الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 - باب الغسل وحكم الجنب
"الغسل" يقال: بالضم، ويقال: بالفتح، ويقال: بالكسر، فهل هي لغات أو لكل حركة معنى؟ الأطهر أن لكل حركة معنى.
أولا: الغسل: التطهير؛ ولهذا نقول: غسل ثوبه من النجاسة غسلا.
ثانيا: الغسل: استعمال الماء - يعني: الاغتسال- على صفة مخصوصة يسمى غسلا:
ثالثا: الغسل: ما يخلط بالماء من إشنان أو نحوه لتكميل الاغتسال لتكميل تنظيفه يسمى غسلا بالكسر، فصارت الحركات ثلاث والمعاني تختلف.
ومن اللغويين من قال: إن الأمر في هذا واسع، وأنه يجوز الغسل والغسل سواء للفعل أو للاغتسال.
أما الجنب: فكل من جامع أو أنزل يسمى جنبا، وأصله: من جانب المار محله، وهذا يحصل بالإنزال على وجه ظاهر؛ وبالجماع لأنه سببه.
الجنابة من موجبات الغسل:
101 -
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء".
رواه مسلم، وأصله في البخاري.
"الماء من الماء" يعني: هذا يسميه البلاغيون: الجناس، يعني: أن تأتي كلمتان لفظهما واحد، ومعناهما مختلف؛ الماء الأول ماء الاغتسال، والماء الثاني المني؛ لأن المني كما قال الله تبارك وتعالى:{فلينظر الإنسن مم خلق خلق من ماء دافق} [الطارق: 5، 6]. وقال الله تبارك وتعالى: {والله خلق كل دابة من ماء} [النور: 45]. كل شيء يدب صغيرا أو كبيرا فإن أصله الماء، لكن ماء كل شيء بحسبه؛ ماء الحيوانات الكبيرة يختلف عن ماء الحيوانات الصغيرة، وإلا فالأصل أن جميع الدواب من الماء.
وأما قوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} [الأنبياء: 30]. فهو مثل قوله: {والله خلق كل دابة من ماء} ، يعني: كل شيء حي فأصله الماء، والعوام يؤولون الآية على معنى آخر يقولون: إن كل شيء يحيا بالماء، وهذا غلط، هذا تحريف للقرآن؛ لأن الله إذا أراد ذلك لقال:"وجعلنا من الماء كل شيء حيا" يعني: صيرناه حيا بالماء، لكن معنى الآية:{وجعلنا من الماء كل شيء حي} أي: أن كل حي فأصله من الماء، فهو يطابق قوله تعالى:{والله خلق كل دابة من ماء} .
إذن معنى: "الماء من الماء" يعني: إذا نزل المني وجب الاغتسال، وانظر الكناية من النبي - عليه
الصلاة والسلام - حيث قال: الماء من اماء"، قد يقول قائل: إن هذا ليس فيه بيان؛ لأن الأول يصدق في الوضوء مثلا؛ لأن المتوضئ قد يستعمل الماء فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كنى بهذا يخاطب قوما يعلمونه ويفهمونه، وإذا كانوا يعلمونه ويفهمونه فهذا غاية البيان، المسألة في غاية البيان؛ لأنه يخاطب أناسا يفهمون هذا الماء من الماء له منطوق، المنطوق الأول أنه متى نزل المني وجب الغسل هذا المنطوق.
وظاهر الحديث أنه سواء نزل المني بشهوة أو بغير شهوة، ولكن هذا غير مراد، بل المراد:"الماء الدافق"، والماء الدافق هو الذي يخرج بشهوة، أما لو خرج الماء - يعني: المني- بغير شهوة كروعة وسقطة ومرض وما أشبه ذلك؛ فإنه لا يوجب الغسل فلابد أن يكون ماء دافقا، وهذا لا يكون إلا مع الشهوة، وعموم هذا الحديث يشمل ما إذا كان الإنوال بتفكير "الماء من الماء" أو بتقبيل أو بنظرة أو بلمسة، على أي حال: متى نزل الماء الدافق فإنه يجب الغسل سواء كان يقظة أو مناما، وسوف يأتي ذلك إن شاء الله.
مفهوم الحديث: إذا لم يكن ماء فلا ماء؛ يعني: إذا لم يكن إنزال فلا غسل، وهذا المفهوم يعم ما إذا جامع الإنسان زوجته ولم ينزل فإنه لا غسل عليه، ولكن هذا الحكم يعارضه بما أردفه المؤلف رحمه الله بهذا الحديث.
102 -
وعن أبي هريرة رضي الله عه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها؛ فقد وجب الغسل". متفق عليه. وزاد مسلم: "وإن لم ينزل".
"إذا جلس" يعني: الرجل، والذي علين الرجل مرجعا للضمير السياق، وهو قوله:"بين شعبها" أي: المرأة، المراد بالجلوس هنا: الجلوس للجماع والتهيؤ له، وقوله:"شعبها الأربع" قيل: إنها فخذاها وساقاها، وقيل: بل رجلاها ويداها، وهذا الأخير هو المتعين؛ لأن الجلوس للجماع يكون بين هذه الأربع، الرجلين وعددهما اثنتان، واليدان وعددهما اثنتان، وقوله:"ثم جهدها" أي: بلغ منها الجهد؛ أي: الطاقة، وهذا يكون بالإيلاج، فإنه يبلغ منها جهدا ومشقة، لاسيما إذا كانت بكرا، المهم على كل حال أن يكون هناك مشقة على المرأة.
قوله: "فقد وجب الغسل" على من؟ عليهما جميعا؛ لأن الرسول ذكر فاعلا ومفعولا به.
وقوله: "وجب الغسل"؛ أي: على هذا وعلى هذا، وليس المراد على الجل وحده، ولا على المرأة وحدها، بل على الجميع.
قال: "متفق عليه، وزاد مسلم: "وإن لم ينزل"، وهذه الزيادة لا شك أنها مفيدة؛ لأن الأول
الذي اتفق عليه الشيخان يدل على وجوب الغسل سواء أنزل أو لم ينزل، لكن ليس فيه التصريح بعدم الإنزال، فإذا جاء التصريح بعدم الإنزال فإنه يكون أوضح وأبين، لماذا؟ لأننا لو اقتصرنا على قوله:"إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب الغسل" لأمكن لقائل أن يقول: فقد وجب الغسل إذا أنزل، ويجعل الحديث الذي قبله مقيدا له، لكن إذا جاءت لفظ:"وإن لم ينزل" انقطع هذا التأويل، وصار المعنى: أنه إذا جامع سواء أنزل أم لم ينزل.
فإن قال قائل: هل بين الحديثين تعارض؟
فالجواب: لا تعارض بينهما؛ لأن دلالة عدم وجوب الغسل من الحديث الأول دلالة مفهوم، قال الأصوليون: والمفهوم تحصل الدلالة فيه إذا وقعت المخالفة في صورة واحدة، يعني: أنه لا عموم له، هذا معنى ما قلت: المفهوم لا عموم له، وإذا كان لا عموم له فإنه لا ينافي هذا؛ لأن قوله:"الماء من الماء" مفهومه: ولا ماء مع عدم الماء، نقول: نعم هذا ما لم يجامع؛ لأن الإنسان قد يستمتع بزوجته استمتاعا بالغا لكن دون الجماع، ويكون الماء قد تهيأ للخروج ولا يخرج، فيصدق بهذه الصورة، والمفهوم إذا صدق بصورة واحدة كفى العمل به على أنه قد روي أن قوله:"الماء من الماء" كان في أول الأمر ثم نسخ وصار الغسل يجب إما من الجماع، وإما من الإنزال.
في هذا الحديث فوائد منها: التكنية عما يستحيا من ذكره لقوله: "إذا جلس بين شعبها الأربع"، ومعلوم أن الرسول - عليه الصلاة والبسلام- لا يريد أن يجلس على أليته على شعبها الأربع، لا يريد هذا قطعا، وإنما هو كناية عن الجماع.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الغسل واجب إذا حصل الجهد، وهذا لا يتحقق إلا إذا التقى الختانان، ختان الرجل وختان المرأة، وهو كناية عن تغييب الحشفة في الفرج، فمتى حصل التغييب وجب الغسل، وأما ما دون ذلك فإنه لا يوجب الغسل إذا لم يكن إنزال؛ يعني: لو أن الرجل وضع رأس ذكره على حافة فرج الأنثى ولم ينزل فليس عليه غسل، لماذا؟ لأنه لم يجهدها ولا تحس بهذا ايضا؛ يعني: من حيث المشقة.
ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره وجوب الغسل سواء كان بحائل أو بغير حائل؛ لأنه إذا غيب ذكره في فرجها بحائل سيبلغ منها الجهد، وإلى هذا ذهب كثير من العلماء، وقال بعض العلماء: لا يجب مع الحائل؛ لأن في بعض الألفاظ: "إذا مس الختان الختان"، والمس لا يصدق إلا إذا كان بغير حائل؛ ولأن الأصل عدم الوجوب، لكن لو حصل إنزال وجب الغسل بالإنزال.