الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا: أننا لا نسلم بوجود قسم من الماء يسمى طاهرا ليس فيه دليل.
وثانيا: لو سلمنا بهذا أو كان فيه دليل عليه؛ فإن هذا الحديث لا يدل عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لحكم الماء إطلاقا وإنما وجه الخطاب لمن اغتسل، أما الماء فلم يتعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم.
النهي عن البول في الماء الدائم:
قال: وللبخاري: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه".
هذا فيه خصوص وعموم بالنسبة لما سبق، هنا قال:"ثم يغتسل فيه"، ولم يقل:"من الجنابة"، لكنه قيد هذا النهي عن الاغتسال بماء إذ بال فيه: فقوله: "لا يبولن": البول معروف، وقوله:"في الماء الدائم" فسره بقوله: "الذي لا يجري"، وقوله:"ثم يغتسل فيه" أي: ينغمس؛ لأن "في" للظرفية، والظرف يكون عاما للمظروف، فإذا جعلنا الماء ظرفا لزم من ذلك أن الإنسان ينغمس فيه، إذن هذا الحديث ليس الحديث الأول؛ لأن الحديث الأول نهى الرجل أن يغتسل وهو جنب، أما هذا فهو نهي الرجل أن يبول في الماء ثم يغتسل فيه، ولا شك أن هذا النهي موافق للحكمة؛ لأنه كيف تبول فيه والبول نجس، ثم تذهب لتطهر به أو تتنظف به، هذا غير لائق حتى الفطرة والطبيعة تنافي ذلك.
يبولن أحدكم في الماء الدائم"، فسره بقوله: "الذي لا يجري" "ثم يغتسل فيه": ذكر المحدثون أن هذه الجملة الأخيرة رويت على ثلاثة أوجه: على الرفع، والنصب، والجزم:
فعلى رواية الجزم نقرؤها هكذا: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه" وتكون معطوفة على "يبولن" لكنها جزمت؛ لأنه لم يتصل بها نون التوكيد، ويكون معنى الحديث: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ولا يغتسل فيه. فيكون هذا الحديث مشتملا على مسألتين كل واحدة مستقلة عن الأخرى:
الأولى: النهي عن البول.
والثانية: النهي عن الاغتسال في الماء الدائم الذي لا يجري.
على رواية النصب: تكون "ثم" هنا ملحقة بواو المعية، وواو المعية بعد النهي يكون الفعل بعدها منصوبا. نقول:"لا تأكل السمك وتشرب اللبن"؛ أي: مع شرب اللبن، حملوا "ثم" هنا في العمل على الواو، فقالوا: لا يبولن ثم يغتسل، وعلى هذا فيكون المعنى: لا يجمع بين البول والاغتسال.
وعلى رواية الرفع: يكون النهي في مسألة واحدة وهي: البول، ويكون "يغتسل" مستأنفة غير معطوفة على "يبولن" ب "ثم" أي: ثم هو يغتسل فيه، المعنى: أنه من أقبح الأشياء أن شخصا يبول بماء ثم يذهب يغتسل منه، هذا مناف للفطرة؛ لأن المفروض أن الماء إما أن يتنجس بالبول أو تتقذر منه النفس فكيف تبول في شيء ثم تهذب تتطهر به، هذا مناف للفطرة.
ونظيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجلد الرجل امرأته جلد العبد ثم يضاجعها. المعنى: ثم هو يضاجعها؛ لأن هذا ينافي الفطرة والنفوس، كيف في الصباح تجلدها جلد العبد وتأتي آخر الليل تضاجعها لتستمتع بها، هذا تأباه النفوس في الواقع، وعلى هذا كأنه يقول: لا يبولن أحدكم بالماء الدائم، ثم بعد ذلك يحتاج فيغتسل فيه، وهذا مما تأباه النفوس وتنفر منه.
على كل حال لنجعلها على المعنى الأول: يغتسل فيه؛ فيكون هذا يتضمن النهي عن مسألتين: الأول: البول في الماء الدائم الذي لا يجري؛ لأنه إذا بال فيه استقذرته النفوس، وربما مع كثرة البول وقلة الماء يتغير الماء بالنجاسة فيفسد.
والمسألة الثانية: لا يغتسل في الماء الدائم، وظاهره لا يغتسل لا من جنابة ولا للنظافة بل النهي عام، سيأتي في بعض ألفاظ الحديث التقييد بالجنابة ليوافق حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم، إذن يكون في هذا الحديث نهي عن مسألتين: عن البول في الماء الدائم، وعن
الاغتسال فيه، وهل يقيد من الجنابة أو يحمل على إطلاقه؟ يؤخذ على إطلاقه لأننا إذا أخذناه على إطلاقه شمل الغسل من الجنابة والغسل للتبرد ونحوه.
ثم قال: ولمسلم: "منه"، والفرق بين (من)، و (في): أن (في) تدل على الانغماس في الماء، و (من) تدل على الاغتراف وبينهما فرق.
قال: ولأبي داود: "ولا يغتسل فيه من الجنابة". فهي موافقة لرواية البخاري إلا أنها مقيدة لها؛ لأن المراد: يغتسل فيه من الجنابة، وعلى هذا القيد يكون موافقا للفظ مسلم الذي جعله المؤلف أصلا وهو قوله: صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب".
أما فوائد الحديث، فالحديث فيه فوائد؛ منها: أن الشريعة الإسلامية جاءت بالنظافة والبعد عن الأوساخ والأقذار، وذلك للنهي عن الاغتسال في الماء الراكد سواء كان هذا الاغتسال يؤثر على الماء أو لا؛ لأنه إن لم يؤثر في أول مرة أثر في المرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، والشريعة الإسلامية كلها نظافة كلها طهارة.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز للإنسان أن يغتسل في الماء الدائم وهو جنب بناء على أن الأصل في النهي التحريم، وإذا اغتسل في الماء الدائم وهو جنب فهل ترتفع جنابته؟ إذا أخذنا بالقاعدة المعروفة: أن ما نهي عنه لذاته فإنه لا يصح، وهنا وقع النهي عن الغسل لذاته، لا يغتسل في الماء وهو جنب وعليه فإذا اغتسل في الماء وزهو جنب فإنه لا يصح اغتساله، وهو ظاهر جدا على قول من يرى أن الماس المستعمل يكون طاهرا غير مطهر، ومن العلماء من يقول: إن النهي هنا للكراهة، وعلى هذا القول لو اغتسل لارتفع حدثه؛ لأنه لم يفعل محرما وإنما فعل مكروها، والمكروه كراهة التنزيه ليس فيه إثم.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز الاغتسال للتبرد والتنظيف في الماء الدائم، دليله قوله:"وهو جنب" ولكن قد يعارضنا معارض ويقول: إنه قيد الجنابة، وأن الإنسان في حاجة للاغتسال فإذا نهى عن الاغتسال في الماء الدائم مع الحاجة فالنهي عنه من دون حاجة من باب أولى، وعلى هذا فنقول: إن هذا القيد وإن دل بمفهومه على جواز الاغتسال بغير جنابة لكنه قال: إن الاغتسال لغير الجنابة من باب أولى، ويؤيد هذا القول العموم في رواية البخاري:"ثم يغتسل فيه"، وهذا هو الأقرب أنه ينهى عن الاغتسال في الماء الدائم من الجنب وغير الجنب.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو اغتسل في ماء جار لجنابة أو غير جنابة فإنه جائز ولا نهي فيه، لأن هذا القيد الدائم وصف مناسب للنهي، وإذا كان وصفا مناسبا للنهي صار وصفا لابد من العمل به، فيقال: إذا اغتسل من الجنابة أو غير الجنابة من ماء جار فلا بأس، أما رواية
البخاري ففيها دليل على تحريم البول في الماء الدائم الذي لا يجري، ويفهم منها جواز البول في الماء الذي يجري؛ لأن قده ب "الدائم" يدل على أن غير الدائم لا بأس به لكن بشرط ألا يفسده على غيره أو يقذره عليه، فإن كان هذا الماء يجري؛ يجري على أناس - مستخفين على الساقي- يتوضئون أو ما أشبه ذلك فهنا لا يحل له أن يفعل لا لأنه يشمل النهي، ولكن من أجل إيذاء المسلمين، وأذية المسلمين لا تجوز.
ومن فوائد الحديث: [وهل] يجوز الغائط في الماء الدائم الذي لا يجري؟ لا، لا يجوز، وهذا قول داود الظاهري رحمه الله، حيث إنه يقول: يجوز الغائط في الماء الدائم. قالوا: وهذا من أقبح ما ينتقد عليه في ظاهريته؛ يعني: البول الذي ربما يختلط بالماء ويضمحل لا يجوز وهذا يجوز أي: الغائط، لكن له أن يدفع، يقول: الغائط مشاهد ويمكن أن تتحرز منه، لكن البول يختلط بالماء ولا يمكن أن تتحرز منه، لكن لا تنفع هذه المدافعة؛ لأنه حتى ولو كان يشاهد سوف يستقر في الماء؛ فالصواب تحريم هذا، وهذا عليه جمهور الأمة، لكن ذكرناه من أجل الاطلاع فقط، وأن الجامدين على الظاهر أحيانا يأتون بالعجب العجاب كقولهم: يجوز أن يضحي بالجذع من الضأن ولا يجوز أن يضحي بالثنية، تعرفون الجذع الصغير والثنية أكبر منه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن". أيهما أولى؟ الثنية؛ لأن الرسول قال هذا على سبيل النزول، ومثل ذلك أيضا قولهم: لو أن رجلا استأذن ابنته البكر، وقال: إنه خطبك فلان وهو رجل طيب مستقيم ذو مال وجاه، فقالت: هذا الذي أريده زوجني إياه؛ فإنه لا يحل له أن يزوجها، ولو قال لها: خطبك رجل ذو خلق ودين وعلم وجاه، فسكتت فإنه يزوجها.
الأولى لا يزوجها لماذا؟ ما سكتت، والرسول عليه الصلاة والسلام قال في البكر:"إذنها أن تسكت". مثل الجمود على هذه الظاهرية لا شك أنه خطأ فادح لكن ذكرناه لأنه ربما يأتي بعض الناس ليس في مثل هذا القبح لكن أقل فيأخذ بالظاهر ولا يلتفت إلى القواعد العامة في الشريعة.
إلا أني بعد هذا أقول لكم: إن ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" قال: إن مذهب الظاهرية خير من مذهب أهل التأويل المولعين بالمعاني؛ وذلك لأن أهل التأويل يردون النصوص لعقيدة فاسدة، فمثلا يقولون: يجوز أن تزوج المرأة نفسها بغير ولي كما يجوز أن
تبيع مالها بغير ولي، وهذا مصادم للنص، مصادم للصريح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا نكاح إلا بولي". وتعبيرات القرآن الكريم تدل على ذلك: {ولا تعضلوهن} [النساء: 19]. {وأنكحوا الأيمى منكم} [النور: 32]. وأما أشبه ذلك، لكن لسنا هنا نريد أن نفاضل بين الناس، لكننا نريد أن نبين أمثلة من أجل أن يعرف الإنسان كيف يصير في استعمال الأدلة من الكتاب والسنة.
ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن الاغتسال في الماء الدائم مطلقا سواء من الجنابة أو لغيرها لقوله: "ثم يغتسل فيه".
ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن البول ثم الاغتسال؛ لأنه من باب أولى إذا نهى عن البول وحده والاغتسال وحده فالنهي عن الجمع بينهما من باب أولى، ثم إن ظاهر تعبير الحديث إذا تأملته وجدته إنما يتعلق بهذه الصورة فقط وهي البول ثم الاغتسال، هذا هو مقتضى سياق اللفظ.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز أن يبول في الماء ثم يغتسل منه هذا بناء على رواية مسلم" وتقدم ذكر الفرق بين "منه" و "فيه" كما سبق في الشرح.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه هل يجوز للإنسان أن يبول في إناء ثم يصبه في الماء الذي لا يجري؟ لا، هذا مذهب الظاهرية يقول: لو بال في إناء ثم صبه في الماء فإنه لا يتناوله النهي، وليس معنى ذلك أنه جائز عندهم، لا لكن يقولون: لا يتناوله النهي؛ يعني: بصيغته، فلذلك نقول: الصواب أنه لا فرق بين أن يبول فيه مباشرة أو بإناء ثم يصبه فيه.
ومن فوائد الحديث أيضا: في رواية أبي داود أنه لا يغتسل في الماء الدائم من الجنابة، وظاهره أنه إذا بال في الماء يعني الجمع بينهما، لكن رواية مسلم السابقة التي جعلها المؤلف أصلا في الحديث تدل على أنه لا يجوز الاغتسال فيه من الجنابة وهو دائم.
وخلاصة هذا الحديث وألفاظه:
أولا: أن الإنسان لا يبول في الماء الدائم الذي لا يجري مطلقا إلا أننا استثنينا الأنهار والأودية الكبار وما أشبه ذلك فإن هذا جائز بالاتفاق، واستثنينا أيضا من الماء الدائم البحار أو البحيرات.
الشيء الكبير الذي لا يؤثر فيه البول شيئا. قال العلماء: هذا لا بأس به؛ لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما ينصرف إلى الشيء المعهود وليس في المدينة بحار ولا أنهار هذه واحدة.
ثانيا: أنه لا يبول فيه ولا يغتسل منه؛ لأن ذلك مستقذر مستقبح عرفا وفطرة لقوله: "لا يبولن ثم يغتسل".