الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النهي؛ ولأنه إذا تمسح باليمين تلوثت اليمين بالنجاسة، واليمين لها الكرامة والبعد عن هذا الشيء، ولهذا كان الاستنثار وهو ليس نجسا باليسار، ومن العلماء من قال: إن النهي للكراهة؛ لأن من باب الأدب والورع أن يتجنب الإنسان هذا إلا للحاجة.
ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن التنفس في الإناء لقوله: "ولا يتنفس في الإناء"، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون هذا الإناء يشرب منه غيره أو لا يشرب؛ لأنه مطلق "ولا يتنفس في الإناء".
فإن قال قائل: وإذا اضطر الإنسان إلى التنفس إما لكونه قصير النفس، أو لكونه يحتاج إلى شرب ماء كثير لا يدركه بنفس واحد؟
قلنا: يفصل الإناء ويتنفس، والسنة أن يتنفس في الشراب ثلاث مرات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن هذا أهنأ وأبرأ وأمرأ". ثم قال المؤلف:
النهي عن الاستنجاء باليمين:
89 -
وعن سليمان رضي الله عنه قال: "لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم". رواه مسلم.
سلمان الفارسي قال ذلك ردا على رجل من المشركين، قال هذا الرجل: إن نبيكم علمكم حتى الخراءة، يعني: حتى آداب الخراءة، فقال له: أجل علمنا حتى هذا.
قوله: "نهانا"، قال العلماء: والنهي طلب الكف على وجه الاستعلاء، أي: أن الناهي يشعر بأن له السلطة وله القول على من وجهه النهي إليه، وقوله:"أن نستقبل بغائط أو بول" يعني: أن يجلس الإنسان على بوله أو على غائطه، والقبلة أمامه، وذلك تكريما للقبلة؛ لأن القبلة محل التكريم، ومحل اتجاه العبادة إلى الله تعالى في أشرف العبادات من بعد الشهادتين؛ فلذلك يجب أن تكرم.
وقوله: "أو أن نستنجي باليمين" يعني: ونهانا أن نستنجي باليمين، وهذا كالأول الذي فيه:"ولا يتمسح من الخلاء باليمين"، والاستنجاء إزالة النجس وهو العذرة.
وقوله: "أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" يعني: ونهانا أن نقتصر على حجرين، أو على حجر واحد، وقوله: أو أن نستنجي" يفيد أنه فيما إذا كان الخارج ذا بلل، وأما إذا كان الخارج يابسا- أحيانا يكون الخارج يابسا، ولا يتلوث المحل إطلاقا- فإنه لا يدخل في الحديث؛
لأنه لا يجب الاستنجاء منه في هذا الحال، لكن إذا كان الخارج رطبا فلا يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار حتى لو أنها أنقت.
"أو أن نستنجي برجيع أو عظم""الرجيع": الروث، و"العظم": معروف؛ وذلك لأن الرجيع زاد بهائم الجن تأكله كمال تأكل بهائمنا العلف، أما العظم فلأنه زاد إخواننا من الجن يجدون كل عظم ذكر اسم الله عليه، أوفر ما يكون لحما، سبحان الله! يعني: هذا العظم الذي يلوح يجده الجن عليه اللحم أوفر ما يكون مع أننا لا نشاهد هذا؛ لأن الجن وأحوالهم من أمور الغيب.
ففي هذا الحديث: بيان شمول الشريعة الإسلامية لكل ايحتاج الناس إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا حتى الخراءة، علمنا آداب الأكل، وآداب الشراب، آداب النوم، آداب دخول البيت، والخروج منه، آداب اللباس، ما من شيء نحتاجه إلا علمنا إياه عليه الصلاة والسلام تحقيقا لقول الله تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لنبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]. ولقوله تعالى: ونزلنا عليك الكتب تبينا لكل شيء} [النحل: 89]. وإذا كان الدين الإسلامي وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد بينت حتى هذه الأمور الطفيفة فغيرها من باب أولى؛ ولذلك غلط من قال: إن آيات الصفات وأحاديثها لا يعلم معناها، وصاروا يفوضون المعنى، فإن هؤلاء غلطوا أكبر غلط، فيقال: شبحان الله! أنتم الآن تقرون بأن قصة فرعون وهامان وقارون وغيرهم من طغاة العالم وقصص الصالحين كلها مفهومة المعنى عندكم، وما ذكره الله عن نفسه فهو عندكم غير معلوم بمنزلة الحروف الهجائية، كيف يكون هاذ؟ ! فجميع ما يحتاج الناس إليه في معبودهم، وعباداتهم، وفي أحوالهم، وفي معاملاتهم كله بين، ولكن الناس يختلفون؛ منهم من يعطيه الله تعالى علما واسعا يحيط بكثير من السنة، ومنهم من دون ذلك، ومنهم من يعطيه الله تعالى فهما ثاقبا يفهم ما يسمع وما يقرأ، ومن الناس من هو دون ذلك، وفضل الله يؤتيه من يشاء.
ومن فوائد هذا الحديث: تحريم استقبال القبلة بغائط أو بول؛ لقوله: "نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول" والأصل في النهي التحريم.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز استقبال الشمس والقمر، كيف ذلك؟ لأن أهل المدينة إذا لم يستقبلوا القبلة فسوف يستقبلون الشرق أو الغرب؛ حينئذ يكونون مستقبلين إما للمش وإما للقمر، وذكرت هذا لأن بعض أهل العلم رحمهم الله قالوا: إنه يكره للإنسان أن
يستقبل الشمس أو القمر، وعللوا لذلك بتعليل عليل منتقض: لأن في الشمس والقمر نورا فما فيهما من نور الله يجعلهما محترمين؛ فنقول:
أولا: لا يجوز أن نثبت الأحكام الشرعية بمثل هذا التعليل.
وثانيا: هو تعليل منتقض، النجوم فيها أيضا نور من الذي أشاءها؟ الله سبحانه وتعالى هل نقول للإنسان: لا تستقبل النجوم، وإن قلنا: لا تستقبل النجوم فكيف يجلس؟ لأن النجوم على يمينه، وعلى يساره، وأمامه وخلفه؛ فلهذا ذكرت ذلك ليعلم أن ما قاله بعض الفقهاء رحمهم الله في هذا قول ضعيف لا دليل عليه.
ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن الاستنجاء باليمين، وإذا كنا نقول في استقبال القبلة أنه حرام، فيجب أن نقول في هذا إنه حرام؛ لأن الحديث واحد، والغالب أن المسائل المذكورة في حديث واحد أن حكمها واحد، أقول: الغالب، لكن ليس هذا دلالة؛ فإن الله تعالى قال:{والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8]. فذكر الخيل والبغال والحمير مع أن الخيل جلال، والبغال والحمير حرام، ولا عبرة بدلالة الاقتران؛ لأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الصحابة نحروا فرسا في عهده - علي الصلاة والسلام- وأقرهم على هذا.
المهم إذا لم نجد صارفا يصرف النهي إلى الكراهة في الاستنجاء باليمين، فالواجب أن يكون للتحريم. فإذا قال قائل: إذا كان الإنسان أشل في يده اليسرى؟ نقول: حينئذ يكون مضطرا إلى الاستنجاء باليمين، وقد قال الله تعالى:{وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام: 119].
ومن فوائد هذا الحديث: تكريم اليمين، وهو كذلك؛ ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله في ذلك ضابطا مهما، قالوا: إن اليسرى تقدم للأذى، واليمنى لها سواها، اليسرى تقدم للأذى كالاستنجاء، والاستنثار، وغسل الأوساخ، وما أشبه ذلك، واليمنى لها سواها.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز الاستنجاء بالحجار؛ لقوله: "أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" فإنه يفيد أن الثلاثة فما فوق يجوز الاستنجاء به.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز الاقتصار على أقل من ثلاثة حتى لو طهر المحل لابد من ثلاثة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من استجمر فليوتر".
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو استنجى بحجر ذي شعب، فإن ذلك جائز؛ لأن كل شعبة بمنزلة حجر، ومن العلماء من قال: لا يجوز بحجر ذي شعب؛ لأن الحديث أقل من ثلاثة أحجار،
لكن هذا القول جمود على اللفظ؛ لأن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أحجار ألا يمسح بوجه مرتين أو أكثر، وإنما مراده: أن يكون كل وجه له مسحة إما بثلاثة أحجار أو بحجر ذي شعب، ولم يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام الحجر ذا الشعب؛ لأن هذا قد يكون نادرا أن يجد الإنسان حجرا فيه ثلاث شعب متوازية بحيث إذا مسح بشعبة لم تتلوث الأخرى هذا نادر.
ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن لاستنجاء بالرجيع، والرجيع ما هو؟ الروث؛ لأن الروث إن كان طاهرا فهو علف بهائم الجن، وإن كان نجسا فالنجس لا يطهر، وكما تعلمون أن الروث ينقسم إلى قسمين على القول الراجح: طاهر؛ وهو روث المأكول، ونجس؛ وهو روث غير المأكول.
ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن الاستنجاء بالعظام لقوله: "أو عظم"، سواء كانت هذه العظام عظام ميتة او عظام مذكاة، أو عظام مباح الأكل أو غير مباح الأكل؛ لأنه إذا كانت العظام عظام ميتة فهي نجسة عند جماهير العلماء، وإذا كانت نجسة فالنجس لا يمكن أن يطهر، وإن كانت مذكاة فهي طعام الجن، ولا يحل لنا أن نعتدي عليهم بإفساد طعامهم، وإن كان العظم من غير المأكول فهو نجس، والنجس لا يطهر.
فإن قال قائل: هل يقيسون على هذا تحريم الاستنجاء بعلف بهائم الإنس؟
فالجواب: نعم، نقيسه قياسا جليا واضحا؛ لأنه إذا كان لا يجوز أن نفسد علف بهائم الجن، وهو عالم غيبي فعلف بهائم الإنس من باب أولى.
وإن قال قائل: وهل يقسمون على النهي عن الاستنجاء بالعظم الاستنجاء بطعام الإنس كاللحم أو الخبز أو ما أشبه ذلك؟
فالجواب: نعم من باب القياس الأجلى والأوضح؛ لأنه إذا كان إفساد طعام الجن حراما فإفساد طعام الإنس من باب أولى.
فإن قال قائل: وهل تجيزون أن يستنجي الإنسان بغير الأحجار مما يزيل الأذى؟
فالجواب: نعم نجيز ذلك، فلو استنجى الإنسان بمناديل طاهرة منقية فلا بأس، وإن استنجى بخشبة فلا بأس، وإن استنجى بمدر - وهو الطين اليابس- فلا بأس أيضا، ولو استنجى بزجاجة لا يجوز؛ لأنها لا تنقي، ولو استنجى بحجر رطب لا يجوز؛ لأنه لا يطهر ولا ينشف.
فإن قال قائل: إذا لم ينق بثلاث - أعني: الاستجمار- هل يجب أن يزيد رابعة؟ نعم يجب أن يزيد رابعة، وإذا أنقى برابعة فالأفضل أن يزيد خامسة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من استجمر فليوتر".
من فوائد الحديث - ونسيت أن أقولها-: تحريم العدوان على حق الغير لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالرجيع أو العظم، فإذا كان يحرم العدوان من الإنس على الجن فإنه حرام من الجن