الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم أخذ الأجر على الأذان:
187 -
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه قال: «يا رسول الله، اجعلني إمام قومي. قال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرًا» . أخرجه الخمسة، وحسنة الترمذي، وصححها لحاكم.
قوله: «عن عثمان بن أبي العاص» هو من ثقيف، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف، قال:«اجعلني إمام قومي» أي: في الصلاة، فقال:«أنت إمامهم» ، وهذا عقد ولاية لإمامة الصلاة؛ لأن الذي يتولى عقد إمامة الصلوات هو ولي الأمر، «واقتد بأضعفهم» يعني: إذا طلب منك بعض الجماعة أن تطيل بهم في القراءة، أو الركوع، أو السجود، إطالة زائدة عن الستة، وآخرون طلبوا منك التخفيف - الضعفاء -، فالواجب الاقتداء بالأضعف، «واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» أمر الذي نصبه إمامًا أن يتخذ مؤذنًا - أي: أن ينصب مؤذنًا - لا يأخذ على أذانه أجرًا - أي: أجرًا دنيويًا -، كدراهم، الثياب، الطعام، السكن في البيت، وما أشبه ذلك.
هذا الحديث فيه فوائد منها: جواز طلب الإمامة، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عثمان بن أبي العاص ووافقه على طلبه، وهذا أقوى ما يكون من إثبات هذا الحكم.
ولكن لو قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله رجل إمارة قال: «إنا لا نولي هذا الأمر أحدًا طلبه» . وقال لعبد الرحمن بن سمرة: «لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها» .
قلنا: بلى، ولكن يحمل هذا الحديث إما على التفريق بين طلب الإمارة والإمامة؛ لأن الإمامة وظيفة دينية محضة، والإمارة، فيها سلطة، فيها نوع من استعلاء وما أشبه ذلك، وإما أن يقال: أنه إذا طلبها من يطلبها وهو أحق الناس بها، فإن طلبه هذا يكون بمنزلة التنبيه لولي الأمر، ليس طلبًا محضًا، وأن الإنسان إذا رأى من نفسه أنه أحق الناس وأوفى الناس بهذه الوظيفة فله طلبها، وهذا الوجه أحسن، وربما نقول: إن الوجهين صحيحان لكن هذا أقرب إلى الصواب، ويؤيده أن نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام قال:{اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [يوسف: 55]. لأنه رأى أن بيت المال قد ضاع، وأنه ذو حفظ وعلم فطلبه لعدم وجود من يقوم مقامه.
ومن فوائد هذا الحديث: أن نصب الأئمة إلى ولي الأمر؛ لأنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم وهو ولي الأمر ولا شك، وكذلك من ينيبه ولي الأمر، كما في وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في وقتنا، وكذلك الوزارات الأخرى في البلاد الإسلامية، فإن الوزير يعتبر نائبًا عن ولي الأمر.
فإن قال قائل: لو اختار أهل الحي رجلًا، واختارت الوزارة رجلًا، فمن الذي يقدم؟
يقدم ما تختاره الوزارة، ولكن يجب على الوزارة في هذه الحال أن تنظر فيمن اختارت، وفيمن اختاره أهل الحي، أن تنظر إلى ذلك بعين العلم والإنصاف.
فإن قال قائل: إذا كنا في بلد ليس فيه ولاية إسلامية فمن الذي يقدم في الإمامة؟ قلنا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» . فيجب على أهل الحي أن يختاروا أقرؤهم لكتاب الله، ثم من يليه على حسب ما جاءت به السنة.
ومن فوائد الحديث: مراعاة الأضعف في كل شيء؛ لأنك إذا راعيت الأضعف لم تضر الأقوى، وإن راعيت الأقوى شققت على الأضعف أو أضررت به، حتى في المشي لو فرض أن أناسًا يتبعونك مثلًا فيهم من مشيه ضعيف ومشيه قوي؛ فإنك تراعي الأضعف إلا أن يكون في مراعاته ضرر، فالضرر منفي شرعًا، لكن بدون ضرر اقتد بالأضعف.
ومن فوائد الحديث: أن تعيين المؤذن إلى الإمام لقوله: «واتخذ مؤذنًا» هذا إذا قلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوله إلا على إمامة الصلاة، لكن حسب الترجمة التي ترجمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعله أميرًا على الطائف، وعلى هذا فيكون تعيينه - المؤذن - لا لأنه إمام المسجد، ولكن لأن له الولاية على البلد كلها.
ومن فوائد الحديث: وصية الإمام للولاة الذين تحته من الأمراء، والأئمة، والقضاة، وما أشبه ذلك بما يقتضيه حالهم؛ لقوله:«اقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» ، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أمره بتقوى الله عز وجل، وبمن معه من المسلمين خيرًا.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي العدول عمن طلب من المؤذنين أجرًا أو مالًا، أو يقال - بمعنى أعم -: شيئًا من أمور الدنيا؛ لقوله: «اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» ، ولهذا نص فقهاؤنا رحمهم الله على تحريم أجرة الأذان والإقامة، يعني: تتفق مع واحد، تقول: تعال
استأجرك على أن تؤذن، كم أذانًا في اليوم والليلة؟ خمسة، قال: لكني أؤذن كل أذانٍ بكذا، يريد أن تكون له أجرة، حتى إذا تخلف يخصم عليه، ولو نقص في الأذان يخصم عليه، فهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» ، التعليل: لأن عمل الآخرة لا يمكن أن يتخذ وسيلة للدنيا، الآخرة أعظم وأشرف من أن تكون وسيلة لأمر الدنيا، الدنيا وسيلة الآخرة، وليست الآخرة وسيلة الدنيا؛ لأن الله يقول:{بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خيرًا وأبقى} [الأعلى: 16 - 17].
فإن قال قائل: ما شأننا مع الواقع الآن الأئمة والمؤذنون يأخذون أجرًا؟
فالجواب: أن هذا ليس بأجر بل هو رزق من بيت المال للمصالح العامة، ومن المصالح العامة: الأذان، والإقامة، كما أن العلماء يأخذون أجرًا على تدريسهم لا لأجل العوض؛ ولكن لأن هذا من بيت المال الذي يصرف للمصالح العامة؛ ولهذا قال الفقهاء: لا يحرم أخذ رزق من بيت المال إذا لم يوجد متطوع - حماية بيت المال عند العلماء - فإن وجد متطوع تحصل به الكفاية حرم أن يعطى المؤذن من بيت المال؛ لأنه لا داعي له الآن، وإذا لم يكن له داعٍ فلا يجوز، إذا أخذنا من بيت المال - مثلًا - عشرة ريالات لهذا المؤذن صار حرامًا؛ إذ إن عشرة ريالات تنفع بيت المال.
لو كان جعالة ليس أجرة بأن قال: من أذن في هذا المسجد فله كل شهر كذا وكذا، فهذه فيها خلاف، منهم من يقول: لا بأس بها، ومنهم من يقول: فيها بأس؛ لأن هذا المؤذن إنما جاء من أجل العوض.
188 -
وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم» . الحديث أخرجه السبعة.
«الحديث» يعني: اقرأ الحديث؛ فهي منصوبة بفعل محذوف تقديره: «اقرأ الحديث» يقول: «إذا حضرت الصلاة» «أل» في قوله: «الصلاة» للعهد الذهني، والمراد بها: الصلاة المكتوبة، وهي خمس معروفة، والمراد بحضورها: دخول وقتها وإرادة فعلها وقوله: «فليؤذن لكم أحدكم» الفاء رابطة لجواب الشرط، واللام للأمر، وقوله:«فليؤذن لكم أحدكم» يعني: بحيث يسمعكم؛ لأنه إذا لم يسمعهم فإنه بمؤذن لهم.
وقوله: «عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه» . ومالك بن الحويرث وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم عام الوفود؛ أي: العام التاسع، وبقي عنده عشرين يومًا، وكان معه وفد كلهم شباب، فلما مضت العشرون
ورآهم النبي صلى الله عليه وسلم اشتاقوا إلى أهليهم أمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم فيقيموا فيهم، ويعلموهم ويؤدبوهم وأوصاهم بوصايا، منها ما ذكر في هذا السياق، ففعلوا وانصرفوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم متعلمين ممتثلين فيما وصاهم.
ففي هذا الحديث فوائد: أولًا: أن الأذان لا يصح قبل دخول الوقت لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرت الصلاة» ، ولا يمكن أن تحضر قبل دخول الوقت.
ومن فوائد الحديث: أهمية الصلاة؛ حيث فرض النداء لها.
ومن فوائد الحديث: وجوب الأذان لقوله: «فليؤذن» ، واللام للأمر، والأصل في الأمر في العبادات الوجوب.
ومن فوائد الحديث: أنه يجب أن يسمع المؤذن من يؤذن لهم بحيث يرفع صوته حتى يسمعه من يؤذن لهم، فإن أذن في جهة بعيدة وحضر، يعني مثلًا: أنه في البر وذهب أحدهم، ولما حان الوقت أذن في مكان ليس حوله أحد من قومه، ثم حضر إليهم، هل يكتفي بهذا الأذان؟ لا، لأنه لم يؤذن لهم، لابد أن يسمع من يؤذن لهم.
ومن فوائد الحديث: أن الأذان فرض كفاية لقوله: «أحدكم» وهو كذلك، وليس فرض عين.
ومن فوائد الحديث: أن إجابة المؤذن غير واجبة - يعني: متابعته - إن تابعه الإنسان وأتى بما يسن بعد المتابعة، وإن لم يتابع فلا شيء عليه، وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الآخرين بالمتابعة مع أن الحال تقتضي بيان ذلك لو كان هذا واجبًا؛ إذ إن هؤلاء قوم وفدوا تعلموا شرائع الإسلام عن قرب ورجعوا إلى أهليهم، وهذا القول هو الصواب، وهو الذي عليه جمهور العلماء، وذهب أهل الظاهر رحمهم الله إلى أن إجابة المؤذن واجبة، وأخذوا بالأمر «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول» ، ولكن الصواب مع الجمهور، وأن إجابة المؤذن في أذانه سنة لا يأثم الإنسان بتركها، هنا لم يبين من الأحق بخلاف الإمامة قد بين من الأحق، فيقال: الأحق: الأعلم بالوقت، والأوثق، والأندى صوتًا، هذا عند ابتداء تنصيب المؤذن نختار من جمع هذه الأوصاف.
ومن فوائد الحديث: أن الأذان لا يصح إلا من واحد لقوله: «أحدكم» ، فلو رع في الأذان فلما بلغ «حي على الصلاة» أكمله آخر؛ فالأذان لا يصح؛ لأن الحديث يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:«فليؤذن لكم أحدكم» .
فإن قال قائل: لو شرع في الأذان ثم أتاه من يمنعه من إكماله بأن أغمي عليه، أو ما أشبه ذلك وأكمله آخر؛ لم يصح، إذن ماذا يعمل؟ يعيد الأذان من جديد.
***
189 -
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر، واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله» . الحديث. رواه الترمذي وضعفه.
قوله: «عن جابر» الأحسن أن يقال: جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لكن لما لم يذكر أباه صح أن يعود الضمير عليه مفردًا. «وعن جابر» هو: ابن عبد الله بن حرام رضي الله عنه، الذي قتل شهيدًا في أحد؛ أعني: أباه عبد الله بن حرام رضي الله عنه.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أذنت فترسل» يعني: لا تستعجل قف على كل جملة، وجه ذلك: أن الأذان للبعيد، فإذا ترسل فإن من فاته أول الأذان يسمع آخر الأذان، ولذلك الآن لو سمعت صوتًا تظنه أذنًا تجد أنك [تستنصت] ثم إذا أذن ثانية وثالثة تبين لك أنه أذان، وأما الإقامة فإنها للحاضرين؛ ولهذا قال:«وإذا أقمت فاحدر» يعني: أسرع.
ولكن هل يقف على كل جملة أو يسرع ولا يقف، فمثلًا: يقول: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، ويقف على كل جملة أو يوصل الجمل؟
الجواب: الأول، يقف على كل جملة إلا أنه يحدر لا يترسل.
«واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله» ، يعني: والمتوضئ من وضوئه بين الأذان والإقامة مقدار ما يفرغ الآكل من أكله؛ لأنه لا صلاة بحضرة طعام، ولو أقام سريعًا والناس على أطعمتهم شق عليهم ترك الطعام، وشق عليهم ترك الصلاة مع الجماعة؛ فلهذا ينبغي أن يراعي أي: يجعل بين الأذان والإقامة مقدار ما يفرغ الآكل من أكله، والمتوضئ من وضوئه، كم المقدار؟ عشر دقائق.
في هذا الحديث: توجيه النبي صلى الله عليه وسلم العمال من المؤذنين والمقيمين، وكذلك عمال الزكاة وغيرهم إلى ما يطابق الشريعة، وهذا يدل على كمال نصحه، وعلى كمال تبليغه.
ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره أن الإقامة إلى المؤذن، وليس كذلك إلا إذا عمده الإمام فيكون وكيلًا عن الإمام، وإلا فإن المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة، لكن إذا حدده وقال: اجعل بين الأذان والإقامة كذا وكذا، فذلك جائز، ولكنه مع ذلك لا يقيم حتى يرى الإمام، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقوموا حتى يروه؛ لأنهم ربما يقومون أو يقيمون الصلاة