الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1). {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (2). وعلى آله وصحبه الكرام، الذين امتثلوا لأمر الله، في تحمل رسالة الدعوة ونشر الدين الحق، في عبادة الله {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3){وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (4). ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وبعد:
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2)
سورة آل عمران الآية 19
(3)
سورة الزخرف الآية 43
(4)
سورة الزخرف الآية 44
المنهج القرآني:
فإن منهج القرآن الكريم في الدعوة إلى الله، واتباع دينه الحق، هو ما يجب أن يتربى عليه الدعاة إلى دين الله، في الخلق والعمل، وإخلاص النية لله جل وعلا، مثلما تأدب بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن فظا غليظ القلب، ولا فاحشا متفحشا، فقد قالت عائشة رضي الله عنها:«خلقه القرآن (1)» رواه مسلم مطولا. ولما سأله أبو بكر رضي الله عنه بقوله: بأبي أنت وأمي يا رسول الله من أدبك؟ -أي علمك- أجابه الرسول الكريم بقوله: «أدبني ربي فأحسن تأديبي» فكان المنهج
(1) صحيح مسلم 746، ورواه أحمد 6/ 52
القرآني في تهيئة النفوس لتحمل الدعوة، والقيام بأعبائها، منذ أنزل الله كتابه الكريم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتعهد الله سبحانه بحفظه عن التبديل والتحريف {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1). هذا المنهج الذي أبانه الله لعباده، ووصى النبي به أمته عندما اقترب أجله بعدما طلبوا منه عليه الصلاة والسلام الوصية بما يعملون بعد أن يفرق الموت بينهم، فقال:«تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله (2)» هذا المنهج موجود في كتاب الله جل وعلا، حيث يخاطب العقول في كل زمان ومكان بما يتلاءم مع المدارك، ويقرب المحسوس في كل بيئة إلى العقول الصافية، لتدرك عظمة الله سبحانه، وما يجب على المخلوق تجاه خالقه، وتعرف ما على المخلوق من تبعات في تأدية هذا الواجب: قولية وفعلية واعتقادية.
فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته الجامعة الوافية في حجة الوداع أمته بأمور كثيرة في مقدمتها: كتاب الله حيث قال: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت (3)» فأشهد الله على
(1) سورة الحجر الآية 9
(2)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ، وينظر جامع الأصول لابن الأثير ج1 الكتاب الثاني، الاعتصام بالكتاب والسنة ص277.
(3)
جامع الأصول لابن الأثير ج3 ص465، وتراجع خطبته صلى الله عليه وسلم كاملة عند ابن الأثير، وعند البخاري، وعند مسلم.
ذلك ثلاث مرات.
ويتمثل ذلك المنهج في أمور كثيرة يدركها من تدبر هذا القرآن الكريم، وتمعن في سمو الأخلاق التي يدعو إليها، وعمق المعاني التي تبرز من دلالة لفظه:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (1).
منها:
1 -
تهيئة الشخصية الداعية، والتي تتحمل عبء التبليغ، لمواجهة الأجناس البشرية المتباينة في طباعها وغاياتها، والمختلفة في المدارك والنوايا؛ من حيث المثالية في العمل {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2). والصدق في العمل والقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (3). والشمولية في الفهم والإدراك، مع الحلم والصبر وقوة التحمل في هذا العمل، وعدم التسرع في طلب النتيجة {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (4).
2 -
احتواء الناس المدعوين إلى عبادة الله وحده، وإلانة الجانب لهم، وعدم التفرقة وفق النظرة الاجتماعية في تحديد
(1) سورة محمد الآية 24
(2)
سورة الصف الآية 3
(3)
سورة التوبة الآية 119
(4)
سورة الأحقاف الآية 35
التبعية بالمقاييس المادية، وتحين الفرص الملائمة للدعوة في مخاطبة الناس بها: حسيا واجتماعيا وعاطفيا {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (1){أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} (2){وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} (3){أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} (4){أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} (5){فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} (6){وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} (7){وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} (8){وَهُوَ يَخْشَى} (9){فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (10).
3 -
سعة أفق وعلم الداعي إلى الله، ورحابة صدره، وإدراكه ما يعتمل في المجتمع الذي يدعو فيه، من عادات وتقاليد ألفها المجتمع، وأمور سرت عند أبنائه وتوظيف القدرة بالعلم والحجة في التغلب على معضلات ذلك المجتمع، بما يريح القلوب، ويقضي على مشكلات متفشية عندهم:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} (11). ويبرز ذلك في الآيات الكريمات التي تأتي في سير الأنبياء كلهم مع أممهم، وما يجعل الله لكل نبي من الآيات التي تظهر عظمة الخالق سبحانه، حتى تلين القلوب، وتستجيب الأفئدة، ويحق الجزاء على المعاند بإقامة الحجة {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (12). وطباع البشر والمؤثرات فيهم متماثلة.
4 -
احتواء المشكلات المعقدة التي تجعل الناس شيعا
(1) سورة عبس الآية 1
(2)
سورة عبس الآية 2
(3)
سورة عبس الآية 3
(4)
سورة عبس الآية 4
(5)
سورة عبس الآية 5
(6)
سورة عبس الآية 6
(7)
سورة عبس الآية 7
(8)
سورة عبس الآية 8
(9)
سورة عبس الآية 9
(10)
سورة عبس الآية 10
(11)
سورة الملك الآية 30
(12)
سورة فصلت الآية 53
وأحزابا، وطريقة توجيههم إلى المنهج السليم في تأليف القلوب، والتغلب على المعضلات المعترضة في البيئة {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1).
5 -
وأن يختار الداعي إلى الله الوقت المناسب لدعوته، والاختصار في القول، وعدم التنفير أو إلزام المدعوين بالاستجابة عاجلا أو آجلا، بل يدع الكلمات الدعوية تترك أثرها في عقول المدعوين، والتعمق في الدلالة وبعد المعنى {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (2).
6 -
إدراك الداعي بأنه يدعو لله لا لنفسه، وأن دعوته عالمية لا إقليمية {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (3). ويقول سبحانه لنبيه:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (4). فدين الله للبشرية جمعاء، ولا فرق بينهم باختلاف أجناسهم وديارهم، ولا إكراه فيه، فمن بلغته الدعوة، وعرفه الداعي ما يلزم معرفته، أمرا للعمل، ونهيا للترك، فقد أدى الداعي إلى الله دوره:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} (5).
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2)
سورة الكهف الآية 29
(3)
سورة المائدة الآية 66
(4)
سورة المائدة الآية 67
(5)
سورة الشورى الآية 48
7 -
تكون المجتمع القادر على الدعوة العامة في المجتمعات الأخرى" بالمثالية في العمل، والصدق في القول وكف الأذى وحب المساعدة وحسن التعامل، وبالأمانة وإعطاء الحقوق لمستحقيها، وبالوفاء بالوعد وبراءة الذمة، والشعور بالرقابة الذاتية، دون اللجوء إلى السلطة الإدارية، أو الشدة في الدعوة {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (1).
وغير هذا من أمور كثيرة يلمس أثرها كل من يتلو كتاب الله، ويتمعن في عمق معانيه التي تظهر للإنسان بحسب المواقف، وإلا فإن شمول آيات الله الكريمات في كتابه العزيز تتبدى آثارها الدعوية في قلوب المدعوين وعلى ألسنة الدعاة بحسب ما يجعله الله في قلوبهم من فكر ناضج وفهم دقيق.
وقد أجمل الشيخ دروزة تلك الأمور التي احتواها منهج القرآن الدعوي وما تحتاجها البشرية في تسيير حياتها فضلا عن
(1) سورة الأحزاب الآية 35
سعادتها في الآخرة بقوله: احتوى دعوة الناس كافة إلى عبادة الله وحده، وعدم الخضوع لأي قوة من قوى الكون غيره، وتنزيهه عن كل نقض وشائبة، وإلى جماع مكارم الأخلاق والفضائل، وأسباب سعادة الدارين، والتصديق بنبوة أنبياء الله، والكتب المنزلة عليهم، وتقرير كون هذه الدعوة التي احتواها هي الدين الحق، الذي ارتضاه الله للناس جميعا، منذ بعث الله رسوله محمدا عليه السلام بالهدى ودين الحق، الذي فيه إظهاره على الدين كله، يقيم البشر في ظله دعائم مجتمعهم، ويسيرون في مختلف شئونهم وفق تعاليمه ومبادئه، وتلقيناته القائمة على أسس الحق، والعدل والمساواة، والإحسان والتعاون، ورفع الإصر والأغلال، وحل الطيبات، وتحريم الخبائث والفواحش والمنكرات، وتوطيد السلم العام بين الناس كافة، إخوانا متحابين، لا يظلم بعضهم بعضا، ولا يبغي بعضهم على بعض، ولا تبذ فيه طائفة، ولا تحرم فيه فئة، ولا تتعالى فيه طبقة على طبقة، مع إيجاب التناصر على الباغي، حتى يفيء إلى حكم الله والحق، ومع الدعوة إلى التمرد على كل ضار، والإقبال على كل نافع صالح بقطع النظر عن قدمه وجدته، ومع تقرير كون الله إنما يريد للناس اليسر، ولا يريد بهم العسر، ولم يجعل عليهم في الدين حرجا، وبأسلوب قضي له بالخلود، من حيث البرهنة على صدق الدعوة وأهدافها، بتوجيه الخطاب للعقول والقلوب، وإدارته حسب أفهام الناس ومداركهم في هذا النطاق، حسب
اختلافهم وتفاوتهم في العقل والسعة والثقافة والأفق (1) ذلك أن كتاب الله الكريم، قد اشتمل على كل شيء يتعلق بالإنسان، ويشبع رغباته: الفكرية والمعيشية، والطبية، وسائر العلوم التي يبحث فيها الإنسان، وتتسابق إليها عقول البشر قديما وحديثا:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2).
فلا يعترض الإنسان مشكلة، ولا تمر به تجربة علمية إلا ويجد في المنهج القرآني ما يدعو إلى أن يقف متمهلا أمام سبق القرآن، وإحاطته بما أودع الله فيه من علم، إذ فتحت هذه الآية {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (3). أمام الأطباء آفاقا علمية، وجذبت كثيرا منهم إلى نور الحق، فعرفوا السبيل الموصل إلى دين الله الحق الذي وقر في قلوبهم، فأسلموا لله ببراهين محسوسة برزت أمامهم، وفق عملهم، وما اعترضهم من صعوبات في مهنتهم، كما أن الآية:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (4). استفاد من توظيفها كثير من الدعاة في المحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن مع الحكمة وراء كل أمر محرم في شريعة الإسلام، وأثره على الفرد والجماعة، خاصة بعد أن ظهرت أمراض عديدة في المجتمعات التي أحلت ما حرم الله: كالإيدز والهربز،
(1) التفسير الحديث لمحمد عزة دروزه (1305 - 1404 هـ) ج1، ص32.
(2)
سورة النحل الآية 89
(3)
سورة الذاريات الآية 21
(4)
سورة الأعراف الآية 157