الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال آخرون: إن النهي هنا ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة؛ لأن الأشياء لا تنجس بمجرد الظن، ولكن الصواب أن معنى قوله:"لا يدري أين باتت يده": أنه ربما يكون الشيطان قد عبث بها وأدخل فيها الأوساخ والأقذار وهو لا يعلم.
ومن فوائد هذا الحديث: أن فيه إثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن مثل هذا لا يعلم بالحس وإنما يعلم بالوحي؛ إذ إن هذا حال الإنسان وهو نائم لا يعلم أحد ما يحدث له.
ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ذكر الحكم مقرونا بالعلة.
ومنها: سلوك جانب الاحتياط لقوله: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" بخلاف الأول، فإن الأول يقول:"فإن الشيطان يبيت على خيشومه" ففيه الجزم بأن الشيطان يبيت على خيشومه، أما هذا فيقول:"فإنه لا يدري أين باتت يده" ففيه إيماء إلى سلوك جانب الاحتياط، وأن الإنسان ينبغي له أن يبتعد عما يحتمل أن يكون فيه مضرة عليه، فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا فهل يتغير الماء أو لا يتغير أو يأثم أو لا يأثم؟
إذا قلنا: إن النهي للتحريم فهو آثم، وإذا قلنا للكراهة فليس بآثم، أما الماء فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض له، فالصواب أنه يكون طهورا وأنه لا يتأثر بنجاسة، ولا يتأثر بانتقاله من طهورية إلى طاهر، بل الأصح أنه ليس هناك قسم يسمى طاهرا.
وجوب المضمضة والاستنشاق:
35 -
وعن لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائما".
- أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة.
"أسبغ الوضوء"، يعني: أشمل به جميع الأعضاء التي أمر بها؛ لأن الإسباغ معناه: الشمول كما قال الله تعالى: {وأسبغ عليكم نعمه ظهرة وباطنة} [لقمان: 20]. وعلى هذا فهو إشارة إلى الكيفية لا إلى الكمية، أي: فلا يدخل تكرار غسل ما يشرع تكرار غسله، وإنما المراد: التعميم، فإذا كان المراد التعميم كان الأمر هنا للوجوب، وإذا كان يشمل التعميم ويشمل الكمية صار الأمر هنا مشتركا بين الوجوب والاستحباب، وقوله:"الوضوء" الضوء هو: تطهير الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة.
"وخلل هذه الأصابع" خلل بينها، أي: أدخل أصابعك بين الأصابع، وهل المراد أصابع اليد
أو أصابع الرجل أو الجميع؟ ظاهر الحديث أنه الجميع، يخلل أصابع اليدين ويخلل أصابع الرجلين، لكنه في الرجلين أوكد؛ لأن تلاصق الأصابع في الرجل أشد من تلاصقها في اليد. وقوله:"بالغ في الاستنشاق" الاستنشاق هو: جذب الماء بنفس إلى داخل الأنف إلا أن تكون صائما؛ يعني: فلا تبالغ في الاستنشاق حذرا من أن ينزل الماء من الأنف إلى المعدة فيكون هذا سببا للإفطار.
ففي هذا الحديث فوائد منها: وجوب إسباغ الوضوء هذا إذا قلنا الإسباغ بمعنى الشمول والتعميم، وأما إذا قلنا أسبغوا، أي: ائتوا به كاملا فإنه يجب فيما فيه التعميم ويستحب فيما فيه الكيفية.
ومن فوائد هذا الحديث: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إتمام الوضوء، وعلى أنه لا ينبغي التهاون به.
ومن فوائده: أنه إذا كان الإنسان مأمورا بإسباغ الوضوء وهو من شروط الصلاة؛ فإكمال الصلاة من باب أولى؛ يعني: إذا كنا مأمورين بأن نحرص على شروط الصلاة ونعتني بها فالصلاة من باب أولى، فيكون فيه إشارة إلى أنه يجب الاعتناء بالصلاة.
ومن فوائد هذا الحديث: الأمر بتخليل الأصابع، وهل الأمر للوجوب؟ في هذا تفصيل إن كانت متلاصقة جدا بحيث لا يصل الماء إلى ما بينها فالتخليل واجب، وإن كانت متسعة فالخليل ليس بواجب.
فإن قال قائل: وهل للتخليل صفة مشروعة أو هو مطلق خلل بأي إصبع شئت، وعلى أي كيفية شئت؟
فالجواب: أن ألأمر واجب، ولكن بماذا تبدأ؟ نقول: ابدأ بالخنصر بالنسبة لليمنى، ثم البنصر ثم الوسطى، ثم السبابة، ثم الإبهام. بالنسبة لليسرى تكون بالعكس يبدأ بالإبهام إلى الخنصر.
ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية المبالغة في الاستنشاق لقوله: "بالغ في الاستنشاق" إلى حد يصل إلى احتمال نزول الماء إلى المعدة، دليل أن هذا حد المبالغة: الاستثناء في قوله: "إلا أن تكون صائما".
ومن فوائد الحديث: أن ما وصل إلى المعدة من الشراب عن طريق الأنف كالذي يصل إلها عن طريق الفم لقوله: "إلا أن تكون صائما".
ومن فوائد هذا الحديث: أن الصائم لا يسن له المبالغة في الاستنشاق سواء كان صومه نفلا أو فرضا.
ومن فوائد هذا الحديث: الأخذ بالاحتياط؛ لأن المبالغة في الاستنشاق للصائم ربما ينزل الماء إلى بطنه، فيحتاط الإنسان ولا يبالغ.
فإن قال قائل: إذا كان الإنسان يتضرر بالمبالغة؛ لأن بعض الناس يتضررون بها، بأن يحصل
لهم احتقان في الأنف أو حساسية أو ما أشبه ذلك، فإنا نقول: يكتفي في ذلك بأن يدخل الماء إلى منخريه.
وهل يستفاد من هذا أن الاستنشاق واجب؟ قد يقول قائل: إنه يفيد أن الاستنشاق واجب لقوله: "بالغ فيه"، وسبب المبالغة لا يتحقق إلا إذا وجد الأصل، وقد يقال: إنه لا يدل على الوجوب؛ لأن الأمر بالصفة أمر بها إذا وقع الفعل، فيقال: بالغ في الاستنشاق إن استنشقت، وقد سبق لنا أن الآية الكريمة تدل على وجوب المضمضة والاستنشاق؛ لأنهما من الوجه.
ومن فوائد هذا الحديث: أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من الأمة أمر للجميع؛ ولهذا يستعمل العلماء رحمهم الله الاستدلال بمثل هذه الأحاديث الموجهة إلى الواحد على أنها للعموم وهو كذلك، فخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من الأمة خطاب لجميع الأمة إلى يوم القيامة.
فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لأبي بردة بن نيار في العناق: "إنها لن تجزئ عن أحد بعدك". وهذا تخصيص فما الجواب؟
الجواب من أحد وجهين:
الوجه الأول: إما أن نقول: إن هذا نص النبي صلى الله عليه وسلم على خصوصيته، وكونه ينص على خصوصيته دليل على أنه لولا أنه لم يخصص بهذا لكان الحكم عاما، ولهذا لما قال الله تعالى:{وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك} [الأحزاب: 50]، فدل ذلك على أن ما لم يخصص به الرسول عليه الصلاة والسلام فهو عام له وللأمة. هذا وجه.
الوجه الثاني: أن المراد بالبعدية هنا: بعدية حال وصفة؛ أي: لن تجزئ عن أحد لم تصل به الحال إلى حالك التي وصلت إليها، وهذا الثاني اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لأنه يقول: الأحكام الشرعية تبنى على الأوصاف والعلل والمعاني، وليست على الأشخاص؛ لأن الناس عند حكم الله عز وجل واحد، فلا يخص أحدا بعينه؛ لأنه فلان بل يخص بوصفه لا بعينه، وما ذهب إليه رحمه الله هو الحق؛ أي: أن الشرع لا يمكن أن يخصص أحدا بعينه؛ لأنه فلان بل لابد من وصف إذا وجد في غيره ثبت الحكم في حقه.
قال: "ولأبي داود في رواية: "إذا توضأت فمضمض". فعلى هذا يكون في حديث لقيط ذكر الاستنشاق وذكر المضمضة، والمضمضة صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بها إذا توضأت فمضمض،