ لقوله: «فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» ، وهل هذه المشروعية على سبيل الوجوب، أو على سبيل الاستحباب؟ اختلف في هذا أهل العلم، وأكثرهم على أنها على سبيل الاستحباب، وحجة القائلين بالوجوب: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجلس حتى يصلي ركعتين، والأصل في النهي التحريم؛ لأن هذه عبادة، والأصل أن النهي في العبادات التحريم، ومن الأدلة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب الناس يوم الجمعة فدخل رجل فجلس، فقال له:«أصليت؟ » قال: لا. قال: «قم فصل ركعتين وتجوز فيهما» . وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع الخطبة وهي موجهة إلى الناس والناس مشرئبون لسماعها فقطعها ليخاطب هذا الرجل.
ثانيًا: أنه أمره أن يصلي ويتجوز في صلاته، مع أن الصلاة هذه سوف يتشاغل بها عن استماع الخطبة، والتشاغل عن استماع الخطبة محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب، فقد لغوت» . هذا مع أنه نهى عن منكر.
وجه ثالث: أنه قال: «تجوز فيهما» مما يدل على أن هذه الصلاة شبه ضرورة تتقدر بقدرها، ولا شك أن هذا استدلال قوي، فالقول بالوجوب قوي جدًا.
أما حجة القائلين بأنها لا تجب فاحتجوا بأمور منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخبره بأن عليه خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، إلا أن تطوع» . فقوله: «لا» يشمل كل صلاة سواء كانت ذات سبب أم لا، ولكن في هذا الاستدلال شيء من النظر؛ لأن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الصلوات الخمس الدائمة، فليس يوجد صلاة دائمة بدوام الأيام وواجبة غير هذه الصلوات الخمس، نعم يستدل بهذا الحديث على عدم وجوب صلاة الوتر؛ لأنها صلاة تتكرر في اليوم والليلة، فيستدل بهذا الحديث على عدم وجوبها.
ويقال في الرد على هذا الدليل: صلاة دخول المسجد لها سبب عارض فتقييد بسببها؛ كصلاة الكسوف مثلًا على قول من يرى أنها واجبة، فإنها خارجة عن الخمس لكن لها سبب أوجبها، وكصلاة العيد فإنها واجبة وهي خارجة عن الصلوات الخمس لكن لها سبب وهو العيد، فمراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«لا، إلا أن تطوع» : الصلوات التي تدور بدوران الأيام.
كذلك أيضًا يقال في رد هذا الاستدلال: لو أن الإنسان نذر أن يصلي وجبت عليه الصلاة؟
وجبت عليه الصلاة مع أنها ليست من الصلوات الخمس، لكن لها سبب وهو النذر، فالمهم
أن الاستدلال بهذا الحديث لا يستقيم.
قالوا: ومن الأدلة على أنها ليست واجبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى الجمعة فيبدأ بالخطبة ولا يصلي ركعتين، وهذا يدل على أن تحية المسجد ليست بواجبة، فهذا الاستدلال قد يقول قائل: إن فيه شيئًا النظر؛ لأن الخطيب لا يجلس في الخطبة إلا بين الخطبتين، وهو جلوس يسير لإظهار الفرق بين الخطبتين بالفعل وبالقول، أما بالقول فيسكت عند الخطبة الأولى، وأما بالفعل فيجلس، وأيضًا الخطبة تبع للصلاة – صلاة الجمعة – وهو لن يجلس بعد الجمعة بل سيبدأ بصلاة الجمعة فضعف الاستدلال.
استدلوا أيضًا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة ودخل المسجد الحرام بدأ بالطواف، ثم صلى بعد ذلك ركعتين، وهذا الاستدلال أيضًا في نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ الطواف وجعل يمشي ولم يجلس، فإنه – عليه الصلاة والسلام – لم يجلس، بل طاف ثم صلى ركعتين.
فالمهم: أن القول بوجوب تحية المسجد قول قوي لا يكاد الإنسان يأتي بدليل واضح يدل على عدم وجوبها.
استدلوا أيضًا: بعدم الوجوب بقصة كعب بن مالك رضي الله عنه حين دخل المسجد حين تاب الله عليه وتلقاه الناس يهنئونه، ولم يذكر في الحديث أنه صلى ركعتين، لكن هذا الاستدلال أيضًا فيه شيء من النظر؛ لأنه قد يقال: إن كعب بن مالك ليس على وضوء، ومن ليس على وضوء لا تجب عليه الصلاة، وكيف يمكن أن نقول بوجوب الصلاة وهو على غير وضوء.
فإن قال قائل: إن كعب بن مالك يحكي عن نفسه أنه جاءت البشرى بعد صلاة الفجر والأصل بقاء وضوئه، فقد دخل المسجد وهو على وضوء.
قلنا: هذا متعينًا، وإذا كان الاحتمال في الاستدلال بطل الاستدلال به.
استدلوا أيضًا: بقصة الثلاثة الذين دخلوا المسجد؛ فأحدهم جلس في الحلقة، والثاني وراء الحلقة، والثالث ولى، ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة.
والجواب أن يقال في هذا الاستدلال: إن هذه قضية عين، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم شاهدهم حين دخلوا فصلوا، وليس في الحديث أنهم لم يصلوا ركعتين، على كل حال: فالإنسان إذا أراد أن يبرئ ذمته فلا يجلس إذا دخل المسجد وهو على طهارة حتى يصلي ركعتين.
من فوائد هذا الحديث: أن الركعتين تصليان كل وقت لعموم قوله: «إذا دخل أحدكم المسجد» ، فإن «إذا» ظرف زمان يطلق غير مقيد، فيصلي تحية المسجد في أي وقت دخل حتى بعد صلاة الفجر، حتى بعد صلاة العصر، حتى عند قيام الشمس عند الزوال، ويصلي تحية المسجد متى دخل، وقيل: لا يصلي تحية المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة بعد صلاة الصبح
حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس». وهذا نهي عن الصلاة، عن أي صلاة؛ لأن (لا) نافية للجنس، فيكون نفيها نصا في التعميم فلا يصلي، ولكن الجواب عن هذا أن يقال: هذا الحديث «لا صلاة بعد صلاة الصبح ولا صلاة بعد صلاة العصر» خاص في الوقت، عام في الصلاة؛ كيف؟ خاص في الوقت من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس ومن صلاة العصر إلى الغروب، وهو عام في الصلاة، وحديث أبي قتادة عام في الوقت خاص في الصلاة، فبينهما عموم وخصوص من وجه كل واحد منهما أعم من الآخر، وحينئذ ننظر أيهما أقوى عمومًا، فإذا نظرنا أيهما أقوى عمومًا تبين أن الأقوى حديث أبي قتادة:«إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» ، فيؤخذ بعمومه ويقال: في أي وقت تدخل المسجد لا تجلس حتى تصلي ركعتين، وهذا القول هو الراجح أن تحية المسجد ليس فيها وقت نهي.
فإن قال قائل: هل يمكن أن يقاس عليها بقية النوافل التي ليس لها سبب كسنة الوضوء، وصلاة الاستخارة، فيما يفوت وما أشبه هذا؟
فالجواب: نعم، يقاس عليها؛ لأن العلة واحدة، وهي وجود السبب، فلقوة هذا السبب ارتفع النهي، وأيضًا في بعض ألفاظ حديث النهي:«لا تتحروا الصلاة» ، وهذا يدل على أن المقصود بذلك من يتحرى الصلاة ويصلي في وقت النهي، وهو الذي يصلي صلاة تطوع ليس لها سبب، فالصواب إذن: الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، وهي مذهب الشافعي واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا نهي عن كل صلاة ذات سبب، من ذلك مثلًا ركعتا الوضوء، وركعتا الطواف، وركعتا الاستخارة فيما يفوت وغير ذلك.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو صلى فريضة عند دخوله المسجد لكفى، وجه الدلالة: أن الفريضة يصدق عليها أنها ركعتان، فإذا دخل المسجد وصلى صلاة الفجر وجلس فقد أدى ما عليه؛ لأن الحديث عام فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، والمقصود هو افتتاح المسجد بصلاة ركعتين، وهذا يحصل بالفريضة كما يحصل بالنافلة.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو صلى ركعة واحدة لم تجزئه كما لو كان الإنسان لم يوتر فدخل المسجد فأوتر بركعة واحدة فإنه لا يجزئ لظاهر الحديث؛ لأنه قال: «حتى يصلي ركعتين» ولم يطلق، يعني: لم يقل: حتى يصلي، لو قال: حتى يصلي فلا إشكال، وكذلك لو دخل وصلى صلاة المغرب فإنه لم يصل ركعتين بل صلى ثلاثة، لكن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في الشيء الدائم، أما الشيء النادر فإذا سمي صلاة شرعًا أجزئ عن ركعتين، وعلى هذا فإذا دخل المسجد
في آخر الليل ولم يوتر فأوتر بركعة ثم جلس فقد أدى ما عليه، ويكون قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«حتى يصلي ركعتين» بناء على الغالب، وإلا فلو صلى ركعة أو ثلاث ركعات لأدى ما عليه.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا دخل المصلى فلا تحية عليه، المصلى الذي عده الإنسان مكانًا للصلاة في بيته أو في مزرعته أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا المصلي لا يسمى مسجدًا.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا دخل مصلى العيد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لأن مصلى العيد مسجد.
فإن قال قائل: ما هو الدليل على أن مصلى العيد مسجد؟
فالجواب: الدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء أن يخرجن لصلاة العيد ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى، وهذا الحكم خاص بالمساجد؛ أعني: أن الحائض لا تدخل المسجد، خاص بالمساجد، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكمًا خاصًا بالمساجد ثابتًا لمصلى العيد دل ذلك على أن مصلى العيد مسجد؛ ولهذا قال فقهاؤنا رحمهم الله – أعني: الحنابلة -: مصلى العيد مسجد لا مصلى الجنائز، كيف مصلى الجنائز؟ لأنهم كانوا يجعلون للجنائز مصلى خاصًا خارجًا عن المسجد فلا يكون هذا المسجد الذي ترك للصلاة على الأموات ليس له حكم المساجد بخلاف مصلى العيد.
فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيدلما دخل لم يصل ركعتين؟
فالجواب: بل صلاهما؛ لأن صلاة العيد من حين يأتي الإمام يشرع فيها.
فإن قال قائل: الناس يخرجون إلى مصلى العيد مبكرين وهو وقت نهي، فما الجواب؟
الجواب: أما على قول من يرى أنه لا تصلى تحية المسجد وقت النهي فإنه لا يصلي، وأما على القول الراجح أنه يصلي تحية المسجد ولو وقت النهي؛ لأنه لا فرق بين مصلى العيد والمساجد الأخرى.
ومن فوائد هذا الحديث: تعظيم المساجد، وهذا هو الشاهد لسياق هذا الحديث في باب المساجد؛ بحيث لا يجلس الإنسان فيها حتى يؤدي التحية لله عز وجل. ثم قال المؤلف رحمه الله: