الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالدعوة إلى الله، في مراحلها وفرصها، وفي حكمة الداعي وطريقته في الدعوة، محورها المنهج القرآني الكريم، حيث يظهر أمام المتأمل في كتاب الله، أن كل آية تعني منهجا تعليميا، وكل دلالة من النص القرآني المجيد، يستفاد منه طريق من طرق الدعوة إلى الله {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1). .
(1) سورة إبراهيم الآية 52
شمولية الدعوة:
إن الآيات العديدة في كتاب الله قد أحاطت بمتطلبات الإنسان في هذه الحياة، واحتوت على الحلول لكل مشكلة من مشكلات الحياة البسيطة والمعقدة، ليجد الإنسان في أي موقع من الأرض وبأي زمن من الأزمنة الحل الطري لكل ما يعترضه، والبرهان القاطع على أن هذا القرآن حق من عند الله، ويدعو إلى معرفة الله معرفة حقيقية، حتى تؤدى له العبادة الخالصة على وجهها الذي يرضيه سبحانه، وحسبما أمر {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (1). فهي دعوة للعالم أجمع إنسهم وجنهم، وذكورهم وإناثهم، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
(1) سورة البينة الآية 5
وهذا منهج دعوي، ينفذ للعقول المختلفة، من المداخل التي تهم الجميع، ويجد فيه كل شخص الجواب الشافي لما يتساءل عنه: مستنيرا أو مشككا.
يقول الشيخ محمد دروزه في تفسيره: " لقد احتوى القرآن الكريم حلولا للمشكلات المعقدة، التي كانت تجعل الناس شيعا وأحزابا، وفرقا وأضدادا، وإهابة بالغلاة والمفرطين للارعواء عن غلوهم وإفراطهم، وإرشادا للحائرين والمترددين للانتهاء من حيرتهم وترددهم بأسلوب وجه فيه الخطاب إلى العقول والقلوب معا فيه كل القوة وكل النفوذ، وكل الإقناع لمن لم تخبث طويته، ويجعل إلهه هواه، وتعمد العناد والمكابرة والاستكبار عن قصد وتصميم.
ثم احتوى تنظيما للمناسبات، بين مختلف الفئات من الناس، وخاصة بين المستجيبين للدعوة -المسلمين- وغيرهم على أساس المسالمة والحرية، والحق والعدل، والتزام حدود ذلك بالتقابل، وكف الأذى، وعدم الصد والتعطيل والدس، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، إلا الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا ومقابلة العدوان بمثله، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله ".
ذلك أن القرآن يأمر بالدعوة، وأن تكون بالإقناع، حيث يخاطب العقول، ويدعوها للتعقل والتفكر والتبصر، فيما حولها من آيات وعبر، وينهى عن الإكراه، وقسر الناس على الدين، إلا من عرف وعاند، وتصدى للدعوة، يقول سبحانه:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1). كما أن الدعوة ليست ملزمة لكل من استمعها أن يستجيب، بل الهداية هبة من الله يمن بها على من يشاء من عباده يقول سبحانه:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (2). ويقول تعالى في أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بمخاطبة الكفار: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (3){لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (4){وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (5){وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} (6){وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (7){لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (8). وإن من أسباب لين القلب للدعوة، وتقارب النفوس للتآلف والتمعن في المصالح المرتقبة، وراء معرفة ما تنطوي عليه تعاليم الإسلام، وعلاجه لمعضلات المجتمعات المتباينة -أن تفتح القلوب للراغبين، وأن تعرض أمامهم بضاعة الإسلام بأسلوب شيق وهادئ.
وما ذلك إلا أن مخاطبة العقول يحتاج إلى مهارة في
(1) سورة البقرة الآية 256
(2)
سورة القصص الآية 56
(3)
سورة الكافرون الآية 1
(4)
سورة الكافرون الآية 2
(5)
سورة الكافرون الآية 3
(6)
سورة الكافرون الآية 4
(7)
سورة الكافرون الآية 5
(8)
سورة الكافرون الآية 6
الإلقاء، وانفتاح صدر أمام المسترشد والراغب في البحث {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1).
يقول أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام: كان الإسلام منذ بدء ظهوره دين دعوة، من الناحية النظرية، أو الناحية التطبيقية، وقد كانت حياة محمد تمثل هذه التعاليم ذاتها، وكان النبي نفسه يقوم على رأس طبقات متعاقبة من الدعاة المسلمين الذين وفقوا إلى إيجاد سبيل إلى قلوب الكفار، على أنه ينبغي ألا نلتمس الأدلة على روح الدعوة الإسلامية في قسوة المضطهد، أو عسف المتعصب، ولا حتى في مآثر المحارب المسلم، ذلك البطل الأسطوري الذي حمل السيف في إحدى يديه، وحمل القرآن في اليد الأخرى، وإنما نلتمسها في تلك الأعمال الوديعة الهادئة التي قام بها الدعاة، وأصحاب المهن، الذين حملوا عقيدتهم إلى كل صقع من الأرض، على أن هؤلاء الدعاة لم يلجأوا إلى اتخاذ مثل هذه الأساليب السليمة في نشر هذا الدين، عن طريق الدعوة والإقناع بخلاف ما زعم بعضهم حينما جعلت الظروف القوة والعنف أمرا مستحيلا يتنافى مع الأساليب السياسية، فقد جاء القرآن مشددا في الحض على هذه الطريقة السليمة، في غير آية، مثال ذلك:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (2){وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} (3).
(1) سورة النحل الآية 125
(2)
سورة المزمل الآية 10
(3)
سورة المزمل الآية 11
وقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1). . .
وبعد أن أورد عدة آيات استشهد بها على نهج الدعوة في القرآن الكريم. قال: وإن الغرض مما سنذكره في الصفحات التالية، هو بيان كيف تحقق هذا المثل الأعلى في التاريخ، وكيف كان أئمة الإسلام يطبقون نشاط الدعوة، وهذا الكتاب وضعناه لدراسة: تاريخ الدعوة الإسلامية في أنحاء العالم (2).
وكلامه هذا يعني فهم المسلمين لمنهج القرآن الكريم في الدعوة، ونورد هنا مثالين من النماذج الكثيرة في كيفية الوصول لأعماق القلوب، بمفهوم الدلالة القرآنية، على المعنى الذي يشغل ذهن غير المسلم لينجذب بذلك إلى الإسلام، من باب مخاطبة الناس بما يعرفون:
كان أحد علماء الجيولوجيا في جامعة أكسفورد بإنجلترا يواصل بحثه في المختبر على عينات من الصخور، ووقف حائرا أمام تلون صخور جاءت من مكان واحد، وصار عدة أيام يجري التجارب لعله يهتدي إلى سر هذا التلون، وله مساعد مسلم من الهند، فلما رآه قد زادت به الحيرة، صار يتمتم بآيتين من كتاب الله عدة مرات، فسأله ذلك العالم عما يقول فترجم معناهما وهما
(1) سورة الجاثية الآية 14
(2)
انظر كتابه هذا ص28 - 30.
قول الله في سورة فاطر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (1){وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (2). فما كان منه إلا أن طلب إعادة الترجمة عدة مرات وهو يتأمل، ثم قال: وجدت الحل في حكمة الله، كما هي ماثلة أمامنا في النباتات والإنسان وغيره من المخلوقات المختلفة بلونها.
وكان هذا دافعا قويا لإسلامه ولتعمقه في فهم معاني القرآن الكريم العميقة.
أما الثاني: فقد كان بحارا، ومعه مساعد له من الجزيرة العربية، وفي إحدى الرحلات طغى عليهم موج البحر وتلاطمت أمواجه، ونال منه الجهد وهو ممسك بعجلة القيادة، والموج يعلوهم تارة وينخفض أخرى، والظلمات تحيط بهم من كل جانب، مع مطر شديد وريح عاصف، فطلب من هذا العربي أن يساعده ويمسك بعجلة القيادة بقدر ما يستطيع، حتى يتفادى كارثة كادت تحيق بهم، فجاء عنده، وبدأ في تدبير الأمر مع عجلة القيادة وهو يدعو ربه، ويقرأ قول الله تعالى:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (3).
(1) سورة فاطر الآية 27
(2)
سورة فاطر الآية 28
(3)
سورة النور الآية 40
وما زال هذا المسلم يرددها وهو يدعو ربه، حتى خفت الأمواج، وسكن الريح والمطر، فسأله الربان ماذا كنت تقول، فأخبره بأنه كان يقرأ آية في كتاب الله القرآن. فطلب الربان إخباره عنها فأخبره بمعناها فقال: هل كان محمد ربان سفينة، أو قد ركب البحر؟ فلما أجابه بالنفي، قال: ما قيل لنا: بأن القرآن من تأليف محمد فهو غير صحيح، من الآن عرفت أنه من قوة فوق قدرة البشر، لقد كنت أعيش في البحر بحارا سنين طويلة ولم يمر علي مثل هذه الليلة وهأنذا أرى الواقع العجيب، في معنى ما ذكرت من القرآن، فأريد أن أتعلم الإسلام الذي يدلنا على أمور لا يدركها حتى المختصون في مجالها، وتعلم الإسلام وهداه الله إليه فأسلم عن علم ويقين.
ولذا فإن كثيرا ممن أسلموا في ديار الغرب كان دخولهم عن طريق القناعة العلمية، بما ثبت لديهم من منهج القرآن في التعليم، والنفاذ إلى أعماق القلوب، بما هو محسوس ومقنع.
يقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (1){أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (2){كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3). .
(1) سورة ص الآية 27
(2)
سورة ص الآية 28
(3)
سورة ص الآية 29