الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخير بربط الذم بالرضا بالزراعة، وترك الجهاد. فالزراعة ليست مذمومة مطلقا، وإنما إذا أدت إلى ترك الواجبات من فروسية ورماية وتصنيع للسلاح، وترك للجهاد. وإذا لم تؤد إلى ذلك فهي محمودة، ومن أفضل الاشتغالات.
النوع الثاني: العمل الصناعي:
العمل الصناعي ميدان واسع من ميادين عمل الإنسان. وإذا كانت الزراعة هي سيدة الاشتغالات في الحياة، فقد تطغى عليها الصناعة في بعض العصور والأزمان، التي تتطور فيها حياة الإنسان نحو الترف والإسراف تطورا يتطلب كثيرا من الصناعات غير الضرورية، وغير الحاجية في مختلف المغريات. والصناعة تتطلب أعدادا كبيرة من العاملين، في عموم الأزمان واختلاف الأحوال، لتلبية حاجة الإنسان. فهي مصدر رزق كثير من الناس.
والصناعة من أساسيات الحياة عند المسلمين، فلا حياة لهم كريمة إلا بالصناعة، حيث يستغنون بها عن عدوهم، فيما يسدون به حاجاتهم، ويقاتلون أعداءهم، ويحمون ديارهم وأموالهم، ويرتزق بها أفرادهم، ويستثمر أصحاب الأعمال أموالهم. ويختلف العمل الصناعي عن العمل الزراعي، حيث يحتاج العامل في الصناعة إلى كثير من علوم التقنية، والخبرات، والمهارات، ومختلف التدريبات. يبدأ التأسيس لذلك في مراحل التعليم الأولى، تأسيسا عمليا تطبيقيا لا نظريا، وبوسائل تفي بالغرض. وهذا ما يفتقر إليه التعليم في غالب ديار المسلمين، وهو ما يشكو منه المتخرجون من دراسات التقنية، والهندسة، والمختبرات، ونحوها.
أما عن مجالات العمل في الصناعة وأنواع الصناعات، فهي تفوق الحصر. فهذه الصناعات النفطية، على اختلاف مجالاتها العظيمة. وصناعة الحديد والصلب، بمختلف أهدافها ودرجاتها.
والصناعات الحربية، من أدناها إلى أعلاها. وصناعة وسائل النقل، الجوية والبرية والبحرية. وصناعة الاتصالات، السلكية وغير السلكية. والصناعات الكهربائية، دقيقها وجليلها.
وصناعة المواد الغذائية، على اختلاف منتجاتها. وصناعة الأثاث، الخشبي وغير الخشبي. وصناعة المعدات، الثقيلة والخفيفة، على اختلاف أغراضها. وصناعة الورق، على اختلاف درجاتها ومقاساتها. وإلى غير ذلك مما لا حصر له من الصناعات.
ويختلف العامل الصناعي عن العامل الزراعي اختلافا كبيرا. حيث يتعرض العامل الصناعي لمؤثرات نفسية واجتماعية تصيبه أحيانا بالكابة والانطواء؟ وذلك لأسباب عديدة أذكر منها:
1 -
ضياع الهدف والغاية من العمل عند كثير من ضعيفي الإيمان من العاملين.
2 -
قلة ثقافة العمال الصناعيين، مما يطبع علاقة بعضهم ببعض بالجفاء والغلظة.
3 -
بخس حقوق كثير منهم، وعدم تقدير جهود المخلصين والمتفوقين.
4 -
جمود العمل وتكرره لفترات طويلة دون تغيير.
5 -
طول ساعات العمل، وعدم تخليلها بما يروح عن النفس.
6 -
قلة أجور كثير من العاملين، وعدم تحقيق الزيادات الدورية المشجعة، مع ارتفاع المعيشة المستمر.
7 -
سوء تعامل بعض الرؤساء مع العاملين، واستعلاؤهم عليهم.
8 -
سوء أحوال بعض المصانع، من الضجيج المؤذي، ورداءة الإنارة والتهوية.
9 -
انعدام رفع معنويات العاملين في المصانع، مع استغلال أوقاتهم واستنفاذ طاقاتهم.
هذا كله وغيره قد يصيب العامل الصناعي بآثار نفسية واجتماعية قاضية. وهو ما يحدث في الكثير من المصانع غير الإسلامية، أما المصنع الإسلامي الذي يطبق حكم الله على العاملين، فالعامل فيه في مأمن من ذلك. وهذا يبين الفرق الهائل بين مصانع المسلمين، ومصانع غيرهم.
وقد دل الكتاب والسنة على مشروعية الصناعة:
فمن القرآن قول الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (1)، وقوله تعالى:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} (2)، وقوله تعالى. {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (3) وغير ذلك من
(1) سورة الأنبياء الآية 80
(2)
سورة سبأ الآية 13
(3)
سورة هود الآية 37
الآيات الكثيرة الدالة على مشروعية الصناعة، وامتنان الله على عباده بتعليمهم ذلك.
ومن السنة: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرماية وحثه عليها، والرماية لا تكون إلا بالصناعة، من ذلك ما جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر يقول:«وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي (1)» ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه السابق:«من علم الرمي ثم تركه فليس منا (2)» أو "قد عصى". ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد به. وقال: ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا (3)» .
فقد سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين صانع السهم المحتسب وبين المجاهد الذي يطلق السهم في الأجر، وهذا
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الإمارة) باب (52) فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه (3/ 1522).
(2)
نفس موضع الحديث السابق في صحيح مسلم.
(3)
أخرجه الترمذي في سننه (كتاب فضائل الجهاد) باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله (4/ 174) والنسائي في سننه (كتاب الجهاد) ثواب من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل (6/ 28) وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح.