الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تركه، وما يجب تقديمه، وما لا يضر تأخيره، إلى غير ذلك.
ولا يقول أحد إن العمل لا يدخل في الأبواب الفقهية، فلا ريب أنه من أهمها وأعظمها شأنا حيث إنه باب واسع، يلجه كل الناس، وعلى الفقهاء أن يطلعوا على ما يأتيه الإنسان لبيان حكمه الشرعي، مهما كان الأمر تافها، فكيف بهذا الباب العظيم، وقد تكفل الشرع الحكيم بالبيان والتفصيل لكل شيء في حياة الناس. وأقف في هذا البحث عند العمل بمعناه الخاص، وهو ما يتعلق بالعمل الإنتاجي، سواء كان ماديا أو فكريا، مما لم يتكلم عنه الفقهاء في باب فقهي مستقل.
المبحث الثاني: مشروعية العمل:
دل الكتاب، والسنة، والإجماع على مشروعية العمل.
أولا: من الكتاب:
1 -
وجه الاستدلال من الآية: أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بإعداد أقصى ما يستطيعونه من القوة؛ لإرهاب الكفار والمشركين، أعداء الله وأعداء المسلمين، وإرعاب المتربصين من المنافقين،
(1) سورة الأنفال الآية 60
ورغب سبحانه في الإنفاق في سبيله ببيان أن كل نفقة في ذلك مخلوفة لا تضيع (1).
وإعداد القوة، والنفقة في سبيله تحتاج إلى عمل، فلا قوة ولا مال من غير عمل في ميادين الحياة.
2 -
قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وجه الاستدلال من الآية: أباح الله لنا الابتغاء من فضله، ولا يكون ذلك إلا بالعمل على اختلاف أنواعه.
3 -
قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (3).
وجه الاستدلال من الآية: علم الله تعالى نبيه داود عليه السلام صناعة الدروع التي يتقي بها الإنسان بأس عدوه حين القتال. وإذا شرع الله تعالى ذلك لنبيه، وامتن به على عباده فقد شرع لعباده صناعة كل ما يلزمهم لاتقاء شر أعدائهم.
4 -
(1) ينظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 321). .
(2)
سورة الجمعة الآية 10
(3)
سورة الأنبياء الآية 80
(4)
سورة سبأ الآية 13
وجه الاستدلال من الآية: دل امتنان الله تعالى على سليمان بتسخير الجن له ليعملوا له ما يشاء من الأعمال المعمارية والصناعية على مشروعية هذه الأعمال ونحوها للعباد (1).
5 -
وجه الاستدلال من الآية: في هذه الآية الأمر بالعمل مطلقا، فهي شاملة للأعمال الصالحة الخالصة من العبادات، كالصلاة والصيام وغيرها، كما تشمل الأعمال التي لا تقوم بعض العبادات إلا بها، كالصناعات اللازمة للجهاد في سبيل الله، وكسائر الأعمال المباحة التي تدر المال الذي ينفق منه في عموم سبيل الله.
بهذا القدر من الآيات نكتفي عن ذكر آيات كثيرة أخرى، كلها تدل على مشروعية العمل في الإسلام.
ثانيا: من السنة:
وردت أحاديث كثيرة وآثار تحث على العمل، وتبشر العاملين بخير، وتحذر من ترك العمل، وتذم العاطلين. فمن هذه الأحاديث:
1 -
حديث ابن عمر رضي الله عنهما:
(1) انظر: تفسير الآية والمعاني الواردة فيها في تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 528).
(2)
سورة التوبة الآية 105
«سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أطيب الكسب، فقال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور (1)» . .
وجه الاستدلال من الحديث: يدل هذا الحديث على مشروعية العمل، حيث جعل النبي صلى الله عليه وسلم عمل الرجل بيده، وهو أصل العمل أطيب الكسب الذي يرضي الله تعالى.
2 -
حديث المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده» وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه: «أن داود كان لا يأكل إلا من عمل يده (2)» . .
وجه الاستدلال من الحديث: يثني النبي صلى الله عليه وسلم على العمل باليد، ويبين أن الطعام الناتج عن عمل اليد هو خير طعام على الإطلاق. وأن داود نبي الله عليه السلام كان لا يأكل إلا من عمل يده. وهذا حث عظيم على العمل.
(1) أخرجه الذهبي في السير موصولا عن ابن عمر (18/ 376) وللحديث شواهد كثيرة جدا توثقه، منها. حديث رافع بن خديج عند أحمد (4/ 141) والطبراني في الكبير (4411) وحديث البراء بن عازب عند البزار، وحديث أبي هريرة عند أحمد (2/ 334) وغيره كثير بمعان متقاربة وألفاظ مختلفة
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب البيوع) باب كسب الرجل وعمله بيده (3/ 9)
3 -
حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه (1)» . .
وجه الاستدلال من الحديث: يحث النبي صلى الله عليه وسلم على العمل، على أي عمل حتى ولو جلب حزمة من الحطب يستغني بها عن الناس، ولا شك أن العمل فيما فوق ذلك أولى وأفضل كما يفهم من الحديث.
4 -
حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر، يقول:«وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي (2)» . .
وجه الاستدلال من الحديث: بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالقوة في الآية الرمي، وهذا البيان ليس من باب الحصر وإنما هو من باب ذكر الأخص الأعلى. ومعلوم أن القدرة على الرمي بما يعلي كلمة الله تختلف باختلاف قوة العدو. ولا قوة إلا بعمل صناعي واسع النطاق، حسب الحاجة
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الزكاة) باب (50) الاستعفاف عن المسألة (2/ 129)
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإمارة) باب (52) فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه (3/ 1522)
لدحر العدو وإذلاله، وحفظ ديار المسلمين وإعلاء كلمتهم. وهو عمل مستمر لا يتوقف أبدا، لضمان القدرة القتالية المستمرة، وإعداد الجيل بعد الجيل، ولذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ترك الإعداد المستمر، كما جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أو قد عصى (1)» . .
5 -
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز (2)»
وجه الاستدلال من الحديث: في هذا الحديث حث عظيم على قوة المؤمن في كل شيء، فالقوة في الحديث مطلقة فتشمل قوة الإيمان، والعمل الصالح على اختلافه، وقوة البدن وقوة المال، وسائر القوى. فهذا المؤمن القوي ينتج عنه خير كثير في كل الميادين، والمؤمن الضعيف لا ينتج عنه شيء إلا الضعف والقلة، ولا تقوم به دنيا ولا دين. وفيما يقص الله تعالى علينا أن بنت شعيب عليه السلام رغبت أباها في موسى عليه السلام
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإمارة) باب (52) فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه (3/ 1522)
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب القدر) باب (81) في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير له (4/ 2052) والإمام أحمد في مسنده 2/ 366، وابن ماجة 11/ 30، وغيرهم.
بقولها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (1)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. وخير الصدقة عن ظهر غنى (2)» . . فالحديث دعوة وحث على العمل على اختلاف أنواعه وأهدافه، فلا قوة إلا بعمل.
هذا طرف من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعية إلى العمل، وطلب الرزق، والاستغناء عن الناس. وقد ثبت أن جميع الأنبياء كان لهم حرف.
أما من الآثار فهناك آثار كثيرة جدا تحض على العمل، وممارسة الحياة، وتنهى عن الكسل والاعتماد على الآخرين، نذكر طرفا يسيرا منها:
1 -
روى معاوية بن قرة "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي ناسا من أهل اليمن فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله"(3).
2 -
حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم، وكان يكون لهم
(1) سورة القصص الآية 26
(2)
فتح الباري شرح صحيح البخاري (3/ 294)
(3)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1/ 106 / 2)، ونقله ابن رجب في جامع العلوم والحكم (414).
أرواح، فقيل لهم: لو اغتسلتم" (1).
ففي الأثر الأول ينكر عمر رضي الله عنه ترك العمل، ويأمر بفعل الأسباب. وفي الأثر الثاني تخبر عائشة رضي الله عنها أن الصحابة رضي الله عنهم يرون العمل، ويعملون بأنفسهم، وليست الأعمال السهلة وإنما تلك التي تعرق لها الأبدان، فتثور منها الرائحة لقوة العمل.
3 -
ومن آثار السلف الكثيرة الداعية إلى العمل نكتفي بأثر الإمام أحمد وابن عيينة حول وجوب العمل، قال الخلال: أخبرني محمد بن علي حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل أنه سأله أباه رحمه الله عن التوكل، فقال:"التوكل حسن، ولكن ينبغي للرجل أن لا يكون عيالا على الناس، ينبغي أن يعمل حتى يغني نفسه وعياله، ولا يترك العمل" قال: وسئل أبي رحمه الله وأنا أشاهد عن قوم لا يعملون، ويقولون: نحن متوكلون. فقال: "هؤلاء مبتدعة" وروى أبو بكر المروزي قال لأبي عبد الله رحمه الله: إن ابن عيينة كان يقول: "هم مبتدعة" فقال أبو عبد الله - أحمد بن حنبل -: "هؤلاء قوم سوء يريدون تعطيل الدنيا".
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب البيوع) باب (15) كسب الرجل وعمله بيده (3/ 8).