الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رُكامًا. ومنه: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران: 59) أي فكان. وقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: 31)، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} (القصص: 5) إلى قوله تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} (القصص: 6). ومنه عند الجمهور: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} (الكهف: 18) أي: يَبسط ذراعيه، بدليل:(ونقلِّبهم)، ومثله:{وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة: 72) إلا أن هذا على حكاية حال كانت مستقبلة وقت التدارؤ، وفي الآية الأولى حكيت الحال الماضية، ومثلها قوله:
جاريةٌ في رمضانَ الماضي
…
تُقطِّع الحديثَ بالإيماضِ
ولولا حكاية الحال في قول حسان:
يُغْشَون حتى لا تهِرُّ كلابُهم
…
لا يسألون عن السواد المقبل
لم يصح الرفع؛ لأنه لا يرفع إلا وهو للحال، ومنه قوله تعالى:{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} (1) بالرفع. (2)
الوجه الثاني: صيغة المضارع تأتي لاستحضار الصورة
.
وإنما قال: (فيكون) ولم يقل: فكَان لاستحضار صورة تَكَوُّنِه، ولا يحمل المضارع في مثل هذا إلّا على هذا المعنى، مثل قوله:{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} (فاطر: 9)، وحمله على غير هذا هنا لا وجه له. (3)
وقول تأبط شرًا:
(1) قرأ نافع حتى يقولُ برفع اللام والباقون بنصبها؛ التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني سورة البقرة، آية: 214 ص 59. حكى حالًا كان عليها الرسول فيما مضى. . فحكيت الحال التي كانت؛ لأن ما مضى لا يكون حالًا إلا على الحكاية، الكشف عن وجوه القراءات السبع لمكي القيسي 1/ 289.
(2)
مغني اللبيب لابن هشام 2/ 501.
(3)
التحرير والتنوير لابن عاشور 3/ 264.
فأضربها بلا دهش فخرت
…
صريعًا لليدين وللجران
قال: فأضربها؛ ليصور لقومه الحالة التي تشجع فيها على ضرب الغول كأنه يُبَصِّرُهُمْ إياها، ويتطلب منهم مشاهدتها تعجيبًا من جراءته على كل هول، وثباته عند كل شدة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} إذ قال: (كن فيكون) دون: كن فكان، وكذا قوله تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)} . (1)
فإنه قصد أن يصور لقومه الحال التي تشجع فيها على ضرب الغولِ كأنه يبصرهم إياها مشاهدةِ للتعجب من جراءته على ذلك الهولِ ولو قال: فضربتها عطفًا على الأول لزالت هذه الفائدة المذكورة. (2)
والتعبير بالمضارع مع أن المقام مقام المضي لتصوير ذلك الأمر الكامل بصورة المشاهَد الذي يقع الآن إيذانًا بأنه من الأمور المستغربة العجيبة الشأن، وجوز أن يكون التعبير
(1) ومن ذلك قوله تعالى: لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتًا فوقتًا كما في قوله تعالى: اللَّه يستهزئ بهم بعد قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} ، وفي قوله تعالى:{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ. . .} ، وقوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، وقوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} لتنزيله منزلة الماضي لصدوره عمن لا خلاف في أخباره؛ كما نزل يود منزلة: ود في قوله تعالى: (ربما يود الذين كفروا)، ويجوز أن يرد الغرض من لفظ ترى ويود إلى استحضار صورة رؤية المجرمين ناكسي الرؤوس قائلين لما يقولون، وصورة رؤية الظالمين موقوفين عند ربهم متقاولين بتلك المقالات وصورة ودادة الكافرين لو أسلموا كما في قوله تعالى:{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} إذ قال: فتثير سحابًا استحضارًا لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة من إثارة السحاب مسخرًا بين السماء والأرض، تبدو في الأول كأنها قطع قطن منتوف، ثم تنضام متقلبة بين أطوار حتى يعدن ركامًا. .؛ الإيضاح في علوم البلاغة لجلال الدين القزويني 2/ 126، 127.
(2)
المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير 2/ 14.
بذلك لما أن الكون مستقبل بالنظر إلى ما قبله. (1)
فهذا التعبير بقوله: (كن فيكون) يعطي دلالة الاستمرار في كل وقت على منتهى قدرة اللَّه فلو أراد شيئًا يكون.
* * *
(1) روح المعاني للآلوسي 3/ 187.